أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - جواد البشيتي - الشارني وموسم ازدهار المنجمين!















المزيد.....

الشارني وموسم ازدهار المنجمين!


جواد البشيتي

الحوار المتمدن-العدد: 2468 - 2008 / 11 / 17 - 08:17
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


نحن الآن في موسم "التنبؤات الفلكية" التي تجتذب إليها اهتمام ملايين البشر، وبعضهم ممَّن يلعنون في مواقفهم "الرسمية" التنجيم والمنجمين، أو ممَّن هم في مراكز سياسية وفكرية وعلمية ومهنية يُفْتَرَض أن تجعلهم بمنأى عن تأثيرات المشتغلين بـ "علم الغيب"، الذي ليس من اختصاصهم، ولا من اختصاص غيرهم من البشر، وإنْ كانوا يزعمون أنَّ عملهم بعيد كل البعد عن "علم الغيب"، حتى لا يُكفَّروا، أو حتى لا يشعرون هم أنفسهم بأنَّهم يحاولون أمراً يُغْضِب الله.

فضائية "العربية"، وعلى جاري عادتها السنوية، استضافت "الفلكي" التونسي الشهير حسن الشارني، والذي يشغل منصب نائب رئيس الاتحاد العالمي للفلكيين، فخصَّها من دون سواها بتنبؤاته الجديدة.

هذا "الفلكي" ارتفع كثيراً منسوب شهرته إذ تنبأ بمصرع الأميرة ديانا في حادث مروِّع، وبموت الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات موتاً غامضاً؛ ولكنَّه فشل إذ تنبأ باغتيال الرئيس جورج بوش سنة 2005، قائلاً أنَّ اغتياله سيشبه كثيراً حادث اغتيال الرئيس الأسبق جون كيندي. ويزعم الشارني أنه تنبأ بأحداث 11 أيلول 2001.

وحتى نستكمل "تنقيط" حروف قصة الشارني نشير إلى أنَّ هذا الرجل يشغل منصب "المستشار" لدى "شخصيات عالمية شهيرة"، ولدى "بعض الدوائر الرسمية"؛ وأحسب أنَّ "سره" يكمن في العلاقة المتبادلة بينه وبين تلك الشخصيات والدوائر!

الشارني، في تنبؤاته الجديدة، تحدَّث في قضايا وشؤون سياسية (وغير سياسية) عالمية وعربية وكأنَّه مشتغلٌ بالسياسة أكثر كثيراً من "ساستنا" الذين يسوسون الأمور بغير عقل، فيُنْفَذ أمرهم، فيقال "ساسة". وتحدَّث في عالم الفن والفنانين، فتنبَّأ بموت فنَّانة عربية كبيرة (في القدر والسن) فتوقَّعت زوجتي، التي تتأثَّر كثيراً بما يقولوه المنجمون، وبما تقوله الأبراج، أن تكون تلك الفنانة فيروز أو صباح، فتمنَّيْتُ ألاَّ تكون فيروز!

إنَّ الشارني مع "علمه" يحتاج إلى فهم مختلف، فهو، والحقُّ يقال، أهم من كل صحافتنا العربية لجهة دوره في صُنْع الرأي العام في بلادنا؛ ومَنْ لم يُحْسِن فهمه يشقُّ عليه أن يفهم "كيف نُفكِّر"، و"في أيِّ شيء نفكِّر"، و"لِمَ نفكِّر".

"الغيب" إنَّما هو من الأمور والأشياء التي ينبغي للمؤمن الإيمان بها؛ والله هو وحده "عالِم الغيب"، أو "علاَّم الغيوب". و"الإيمان بالغيب" إنَّما يعني أن يؤمن المؤمن بما غاب عنه ممَّا أخْبَرَ به النبي من أمْر "البعث"، و"الجنَّة"، و"النار"، فكلُّ ما غاب عن المؤمنين ممَّا أنبأهم به النبي هو غيب. و"عالِم الغيب"، أي الله، هو العالِم بما خفي، وبكل الأسرار، وبما سيحدث. أمَّا "عالَم الغيب" فهو عالَم كل مجهول لا يُرى.

المؤمنون بالغيب يسعون دائما في تمييز أنفسهم عن "المنجِّمين" و"تنجيمهم"، فـ "الغيب"، في مفهومه الديني، ليس في متناول البشر، أبصاراً وبصائر، فالله وحده هو "عالِم الغيب"، أو "عَلاَّم الغيوب". حتى الأنبياء لا يملكون شيئاً من هذا السلطان الإلهي (عِلْم الغيب) فالله يَمْنَح البشر ما يشاء، وقدر ما يشاء، من العلم والمعرفة، عبر ما يبذلونه من جهود علمية ومعرفية؛ ولكَّنه يمنع عنهم كل ما يمت بصلة إلى "عِلْم الغيب"، الذي هو من اختصاصه وحده من دون سواه. إنَّه، أي الله، يُخْبِر أنبياءه بأمور غيبية من قبيل "البعث"، و"الجنَّة"، و"النار"، فيُخْبِرون بها الناس أو أقوامهم؛ وعلى هؤلاء أن يُدلِّلوا على إيمانهم الديني من خلال إظهارهم الإيمان بهذه الأمور، أي بما غاب عنهم ممَّا أخْبَرَهُم به أنبياؤهم.
وعليهم، أيضاً، أن يؤمنوا بـ "عالَم الغيب"، الذي هو عالَم المجاهيل التي لا تُرى.. لا يرونها، ولا يُمْكنهم أبداً رؤيتها، وبأنَّ الله وحده هو العالِم بما خفي، وبكل الأسرار، وبما سيحدث.

والإنسان، في الزمان والمكان اللذين يظهر فيهما نبيٌ، ينبغي له أن يؤمن بأمر "البعث"، وبغيره من أمور الغيب، من غير أن يطلب أدلَّة وبراهين، يطلبها، وينبغي له أن يطلبها، من أجل تصديق أمْرٍ من قبيل أنَّ الأرض كروية، أو أنَّها تدور حَوْل الشمس، أو أنَّ الجسم المغمور في سائل يَفْقِد من وزنه بقدر وزن السائل المُزاح، ففي أمور الغيب والإيمان بها لا مكان لكل ما يستعمله الإنسان من قوى وأدوات ووسائل وطرائق توصُّلا إلى "الحقيقة".

ولكنَّ إيمان الإنسان هذا بأمْر البعث، وبغيره من أمور الغيب، لا يمكن أن تقوم له قائمة قبل أن يستوفي شرطا لا بدَّ منه هو أن يأتي النبي بما يُعَدُّ "معجزة" بالنسبة إلى قومه، فلا نبي إذا لم يكن مؤيَّداً بما يُعَدُّ "معجزة" بالنسبة إلى قومه.

"المعجزة" أوَّلاً، فإذا أتى بها النبي، واقتنع بها قومه على أنَّها معجزة حقَّاً، أصبح ممكناً، وضروريا، عندئذٍ، أن يؤمنوا بما يُخْبِرهم به من أمور الغيب، كأمر البعث. والنبي، أي نبي، يحتاج في المقام الأوَّل إلى أن يُصَدِّقه قومه، وأن يَنْظروا إليه، ويعاملوه، ويعترفوا به، على أنَّه مُرْسَلٌ إليهم من خالق الكون، فأمرٌ كهذا إنَّما هو من الصعوبة بمكان، ولا بدَّ، بالتالي، من أن يأتيهم، أوَّلاً، بما يُحوِّل شكَّهم إلى يقين.

وأحسبُ أنَّ الناس، الذين جاء إليهم نبي، كانوا يحتاجون، في المقام الأوَّل، إلى ما يسمح لهم بأن يتأكَّدوا أوجه وحقيقة الإعجاز في الأمر الذي ظهر لهم، أو أُظْهِر لهم، على أنَّه "معجزة" لا يمكن أن يأتي بها، أو بمثلها، إلا أناس مُرْسِلين إلى أقوامهم من خالق الكون، وهم الأنبياء.

أمَّا المؤمنون في أزمنة لاحقة، أو أماكن مختلفة، أي مِمَّن لم يروا بعيونهم تلك "المعجزة"، أو "المعجزات"، فقد صَدَّقوها إذ "رُوِيَت" لهم، وعبر ما تلقُّوه منذ نعومة أظفارهم من تربية دينية (عائلية ومجتمعية).

إنَّ "العجز الإنساني"، النسبي، مع الشعور به، هو ما يُوَلِّد ويُغَذِّي ويُشدِّد المَيْل لدى الإنسان، فرداً كان أم جماعة، إلى الاعتقاد بـ "المعجزات"، والالتجاء إليها. والشعور بالعجز هو ما يجعل صاحبه يملك من البصر والبصيرة ما يجعلانه يرى "معجزات" في أُمور معيَّنة. وللتذكير إن نفعت الذكرى نقول إنَّ بعضا مِنَّا قد آمن وصدَّق بأنَّه رأى صورة صدام حسين في القمر!

ولو تمكَّن صدام حسين من أن يهزم الولايات المتحدة شرَّ هزيمة في العراق، أي أن يأتي بمثل هذه المعجزة، التي سنميل إلى تفسير حدوثها تفسيراً ميتافيزيقياً في المقام الأول، ولو أخْبَرنا بعد ذلك أنَّه سيأتي يوم تَلِدُ فيه الأبقار عصافير، لأظْهَر كثيرون مِنَّا مَيْلاً إلى تصديقه.

المشتغلون بما يسمَّى "عِلْم الغيب" يقولون بوجود عالمٍ في خارج الطبيعة، يضم آلهةً وشياطين تؤثِّر في الأحوال الجوِّية والغلال والإنجاب. ومعتقداتهم الغيبية تَضْرِب جذورها عميقا في فكرة أنَّ الحياة لا تنتهي بالموت.

في حياتنا وتجاربنا، ليس من شيء يمكن أن يَحْمِلنا على الاعتقاد بأنَّ من مات من البشر يمكن أن يعود إلى الحياة، فكلُّ ما لدينا من حقائق وأدلَّة وبراهين إنَّما يُظْهِر لنا ويؤكِّد (تأكيدا لا ذرَّة من الشكِّ فيه) أنَّ الحياة تنتهي بالموت، وأن ليس من ميِّت قد عاد، أو يمكن أن يعود، إلى الحياة. وهذا هو ما يُدْعى "الإيمان العقلي أو العلمي". أمَّا "الإيمان الديني" فلا يتحقَّق ويتأكَّد ويَكْتَمِل إلا إذا آمن المؤمن بأمْرٍ من قبيل أنَّ الموتى (من البشر) ولو شبعوا موتا، وغدت عظامهم رميما، وتَبَعْثَرت وتوزَّعت وتناثرت ولم يبقَ لها من أثر، سوف يعودون، حتماً، إلى الحياة في يوم يسمَّى دينياً "يوم البعث". وهذا ما أُخْبِرَ به البشر عَبْر أنبيائهم، الذين، بحسب المنطق الديني، أُخْبِروا به مِمَّن يعلم وحده الغيب بأموره كافَّة، ومنها هذا الأمر.

إذا كان سقوط تُفَّاحة من شجرتها قد أثار لدى نيوتن رغبة علمية في تفسير هذه الظاهرة (التي طالما عرفها البشر جميعا) فانتهى في سعيه العلمي إلى اكتشاف "الجاذبية" وقوانينها فإنَّ ذوي المعتقدات الغيبية فضَّلوا أنْ يسألوا "لماذا سقطت التفاحة على رأس هذا الشخص من دون سواه؟" على سؤال العالم البريطاني العظيم "لماذا التُفَّاحة، في انفصالها عن شجرتها، تتحرَّك نزولاً (أو سقوطاً) ولا تتحرَّك صعوداً؟".

في رأيهم يَدُلُّ سؤالهم هذا، أو ما يماثله من أسئلة، على أنَّ الحاجة إلى "الجواب الغيبي" لا تَقِلُّ عن الحاجة إلى "الجواب العلمي"، فإنَّ لـ "عِلْم الغيب"، على ما يعتقدون، حيِّزاً لا تشمله، ولا يمكن أن تشمله، "سلطة العلم".

"علم الغيب"، وخلافاً للعلوم الطبيعية المضبوطة، لا يعنى بـ "تفسير" الأحداث، فهو يتنازل عن هذا الدور للعلم. إنَّه يعنى فحسب بـ "التنبؤ" بالأحداث، أو "تداركها"، أو "استعجال وقوعها"، مع أنَّ التجارب الموثوق بها أثبتت وأكَّدت أنَّ أصحاب هذه المعتقدات لم ينجحوا إلا مصادفةً في التنبؤ بالأحداث، أو تداركها، أو استعجال وقوعها. وثَبُت وتأكَّد، أيضا، أنَّ بعضاً من هؤلاء لا ينطقون، في تنبؤاتهم، عن "غيبية"، فهم وثيقو الصلة بـ "صُنَّاع الأحداث" من أجهزة ومؤسسات، ومن ساسة يفضِّلون أن يُلْبِسوا الأحداث التي ستقع عمَّا قريب، والتي يعلمون بها، أو يتوقَّعونها، أو لهم يد في صُنْعها، لبوس "النبوءة".

لقد كان التنبؤ بالمستقبل، وما يزال، يشغل بال الناس، فحاولوا ذلك بدءاً من مراقبة السماء، وتفحُّص أحشاء الحيوانات، انتهاءً بالاستخدام الغيبي لقطع النقود وأوراق اللعب، وغيرها. وكان أشهر المتنبئين الأوروبيين بالغيب، في القرن الرابع عشر، نوستراداموس، الطبيب والمنجِّم الفرنسي الذي ألَّف أكثر من 600 بيت شعر غامض يمكن أنْ تُفهم على أنها تنبؤ بوقوع الثورة الفرنسية وأحداث أخرى مهمة.

دائماً، ومنذ القِدَم، مال الإنسان إلى الاعتقاد بوجود قوى خفيه (عن الأنظار، مستترة، غير ظاهرة) حوله، ومَصادِر سرِّية للمعرفة، وقدرات كامنة في داخله. وقد لازمت المعتقدات الغيبية الحضارات جميعاً؛ وإنْ اختلفت (شكلا ومحتوى) من حضارة إلى أُخرى، وتبدَّلت مع تَقَدُّم العلم.

بعض رجال الدين القدامى، أمثال المجوس، وهم كهنة فارسيون، اكتشفوا قوَّة "الإيحاء"، أو "الإيحاء الذاتي"، فأقاموا طقوساً وشعائر واخترعوا رموزاً تساعد على "تركيز الفكر". واستمرت العبادات الوثنية المبنية على بعض هذه الطرائق حتى بعد ظهور الديانات الكبرى.

لكنَّ الكنيسة، ومنذ القرن الرابع عشر، بدأت تُحرِّم الممارسات الغيبية بصفة كونها شرَّاً. وقد أدى اضطهاد طائفة "الألبيجيين"، التي كانت تقول بأن العالم المادي من خلق الشيطان، إلى ملاحقة السحرة في قارة أوروبا بأسرها، وبعد ذلك في الولايات المتحدة. غير أن تعذيب المتهمين بممارسة السحر وإحراقهم أشاع جواً من الهستيريا، ثم أفضى إلى تعزيز السحر.

وشهد منتصف القرن التاسع عشر تجدُّد الميل إلى الاعتقاد القديم بأنَّ أرواح الموتى يمكن أحياناً أن تُرى وتُسْمَع. وجاء اختراع التصوير الشمسي (الفوتوغرافي) ليعطي الاعتقاد بأن الأشباح ليست سوى أرواح عالقة بين هذا العالم والعالم الآخر زخماً قوياً.

واعتقد الروحانيون أنَّ باستطاعة شخص ذي حساسية نفسانية، يدعى "وسيطا"، أن يدخل في غيبوبة ويتلقى، وهو في هذه الحالة، رسائل من الموتى.

وقد انتشرت الحركة الروحانية في الولايات المتحدة، بعدما ادَّعت الأخوات المراهقات فوكس أنَّ بيتهن أصبح مسرحا لأصوات غريبة، وأنَّ الأشياء تتساقط أو ترمى عن الرفوف كأنها مدفوعة من قبل شبح صاخب أو روح مؤذية. ادِّعاؤهن الاتصال بالأرواح كُذِّب لاحقاً؛ لكن سرعان ما برز عدد من "الوسطاء" كانت لهم، على ما يبدو، مواهب خارقة. من بين هؤلاء ذاع صيت دانيال هوم، الذي أدهش الأسر الملكية الأوروبية، وحيَّر المتشككين، بإحداثه ظاهرات غريبة، مثل تسببه بهبوطٍ مفاجئ في درجات الحرارة، وجعل المناضد تسبح في الهواء، وإطالته قامته، ورفع جسمه عن الأرض. ثم شاع عقد جلسات أو اجتماعات ترمي إلى الاتصال بالأموات.

التنجيم، على ما يُعْتَقَد، نشأ في بلاد ما بين النهرين؛ لكنَّه لم يكن تنجيماً شخصياً؛ بل كان يعنى بالشؤون العامة كالحرب والطوفان والخسوف لجهة تأثيرها بالملك الذي كان يمثِّل شؤون الدولة ومصالحها.

كما يُعتقد أنَّ هذا التقليد قد انتقل من بلاد ما بين النهرين إلى مصر، فالهند، فالصين وسائر آسيا؛ ثم انتقل إلى الإغريق، الذين أعادوا صياغة المعارف التنجيمية وفق تقاليدهم الخاصة، فهم الذين عمَّموا طريقة "استنتاج المصائر الفردية من تاريخ الولادة".

في الحديث عن التنجيم والمنجِّمين، أو عند استماعنا لتنبؤاتهم، لا ننسى أبداً القول البليغ: "كذب المنجِّمون ولو صدقوا"، فما معنى هذا القول؟

لو أنني تنبأتُ باغتيال زعيم سياسي شهير بعد بضعة أشهر، مثلا، وحدث ذلك، لصدق تنبؤي. ربَّما مصادفةً صدق، وربَّما لسبب آخر صدق، فبعض المنجِّمين ليسوا بمنأى عن تأثير أولئك الذين لديهم "معلومات"، أو لديهم صلة بصناعة الأحداث، فكم من "توقُّعٍ سياسي" كان لرجال السياسة مصلحة في إلباسه لبوس "تنجيم منجِّم"!

فإذا كنتُ بهذا المعنى أصدق فبأيِّ معنى أكذب؟

أكذب في زعمي أنني قد تنبأتُ بذلك إذ راقبتُ النجوم بحسب مواقيتها وسيرها واستطلعتُ مطالعها، أي أنَّ كذبي كان في "الطريقة" أو "الأسلوب".

وهكذا يكذب المنجِّمون في "الطريقة" التي يزعمون أنَّهم بفضلها وعبرها تنبأوا بأحداث المستقبل، ويصدقون إذا ما تحققت تنبؤاتهم، مصادفةً، أو لسبب آخر مثل الذي أتينا على ذكره، والذي يجعل المنجِّم مثل الصحافي الذي يحصل على "معلومة" من "مصدر معلومات موثوق" فينشرها في شكل "توُّقع"، قد تأتي الأحداث بما يثبت أنَّ "توقُّعه" كان سليماً!

الزمن بعضه "ماضٍ"، وبعضه "حاضر"، وبعضه "مستقبل". في "الحاضر" فحسب، وبمعونة بعضٍ من "الماضي"، نصنع نحن "المستقبل". إننا نصنع هذا "المجهول الكبير" بكل ما لدينا من "معلوم". نصنعه، ولكن مع الرغبة في أن يأتي إلينا من في مقدوره أن يُحوِّل بعضاً من هذا "المجهول الكبير" إلى "معلوم". وهذا الذي نرغب، دائما، في أن يؤدِّي هذا الدور أو العمل على خير وجه ليس "العالم"، أكان عالماً في الفيزياء أم في السياسة، وإنَّما "المنجِّم"، أي "عالم الغيب" من البشر.

وفي "الحاضر"، حيث يُصنع أو نصنع "المستقبل"، ننظر إلى "الماضي" نظرة لا تقل سخافة، فنتمنى أن نعود إلى مرحلة من ماضينا حتى نقوم بشيء لم نقم به، أو حتى نحجم عن القيام بشيء قد قمنا به. لماذا؟

حتى نتلافى مصيبة قد حلَّت بنا!

إنَّها "الحكمة" التي نصبح من أهلها؛ ولكن بعد فوات الأوان!

كم من البشر أُوتوا هذه "الحكمة" التي لا طائل فيها، فيقول أحدهم وهو يقاسي آلاماً ومتاعب تسبَّب بها "خطأ" ارتكبه في الماضي: "لو عدتُ إلى تلك المرحلة من الماضي لفعلتُ كل ما في وسعي من أجل أن أمنع نفسي من ارتكاب هذا الخطأ الذي أعاني وأكابد عواقبه في الحاضر"!
كلاَّ، فلولا هذا "الخطأ" الذي ارتكبه في الماضي لما أوتِيَ هذه "الحكمة"!

ولو عاد إلى الماضي لما فعل إلاَّ شيئاً واحداً هو ارتكاب "الخطأ" ذاته!

من هو "ابن الحاضر"؟

إنَّه الذي يؤمن بأنَّ المستحيل بعينه هو "إلغاء الماضي"، فما حَدَثَ حَدَثْ، وليس ممكناً غير شيء واحد هو أن يعتبر بتجربته ويتَّعظ. وهو، أيضاً، الذي يؤمن بأنَّ "المستقبل" ليس بالشيء المصنوع من قَبْل أو سلفاً، فهو شيء "قيد الصنع"، أي أنَّ "الحاضر" و"الماضي" ينجبانه بزواجهما الشرعي.

وإذا كان "الماضي" لا يمكن إلغاؤه فإنَّ "المستقبل" يمكن التأثير فيه، فالبشر يمكنهم وينبغي لهم أنْ يصنعوا مستقبلهم بأيديهم، وعلى النحو الذي يريدون، فأحداث المستقبل ليست "خبراً" يأتينا به منجِّم بعد استطلاعه مطالع النجوم. إنَّها شيء يمكننا وينبغي لنا توقُّعه بناءً على "المعلومات" التي تأتينا بها "مطالع الواقع الذي نعيش"، والتي تضرب جذورها عميقاً في ماضينا وماضي أسلافنا. بناء على هذه "المعلومات" فحسب يمكننا "التوقُّع"، الذي ينبغي لنا أن نجتهد في جعله يشبه أكثر فأكثر توقٌّعنا أن يسقط إلى الأرض هذا الحجر الذي قذفنا به في الهواء.

"الفشل" هو أن تذهب التطورات بالتوقُّعات؛ أمَّا "النجاح" فهو أن تأتي أحداث المستقبل بما يقيم الدليل على صواب التوقُّعات.

إنَّ السماء تعلونا؛ ولكنها لا تعلو علينا في صُنع مستقبلنا!



#جواد_البشيتي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الشفافيَّة!
- فلسطينيو -توتسي- وفلسطينيو -هوتو-!
- قصة الولايات المتحدة مع النفط المستورَد!
- -الرئيس- الذي يصنعونه الآن من أوباما المنتخَب!
- سرُّ أوباما!
- فاز أوباما.. وظهر المهدي!
- نظام الرواتب يحتاج إلى إصلاح!
- بوش يتوعَّد العراق ب -القاعدة-!
- النظرية الاقتصادية الإسلامية في حقيقتها الموضوعية!
- حملة غربية للسطو على السيولة العربية!
- -الاقتصاد السياسي الإسلامي-.. تجربة شخصية!
- ما وراء أكمة البوكمال!
- عندما نعى بولسون -الإمبراطورية الخضراء-!
- -الرأسمالية المُطْلَقة-.. بعد الموت وقبل الدفن!
- -الاقتصاد الافتراضي- Virtual Economy
- العرب.. -يوم أسود- بلا -قرش أبيض-!
- قاطرة الاقتصاد العالمي تجرُّها الآن قاطرة التاريخ!
- .. وإليكم الآن هذا الدليل -المُفْحِم- على عبقرية الدكتور زغل ...
- رجل البورصة ماكين!
- ماركس!


المزيد.....




- رمى المقص من يده وركض خارجًا.. حلاق ينقذ طفلة صغيرة من الدهس ...
- مسيّرة للأمن الإيراني تقتل إرهابيين في ضواحي زاهدان
- الجيش الأمريكي يبدأ بناء رصيف بحري قبالة غزة لتوفير المساعدا ...
- إصابة شائعة.. كل ما تحتاج معرفته عن تمزق الرباط الصليبي
- إنفوغراف.. خارطة الجامعات الأميركية المناصرة لفلسطين
- مصر.. ساويرس يرد على مهاجمة سعد الدين الشاذلي وخلافه مع السا ...
- تصريحات لواء بالجيش المصري تثير اهتمام الإسرائيليين
- سيدني.. اتهامات للشرطة بازدواجية المعايير في تعاملها مع حادث ...
- ليبيا وإثيوبيا تبحثان استئناف تعاونهما بعد انقطاع استمر 20 ع ...
- بحضور كيم جونغ أون.. احتفالات بيوم الجيش في كوريا الشمالية ع ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - جواد البشيتي - الشارني وموسم ازدهار المنجمين!