سَعْد اليَاسِري
الحوار المتمدن-العدد: 2337 - 2008 / 7 / 9 - 10:46
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
مدخل :
بعد أن قامت الإمارات (مشكورةً) بشطب الديون المترتّبة على العراق و البالغة مع فوائدها حوالي 7 مليار دولار أميركي . أشعر حقيقةً بأنّ ما يدور حول الديون المستحقّة على العراق لهوَ ترجمة حرفية لبيت المتنبي :
وجرم جرّه سفهاء قوم
فحلّ بغير جارمه العقابُ .
فأنا أستغرب كيف تمّ تعقيد الموضوع بهذا الشكل ؛ وكان الأجدر بالدول الدائنة – العربيّة تحديدًا – أن تكون سبّاقة إلى خطوة تترجم لنا أدنى درجات التضامن مع مظلومية العراق المستمرّة حتّى اللحظة .
و بدلاً عن أن تقوم تلك الدول بما يمليه عليها واجبها الأخلاقي ، نجدها تجتهد في تمييع الموضوع حتى صار بالفعل يشكّل ضائقة نفسية تجاه العرب تضاف إلى ما نعانيه أصلاً من ظلم ذوي القربى .
نبتدي منين الحكاية ؟
استلمَ صدام حسين الحكم (رسميًّا) في العراق عام 1979 و هو يطفو على فائض نقدي بعشرات المليارات من الدولارات (وهو رقم ضخم قياسًا بقدرة الدولار حينذاك) , وسقط نظامه ليخلف العراق مدينًا - بسبب مغامراته العنترية - للعالم بقرابة 150 مليار دولار أميركي .
خاض العراق حربًا ضد إيران – والتي أجدها اليوم حربًا ضرورية بعيدًا عن مقتي للنظام البائد – وجنّب شعوب المنطقة وعروشها ما كان يعرف بالمدّ الثوري الفارسي | الإسلامي - الشيعي . وكعرفان بالجميل قامت دول المنطقة وفي مقدّمتها (السعودية والكويت) بمساعدة العراق ماليًّا إبّان الحرب , وكانت الأموال تقدّم على شكل أقربإلى الهبات والمنح . وعندما انتهت الحرب العراقية - الإيرانية , كنّا كعراقيين قد خسرنا زهرة شباب وطننا , ونشوة اقتصادنا , وإحساسنا بالأمان . حينها بدأ الحديث الخليجي تحديدًا عن مصطلح (الديون المستحقّة على العراق) , وتصاعد هذا الخطاب في الفترة الانتقالية بين الحربين .
قام صدام حسين بمغامرته القاتلة و غزا الكويت واحتلّها لسبعة أشهر بدم بارد , فقطفت تلك المغامرة من العراقيين ما تبقّى لهم من طمأنينة أو إحساس بالأمان , وغرست في الكويتيين أيضًا ما يمكن تسميته - اليوم - بالرّهبة من الجار . وحين استعادت إرادة العالم الكويت , و عادت لها شرعيّتها كدولة مستقلّة , تضخّم موضوع الديون وأضيفت إليها مبالغ تخصّ خسائر السعودية والكويت وبعض الدول العربية وحتى مصر , فأمسينا بلدًا مدانًا , ومع ذلك كعراقيين كنّا نشعر بأنّ تلك هي ضريبة المغامرات والعنتريّات الفارغة التي مارسها النظام .
سقوط النظام :
بعد أن دبغ الحصار العربي | الأميركي جلود العراقيين ولمدّة جاوزت الـ 13 عامًا , قامت الولايات المتّحدة الأميركية و بريطانيا بعملية غزو مفتوحة للأراضي العراقية , لم تثمر عن شيءٍ حتّى الآن باستثناء خلاصنا من نظام صدام حسين , ولم نقطف كعراقيين ثمرة تلك العملية حتّى الآن . إلاّ أن الغريب في الأمر هو موقف الدول العربية من الديون التي سبّبها النظام السابق , والتي كنّا – أو كنتُ أنا على الأقل – نتصوّر بأنّ الكويت والسعوديّة ستبادران كأوّل دولتين على مستوى العالم بانتشال الاقتصاد العراقي المُنهَك من القاع , ومساعدته بأضعف الإيمان ؛ ألا وهو شطب الديون . غير أنّ الأخوّة في هاتين الدولتين مصرّون على استحلاب ضرع هذا الشعب المظلوم حتى الرمق الأخير , فتصبح المعادلة القاسية كالآتي :
صدام حسين يحكم = العراق يُذبح
صدام حسين يسقط = العراق يُذبح
صدام حسين يُعدم = العراق يُذبح
الأميركي يحتل العراق = العراق يُذبح
الأميركي قد يخرج غدًا من العراق = العراق يُذبح
و إلى آخره من هذا المسلسل الممل , وكأنّ هذا الشعب قد كُتب عليه الذبح حتى حين يفوز منتخبه الوطني بكأس آسيا لكرة القدم . كُتب عليه الظلم و العوز لا لشيءٍ إلاّ لأنّه العراق .. و حسبه أن يكون "عراقًا" .. و لربّما تلك هي المشكلة التي تزعج البعض .
المسألة السعوديّة :
تحرّكت السعوديّة باتجاه إطفاء الديون بعد ضغط أميركي وليس حبًّا بالعراق , و لكنّها شطبت (مع وقف التنفيذ) 80% من ديونها وفقًا لمقرّرات ما يعرف بـ (العهد الدولي) . بمعنى أنّها أعلنت عن هذه الخطوة دون تنفيذها فعليًّا , ولا أدري لماذا أبقت ولو شكليًّا - وهي السعوديّة - على 20% . الأمر يبدو أقرب إلى قول صالح بن عبد القدّوس :
يعطيكَ من طرف اللسان حلاوةً
ويروغُ منك كما يروغُ الثعلبُ .
فحتّى كتابة هذه الأسطر ليس من موقف سعوديّ واضح بخصوص الديون المستحقّة على العراق والبالغة قرابة 15 مليار دولار أميركي , والتي أتمنّى أن تنظر إليها القيادة السعودية بشيءٍ من التفحّص وبُعد النظر , وأن تعلم بأنّ تلك المواقف ستُسجّل من أجل العراق و ليس من أجل حكومته التي يتذرّع بها كلّ من يودّ ذبحنا على الطريقة الإسلاميّة .
المسألة الكويتيّة :
لطالما شعرت بأنّ الشعب الكويتي هو الشعب الوحيد بعد العراقي ؛ يمكنه أن يعرف معنى كلمة (نظام صدّام حسين) . ولطالما تمتّعتُ – أنا شخصيًّا - بعلاقات طيّبة و حميمة مع الكويتيين . ومنطلقًا من هذا الشعور الذي تبرّره الويلات التي حلّت على شعبينا معًا ؛ قلتُ في نفسي بأنّ الكويت لن تتأخّر لحظةُ في إثبات حسن نيّتها تجاه العراق الجريح (حاليًّا) . ولكنّني أستغرب الطريقة التي يتعامل بها الأخوة في الكويت مع مسألة الديون العراقية , وأنا هنا أقصد بعض نوّاب مجلس الأمّة (البرلمان) , حيث أنّ كل الأخبار و المؤشّرات تقول بأنّ العائلة الحاكمة و أمير البلاد , و أطراف كثيرة في حكومة الكويت , كلّها تقبل شطب الديون بشكل نهائي , ولكنّها رغبة تصطدم ببعض النوّاب ممّن لا همّ لهم سوى فتاوى منع الاختلاط و الزي والإسلامي و إنشاء هيئات للأمر بالمعروف .. إلخ ؛ للعودة بالكويت إلى ظلام لا يليق بحراكها المستنير . هذه الثلّة البرلمانية تعكّر صفو الكويتيين و صفو العلاقات العراقيّة الكويتيّة أيضًا , و صحف من شاكلة (جريدة الوطن الكويتيّة) ما زالت تمارس دورًا تعبويًّا سلبيًّا و مقزّزًا حيال العراق والشخصيّة العراقيّة , بعبارات من قبيل : إنّنا نتحدّث عن (العراق) الذي غزانا وليس عن (السنغال) . في حين يقوم بعض النوّاب بمهام استعراضيّة ليصلوا في النهاية إلى مطلبهم الانتخابي – لا أكثر - الذي تمّ التلميح إليه أكثر من مرّة و هو ربط ديون الشعب الكويتي بمسألة الديون المستحقّة على العراق و أنّ الشعب الكويت أولى بشطب ديونه .. إلخ . وكان يجدر بهذه الأصوات – لو كانت وطنيّة فعلاً - أن تناقش مأساة " البدون " على سبيل المثال والتي تمثّل جرحًا في جبهة الإنسان المعاصر .. "البدون" أولئك الذين أثبتوا كويتيّتهم في آب | 1990 أكثر من أصحاب الجنسيّة بمختلف تدرّجاتها وتفرّعاتها العجيبة .
إنّ حجم الديون الكويتية المترتّبة على العراق و الذي يبلغ حوالي 15 مليار دولار أميركي , قد تولّد عبر عقود من السياسات العشوائيّة و الأخطاء القاتلة , و أظنّ بأنّ الكويت يهمّها – قبل أيّ بلد آخر – أن تتذكّر أنّ العراق فعلاً ليس (السنغال) و أنّ الجغرافية لا ترحم أحدًا . وإذا كانت بعض الأصوات في الكويت تقول بأنّ العراق غني – وهذا صحيح – وهو لا يحتاج لشطب الديون , فنحن كعراقيين – بعيدًا عن الحكومة الحالية التي لا أتّفق معها – نقول بأنّ تلك الديون لسنا المتسبّبين بها واستمرارية تسديديها من قوت شعبنا أشبه بـ "الإتاوة" التي لا يقبلها الأحرار قطعًا . وإذا كانت الكويت قد تألّمت , فالعراق يألم كلّ يوم , ويهمّه أن يميّز بين محبّيه و سواهم . وبناءً على ذلك أقترح أن تقوم القيادة الكويتيّة بتلك الخطوة التي لا نعتبرها – كعراقيين - مسألة عابرة أو ثانوية .. مطلقًا .
الأردنّ ومصر :
يبلغ حجم الدين العراقي للأردنّ قرابة المليار دولار أميركي , ومثله لمصر , و نحن نقول بصراحة و بلا خجل لأنّ الوقت لم يعد يسمح لنا بالخجل , بأنّ هاتين الدولتين تحديدًا يجب – وأصرّ على يجب – عليهما شطب الديون لأنّهما أكثر الدول العربية انتفاعًا من العراق وعبر كل وقت ودهر ونظام .
الدول الأجنبيّة :
قامت أميركا – بوصفها تحتل العراق و صاحبة الفكرة – بشطب ديونها و كل ما يترتّب على العراق من مستحقّات ماليّة , ومثلها فعلت روسيا التي شطبت الدين العراقي البالغ حوالي 12 مليار دولار أميركي , ومثلها فعلت صربيا التي شطبت الدين العراقي البالغ قرابة 3 مليار دولار أميركي , ومثلها ستفعل الصين التي قالت بصريح العبارة أنّها ستنظر في المسألة بشكل جاد وحاسم بما يخدم الشعب العراقي , والصين حين تنظر بشكل جاد تفعل قطعًا . ومثلها فعلت تركيا , وستفعل أغلب الدول في العالم .
ختامًا :
إنّ أقلّ أشكال التضامن المعنوي والسياسي والمادي وحتى الإعلامي تأتي دائمًا من العرب . العراق يقول لهم : لا تظلموني (فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) . وهم يقولون : لئنْ لم تنتهِ لتكوننّ من المرجومين .. !! ولو قالوا بأنّهم يشعرون باليُتم بعد صدّام لقبلنا هذا , و لو قالوا بأنّهم ضد الحكومة الحالية لقبلنا هذا أيضًا , ولكنّهم ضدّنا كعراقيين حتى في السفر والتأشيرة والعبور والإعلام والنكات والتشهير و السلوك والنظرة والطريقة .. إلخ , فيما يستقبلون رؤوس الحكومة الحالية – التي يصفونها بالعمالة - وعلى السجّاد الأحمر ... ويا سلام سلّم .
#سَعْد_اليَاسِري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟