هذا المقال، في الواقع من ثلاثة أجزاء، حيث كان الجزء الأول منه بعنوان (في المجتمع المدني يجب فصل الدين عن الدولة وليس الدين عن السياسة - القوى الدينية يراودها حلم الاستحواذ على السلطة)*، وهذا الجزء الثاني منه الذي يناقش النموذج الإيراني، حيث هي التجربة الوحيدة التي يعتد بها كجمهورية إسلامية. أعود وأذكر بالمقدمة التي وردت من خلال الجزء الأول والتي نقول فيها:
القوى الإسلامية التي تعمل ضمن فصائل الشعب وقواه الفاعلة على الساحة العراقية هذه الأيام تجد إن أمامها فرصة قد تكون الأخيرة لإقامة جمهورية إسلامية طالما حلمت بها على حساب باقي القوى المؤتلفة عرفا معها خلال هذه المرحلة، فإن هذه القوى تجد بالنظام على غرار النظام في إيران أو ما يشابه هذا النظام، يمكن أن يعتبر نظام ديمقراطي، وبهذا يكون الإسلاميون على العهد ولم ينقضوه، وفي ذات الوقت يجدون في هذه المرحلة، إن تعريف الفدرالية المتفق عليه غير واضح، لذا فهي فرصة يمكن من خلالها تمييع شكل الفدرالية الذي يطمح الكورد لتحقيقه واختزاله إلى شكل بسيط من أشكال الحكم الذاتي، ولكن معضلاتهم كبيرة جدا أمام تعددية القوى التي ستساهم بدورها في هذا النظام، رغم إن الإسلاميين يعرفون تماما أن ليس هناك نظام تعددي في إيران، ورغم ذلك، أنهم يجدون بالنظام الإيراني ما يحقق شروط الديمقراطية المتفق عليها، وهناك أيضا، متسعا للجميع بالمشاركة في السلطة ولكن ضمن بوتقة الدين، أو النظام الجمهوري الإسلامي، ولا أحد يعرف كيف سيكون ذلك، وما هي المسوغات التي ستقبل بها تلك الأحزاب العلمانية مثل هذا النظام؟!
ففي هذه الحلقة من المقال أحاول أن أعطي فكرة عن طبيعة شمولية النظام للجمهورية الإسلامية في إيران، وذلك من أجل المزيد من تداول الآراء والأفكار وليس من باب الانتقاص من النظام الإيراني.
النظام في إيران يمكن اعتباره أكثر من شمولي لأكثر من سبب، ففي النظام الشمولى للحزب الواحد، يكون الدين موجودا ولا يمكن لأية قوة مهما كانت غاشمة من إلغائه، فالفاشية في إيطاليا، والنازية في ألمانيا والستالينية في الاتحاد السوفيتي، والبعثية في العراق، كلها حاولت بكل ما أوتيت من قوة أن تلغي الدين تماما، ولكنها فشلت فشلا ذريعا في هذه المحاولة، فالكنيسة والجامع والمعبد اليهودي بقيت تعمل حتى بعد تفكيك الاتحاد السوفيتي مثلا، وحتى إن الدين في بعض الجمهوريات السوفيتية كان له حضورا قويا في الواقع الجديد، ولكن في حال السلطة الدينية، على غرار الجمهورية الإسلامية في إيران، فإن الدين هو الذي يمثل الحزب الواحد الذي يحكم البلد، فلا حزب بجانب الدين، من حيث كلاهما واحد، هذا من جانب، ومن جانب آخر، فإن النظام الشمولي الذي يعتمد الدين، سوف لن يعطي فرصا للأديان الأخرى من ممارسة شرائعها بحرية، ربما تقتصر حريتها على أداء بعض الشعائر الدينية، وسوف لن تكون مهمشة من المشهد السياسي وحسب، كما هو الحال في الحزب المتفرد بالسلطة، ولكن ستكون الأديان الأخرى بعيدة تمام البعد عن السلطة، هذا إذا لم تكن مضطهدة وتطالها حملات تصفية وتفتيش على غرار محاكم التفتيش في أوربا، أو ما حصل للبهائية في إيران وإلى آخره من الأمثلة التي لا تعد ولا تحصى.
النظام الإيرانى يحاول أن يكون ديمقراطي ويتم ممارسة السلطة فيه من خلال برلمان ودستور وقوانين وتيارين سياسين رئيسيين وهما المحافظ والإصلاحى وإقامة لانتخابات الخ، لكن كل ذلك لم يستطع أن يلغي صفة الشمولية عن هذا النظام الذي يمكن اعتباره أكثر شمولية من النظام الشمولي العلماني، فأعضاء البرلمان لا يمكن أن يتم ترشيحهم إلا بموافقة الولي الفقيه أو من ينوب عنه، وقد استحدث النظام هذا النوع من النيابة يوم وصول التيار الإصلاحي إلى تشكيل الأغلبية في البرلمان وصار له أن يشكل الحكومة من خلال الانتخابات، فقبل أن يخرج رفسنجاني من سدة الحكم حتى قرر الولي الفقيه وتياره المسيطر على السلطة من استحداث مجلس تشخيص مصلحة النظام، حيث إن هذه الهيئة لم تكن موجودة قبل ذلك، ولكن أملتها الضرورة من أجل إحكام السيطرة على مقاليد الأمور بالكامل وأن لا يكون هناك مجال لاستمرار الإصلاح، فلو كان الأمر يتعلق بأحكام معينة، لكان من الممكن وضعها كبنود جديدة للدستور أو قانون الأنتخابات، وبقي الفقيه بعيدا عن ممارسة السلطة بشكل مباشر، ولكن فرض حضوره القوي هو الذي يشكل الفارق، بهذه الطريقة يمكن له السيطرة على النماذج التي ستصل للبرلمان. الآن لا يحق لأي إنسان أن يترشح للبرلمان، إلا إذا كان خاضعا لشروط رجل الدين المعروفة، بالإضافة إلى معايير أخرى تؤمن بقاء الولاية للفقيه، فما يجري في إيران في هذه الأيام من محاولة لإبعاد ثلاثة آلاف من المرشحين لعدم صلاحيتهم، بعضهم كان أصلا في البرلمان الحالي، هو من حيث الأساس، الشك بعدم جدية تمسكهم بمبدأ ولاية الفقيه، وهذا ما أعلنته الجمهورية الإسلامية نفسها رغم التعتيم الإعلامى عما يجري داخل المؤسسة الدينية ورجالها التي تدير دفة السلطة.
من خلال تجربة العراقي بممارسة الحكم من قبل الحزب الواحد، وجدنا أن البرلمان، ما هو إلا مسرحية هزلية تعاد يوميا بتفاصيل وحوار مختلف رغم أن المضمون واحد، فالبرلمان في الجمهورية الإسلامية لا يختلف عنه من حيث المضمون إلا بشيء واحد، وهو جدية أي نقاش يتعلق بالدين، أو بأدوات رجال الدين لإدارة السلطة، ومع ذلك، يبقى أي قرار فيه خاضعا لمصادقة الفقيه الولي ومن قبله لجنة تشخيص مصلحة النظام، وهذه اللجنة تمثل الفقيه الوالي والنظام ولا تمثل الفرد، فأية فرصة ستبقى للإنسان لإيصال صوته؟! أو امتلاك إرادته؟
حاول النظام الإيرانى أن يكون مشابها لأنظمة المجتمع المدني من خلال ترك حرية الانتخابات على مستوى المجالس البلدية، وهي مجالس لها صلاحيات محدودة في بلداتها من تقديم خدمات بلدية للناس وتجميل المدن، الى آخره من الوظائف البسيطة، ومع ذلك وجدت نفسها بسبب هذه المجالس في أكثر من مأزق يتعارض مع مصلحة النظام حسب تشخيص المجلس المتخصص بهذا الأمر، فألغيت أنتخابات، وحلت مجالس بلدية، ورفض مرشحين لهذه المجالس وهكذا، فما بالك إذا كان الأمر يتعلق بالبرلمان أو أحداث تشريع جديد أو إسقاط سلطة معينة في البلد على أسس سلمية وديمقراطية؟ فالفقيه الولي يبقى هو ذات نفسه مدى الحياة، ومجلس تشخيص المصلحة، هو الآخر، يبقى أعضائه مدى الحياة، فما جدوى انتخاب الرئيس إذا كان لا يمتلك الصلاحيات التي تبقى في قبضة الفقيه أو مجلس تشخيص المصلحة؟ والبرلمان الذي تم انتقاء أعضائه وفق معايير محددة وصارمة؟ وما يجري هذه الأيام في إيران، ربما، والله أعلم،
قد يكون هو الآخر مسرحية مرتبة بشكل جيد لإظهار إن النظام الإيراني لا يختلف عن أي نظام ديمقراطي آخر في العالم الحر، سوى ذلك الغطاء الديني الذي يتحرك تحته الجميع، وكل ما يجري من تحته ما هو إلا تجربة ديمقراطية من نمط آخر يجدر بالآخرين دراستها وليس توجيه أصابع الاتهام لها، وهذا ما ستكشفه الأيام.
القضاء هو الآخر قد عانى من الأزمات القاتلة في هذه الدولة، في حين أريد له أن يكون مستقلا، ولكنه اليوم أبعد ما يكون عن الاستقلال، من حيث إن جميع مفاصل القضاء بيد التيار المتشدد، ولم يتركوا للتيار الثاني، إن صح أن يكون تيارا ثانيا، أي شيء يذكر ألا بما يتعلق بالقضايا المدنية البسيطة، وحتى هذه لو كان هناك اعتراض عليها، فأنها ستخرج ألى مدى أبعد، حيث الأيدي الحديدية لمجالس القضاء العليا التي تمثل التيار المتشدد. فالقاضي التي يترشح لهذا المنصب يمر من خلال مرشحات لا يمكن أن ينفذ من خلالها حتى البكتيريا الدقيقة.
لم يقف الأمر عند هذا الحد، فالسلطة هي صاحب الكلمة الفصل والكلمة العليا على الفكر السائد بين الناس، وعلى طرق تحصيلهم للمعرفة وعلى المصادر التي يعتمدوها في تحصيل المعرفة، بل لها السلطة حتى على اختيار نوع المعرفة. وعليه فإن الدولة التي تمثل الوحي الإلهى، كمصدر للشريعة، عليها أن تحمي مكانتها التمثيلية هذه بأن تحصر المعرفة بما جاء به الوحي. والشريعة أو النظام الاجتماعى الذي حددته الشريعة، هي من معطيات الوحي، وعلى الدولة تبعا لذلك، أن تحصر مصدر المعرفة أيضا في المصدر الإلهى هذا نفسه، أي الوحي، ونتيجة ذلك بالضرورة، إن كل من يتجاوز حدود تلك المعرفة، أو حدود ذلك المصدر، محكوم عليه بأنه تجاوز حدود سلطة الفقيه القيم عليها بإرادة الله، وهو بذلك يعد خارجا على إرادة الله ذاتها. فمشروطية التعليم، وهي من أهم جوانب الحياة، تعتبر الضامن المستقبلي للبقاء وإلى الأبد تحت عباءة الولي الفقيه، والذي ربما يكون ظالما.
التعتيم الإعلامي الذي تفرضه أجهزة الدولة على المواطن، ومنع استعمال الأطباق اللاقطة، والإنترنت الذي لا يكاد أن يكون فيه شيئا متاحا للإبحار عبره، والصحافة التي تمر من خلال الرقابة الشديدة ولا ينفذ منها ما هو معاد للسلطة ورجالها وأجهزتها، إلا ما سمحت السلطة به ضمن حدود ضيقة جدا. الأقليات العرقية والدينية الإيرانية التي هجرت البلد منذ اليوم الأول لسيطرة رجال الدين وقيام الجمهورية الإسلامية، ومن بقي منهم يعيش في معزل من كل شيء حتى الحياة الاجتماعية إلا بما هو ضروري جدا. أما الحريات الشخصية، فلم يبقى منها شيء سوى الذهاب إلى الجامع أو التسوق، عدا هذا، فلا يوجد شيء يستطيع الإيراني فعله بحرية كاملة. أما الحديث عن المرأة والحقوق التي لديها، فلا أعتقد إنها ستحقق طموح المرأة العراقية الواسعة بأي حال من الأحوال.
الجيش والقوات المسلحة تحت سيطرة السلطة العليا ومن المفروغ منه إنها تدعم ولاية الفقيه دعما مطلقا، والشرطة وأجهزة الأمن التي لو دخل لها أحد لما خرج إلى الحياة من جديد، فهي أشبه ما تكون بتلك التي نعرفها في الزمن البعثي المقبور، ولدينا مثال قريب من الذاكرة، هي تلك الصحفية الإيرانية الكندية الجنسية، فلم تشفع لها جنسيتها ولانتمائها للعالم الحر، فماتت تحت التعذيب بعد أيام قلائل من اعتقالها، فلك أن تتصور عزيزي القارئ ما الذي يحدث للإيراني الذي يعيش في إحدى المدن الصغيرة، ولنا بالأمثلة التي جلبها العراقيين المهجرين إلى لإيران خير معين ورافد للمعلومات حول هذا الموضوع.
دولة ليس فيها منظمات مجتمع مدني تعمل إلا من خلال سيطرة رجال الدين الممثلين للسلطة، ولا فيها جيشا مستقل عن السلطة العليا، ولا قضاءا مستقلا، ولا برلمانا مستقلا، ولا مجالس بلدية مستقلة، ولا تشريعات غير التي يراها رجال الدين صالحة، والكثير الكثير من تجاوزات حقوق الإنسان التي تمارسها السلطة، فأي ديمقراطية في نظام كهذا يمكن الحديث عنها؟!
ولكن في المجتمع المدني يكون الدين، بل كل الأديان تمارس شعائرها وطقوسها بحرية تامة، وتشارك بصياغة الدساتير والقوانين والتعديلات التي تجري عليها، ورجال الدين يمتلكون مكانتهم الاجتماعية المتميزة، ويمارسون دورهم كحكم وشاهد على عدالة السلطة وعدم ابتعادها عن الحدود الأخلاقية التي يرعاها الدين، يكون فيها الدستور وفيها القوانين والقضاء، كلها مستقلة عن السلطة، ولو أريد لقانون أن يتغير فإن للشعب دور في ذلك، بل الدور الأول والأكبر، وللدين دور متميز بمثل هذه العملية، فلو كان القانون الجديد يتعارض وأحكام الدين سوف يكون هناك تجاوز على الدين، ويتم تعديله، ويكون العسكر فيها بعيدين عن السلطة، وفيها يتم تداول السلطة بين أبناء الشعب من خلال أحزابه المتعددة أو منظماته المدنية، ويتم فيها تداول السلطة العليا ولا تبقى حكرا على أحد، وفيها الإنسان حرا بالاختيار لكل ما يريد سواء كان في التعليم أو العمل وما إلى ذلك.
من هنا جاءت ضرورة فصل الدين عن السلطة الدولة، وهذا لا يعني بأي حال من الأحوال إبعاد الدين عن السياسة، والسبب بالخلط هو ممارسات النظام الشمولي، حيث لا يسمح لأحد من ممارسة السياسة ألا إذا كان من أعضاء حزب النظام، فكما نتذكر جيدا أيام النظام البعثي الشمولي، لم يكن من حق أحد أن يمارس السياسة، إلا من خلال البعث، ضمن حدود ضيقة جدا. في حين السياسة في المجتمع المدني ذات طابع مختلف، أي باستطاعة الإنسان ممارستها من خلال كل الأحزاب المتواجدة في البلد أو المنظمات ذات الطابع السياسى. ففي النظام الديمقراطي، نظام المجتمع المدني، يمارس الحزب الديني السياسة من خلال وضع برامج معينة يعمل بوصول المجتمع إليها، وليس الوصول للسلطة لكي يتفرد بها ويقيم نظاما شموليا، وعلى هذا الأساس فأن جميع الأحزاب ذات الفكر الشمولي والتي أثبتت شموليتها يجب أن تبعد عن السلطة، وأن تراقب برامجها ونهجها وأيديولوجيتها التي تروج لها بين أعضائها وبين الناس على أن لا تحمل بذور الفكر الذي يؤدي بها إلى بلوغ هدف التفرد بالسلطة.
مما تقدم جاء مفهوم اجتثاث البعث، فالبعث في العرق، فعلها مرتين، الأولى كانت في العام 1963 والثانية في العام 1968 والتي امتدت خمسة وثلاثين سنة، فعل الحزب خلالها ما فعل، والحزب أيضا في سوريا، تفرد بالسلطة على مدى أربعين سنة، وسيبقى إلى الأبد لو تسنى له الأمر.
المجتمع المدني على خلاف المجتمعات الشمولية، فيه يجب فصل الدين عن الدولة، وهذا لا يعني أن لا علاقة للدين بالسياسة، ولا يعني أيضا أن لا تكون هناك أحزاب سياسية دينية، ولكن شرط أن لا تكون لها برامج سياسية طائفية، لأنها بالضرورة ستؤدي إلى نظام شمولي.
________________________________________________________________
* للرجوع إلى المقال يمكنكم زيارة الموقع الخاص بي من الحوار المتمدن
http://www.rezgar.com/m.asp?i=118