أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - جاسم المطير - معضلة الذاكرة .. وقصة الهروب من سجن الحلة .. 19















المزيد.....

معضلة الذاكرة .. وقصة الهروب من سجن الحلة .. 19


جاسم المطير

الحوار المتمدن-العدد: 2339 - 2008 / 7 / 11 - 11:10
المحور: سيرة ذاتية
    


كانت الشمس تستعد للدخول إلى السجن لتطرد عتمة الفجر وأنا في حالة صراع مع الأفكار الكثيرة التي تهجم علي كما كانت في ساعات الليلة كلها . غدا ً موعد " الهروب " فهل يسلم النفق من أعدائه خلال الساعات الـ36 الباقية لتنفيذ ساعة الصفر ..؟
كانت الإجابة تهرب مني .
كنت طيلة حياتي الماضية، في السجن أو حتى قبل الدخول إليه، قد تعودت على التآلف مع الليل . ما آمنت بالقول : نم مبكرا واستيقظ مبكرا ، بل ابتدعت قولا ملتزما به حتى اليوم : نم متأخرا واستيقظ مبكرا . تآلفت ُ مع ظلام الليل وهدوئه لأكتب قصصي ومقالاتي معتقدا أن أوقات الليل الهادئ هي التي تخلق البيئة الأساسية المناسبة لإطلاق الموهبة والإبداع في الكتابة ، كتابة القصص والروايات والمقالات السياسية . لكن الليالي الحالية ، منذ بداية التفكير والعمل بالنفق ، كانت مختلفة . فالتوتر الشديد كان هو المتطاول على الساعات والدقائق المصحوبة بمشاعر الخطر التي تداهمني بين لحظة وأخرى .
شربت " استكانا " واحدا من شاي الترمس الصغير الذي بجانبي منذ الليلة البارحة ثم قررت أن أنام حتى الساعة العاشرة حيث موعد حافظ رسن مع شقيقته التي ستزوده ، كما يتوقع ، بالكثير من المعلومات الضرورية التي ستساعدنا بضمان نجاح عملية الهروب .
كانت اليقظة وليس النوم تتوغل معي تحت البطانية فقررت النهوض . تناولت إفطارا سريعا ثم ذهبت لملاقاة حافظ رسن . كان مظفر النواب نائما وكان حسين ياسين نائما فهما متعبان من التفكير الدائم طوال الليل بالنفق الذي لا ينز منه غير العفونة والرطوبة والخوف والقلق . ثم وجدت حافظ رسن يقظا يتمشى مع أحد زملائه من فريق اللجنة المركزية في ساحة السجن الجديد . وجدته مستعدا للقاء شقيقته القادمة من بغداد هذا اليوم حسب الموعد المتفق عليه .
تخلى عن صحبة زميله وراح يتحدث معي بتهكم ٍ عن المسئولين في السجن الذين يمهدون لنا طريق الهروب بنجاح وهم لا يعلمون .
قال ما معناه أن إدارة السجن تقدم لنا اليوم آخر ما نحتاجه منها في " المساعدة " على نجاح عمليتنا.
كان أول سؤالي له :
ــ هل تم التنسيق مع حسين سلطان حول المشاركة بالهروب..؟
أجابني على الفور :
ــ هذا الموضوع أنا شخصيا مسئولا عنه، وسأرتب كل شيء.
قلت له :
ــ كيف ..؟
قال :
ــ اترك لي الحديث معه عن هذا الأمر . الأمر منوط بي .
ثم افترت شفتاه عن ابتسامة ساخرة شعرت معها أنه قد يخفي شيئا لا يريد البوح به، كعهدي به منذ زمن طويل، يطلق ابتسامة ساخرة عندما تتداخل عنده الأفكار وعندما يعوزه الجواب المحدد على سؤال محدد.
صارت الساعة تقترب من العاشرة . تلاشت حركتنا على بلاط الطريق المؤدي من ساحة السجن الجديد حتى ساحة السجن القديم . خطوات هادئة تتلوها خطوات هادئة وهو يغور في أفكار يسبح بها عن نتائج هذا اللقاء ، وكأنه فاقد الإحساس بكل شيء عدا اللقاء المرتقب ..
ساعتان من القلق الشديد كان يواجهه حافظ رسن بمعاينة دقيقة على ساعة يده تارة ونحو باب السجن تارة أخرى ، وقد غاب التجهم عن وجهه في تمام الساعة 12 ظهرا حين نادى أحد السجانة باسمه مطلوبا للمواجهة . ثم أخرج من الباب نحو إدارة السجن في تمام الثانية عشرة والنصف لمقابلة شقيقته .
عدت ُ إلى القاووش وطرحتُ جسدي على فراشي . افترسَني صمتُ ناتج عن خوف ما زال يعتصرني ، عن خطر جديد يمكن أن يداهم النفق قبل يوم التنفيذ . كنت أعتقد ، في تلك اللحظة ، أن نفس الصمت ونفس الخوف يعتصران قلوب الآخرين من أعضاء فريقي التنفيذ والتخطيط . وأنهم ، الآن ، جميعا حالهم مثل حالي يضعون أجسادهم في أفرشتهم لكن أفكارهم تحيط بالنفق وبمستقبله .
ساعة كاملة مضت ظلّت تطوقني فيها أفكار كثيرة واحتمالات كثيرة ، كما كانت تضرب حواسّي الملتهبة أجواء النفق الهادئ الذي قد يواجه مفاجآت صاخبة غير متوقعة في لحظة من اللحظات الخطيرة . كل فكرة إيجابية تداهمني تلحقها أفكار سلبية لا حصر لها . تابعت السباحة في خضم كل الاحتمالات المتوقعة ، ثم دس ربت َحافظ رسن بيده على كتفي ، فوق البطانية ، قائلا :
ــ أنهض .. عندي الكثير من الأخبار ..
كان يحمل كيسين . فتح الأول بسرعة ، كان فيه ( تكة وكباب ) لكنه بارد فاضطررنا إلى تسخينه ليصلح للأكل . كان في الكيس الثاني بعض الفواكه راح يقضم بعضها منتظرا سخونة الكباب على نار ( لمبة ) صغيرة تعود لأحد سكان القاووش .
كان مسرورا جدا وراح يلخص أخبار اللقاء كما يلي وهو يهمس كي لا يسمعه أحد :
أولا أن شقيقته زارت الكراج في الساعة السادسة من الليلة الفائتة ، وكانت بصحبة أحد أقاربها . استفسرا من حارسه عن مواعيد حركة أول سيارة إلى النجف غدا ، كما استفسرا عن موعد آخر سيارة . فأخبرهم أن حركة جميع السيارات ستتوقف غدا ً من الصباح حتى الليل بسبب إضراب جميع سواق السيارات في الحلة الذي سيعلن من الصباح حتى آخر الليل بموجب قرار نقابتهم . أما في الأيام الاعتيادية فأن الكراج يبدأ عمله قبل طلوع الشمس بقليل بينما تتوقف حركة السيارات بعد الغروب بقليل .
تجولا في الكراج قليلا وعرفا بوجود سيارتين سكراب على الجهة اليمنى من الكراج ، وأن هناك كلب حراسة في نهايته مربوط بسلسلة تفتح في آخر الليل كما علما من الحارس الذي جلسا في غرفته الصغيرة وقدما له بعض الفاكهة . قدرا المسافة بين أول الكراج ونهايته بحوالي 40 -50 مترا . في الغرفة سرير الحارس وراديو وبعض الأغراض الصغيرة من أدوات السيارات موضوعة على الأرض . الحارس عمره بين 45 – 50 عاما في غاية الطيبة والمجاملة . راتبه الشهري 15 دينار . سألاه عن الجدار العالي المحيط بالكراج فأجابهما أنه سياج سجن الحلة المركزي الذي يضم في داخله " آلاف " من الشباب الطيبين . قال لهما أن بين السجناء يوجد اثنان من أبناء عشيرته، وأن السجن يحتوي على سجناء من كل المحافظات كانوا من ضحايا الحرس القومي.
كانت المعلومات غاية في الأهمية بالنسبة لنا .
أضافت شقيقة حافظ معلومات أخرى عن رقابة الشرطة في الطريق بين الحلة وبغداد حيث توجد 6 نقاط تفتيش . يجري التفتيش الدقيق في نقطة الإسكندرية وفي نقطة الدورة . في النقاط الأخرى يتطلع الشرطي أو الانضباط العسكري بوجوه الركاب ثم يقول للسائق: اطلع.
أعطته أخته 25 دينارا فأعطاني منها خمسة دنانير .
أول شيء اقترحته عليه هو ضرورة تأجيل موعد الهروب غداً وبعد غد ٍ. وافقني في الحال على تأجيل موعد الغد الخامس من تشرين الثاني مؤكدا رأيه بضرورة التنفيذ يوم 6 من تشرين الثاني ، أي بعد غد وأنه لا يؤيدني بتأجيله . أفهمته عن احتمالات مواجهة السلطة للمضربين غدا وقد تستمر إلى بعد غد وربما تكون الشوارع والطرقات مليئة بالشرطة ورجال مديرية الأمن بعد غد أيضا. لم يوافقني وأصر على أن يكون ( موعدنا مع الحرية هو يوم 6 – 11 ) وليس غيره.
غادرني بعد انتهاء وجبة الغداء لمقابلة الآخرين والتحدث إليهم حول بعض الأمور ومنها تحديد موعد التنفيذ . شعرتُ أنني تخلصت من الكآبة بعد المعلومات التي حصلنا عليها ، لكنني لم أتخلص من تعب التفكير بالنفق وأماني سلامته حتى يوم 7 – 11 – 1967 حيث الذكرى السنوية الخمسين لثورة أكتوبر ، وهو اليوم الذي شاءت جميع المصادفات أن يكون هو رمزا من رموز التحرير الثوري لمجموعة من الشيوعيين العراقيين المسجونين في سجن الحلة المركزي .
ظلت عيناي تراقبان كل شيء في القاووش وفي السجن وأنا ما زلت في حيرة وتساؤل مع نفسي عن يوم الحرية الموعود . لم يطل الوقت كثيرا ، وأنا أشاهد السجناء في ساحة السجن القديم يروحون ويجيئون ، يناقش بعضهم بعضا ، يضحكون ويبتسمون ويتلفتون بكل اتجاهات السجن كأنهم ينتظرون حدثا ما . أنهيت كتابة مقالة قصيرة ( نصف صفحة فولسكاب ) عن ثورة أكتوبر كنت مكلفا بها قبل يومين لنشرها غدا في الجريدة السجنية .
ثم جاء حافظ رسن مبتسما وهو يسألني :
ــ هل تريد أن افضي لك بسر ..؟
قلت له منتفضا ً:
ــ هات ما عندك فأنا أحب أسرارا تقولها وأنت تبتسم .
قال :
ــ تم الاتفاق، بالإجماع، على التنفيذ ليلة ذكرى ثورة أكتوبر .
تـُرى هل يوجد مزيد من الوقت لانتظار حلول الساعة السادسة من مساء يوم 7 – 11 – 1967 لمواجهة شمس الحرية في ليل معتم صنعه الفاشستي في بلاد الرافدين ..؟
*******************************



#جاسم_المطير (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- معضلة الذاكرة .. وقصة الهروب من سجن الحلة .. 18
- معضلة الذاكرة .. وقصة الهروب من سجن الحلة .. 17
- معضلة الذاكرة .. وقصة الهروب من سجن الحلة ..16
- معضلة الذاكرة .. وقصة الهروب من سجن الحلة .. 15
- معضلة الذاكرة .. وقصة الهروب من سجن الحلة .. 14
- يا نوري المالكي .. خذ الحكمة من باريس ..!!
- معضلة الذاكرة .. وقضية الهروب من سجن الحلة .. 13
- يا نوري المالكي سيلاحقك العار إلى الأبد إن لم تفصل وزير التر ...
- معضلة الذاكرة .. وقصة الهروب من سجن الحلة .. 12
- معضلة الذاكرة ... وقصة الهروب من سجن الحلة 11
- هزات متبادلة بين مايوهات مجاهدي خلق وفيلق القدس .. العراق هو ...
- معضلة الذاكرة .. وقصة الهروب من سجن الحلة المركزي .. 10
- كيف تصبح سفيرا عراقيا بخمسة أيام بدون معلم ..!!
- يا ليتنا كنا في الفضاء الخارجي لنفوز والله فوزا عظيما .. !! ...
- معضلة الذاكرة .. وقصة الهروب من سجن الحلة 9
- معضلة الذاكرة .. وقصة الهروب من سجن الحلة 8
- حول الانتخابات المحلية القادمة أقول : إن الكوز الفخّار سريع ...
- التاريخ العراقي يعيد نفسه مع بائع فلافل ..!!
- إلى المليارديرية والمليونيرية وكل المردشورية في النجف الأشرف ...
- ترياق ايراني من نوع اكسترا ..!!


المزيد.....




- ماذا قال الحوثيون عن الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين في الجام ...
- شاهد: شبلان من نمور سومطرة في حديقة حيوان برلين يخضعان لأول ...
- الجيش الأميركي بدأ المهمة.. حقائق عن الرصيف البحري بنظام -جل ...
- فترة غريبة في السياسة الأميركية
- مسؤول أميركي: واشنطن ستعلن عن شراء أسلحة بقيمة 6 مليارات دول ...
- حرب غزة.. احتجاجات في عدد من الجامعات الأميركية
- واشنطن تنتقد تراجع الحريات في العراق
- ماكرون يهدد بعقوبات ضد المستوطنين -المذنبين بارتكاب عنف- في ...
- جامعة جنوب كاليفورنيا تلغي حفل التخرج بعد احتجاجات مناهضة لح ...
- إعلام: وفد مصري إلى تل أبيب وإسرائيل تقبل هدنة مؤقتة وانسحاب ...


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - جاسم المطير - معضلة الذاكرة .. وقصة الهروب من سجن الحلة .. 19