أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - جاسم المطير - معضلة الذاكرة .. وقصة الهروب من سجن الحلة .. 18















المزيد.....

معضلة الذاكرة .. وقصة الهروب من سجن الحلة .. 18


جاسم المطير

الحوار المتمدن-العدد: 2338 - 2008 / 7 / 10 - 10:27
المحور: سيرة ذاتية
    


اللمسات الأخيرة في النفق انتهت كليا الليلة البارحة .. فريق التنفيذ أنجز جميع ما عليه بإسهام رباعي خالد أنجزه بشجاعة نادرة وبهمة نادرة وبمستوى عال من المسئولية كل من فاضل عباس وكمال كماله وحسين ياسين وعقيل حبش وهم جميعا يستحقون مشاعر الامتنان في تاريخ الكفاح الشيوعي للسجناء السياسيين في العراق.
هكذا كان حافظ رسن يتحدث بطريقته الخاصة المعهودة ونحن نتناول الإفطار المشترك اللذيذ على مائدتي المتواضعة
كان يهمس همسا :
ــ بعد غد سنكون في بغداد .. ساعة الصفر هي السادسة مساء .. كن مستعدا وخلال اليومين القادمين سنكمل كل شيء. سأرتب الأمور مع شقيقتي التي لدي موعدا خاصا معها ، غدا ، إذ استطاعت الحصول على موافقة من وزارة الداخلية لمواجهتي.
كان يقول كلامه وهو في غاية البهجة والسرور . وكنت أتمنى أن تستمر البهجة في صدورنا خلال الساعات الــ48 القادمة لكي نجتاز النفق بنجاح وأمان وصولا إلى الحرية في بغداد ، بعد أن ننهي احتفالاتنا بمناسبة ذكرى ثورة أكتوبر الاشتراكية التي مضى على نجاحها نصف قرن من الزمان . كانت هذه المناسبة سندا وعذرا في الحصول على ملابسنا من إدارة السجن بحجة الاحتفال بها في مهرجاننا داخل السجن ومن ثم إعادتها ــ حسب الوعد ــ إلى الإدارة يوم 8 – 11 بعد الانتهاء من المهرجان. في الواقع كان لنا غرض آخر هو أرتداءها حال هروبنا من السجن فليس من الصحيح والمأمون هروبنا بملابس السجن أو بالبجاما . هيأنا بدلاتنا واربطتنا وقمصاننا وأحذيتنا . كما هيأ مظفر النواب ملابسه العراقية الصرف ، كوفية وعقال ودشداشة وسترة .
في السابعة من مساء اليوم أقدم محاضرة عن النفط واحتكاراته كجزء من مساهمتي في فعاليات المهرجان الثقافي المقام خصيصا لثورة أكتوبر . أنا واثق أن هذه المحاضرة هي الأخيرة لي في سجن الحلة ، فأملي كبير جدا بنجاح الهروب في عملية صعبة اكتملت جميع مقوماتها بجهود جبارة وإبداعات متنوعة صنعتها عقول وأيادي فريق التنفيذ .
في نهاية النفق ، أي بقرب فتحة الخروج يوجد كلب كبير متوحش مربوط هناك . مهمته حراسة الكراج ليلا بالنباح المتواصل حال رؤيته لأي إنسان غريب في تلك الزاوية . هذا الكلب يحتاج إلى معالجة كي نضمن وقف نباحه عند خروجنا . تم الاتفاق مع سجين صيدلي بتسميم الكلب . صنع سما خاصا ممزوجا بقوطية لحم مثروم ، ترمى القوطية للكلب قبل عشرة دقائق من البدء بالهروب وهي كافية لإسكات نباحه إذ سيموت فورا ، مع أسفنا الشديد ، فربما للضرورة أحكام ظالمة ، لتقديم هذه الضحية المسكينة . أخبرني حافظ رسن وهو في غاية السرور أن السم أصبح جاهزا .
في تمام الساعة التاسعة صباحا وصلنا خبر من إدارة السجن عن وصول مدير السجون العام ( لا أتذكر أسمه ) وهو رجل عسكري برتبة لواء ركن . يرغب في الدخول إلى السجن لإجراء الكشف على الأسلاك الكهربائية القديمة التي أدت ذات يوم قبل ثمانية أشهر إلى استشهاد أحد السجناء بصعقة كهربائية . إثر هذا الحادث قدمنا مذكرة طالبنا فيها بتغيير الأسلاك الكهربائية جميعها وتجديدها . اليوم جاء مدير السجون العام بنفسه للكشف على الأسلاك . هل يعقل ذلك ..؟
صارت عندنا شكوك فورية بهذا الطلب .
لا بد أن لديه مهمة أخرى حتما. لقد كنا قد منعنا دخول جماعة الوزير لتفتيش السجن وهاهم من جديد يحاولون التفتيش بوسيلة أخرى ، بحجة أخرى . أقسمَ مدير السجن وسجان صديق للسجناء أن المدير العام يريد إنجاز مهمة خاصة به لا علاقة له بما جرى قبل بضعة أيام . سيدخل السجن مع مرافقه وهو شرطي ليكشف الأسلاك بنفسه تمهيدا لتجديدها حسب طلبنا.
صدقنا ما قيل لنا ولكن بحذر. وافقنا على دخوله مع شرطي واحد فقط . رحب وفدنا به حال دخوله من الباب الرئيسي إلى داخل السجن ثم اتجه مع مرافقه إلى القاووش رقم واحد في السجن القديم . ثم انتقل إلى القاووش رقم 2 وحال خروجه منه متوجها إلى القاووش رقم 3 جاءنا أحد رفاقنا ليؤكد لنا أن مهمة هذا المدير لا علاقة لها بالأسلاك الكهربائية بل هي مهمة تفتيشية تستهدف كشف أشياء أخرى . فقد أخبرنا أن المدير العام لم يرفع رأسه إلى أعلى داخل القاووشين رقم 1 و2 حيث الأسلاك الكهربائية موزعة قرب السقف على الجدران . بل ركز على تفتيش أرضية القاووشين بعد أن طلب من مرافقه الشرطي برفع بعض الافرشة في الزوايا .
عرفنا في الحال أن المدير العام يلعب لعبة تفتيشية سريعة . بعد تفتيشه القاووشين 3 و4 صدر توجيه لبعض السجناء الذين كانوا يغسلون أرضية ساحة السجن بالماء والصابون ، بأن يرشوا ماء الأرضية مع أوساخها على المدير العام أثناء مروره بالساحة كأنما ذلك جرى بالمصادفة . وإذا بدأ بالسؤال أو الاحتجاج فيمكن الاعتذار منه . رشوا الماء عليه حال مروره بوسط الساحة ووسخت ملابسه العسكرية . وقف المدير لحظة أمام الفاعل قائلا : شكرا جزيلا .
لم يظهر عليه التأثر أو الاهتمام وسارع في إكمال بقية القواويش . حين وصل إلى قواويش السجناء العاديين تجاوزها دون أن يدخلها للتفتيش علما أن الأسلاك الكهربائية فيها كانت تحتاج إلى التغيير أكثر من غيرها . بهذه الخطوة كشف بوضوح عن نياته في تفتيش قواويش السجناء السياسيين . بالضبط صارت لدينا قناعة أن المدير العام يبحث عن نفق . وأنه يستكمل ما بحث عنه الوزير والمحافظ ومدير الأمن، من قبل .
ماذا نفعل .. كانت الدقائق تمشي سريعا وها هو الآن في السجن الجديد يتابع التفتيش الكاذب عن الأسلاك الكهربائية مخفيا هدفه الحقيقي في البحث عن " نفق " . الصمت يملآ الساحة ويلف السجناء كلهم كأنهم يقفون في مقبرة . شيئا فشيئا يقترب المدير العام من المنطقة المأهولة بأسرار النفق . سألت نفسي في تلك اللحظة سؤالا غريبا : هل يتحول النفق إلى مقبرة ..؟
اكتفيت بالصمت مع نفسي ، فلا جواب عندي لنفسي . بل اشتد عذابي و اشتد خوفي .
وقفنا حائرين أنا ومظفر النواب متكئين على حائط أحد القواويش المقابلة للصيدلية ، أي المقابلة للنفق الذي كان فيه ذلك اليوم بقية أكياس التراب التي لم يجر تصريفها . أصبح المدير العام في القاووش القريب من الصيدلية . أصابني الانهيار الفعلي ، أحسست بالضعف التام وبعدم القدرة على فعل أي شيء فقد كنت أرى الخطر الفعلي لكن لا أستطيع إزاحته ، وربما لا أحد في تلك اللحظات الحرجة يتمكن من إزاحته . شعرت أن كل شيء سينكشف حال دخوله الصيدلية وستضيع فرصتنا في نيل الحرية القريبة.
أحس بثقل يكبر على كتفي وعلى عنقي شيئاً فشيئاً، صار التفكير بانكشاف النفق يثقلني و ينهكني، وكنت اشعر أن عيني بلا حدقات وأن لساني انغرس في عنقي وغير قادر على الكلام .
لم تمض غير لحظات قليلة إلا ومظفر النواب ينطلق من جانبي نحو أثنين من السجناء الأكراد، وهما طويلين وبجسمين ضخمين . أمسك بيديهما طالبا منهما الوقوف بباب الصيدلية وتغطيته كليا ، ثم تجمع بالقرب منهما عدد من السجناء لإكمال مهمة التضليل على الصيدلية – النفق .
نجحت خطة مظفر النواب نجاحا أعاد القوة فورا إلى جسمي المرتعش . فما أن خرج المدير العام من قاووش ما قبل الصيدلية حتى تجمع حوله عدد من السجناء ، كل واحد منهم يعرض عليه مشكلته الشخصية . وبين الإجابة على استفسار هذا وذاك من السجناء تجاوز المدير العام باب الصيدلية داخلا القاووش الذي بعدها وهو القاووش الأخير منهيا مهمته التفتيشية .
حال خروجه قبلت مظفر النواب على وجنتيه ، فقد كان هو المنقذ الحقيقي لطريقنا نحو الحرية . كان هو الوحيد الذي أزاح خطرا حقيقيا .
كان نصيف الحجاج وحافظ رسن في درجة من اليأس مقاربة للدرجة التي كنت فيها. كانا في غاية الحزن وكان يسيطر عليهما شعور بأن " النفق " أصبح يواجه الاحتضار ، إذ ستطبق عليه عيون المدير العام في الدقائق القادمة .
لكن خفت حشرجات صدريهما، الآن، مثلما خفت من صدور جميع الذين كانوا يعرفون بخفايا موجودات الصيدلية ــ النفق. لقد اتسعت دائرة الدم في وجوهنا بسرور كبير بعد خروج المدير العام للسجون العراقية مؤكدا في تقريره: لا وجود لنفق في سجن الحلة..!
لقد دهشت حقا لمبادرة مظفر النواب المنشغل دائما بالنحو والصرف والبحور الشعرية، غير أنه بدا اليوم شخصا آخر، رجلا من نوع آخر. لا يغضب عند لحظة الملمات ولا ينهار ، فإذا كانت أشعاره مثل أشعار عمر بن أبي ربيعة تجعل القلوب تلين وتحب وتعشق، فإن مبادراته في المواقف الحرجة قادرة على أن تصيب النجاح في لحظة الفشل ، وقادرة على تحقيق فرص الأمل وتجاوز اليأس .
تدافعت الإرادات بأقصى قوة في دواخلنا ، جميعا ، بضرورة الاستعداد لساعة الصفر بعد غد .



#جاسم_المطير (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- معضلة الذاكرة .. وقصة الهروب من سجن الحلة .. 17
- معضلة الذاكرة .. وقصة الهروب من سجن الحلة ..16
- معضلة الذاكرة .. وقصة الهروب من سجن الحلة .. 15
- معضلة الذاكرة .. وقصة الهروب من سجن الحلة .. 14
- يا نوري المالكي .. خذ الحكمة من باريس ..!!
- معضلة الذاكرة .. وقضية الهروب من سجن الحلة .. 13
- يا نوري المالكي سيلاحقك العار إلى الأبد إن لم تفصل وزير التر ...
- معضلة الذاكرة .. وقصة الهروب من سجن الحلة .. 12
- معضلة الذاكرة ... وقصة الهروب من سجن الحلة 11
- هزات متبادلة بين مايوهات مجاهدي خلق وفيلق القدس .. العراق هو ...
- معضلة الذاكرة .. وقصة الهروب من سجن الحلة المركزي .. 10
- كيف تصبح سفيرا عراقيا بخمسة أيام بدون معلم ..!!
- يا ليتنا كنا في الفضاء الخارجي لنفوز والله فوزا عظيما .. !! ...
- معضلة الذاكرة .. وقصة الهروب من سجن الحلة 9
- معضلة الذاكرة .. وقصة الهروب من سجن الحلة 8
- حول الانتخابات المحلية القادمة أقول : إن الكوز الفخّار سريع ...
- التاريخ العراقي يعيد نفسه مع بائع فلافل ..!!
- إلى المليارديرية والمليونيرية وكل المردشورية في النجف الأشرف ...
- ترياق ايراني من نوع اكسترا ..!!
- معضلة الذاكرة .. وقصة الهروب من سجن الحلة 7


المزيد.....




- عداء قتل أسدًا جبليًا حاول افتراسه أثناء ركضه وحيدًا.. شاهد ...
- بلينكن لـCNN: أمريكا لاحظت أدلة على محاولة الصين -التأثير وا ...
- مراسلنا: طائرة مسيرة إسرائيلية تستهدف سيارة في البقاع الغربي ...
- بدء الجولة الثانية من الانتخابات الهندية وتوقعات بفوز حزب به ...
- السفن التجارية تبدأ بالعبور عبر قناة مؤقتة بعد انهيار جسر با ...
- تركيا - السجن المؤبد لسيدة سورية أدينت بالضلوع في تفجير بإسط ...
- اشتباك بين قوات أميركية وزورق وطائرة مسيرة في منطقة يسيطر عل ...
- الرئيس الصيني يأمل في إزالة الخصومة مع الولايات المتحدة
- عاجل | هيئة البث الإسرائيلية: إصابة إسرائيلية في عملية طعن ب ...
- بوركينا فاسو: تعليق البث الإذاعي لبي.بي.سي بعد تناولها تقرير ...


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - جاسم المطير - معضلة الذاكرة .. وقصة الهروب من سجن الحلة .. 18