أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ياسين الحاج صالح - الممانعة وامتناع السياسة















المزيد.....

الممانعة وامتناع السياسة


ياسين الحاج صالح

الحوار المتمدن-العدد: 2237 - 2008 / 3 / 31 - 11:32
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


ليس لمدرك "الممانعة" أصل فكري واضح، ولا يحيل متداولوه إلى مرجعيات معترف بها أو إلى آباء فكريين مكرسين. غير أن للممانعة أساس سياسي وثقافي هو ما سنحاول الكشف عنه هنا.
في تداوله الجاري منذ نحو عقدين يلتقي في مدرك الممانعة نوعان من التحولات. أولاها تحولات استراتيجية وجيوسياسية ظهرت بجلاء بعد الصلح المصري الإسرائيلي، وبدرجة أكبر بعد حرب 1982، فحواها أن مواجهة عسكرية مباشرة لإسرائيل وراعيها الأميركي أمر متعذر. ولما كان الرضوخ للمحور الأميركي الإسرائيلي أمرا غير مقبول، ومسالمته غير متصورة وغير متاحة معا، فستكون "الممانعة" هي المخرج. بهذا المعنى الممانعة ليست سياسة وإنما هي اسم لتعذر السياسة. أما مراجعة جذرية لهياكلنا السياسية والثقافية بما من شأنه أن يغير بيئة الصراع كليا ويؤسس لسياسة جديدة، بل لـ"سياسي" جديد، فكانت خارج أفقنا الفكري والسياسي، "القومي".
التحولات الأخرى ثقافية، وهي تحيل إلى نزعة الأصالة وشاغل الهوية الذين استبدا بوعي التيار الرئيسي من الثقافة العربية في عقد الثمانينات نفسه، بالتوازي مع "الصحوة الإسلامية" التي عمت بلدان العالم الإسلامي منذ أواخر السبعينات. وبعد أن كان الموقف من الغرب مندرجا في إشكالية تجاوز التخلف (وما قد تقتضيه من "مقاومة الاستعمار")، فإنه سيأخذ في الطور الجديد شكل مقاومة الاستلاب أو الغزو الثقافي وتوكيد الهوية وإحياء نسب ثقافي يفصلنا عن الغرب القوى والمتجبر. وستوفر نزعة الأصالة أساسا فكريا للسياسة المستحيلة التي انتهى إليها "المشروع القومي".
وبين التحولين استمرارية أكيدة. فالأذى الذي ألحقه "الغرب" بنا سيجد في نزعة الأصالة تعويضا ثقافيا يشبع كبرياءنا الجريحة. لا نستطيع أن نقول إننا أردنا التقدم فضُربنا وأهنّا؛ سنقول إننا اهتدينا إلى أصالتنا التي كدنا ننساها واكتشفنا مجددا هويتنا المضاعة. من موقعنا الجديد سيبدو التقدم اقتلاعا للجذور، والانشغال بالتراث والهوية عودة إلى الذات ومصالحة معها.
على أن الممانعة ليست حصيلة حركة تراجع سياسي وحركة انكفاء ثقافي فحسب. ثمة أيضا مصلحة سياسية لسلطات وقيادات ونخب تجد في رفض تنظيمات الغرب وسياساته ما يناسب سلطة غير مقيدة لها في دولها ومنظماتها وتياراتها الإيديولوجية. قد نتذكر أن العقدين الأخيرين من القرن العشرين هما الزمن الذي ارتفعت فيه راية الخصوصية التي تنكر صلاحية "المناهج الغربية" لفهم أحوالنا وتعلي من شأن ديمقراطية خاصة بنا، وحقوق إنسان مناسبة لتراثنا. ولن يكون غريبا على حساسية عقدي الثمانينات والتسعينات رد التخلف إلى اختلاف وأصالة مرحب بهما، والتأخر إلى آخرية ومغايرة وهوية. بل إن مفهومي التخلف والتأخر، وما يضمرانه من وحدة العالم والتاريخ البشري، سيخرجان من التداول إلى حد بعيد.
وعلى هذا النحو سيتكون الكوكتيل الممانع من استبداد سياسي داخلي وعداء ثقافي وسياسي للغرب. ذلك أن مزيج معاداة الغرب سياسيا ونزعة الأصالة سيثمران عداء ثقافيا للغرب، أي في الواقع إنكارا الكوني والعام. محقٌّ من سيسارع إلى القول إن الغربي والكوني غير متطابقين، لكن معاداة الغرب ثقافيا، عندنا وعند غيرنا، كانت رفضا للكوني وليس باسمه. لقد كانت الشيوعية السوفييتية محاولة لرفض الغرب على أسس كونية لكنها انتهت إلى الاستبداد واللاعقلانية والتخلف. ولقد تبدت خيانة للكوني أكثر حتى مما هي الامبريالية والعنصرية في الغرب خيانة له.
في الوقت نفسها كانت تصعد في الغرب فلسفات تشكك في "العقل" و"الكوني" و"العام" و"الإنسانية" و"التنوير" و"التقدم"، وتؤكد "الاختلاف" وتنعي "الحكايات الكبرى". وقد عزز الصعود المتزامن لفكر "ما بعد الحداثة" هذا ولـ"الصحوة الإسلامية"، وكذلك تفسخ الشيوعية، من صعود سياسات محافظة وعدوانية في الغرب، تمثلت حينها في الريغانية والتاتشرية. وبعد ذلك صعود المحافظية المحدثة في أميركا ونظريات مثل "صراع الحضارات".
وهكذا تقاطعت عمليات ثقافية وسياسية عندنا مع عمليات ثقافية وسياسية غربية لتعميق شرط استحالة السياسة الذي سيوصف عندنا بالممانعة. وفي عقد التسعينات دخل في التداول عنصر جديد أسهم في تمديد عمر الممارسات السياسية والخطابية الممانعة: العولمة. وسرعان ما وجد فيها لينينون وماويون وبعثيون وناصريون العدو المناسب لعدم تغيير أي شيء في أنفسهم، أو لإثبات أنهم كانوا دوما على حق. فالعولمة إن لم تكن هي "الأمركة"، فإنها "الامبريالية" تحت قناع جديد. نحن بخير، طمنونا عنكم!
ورغم أن 11 أيلول 2001 كان من "مآثر" تيار ثقافي سياسي جهادي وغير ممانع، تيار هجومي سياسيا قدر ما هو متكلس ثقافيا، فإن الممانعة ستستفيد من ردود الفعل عليه: البوشية (مذهب الضربات الاستباقية والأحادية) ومن رجعية المحافظية المحدثة ونظرياتها الكارثية كالفوضى الخلاقة، ومشاريع هندستها الإقليمية كالشرق الأوسط الواسع تارة والجديد طورا. ذلك أن ما تجسده هذه السياسات من أحادية طرف ورفض للعام العالمي واحتقار للمنظمات الدولية، ومن عنصرية شبه معلنة، سيأتي بردا وسلاما على قلوب عُصب الممانعة عندنا، وسوف يضعف التيارات السياسية والثقافي المنحازة للحداثة والديمقراطية بدل أن يقويها.
نسوق هذه المؤشرات لنقول إن الممانعة ليست مذهبا أو تيارا فكريا قائما بذاته. إنها بالأحرى حساسية انكفائية مناهضة للعام والكوني. لذلك يمكن أن تجد الحساسية هذه عند تيارات فكرية مختلفة بقدر ما يضمر العنصر النقدي والتحرري والكوني فيها وينتعش البعد المعادي للغرب الثقافي والسياسي. لقد تحولت القومية العربية من إيديولوجيا تغييرية وتقدمية إلى إيديولوجية ممانعة في العقود الثلاث الأخيرة، بالتوازي مع جروح وأذيات أليمة ألحقها بها الغرب السياسي، ومع ممانعتها هي لتفحص نقدي جدي لأسسها الفكرية والسياسية. ومن الطبيعي أن يرسو مركبها على "الإسلام"، الذي يمنح ضغينتها على الغرب قيمة إيجابية وعمقا رمزيا وتاريخيا.
كذلك أظهرت الشيوعية بعد يُتمها السوفييتي منزعا ممانعا وانكفائيا بقدر ما ورثت من شيوعية القرن العشرين تصورها المفرط الصراعية للعالم وذهنيتها الوصائية وتعفنها الفكري وطغيانها السياسي، وبالخصوص عجزها عن تغيير أي شيء بنفسها. هنا أيضا الممانعة اسم لامتناع السياسة لا لسياسة مختلفة.
أما الإسلامية فالممانعة بضاعتها ردت إليها.
لكن لندقق في الأمر. للوهلة الأولى يبدو أن الإسلامية لا تمانع، إنها ترفض و"تجاهد". أو لنقل إن وعيها الذاتي وممارستها العملية ينتميان إلى "المقاومة" و"الجهاد" لا إلى الممانعة. فالعدو واضح، والسياسة الصحيحة معروفة ومقررة في القرآن ذاته. ولا ينشغل أهل الجهاد بموازين قوى وحسابات عقلانية. فليس ثمة موت وإنما استشهاد، وليس ثمة تاريخ بل مخطط إلهي نهايته نصر المسلمين المؤزر. هنا تفقد الهزيمة والنصر معانيهما، ولا يكون خراب أفغانستان أو العراق، أو لبنان أو فلسطين..، غير جولات مؤقتة في صراع أبدي لكن نتيجته محسومة.
لكن من وجهة نظر أخرى، تاريخية وعقلانية، ليس لكل ذلك أدنى صلة بالسياسة. ويبدو الجهاد الإسلامي، تحت اسم المقاومة أو غيرها، نتيجة هو الآخر لامتناع السياسة. بل هنا يبرز الجذر الفكري لامتناع السياسة. لا يقتصر الأمر على أن مشاريع الإسلاميين تنكر استقلال السياسة أصلا، ولا على إحلالهم اليقين الإيماني محل فكرة موازين القوى كمبدأ معقلن للسياسة، بل يتعداه إلى أن التيار الرئيسي من الإسلامية المعاصرة "رافضي"، يرفضن العالم الحديث ذاته بوصفه جاهلية. والواقع أن "تطبيق الشريعة" كعنوان لسياسة الإسلاميين لا يختلف في شيء عن "التطبيق الاشتراكي" في وقت سبق. ومعلوم أن هذا توسل الطوبى لتغطية حقيقة أن العنف هو سياسته الوحيدة. عند الإسلاميين تحل طوبى ماضوية محل الطوبى الشيوعية المستقبلية، فيما يبقى العنف هو العنف.
ختاما، ليس امتناع السياسة قدرا محتوما، إنه نتاج لرد السياسة إلى مواجهة كلية مع الغرب والعالم المتشكل وفقا للحداثة الغربية. البقاء على قيد السياسة، أي التاريخ، يقتضي إخراجنا من هذا النفق المظلم الذي ننحصر فيه بإرادتنا. أما رهن فرص تقدمنا بـ"سقوط الغرب" فتبديد مقيت لحياة أجيال من أجل وهم سقيم.



#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عناصر رؤية عقلانية لمواجهة إسرائيل (2)
- من -الديمقراطية البرجوازية- إلى -الليبرالية الجديدة- و.. -ال ...
- عناصر رؤية عقلانية لمواجهة إسرائيل (1 من 2)
- اللاعقل يحكم الشرق الأوسط
- شركاء في العالم، نشبهه ونتشبه به..
- في أصول نظام الاستثناء السوري: محاولة ماركسية
- الفساد الصغير ثقافة والفساد الكبير سياسة!
- من إسرائيل إلى أخرى: في أصل حاجتنا إلى شيطان رجيم
- سورية بين 1978 و2008: عود على بدء!
- جوزف سماحة: المناضل ضد المثقف
- -المسألة الدينية- موضوعا لتفكير نقدي
- من تطييف المجتمع إلى استلام الطائفية للسلطة
- هل يمكن لتركيا أن تكون مثالا إيجابيا للسوريين؟
- من صنع إسرائيل؟ ومن هم -عملاؤها-؟
- أزمة حركات المعارضةالعلمانية العربية ... فكرية
- في نقد الثقافة السياسية السورية
- نحو شرعية الفرد لا شرعية الهوية.. ونحو ثقافة نقدية لا قومية
- إيديولوجيات السوريين وصعود الجيوسياسي
- الطائفية كحصيلة للفقر السياسي وحدٍّ له
- في النقاش السوري حول العلمانية وما وراءه


المزيد.....




- بوتين -خالف البروتوكول-.. فيديو يرصد تصرفا بمراسم تنصيب رئيس ...
- طلبة جامعة أمستردام يطردون سيارة شرطة بعد أن قمعت مخيما تضام ...
- لماذا يجب تجنب شرب الماء من زجاجة بلاستيكية خصوصا في الصيف؟ ...
- نتائج مرعبة.. فيديو من ناسا يكشف ما سيحدث عند السقوط في ثقب ...
- -كل ما يفعله هو الأكل-.. أم تلقي بطفلها الأبكم في قناة مليئة ...
- نقطة النهاية
- إخفاقات القوات المسلحة الأوكرانية تخيّب آمال دائني أوكرانيا ...
- مصر.. مجموعة مجهولة تتبنى قتل رجل الأعمال الكندي في الإسكندر ...
- صحيفة: -الفطيرة الروسية- ألغيت من مأدبة ماكرون وشي
- الولايات المتحدة أنجزت بناء الميناء العائم قبالة غزة


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ياسين الحاج صالح - الممانعة وامتناع السياسة