أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - غريب عسقلاني - رواية الطوق -2 -















المزيد.....

رواية الطوق -2 -


غريب عسقلاني

الحوار المتمدن-العدد: 2410 - 2008 / 9 / 20 - 09:45
المحور: الادب والفن
    



ـ 2 ـ

نهار خريفي بارد..
العصر وبقايا الناس ينسلون الى البيوت، الرجوع المبكر قانون السلامة هذه الأيام، الشمس ترسل بقايا أشعة باهتة تغري البعض على التلكؤ في الشوارع ولكن بحذر.
سيارة الميكرفون تدوي مسرعة في الشوارع الواسعة فقط، يخرج الصوت الأعرج:

"انتبهوا انتبهوا"
يبدأ منع التجوال في الشوارع والطرقات، من الرابعة مساءً وحتى إشعار آخر..
"انتبهوا . انتبهوا".

الرجال يرتدون أثقل الملابس، الليل والبرد والتجمع في الساحة، والرؤوس بين الأرجل، حقد الأيام، الخوف والرعب، بنادقهم فوق الرؤوس شياطين ترقص.
حوقل الشيوخ وبسملوا ولجأوا إلى أسلحتهم العتيدة، وتعوذوا من كل الشياطين بما فيها التي تركب السيارات وتنعق بصوت أعرج، هدموا مربعات السيجة في عروق الجدران وتفرقوا.. وفي قهوة "كريزم" توقف الزهر بين أصابع الغاوي، أغلق الطاولة ولعن الميكرفون متحسساً عظام خاصرته، تحاصره الانتبهوا اللعينة، وبلع سؤالاً قفز إلى لسانه.
لماذا الطوق ولم يحدث شيء منذ أيام؟!
أما الجعباص فقد نثر أوراق الشدة بعصبية، ومضى دون أن يحاسب على الطلبات التي خسرها، ولم يسجلها صاحب المقهى في دفتر الدين، فقد اختفى قبل الزبائن.
وفي السوق جُمع ما جُمع من البضائع وبقايا الخضار، وبقي ما بقي على أبواب الدكاكين، لا وقت، نصف ساعة فقط، والناس يبتعدون ما أمكنهم عن الصوت الأعرج.

"انتبهوا انتبهوا.."

انفلتت سيجارة الهيشة بين أصابع "أبو محمود" فداسها بقدمه وتمتم حانقاً.
- يلعن أبوكم وأبو الانتبهوا، زمن كافر حكّم فينا الكافر.
مرت السيارة بالقرب منه، فلعن في سره مرة أخرى، وراح الميكرفون يكرر النداء، والصغار يتجمهرون من حوله، يركضون ويقلدون باستهزاء كلما صرخ الصوت الخشن، الصبية يهللون ويشتمون أباه والميكرفون لا يرد، تستفزهم برودته فيقذفونه بالحجارة ويختفون في الأزقة، وسرعان ما تطل رؤوسهم الصغيرة من أزقة أخرى جيوبهم حُبلى بالحجارة.
أول من رجع إلى الزقاق الأستاذ فهيم، خطواته تبدو هادئة ألقى بالتحية على أم صابر فدعت له العجوز بالسلامة وطول العمر، فتلقفته أم خليل قبل أن يحاذيها:
- ليش المنع يا أبو حسام؟
انخطف لونه، وارتبكت مشيته.
- وأنا ايش عرفنّي يا مستورة.
أنبت العجوز أم خليل التي حبست ضحكة كادت تفلت منها، اختفى الأستاذ في بيته ورددت أم خليل على تأنيب العجوز.
- نفسي مرة يرد بغير هالحكي.
ثم قلدت صوته الرفيع المخنوق.
- وأنا ايش عرفنّي يا مستورة
ثم أردفت.
- الله يساعد الغلبانة عليه.

وخطرت في رأسها أم حسام، تمتمت في سرها تحاشياًُ لنظرات أم صابر "يعطي الحلق للي ما لوش..." واستحضرت رجلاً يرويها كلامه، هل يمكن أن يحدث شيء دون علمه، وسرحت بعيداً بعيداً، "ماذا تفعل الآن يا أبو خليل، وكيف تقطع الأيام؟" وأحست بقشعريرة تسري في بدنها، وهدير البحر يطن في أذنيها. قذفت بحنق.
- وليش ما تعرف يا رجل؟!
وصرخت على ابنها الذي يلعب مع الصغار في طرف الزقاق.
- روح يا ولد نادي أختك من بيت خالتها، مين ما رجع لبيته هي عامله شب عنتر.
زمّت ما بين حاجبيها، وصرّت عينيها وأرهفت السمع لهدير البحر.
الجو خريفي بارد والزقاق أنبوب ثعباني تسربت منه الحياة، حتى القطط والكلاب اختفت تنبئها غرائزها بغموض الحدث.
بيوت المخيم متراصة مثل علب الكبريت، غيبت الآدميين في جوفها حتى الانتفاخ، فيما الرياح تضرب الجدران في الأزقة الضيقة.. تصغُر، تتلوى أصواتا شيطانية حول السقوف الواطئة، تغربلها شبابيك الزينكو وفرجات القرميد فحيحاً جليدياً يجثم على الأجساد المحشورة في الغرف، تتلّوى الأجساد وتتقلص على ذواتها تقنع الرب في السماء بإمكانية تحولها إلى ديدان تجيد الاختفاء في عروق الأرض..
تتمطى العتمة في الزقاق، تتعثر أم صابر فتزداد تشبثاً بكتف الصبي تستجدي هدوءه مؤبنة إياه.
- يا ولدي يا حبيبي أدور عليك، مين مثلنا بيحوس في الليل لو شافونا.
لم يرد الصبي، فقط لف لسانه في زاوية فمه بامتعاض، فقد فاجأته جدته في بيت الأستاذ خالد، والآن لا تسمح له بمغادرة البيت. قالت الجدة:
- مين بيلعب في بيوت الناس لهذا الوقت؟
- كنت رايح لأمي.
- وليش ما لقيتك عندها؟ قالت لي إنك روحّت من العصر.
تحسست رأسه بحنان.
- الصباح رباح، ينتهي المنع وتروح لأمك.
وتمتمت.."سبحان من غير الأحوال، كانت خفيفة تأتي إليك فتطردها، واليوم يهديك الله وتذهب إليها، مسكينة لا تقدر على المشي في شهرها الأخير، لم تر بطنا بحجم بطنها يتمدد أمامها، كأنها تحمل البلد بداخله، ربنا يحميها.."
ويونس في عالم آخر.
في الدار أشعلت الجدة السراج، وعادت تتربس الباب الخارجي بالحجر كالعادة، نادي عليها:
- اتركي الباب مفتوح يا جدتي.
لم ترد عليه، ووضعت الحجر خلف الباب نفخ "كيف تفهم العجائز الكلام" واتجه نحو الباب فأمسكته غاضبة:
- ابعد عن الباب، وروح نام.
همس في أذنها بذكّرها:
- الجماعة بيقولوا، الأبواب تبقى مفتوحة.
وأزاح الحجر عن الباب، تسمرت في مكانها، عقدت الدهشة لسانها، كيف يعي الصبي هذه الأمور، مسحت وجهها براحة يدها، وتعوذت من الشيطان الرجيم "زمن يشيب الولد في بطن أمه" وصحت من سهومها على سعال أبو محمود، ولا تدري لماذا ومضت في عقلها صورة زوجها "أبو صابر"، وأحست بقشعريرة كالتي سكنت جسدها يوم جمع الإنجليز رجال البلد في أرض البركة، كان صابر رضيعاً على يديها، وقيل يومها أن الثوار قتلوا ضابطاً إنجليزياً.
- مش أنتِ دائماً تقولي لي ما تنسي أمك يا يونس.
ورقدا في القمة صامتين، تشعر العجوز بالارتياح وتفرح كلما ذهب يونس لأمه "ربنا هداه وقلب الوالدين شقي"
كم عذب يونس أمه، وطردها ورمى هداياها في وجهها، وانطلق إلى الشارع، ليتركها مع دموعها.. مسكينة، الشياطين تركبه حين يراها، عنيد مثل أبيه والمنكودة ما ذنبها.. جدته تلومه:
- ليش بتعمل فيها هيك، هي مش أمك!
- ليش تتجوز وتتركنا لوحدنا؟
- غصب عنها يا ولدي.
يمط الصبي شفتيه، أمر لا يستوعبه، صغير حتى يفهم ماذا يعني أن تبقى صبية دون زوج، جسد فوار مع عجوز وطفل ولا رجل في البيت، الناس لا ترحم، والأهل والأقارب، والطامعون في العرض أجبروها، والرجال جاهزون، والوقت، أقوى من عناد امرأة صغيرة.: الله يرحمك يا صابر، وها هو الصبي يعود لأمه، من يفقد أمه برضاه؟
تحسست رأس الصبي وتمتمت في سرها.
"مازلت صغيراً حتى تدرك معنى أن يموت أبوك في بلاد الغربة.. ستكبر يوماً وتستوعب الحكايات من الناس، كان عشقهما غريباً جنوناً"، وأتيت أنت بذرة عشق شقية وعزيزة. سألته:
- بتحب أمك يا يونس
صمت الطفل.. قالت:
- من الظهر وأنت بره البيت ليش ما بقيت عندها؟
- شفتها العصر.
صمت كان في واد آخر، وراحت الجدة تحاوره بصمت "الحمد لله الذي هداك" وأغمضت عينيها تطرد سيل الذكريات، وقامت تثبت الحجر بحيث يبقى الباب موارباً ولا تؤرجحه الريح

***
نام الأولاد، فتحكمت به:
- أنا خايفة يا فهيم بيقولوا اليهود..
قاطعها محتداً.
- الجيش ما بيتعرض للناس بدون سبب، اللي عايز يسلم يقعد في بيته ساكت، حاكم الدنيا مقلوبة.
- طيب سكتنا، قوم افتح باب الدار.
كالملدوغ بحلق فيها، همست:
- الجماعة عايزين الأبواب تظل مفتوحة.
- مين إلي قال؟
- كل الناس بتقول الأبواب تبقى مفتوحة.
بحذر فتح الباب، وتفقد المطبخ، وغرفة الضيوف، وأغلق غرفة النوم من الداخل بالمفتاح والمزلاج، وانسل إلى الفراش.

***
انتهى أبو محمود من صلاة العشاء، وفي الدعاء قصف الشيطان الرجيم، وكثف الدعاء بالرحمة له ولأولاده وأمة الإسلام من شرّ الأيام, وأولاد الحرام ومصائب الزمان المتوقعة في منع التجول الذي بدأ عصر هذا اليوم.. مسح وجهه براحتيه ونادى على سميرة التي كانت تنظر من شق الباب، تصعقها العتمة فتزداد قلقاً.
الخوف يسكنها (وعليّ) يعذبها، لم تره اليوم، ولم يرسل خبراً، ويونس دخل البيت مع جدته ولم يغادر، هل تنادي عليه، هل سمع شيئاً.. آه لو تنشق العتمة عن علي.. أم تراه قد غادر المخيم، أم أنه داخل الطوق.. هل, وهل, وحيرها أمر الطوق المفاجئ، لم يحدث شيء في المخيم طوال اليوم.. يحاصرها القلق، والغضب يلف الأشياء من حولها، وصوت أبيها غاضب من الداخل:
- يا بنت ال..
تراجعت الى الغرفة يلطمها صوت العجوز:
- طرشة ان شاء الله، ايش واقفة تعملي ع الباب في العتمة؟
رمت بقلقها:
- ما شفت ابن عمي يا أبي؟
- لا، ما مر عليّ، ماله ابن عمك يا بنت؟!
- أبداً، فكرت أنه مر عليك ساعة ما زعق الميكرفون.
ساوره القلق، سؤال ابنته يفاجئه، كثيراً ما تمضي أياماً دون أن يراه، هل تخبئ سميرة عنه شيئا، وجد نفسه يسأل:
- هو علىّ مع الجماعة يا سميرة؟
- ايش عرفني، عمره ما جاب سيره قدامي.
قال الرجل يبدد الصمت:
- قومي اعملي كباية شاي وتوكلي على الله، "المقدر مكتوب" واشعل سيجارة الهيشة، فتكاثف القلق مع هواء الحجرة البارد الثقيل.
***
عينه معلقة في السقف، وعقله يعمل بسرعة، غداً يجب عليه تلافي الحديث مع الناس والجيران والمدرسين، وخاصة مع الأستاذ خالد الذي يتحرش به، "خربت الدنيا" يا ولد، وراحت علينا، العرب راحوا وذابوا، وأنت عايز تعمّرها، بكرة تقول عنا انتهازيين وسلبيين، معزوفة سمعناها وزهقنا منها الواحد يمشي الحيط الحيط ويقول يارب السلامة.."أين هي السلامة، وهم يفرضون عليك أن تبقي الباب مفتوحاً"، يفرضون عليك الاحتكاك، يزداد حنقاً وخوفاً، لماذا الأبواب المفتوحة؟ خراب بيوت، وأم خليل تلدغه نظراتها وتلسع ظهره، لا أحد غيرها، هي التي أخبرت زوجته بترك الباب مفتوحاً، هو خبر أم أمر يا أم خليل؟ ماذا لو بقي زوجها هل يرضى عن تصرفاتها، يطرد الفكرة من رأسه، فالرجل أُبعد إلى الأردن بعد أول طوق، وترك بقية المشوار لها، وأخذ يفكر في الطوق وأسبابه، وكيف يمنع ابنه حسام من اللعب مع الطفل اليتيم يونس، فالأمر يحتاج إلى الحذر فيونس يتيم بظروفه، وهمس لزوجته.
- أنتِ صاحية؟
كانت ترهف السمع تفرز أصوات الآليات في الشارع العريض، شد اللحاف وغطى رأسيهما وتحت اللحاف أخذته البليلة "ماذا لو دخل أحدهم بيته" لكن صوت الميكرفون تمدد في جوف الليل، مفزع ومخيف.
انتبهوا. انتبهوا. على جميع الرجال التجمع في ساحة المدرسة..
انتبهوا. انتبهوا. على..

***
تطل الرؤوس من فرجات الأبواب، والعتمة جاثمة على صدر الزقاق، والليل غول يبتلع الرجال، والبحر هدير وحشي يمتطي رياح تشرين، كحة أم صابر اخترقت الصمت فارتخت قبضة يدها عن كتف يونس، حركة خفيفة خلف بيت أم صابر، وصوتها غاضب:
- وين يدك تروح والعتمة مثل الكحل.
تنحنحت أم خليل، وتبعتها سعدية بنت الغاوي وجأر البغل في بيت الجعباص، حتى زوجه الأستاذ فهيم لم تحبس سعالاً خفيفاً خرج من حنجرتها، هي الأخرى واقفة خلف الباب ترصد العتمة، ضاربة بعرض الحائط تحذيرات زوجها..
الصمت يلف الأشياء، لم يسمع صوت سميرة، أم خليل تستطلع الأمر:
- ما ظل راجل يونسنا غير "أبو محمود"
ردت سميرة:
- والله يا خالة طلع أولهم.
تمتمت سميرة "الطوق اللي فات ربنا ستر"
في الطوق الماضي لم يخرج مع الرجال وعند تفتيش البيوت، بصق الجندي في وجهه وهزه بعنف:
- ليش ما طلعت انت مش راجل.
- ..............
- ليش أنت بتقعد هون.
- .............
- رد يا حمار.
- أنا ختيار ومريض يا خواجة.
دقه الجندي في صدره.
تمتمت سميرة في العتمة "ربنا ينتقم منهم" وفي العتمة قفز يونس إلى حضنها قال:
- لعبت عند داره للمغرب وما رجع للدار.
ظل يونس يلعب حول بيت عليّ حتى اختفى الناس والأولاد، وهبطت العتمة فلجأ إلى دار صديقه في المدرسة.
- رحت على بيت الأستاذ خالد ألعب مع أخيه إسماعيل.
- طيب إنت شفت الأستاذ خالد.
- هو اللي قال خليك لما تيجي جدتك.
وكمن تذكر قال بسرعة.
- سمعت الأستاذ خالد بيقول لراجل كان ماشي معه انه في وشاية، والطوق يمكن يطول.
هبطت في الأسى، وشاية، هذا ما توقعه "علىّ"، بعد الجنازة في الشهر الماضي، كان يومها حانقاً، وغير جميع الأماكن، وحذر من الخروج في الجنازات، لكن الشباب خرجوا بعد ذلك عدة مرات واليوم حدث ما توقعه.. طنين كلماته مازال في أذنيها، يفرغ أحزانه لها "من أكبر الأخطاء ظهور المسلحين في الجنازات" ..
ماذا تفعل الآن يا عليّ؟
وحاصرتها رياح الليل، حتى الأماكن الجديدة لم تعرفها حضنت يونس وراحت تراقب نجماً بعيداً تواريه الغيوم، ثم لا يلبث يسطع من جديد، دوار يسكن رأسها، وهدير البحر يرقص أمامها كغول اسطوري. والصبي يونس ينسل بخفه قبل أن تفتقده جدته.

***
خرجت خيوط الفجر من جوف العتمة، وسرحت على مياه البحر فلمعت زرقة صافية، ورغم ارتفاع الأمواج كان الهدير يصل، ساحة المدرسة وديعاً، الرؤوس تتململ بين الأرجل، والعيون تدور ببطء، وكشافات الإضاءة المنتشرة حول الساحة تفقد وهجها تدريجياً، تبدد أشعتها باهتة قلقة.. الفجر وميلاد يوم جديد، حدث خالد نفسه، كيف يستقبل الرجال يوماً جديداً، الكلمات باردة معلقة على شفتيه، ونظرات الرجل لم تفارقه، أو تسكن خلاياه.
كان يمشي أمامه، وقف أمام الضابط، وفجأة لعلع صوت خشن واختلط الحابل بالنابل، الجندي العملاق الذي يدفع الرجال أمام الضابط، ينبطح مذعوراً ويعالج بندقيته، سيارة الجيب تنطلق مبتعدة، إشارات لاسلكي تنعق في فضاء المكان.
والجميع يهرولون بعيداً، تقمص الرجال الهلع الذي أصاب الجنود والشاب ظل واقفاً، وخالد يشعر أن الشاب ينظر يبحث عنه، ربما ليبلغه أمراًَ ما، خالد يلتقط لهاث صدره، ينظر نحو الشاب، كانت نظراته صفراء باهتة هازئة، مخذولة..هل هي الوشاية وهل يضيع الرجل بوشاية؟ قبل أيام رأى الشاب بصحبه عليّ، كان عليّ يضحك والشاب مقطب لا يستجيب للدعابة
الجنود يطوقونه، بنادقهم مصوبة الى صدره.
- أنت محمد موسى؟
- نعم.
لكمة قوية نالت وجه محمد موسى، أين خططك يا خالد، وأين هي نظرياتك كي تخّلص الشاب من حصارهم، وأنت من يطلقون عليك روح النظرية وتمنى لو قُطع لسانه وتحول إلى إصبع سادسة في كف الشاب، لكن الجنود انهالوا على محمد موسى، اطرحوه أرضاً قيدوه ومضوا به إلى السيارة.. الشاب يلتفت إلى الرجال المذعورين، يصل صوته واضحاً رغم شفته المذبوحة:
- اللي يصبر على النجاسة بدنه يتسمم.
وها هو الفجر يطلع علينا، كيف نستقبل اليوم الجديد، قال أبو محمود.
- تأخر الآذان يا جماعة.
رد رجل:
- الشيخ عبد الصمد معنا، من يرفع الآذان.
وقال خالد بمرارة:
- صلوا بدون إمام.
وشعر بأنه مثل إمام مهزوم، بضاعته بارت عليه، هل تتطلب الأيام إماماً من نوع جديد، قال أبو محمود جاداً.
- ومن بقي على وضوءه!!
وقال الغاوي رافعاً الكلفة والحشمة.
- قول مين ما طلع منه ريح في هالبرد.
والريح من علامات النجاسة، تبطل الصلاة، والدم المقذوف من الشفة المذبوحة ماذا يبطله، كاد يصرخ "الصلاة لا تجوز إلا بوضوء الدم" ولكنه ابتلع لسانه، لا عودة إلى زمن الخطب، من يقذف الدم يكتفي بنظرات العتاب، ومن يتفرج يمتطي شلال الدم، امتلأ غضباً وانهزم.
قال الجعباص:
- من منا ما خرج منه الشيء انقلابي
قهر..ريح يخرج، الشيء انقلابي، والجعباص يخجل قلها يا جعباص فصوص، فساء، خراء قل ما تشاء لا تحتشم، وخرج صوت خالد معذباً:
- لو يسمحوا لنا، نتوضأ بماء البحر.
الغاوي كمن يمسك حلماً غادره منذ زمن، وهو الذي اعتاد امتطاء البحر في أربعينية الشتاء، يرتجف الآن، معلم البحر القديم لا يمتطي الماء، يخاف هدير الموج، ربان الموج يكز على أسنانه، عاودته الخاصرة والبرد يكشف الألم، يا خسارتك يا غاوي، ورقص لسانه بدعاء يسحق ويمحق ولكنه لا يتجاوز فمه، لا يظهر منه غير زمّات على الشفتين وكأنه يخبئ الألم الذي في داخله.
خالد يبحلق في الغاوي، لم يبق من صلابة ريس البحر إلا نظرة جامدة تسكن في عين ابنته سعدية.. لماذا حضرت سعدية الآن، هل لتضيف إحباطا جديداً؟ كم مرة طاردتها يا خالد؟ لم يهتز لها رمش. ولا تغيرت ظلال التحدي على وجهها.
الناس حالات حضور وغياب، والشمس ترسل أشعتها من شرق الدنيا، وصوت الميكرفون ينعق.
"على جميع الرجال الرجوع الى بيوتهم والتجول ممنوع حتى إشعار آخر"..



#غريب_عسقلاني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رواية الطوق - 1 -
- هموم انسانية خلف غيوم رمادية قراءة في رواية غيوم رمادية مبعث ...
- الملح يتخثر عند حواف القصيدة
- امرأة مشاغبة حتى التعب
- رسائل الزاجل الأسير إلى عنود الليالي
- في وداع محمود درويش
- بطاقات إلى امرأة تنتظرني - 4 -
- بطاقات إلى امرأة تنتظرني - 3 -
- بطاقات إلى امرأة تعرفني - 2 -
- بطاقات إلى امرأة تعرفني
- رسائل الزاجل الأسير إلى هناء القاضي
- جنة ابوبها موصدة
- الدوران حول مركز الالتباس
- رسائل الزاجل الأسير الى بشرى ابو شرار
- رحلة ذكور النمل
- ظلال الأرقام الرمادية
- الهبوط من بيت الأثير - الفضاء السابع والأخير
- بيت في الأثير - الفضاء السادس
- بيت في الأثير - الفضاء الخامس
- بيت في الأثير - الفضاء الرابع


المزيد.....




- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - غريب عسقلاني - رواية الطوق -2 -