أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - منهل السراج - مسح الأرض بالدموع















المزيد.....

مسح الأرض بالدموع


منهل السراج

الحوار المتمدن-العدد: 2412 - 2008 / 9 / 22 - 06:50
المحور: الادب والفن
    



"يمكن لحس الشوربة إذا اندلقت على أرض بيتها".
مثل يقال في حماة للتدليل على نظافة ست البيت. ولأن الحارات على الدائم الدوم مغبرة، فإن تدبر المثل كان أمراَ مستحيلاً، لكن لم يكن يوجد ست بيت في الحارة لا تسعى لتحقيق المثل في بيتها، وإلا سيعيرونها بالوساخة.
عند رفيقتي حميدة كان وضع النظافة مستفحلاً، كانت مهووسة بأمرين اثنين، روايات إحسان عبد القدوس وتلميع أشياء البيت كانت كذلك تحب من الشعر نزار من دون كنية، وتحب في الطرب وردة وتفضل المقطع: وانا جنبي منك، آآآآآه، بحس بأمان. كانت حين أكلمها عن قضايا أخرى، تخرسني بكلمة واحدة: حاج جدية هلق. تلميع البيت تحول عندها إلى وسواس قهري تمارسه وتفخر به، وتعيب على من لا تتحلى بوسواس النظافة.. وظلت كذلك حتى نقلت العدوى إلي وصرت مثلها موسوسة.
أستيقظ في الصباح وأول شيء أفعله، أفتح الماء على آخر عيار، وأمسك رأس النربيج وأسدد على جميع زوايا البيت وأحياناً أثاثه، أسفل الثلاجة الذي كان مسحها مستحيلاً، رفاس السرير، رفوف المكتبة الملتصقة بالأرض والتي كانت تحتوي خمسون نسخة من الكتاب نفسه والذي اهترأ من كثرة البل، وكانت أمي تظن أنه اهترأ ياسبحان الله من كثرة القراءة فيه. ساعات يومية أقضيها في الغسل والشطف، والبيت كبير، جدران كثيرة وفارغة وسقوف كثيرة أيضاً وكلها تغري بتسديد النربيج والرش وأنا أكز على أسناني كي أعدم أثر الغبار وأصله، أما الشرفات فكنت أفضّل رشها في تنظيف ما بعد الظهر وأحياناً قبل النوم وقت سقي أحواض الزرع. حميدة بنت أكابر البلد بنت الحسب والنسب، جدها لأمها أول طبيب وجدها لأبيها أول صيدلي في المدينة، والعيلة على حسب قول أمي، أحوالهم طيبة و أنهم جماعة مسلسلين، وحميدة بالذات كانت تتفوق علي في المدرسة، هي درست الطب وأنا درست الهندسة..
تزورني وأزورها كل يوم، نحكي مع بعضنا عن بعضنا وعن أحوال النظافة في البيوت، وهكذا.. طبخنا وشطفنا وغسلنا..
جاءتني إحدى المرات بوجه ممتعض، ظننت أن ضيفاً داهمها ولم تستطع القيام بالشغل اليومي على أكمل وجه. سارعت وسألتها: هل أنهيت شغلك في البيت قبل أن تأتي؟ لم تجبني على سؤالي، نزعت خفها، ومسحت الأرض بباطن قدمها الحافية، وعرفت أنها تختبر نظافة أرض بيتي. أخبرتني بضيق أنها قبل مجيئها إليّ، قامت بزيارة صديقتنا الثالثة وأرادت أن تعد القهوة بنفسها وما إن وضعت أصابعها على مفتاح الغاز حتى لمست أثر السمنة.. صمتت لحظة مغمضة عينيها لا تريد أن تتذكر، ثم قالت: تركت كل شيء، غسلت يدي ولم أقبل أن أشرب قهوتها، وأتيت إليك حالاً..
صرت منذ ذلك الوقت، أتفقد كل شيء قبل أن تأتي حميدة.. إلى أن تحول الوسواس إلى "سودة" على حد قول أمي.. الشطف والمسح وتلميع الزجاج والمرايا.. وحين أنتهي ولايمكن أن أنتهي لأن الغبار الذي مسحته منذ قليل يطير في الهواء ويحط من جديد على الطاولات. أغلقت كل النوافذ والأبواب وأسدلت سبع ستائر على كل فردة من دون فائدة. شكوت الأمر لحميدة فأشارت علي أن أفعل مثلها، قالت إنها وضعت شريطاً لاصقاً على أطراف منافذ البيت كلها لكي تمنع الغبار من الدخول. فعلت مثلها ولكن أمي احتجّت: أريد أن أشم ريح ربي. قلت لها إن هذه الريح هلكتني. أجابتني: إلك الثواب.
وجدت الدكتورة حميدة أن الذهاب إلى العيادة ومداواة الناس، وتحقيق النظافة المرجوة أمر مستحيل لذلك اختصرت أوقات الدوام إلى ثلاثة أيام في الأسبوع صباحاً. وظلت تلهث.
لما درجت موضة السيرلنكيات أشرت عليها أن تحضر فتاة سيرلنكية تقوم عنها بالشطف والدعك والفرك في البيت، في حين تذهب هي إلى عيادتها وتداوي الناس.. أجابتني بمرارة:
ـ وهل ستعرف طريقتي في الشغل؟ لاأحد يسد عن صاحبة البيت.
صار من الصعب فرك وتلميع العيادة والبيت في اليوم نفسه، ولم يعد هناك من حل إلا إغلاق العيادة.
وتفرغت حميدة للبيت، كانت حين تنتهي من التنظيف ويكون هذا على الغالب عند نهاية النهار، تجلس مع الغروب وتشرب فنجان قهوتها، تنظر إلى شجر بيتهم العالي وتقول بحبور: أحب هذا الوقت.
كثير من عباراتها كانت في روايات إحسان عبد القدوس وهي كلها بنحافتها ولون عينيها وأهلها وبيتها وشجرها، هاربة من روايات هذا الكاتب. ولكن حديثها عن الطيور والشجر والغروب لايستمر أكثر من دقائق، ماتلبث وتعود من جديد للحديث عن مشاريع الغد والتي تتضمن تعزيل السقيفة وتلميع ورق قلب عبد الوهاب الذي يتعربش بجنون على حيطان بيتها..
في إحدى الأيام كان دوري بزيارة حميدة في بيتها وتفقد أدائها في التنظيف. فتحت الباب فاحت رائحة بيتها، نظافة، في كل زاوية من بيتها جنينة صغيرة على أرض لامعة كالمرآة. كانت بالمريول الأبيض، قالت إنه الأفضل في البيت خصوصاً أثناء الطبخ.
أمسكتني منذ لحظة دخولي وقالت مشيرة إلى زاوية في أعلى الجدار، مكان سقوط الضوء أكثر: دعكتُ الحيط، لكن لم أر هذه الزاوية.
فهمتُ أنها الآن بالذات تنوي القضاء على البقعة. تذمرتُ: أجّلي ذلك للغد. رجتني بحرارة: أريد أن أشرب القهوة مرتاحة.
تكاسلت حميدة أن تحضر السلم على شكل 8، أحضرت كرسيين وطلبت مني أن أمسك لها كرسياً وضعته فوق كرسي آخر. ولكي تتغلب على بقعة الضوء التي هربت منها، صعدت برشاقة وخرقتها بيدها، وبالفعل نجحنا في إزالة غبار تلك البقعة، وأخبرتها أن الأمور تمام، ولكن لم تصدق زعمي، راحت، تبحلق وأنا أبحلق معها في مكان البقعة فيما كانت تهم بالنزول، وعلى غفلة وضعت قدمها في الخلاء وتهاوت.
اتصلتُ بأختي وطلبت منها أن تترك من يدها تعزيل المطبخ وتأتي بسيارتها لمساعدتي في نقل حميدة إلى المشفى. رجعنا والجبس في قدمها، جلست حميدة مهمومة. قالت: من سيقوم بتنظيف البيت بمرضي؟ وكانت تحدق في الزاوية نفسها التي راح الضوء عنها ولم نتأكد إن كان قد زال أثر الغبار.
رفيقتي حميدة لم يكن يعنيها قضايا المرأة وحقوقها، لم يكن لديها معاناة مع أبيها ولم يكن لديها معاناة مع زوجها، على العكس كانت القرارات الهامة دائماً هي التي تتخذها. لكن كانت معاناتها مع الغبار، وحين صرت أهتم بالثقافة والشؤون، صارت تبتعد عني قائلة: دمك صاير تقيل. خصوصاً حين اختصرت المشكلة وأخبرتها أن البيئة هي سبب الوساوس، زفرت وطلبت مني أن أسكت.
تخلصت حميدة من وساوسها، حين قرروا هدم البيت الكبير الذي سكنته ونظفته كثيراً..
حين رأت حميدة الشجر يتقطع، تقطّعت من الحزن. وصارت كل يوم تمسح أرض بيتها بدموعها. حاولت أن أواسيها، لكنها لم تعد تحتمل مواساتي.
انقطعت أخبارها عني، وعرفت أنها تركت مهمة تخليص الهواء من الغبار ووضعت روايات كاتبها المفضل في السقيفة مع أشرطة وردة..
وانصرفت إلى سجادة الصلاة.
ستوكهولم
أيلول 2008



#منهل_السراج (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- دزينتان من الشرق وعصفور من الغرب
- لاتركل الدلو بقدمك
- بنطال الشاب على وشك السقوط
- حتى لاننساهم
- ترجع الفداء وتدور النواعير
- ماذا لو أعلن الحاكم توبته
- المقال اليومي -عن الاعتقالات في سوريا-
- شكرا للزائرين الأمريكيين
- فداء الحوراني والجدار يعلو
- حنان الكلب
- جائزة نوبل غرباً وجائزة العيد شرقاً
- الشباب حين يعملون شرقا وحين يعملون غربا
- الترجمة الشفوية، العلة في العتالين
- حبيبة أورهان باموق
- حجاب المهاجر
- الأمن تاج على رؤوس الآمنين
- اللجوء إلى السويد
- علاقات ساخنة علاقات باردة
- نساء الشان العام
- مجموعات ومواقع سقط عتب


المزيد.....




- يتصدر السينما السعودية.. موعد عرض فيلم شباب البومب 2024 وتصر ...
- -مفاعل ديمونا تعرض لإصابة-..-معاريف- تقدم رواية جديدة للهجوم ...
- منها متحف اللوفر..نظرة على المشهد الفني والثقافي المزدهر في ...
- مصر.. الفنانة غادة عبد الرازق تصدم مذيعة على الهواء: أنا مري ...
- شاهد: فيل هارب من السيرك يعرقل حركة المرور في ولاية مونتانا ...
- تردد القنوات الناقلة لمسلسل قيامة عثمان الحلقة 156 Kurulus O ...
- مايكل دوغلاس يطلب قتله في فيلم -الرجل النملة والدبور: كوانتم ...
- تسارع وتيرة محاكمة ترمب في قضية -الممثلة الإباحية-
- فيديو يحبس الأنفاس لفيل ضخم هارب من السيرك يتجول بشوارع إحدى ...
- بعد تكذيب الرواية الإسرائيلية.. ماذا نعرف عن الطفلة الفلسطين ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - منهل السراج - مسح الأرض بالدموع