أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - حمزة الحسن - قديم يتفسخ وجديد لا يولد















المزيد.....

قديم يتفسخ وجديد لا يولد


حمزة الحسن

الحوار المتمدن-العدد: 763 - 2004 / 3 / 4 - 09:21
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


 حين تفرغ أمة ما من تشويه حاضرها، وإفراغه من المعنى، يلجأ وعاظها،وكتبتها،إلى الماضي السحيق، لتشويه رموزها وتهشيمها بعد إفراغها أيضا من المعنى وزقها بمعنى مخالف ومناقض ومضاد للرمز الأول والمعنى الأول: فهذه الحقبة هي حقبة التكسير في كل شيء، من تكسير المراحل، وتكسير الوزن الشعري، إلى تكسير المعامل والضلوع!

هذه الحقبة الجديدة هي أيضا حقبة تشويه الرموز ودخولها، مكرهة، مغلولة، أسيرة، ممزقة، معارك السياسة في نسخها الأكثر رداءة في العالم،فهذه مرحلة القديم فيها يتفسخ، والجديد لا يولد، فتنتج الكثير من التشوهات والأعراض المرضية ـ بتعبير غرامشي.

وأكثر الرموز التي تعرضت للتشويه والسحق والتلويث من الماضي الأول البعيد الأسطوري الباقي في المخلية العامة والذاكرة الجماعية والذي يمثل طفولة البشرية الأولى، وبدايات نشوء الفكر الأسطوري السحري العذب والعفوي، هو كلكامش.

هذا  الملك الجوال والجواب والباحث والشاعر والمؤلف الأول وهوميروس العالم وأول من وضع الأسئلة الكونية المصيرية وطرح على الحياة سؤال المعنى والمصير والوجود، والرائي الذي أدهش الناس في كل العصور بما فيهم عصرنا والأزمنة القادمة حتى أن الروائي الألماني غونتر غراس الحائز على نوبل كتب وتحدث عنه، هذا الرمز النقي تحول إلى عضو في منظمة للاحتيال وسرقة الأوطان والسطو على تاريخ الأمم وأجير قبض أجرة العزف سلفا وصار يعزف اللحن الذي يراد له أن يعزفه حتى بدون مهارة العازف الحقيقي!

هذا الملك الخائف الأول من العدم والوجود، تحول اليوم إلى مخلوق بائس، مهلهل، صغير، وموظف متفرغ للتشغيل في أي مكتب أو دائرة أو بريد أو مصح أو بار أو استعلامات أو ثكنة محتل أو خبل يعربد ويتسكع في الشوارع بثياب ممزقة مبللة مصاب بهذيان يسميه شعرا، وفي آخر الليل ينام تحت مظلة محل مخمورا، أو ينام في مركز شرطة بعد تحطيم الكراسي وزجاج المحل والأواني وتعكير صفو الزبائن، وعرقلة حركة المرور، وإفساد الصفاء العام خلال النوم، أو أنه صار دليلا لجيوش الاحتلال إلى الوطن، وواشيا للضباب  عن الصحو، أو مخبرا عن مواعيد نزول المطر للأنواء الجوية، وطبالا في حفلة ردح آخر الليل، أو ضارب دف في مضارب القبيلة بلا حاتم ولا طي، أو صعلوكا وسخا يتمرغ في المزابل بحجة أن الطريق إلى السريالية والحداثة والحرية يمر عبر البار والمزبلة والعفن والهذيان والخرف!

ضاع علينا كلكامش الأول، الباحث في البراري عن سر الخلود، عبر الأنهار، والسهول، والجبال، وفي الغابات، الملك الجميل، الحافي القدمين، المنهك من حمل الأسئلة، والوجود، وتحول، على يد أحفاد يهوذا الاسخريوطي، إلى حمال في سوق الشورجة، أو سوق الحميدية، أو بائع مسدسات في سوق العورة، أو محتال في سوق الكلمات يسطو بحرفية ودون تغيير على عرق وجهد وخلق الآخرين، حتى بلا مهارة، ويحاول انتحال أساليب وطراز عيش الآخرين كما يفعل صائغ ذهب نصاب في لعبة الغش!

نحن نعيش في زمن الغش، فمن لا يغش في اللبن، يغش في النقد، ومن لا يغش في النقد، يغش في الحب، ومن لا يغش في الحب يغش في التتن، ومن لا يغش في هذا يغش في العقارات، ومن لا يجيد هذا الفن يغش في السياسة، ومن لا يغش في هذه يغش في الكتابة، ومن لا يجيد حرفة الكتابة أو اللعب فيها يغش في الجص، وفي السفر، وفي الزيارة، وفي الشعر، وفي  تشكيل وزارة أو برلمان أو جبهة إنقاذ أو جمعية خيرية للعميان، أو في مجلس الأمن، أو في تزوير شهادة وفاة أو أجازة سوق أو تزوير تاريخه وتاريخ الغير أو نشرة الأحوال الجوية أو في البرنامج الحزبي أو في الزواج أو في الحرب أو في الصداقة والخصومة وفي الموت، حتى أن البعض، من شدة الغرام بالجماهير، صار يعلن موته القريب من أجل بطاقات تعزية وأسف سلفا.

 بل هناك من صار يغش حتى في فحص السائل المنوي وكالة عنه، أو في فحص البول، فبدلا من أن يفعلها بنفسه من أجل الفحص الطبي لمعرفة تناوله المخدرات والكحول المفرط، صار يستعير قطرات من صديقه لكي لا يفشل في الاختبار، وأكبر عملية غش في التاريخ هي السطو على دولة( وليست سلطة) وبيعها في سوق الخردة من أجل الديمقراطية والتنمية والغرام!

 حين يعود مقاول أو تاجر جملة أو مفرد أو سياسي بلا موهبة هارب من الإسطبل، أو مخرج مسرحي ضربه الجمهور في الخارج بالكراسي والأحذية والتذاكر لسوء العرض، وسوء الخلق، وسوء الشكل، والمحتوى، وضياع الوقت، يشبّه عودته إلى الوطن بأنها تشبه عودة كلكامش!

وحين يعود( شاعر) نصف"ردان"، قضى نصف عمره في البار، والنصف الآخر في زريبة ثقافية، ولا يجيد حرفة في الحياة غير حرفة البيع والشراء،من بيع القمصان المستهلكة،إلى بطاقات الهاتف الخلوي المزورة،وحتى بيع الأوطان،والجوارب، إلى بيع ماسورات المياه في الجوامع بعد سرقتها، وحتى بيع بلاطات القبور من المقابر، يشبّه عودته إلى الوطن بأنها عودة جديدة لكلكامش بل وعودة الحلاج والسهروردي ونوروز وبورقيبة بعد التحرير!

حتى عشتار ربة الجمال والصحو والمطر والخير والحب والعطاء والخصب والولادة والجمال والعافية والنظافة وملكة العالم السفلي لم تسلم من التشويه، بل تحولت هي الأخرى، في طبعتها الجديدة الملونة والمنقحة في مطابع تحت الأرض، وفي غرف الدخان والعرق والنتانة، إلى  بائعة تذاكر لمسرح وهمي، وبطاقات عن حفلات وهمية في فنادق وهمية، وصارت صاحبة دار نشر لا وجود لها إلا على الورق، وإلى كلب مسعور يعض كل من يقترب أو يبتعد، أو صارت في ولادتها الجديدة  شعارا للكذب والضحك والزيف يضعه بقال كلمات كسيحة على عربة في شارع مهجور إلا من الكلاب السائبة والخوف والموت المتجول.

لم تعد عشتار الجميلة المبهرة ملكة العالم السفلي، بل تحولت إلى راقصة هز البطن في قبو، ولم تعد تنزل إلى مخدعها الملكي في عالمها الأسطوري، بل صارت تنزل، في النسخة المشوهة، إلى سراديب سفلية بحثا عن زبائن مرعوبين من الموت والرصاص والحاضر والمستقبل والديمقراطية الجديدة، ومن التلوث ومكافحة الإرهاب، ومكافحة التناسل، والتنمية، والحب، والكتابة الحية، ومن مسلسلات الموت، والتعرية، ومن شارات المرور الجديدة التي بدل أن تؤدي إلى الكاظمية سابقا صارت تؤدي، في الخرائط الجديدة، إلى ضاحية فلوريدا أو تكساس قرب صحن موسى بن جعفر!

 يبدو أنني فعلا شخص غير طبيعي، ودخل في عقلي شيء طارئ، وأصرخ وحدي في أفراح وأعراس الآخرين التي لا أرى فيها مدعوين غير الجثث، ولا موسيقى عدا الدمع، ولا لون للفرح عدا الكآبة، ولا خضرة أو باقات زهور غير الشحوب، ولا أحد يرقص في هذه الأفراح/ المآتم/ غيري مذبوحا من الخمر والفياغرا والحداثة والتكنوقراط والتناقض التاريخي والشروط الموضوعية وعدم تكافؤ القوى واللحظة التاريخية المرتقبة والأنقاض والتكتيك والمساومة والمداهمات وغسل الأموال، وغسل الضمائر، وغسل المعدة، فقررت الانسحاب نحو عزلة أعمق وأكثف وسأطلق النار على كل من سيقترب بما في ذلك البرغش والضباب والظلام والأحلام والكوابيس والسيول والسياح والضواري والسحاب والشيب في رأسي، والمطر إذا نزل من سقفي،وأخبار الطقس والدستور والتراث والمعاصرة، حتى أولد مرة أخرى على شكل ضفدع يعيد لي توازني وأكف أن أكون مختلفا، وأنق مع جوقة ضفادع قبل أن تدهسني شاحنة سياسية في الطريق العام وأنتهي ،ميتا، من الضحك!



#حمزة_الحسن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- صورة كارثية قادمة للمجتمع المستشفى
- صلوا على أرواح موتانا وموتاهم
- باتريك سيل والشجاعة الملهمة
- الأسباب الخفية في الحملة على الحركة الإسلامية
- مساوئ الغرف المغلقة
- ماذا يعني ان تكون كاتبا في الوطن العربي؟
- خطاب الاجتثاث
- احتفالية ثانية بالشاعر رعد عبد القادر: سفر إلى أقاصي الجرح ف ...
- أوهام القبض على الدكتاتور( الأخيرة) ثلاثة قوانين للموت
- أوهام القبض على الدكتاتور14 مثقف التزوير، كريم عبد نموذجا
- أوهام القبض على الدكتاتور13 عقلية المافيا الثورية
- أوهام القبض على الدكتاتور 12 عفريت الفتنة
- أوهام القبض على الدكتاتور 11 المثققف المختلف، سعدي يوسف نموذ ...
- أوهام القبض على الدكتاتور 10 تفكيك فكر العاهة
- أوهام القبض على الدكتاتور9 النجاسات الثلاث
- أوهام القبض على الدكتاتور 8 العار والفرقة الناجية
- أوهام القبض على الدكتاتور 7 المحاكمة
- أوهام القبض على الدكتاتور6 أحفاد الدكتاتور
- أوهام القبض على الدكتاتور 5 الإمبراطور الحافي
- أوهام القبض على الدكتاتور 4 نقد الأساطير الاجتماعية والمرايا ...


المزيد.....




- بـ4 دقائق.. استمتع بجولة سريعة ومثيرة على سفوح جبال القوقاز ...
- الإمارات.. تأجيل قضية -تنظيم العدالة والكرامة الإرهابي- إلى ...
- لحظة سقوط حافلة ركاب في نهر النيفا بسان بطرسبوغ
- علماء الفلك الروس يسجلون أعنف انفجار شمسي في 25 عاما ويحذرون ...
- نقطة حوار: هل تؤثر تهديدات بايدن في مسار حرب غزة؟
- حصانٌ محاصر على سطح منزل في البرازيل بسبب الفيضانات المميتة ...
- -لا أعرف إذا كنا قد انتشلنا جثثهم أم لا -
- بعد الأمر الحكومي بإغلاق مكاتب القناة في إسرائيل.. الجزيرة: ...
- مقاتلات فرنسية ترسم العلم الروسي في سماء مرسيليا.. خطأ أم خد ...
- كيم جونغ أون يحضر جنازة رئيس الدعاية الكورية الشمالية


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - حمزة الحسن - قديم يتفسخ وجديد لا يولد