أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محسن ظافرغريب - أحيا؛ المرأة والأم والربيع وتجدد الحياة في آذار















المزيد.....


أحيا؛ المرأة والأم والربيع وتجدد الحياة في آذار


محسن ظافرغريب

الحوار المتمدن-العدد: 2238 - 2008 / 4 / 1 - 04:13
المحور: الادب والفن
    


بإقتران مناسبات أعياد؛ المرأة والأم والربيع وتجدد الحياة في آذار:

مايكوفسكي: أحيا/ أكتب شعري/ أمنحه أحسن ما في/ وأحدق بالدنيا وتحدق بي/ ولو أن الحياة ستسحقني بقسوة مخالبها الفولاذية/ فإني سأظل أحبها وأحبها وأحيا.
-صوت السيدة فيروز السماوي:"سـوف أحيـا"؛ كلمات الشاعر"مرسي جميل عزيز"(1921-1981م) والحان الأخوين رحباني: لمَ لا أحيا وظلّ الوردِ يحيى في الشـِّـفاه؟!/ ونشيدُ البلبلُ الشادي حياةٌ لهواه/ لمَ لا أحيا وفي قلبي وفي عيني الحياه؟!/ سوف أحيا .. سوف أحيا. يا رفيقي نحنُ من نورٍ إلى نورٍ مضينا/ ومعَ النجم ذهبنا/ ومع الشمس أتينا/ أينَ ما يـُـدعى ظلاماً/ يا رفيقَ الليلِ أينَ؟!/إن نور اللهِ في القلبِ.. وهذا ما أراه/ سوف أحيا .. سوف أحيا. ليسَ سرّاً يا رفيقي أن أيامي قليلة .. ليس سراً/ إنما الأيام بسماتٌ طويلة. إن أردتَ السرّ فاسأل عنه أزهار الخميلة/ عـُـمرها يومٌ وتحيا اليومَ حتى مـُـنتهاه. سوف أحيا .. سوف أحيا.

نصف قرن مولد زمن"جمهورية العراق" في يوبيلها الذهبي، خلى وتولّى بتوظيف حداثي لمقاطع موسيقى فرنسية مرتبطة بأوائل القرن 20م لأحداث وقعت في فترات الإحتلال الفرنسي للجزائر، لتشويه تصوير سلبي عن باكورة الأدب الفتيّ الروائي الوجودي الفرنسي الإباحي البـُوهيمي، ممثلا بأعمال أمثال سيمون دوبوفوار وفرانسواز ساغان التي جسدها البطل السلبي الأميل الى البطالة واللامبالاة. كتاب دوبوفوار«الجنس الآخر» كان أثار سجالاً كبيراً لدى صدوره عام 1949م. تقول«دوبوفوار» في روايتها الصادمة«مذكرات فتاة عاقلة»
(الصادرة عام 1958م): «عندما أصبح عمري تسع عشرة سنة كتبت حواراً طويلاً تناوب فيه صوتان هما صوتي: صوت يقول هباء كل شيء، التقزز والوهن، وصوت آخر يؤكد أن الوجود جميل ولو كان عقيماً» بعد فيلمه الروائي الطويل الأول"حريم السيدة عصمان"، أخرج المخرج الجزائري الشاب(من مواليد 1965م)"نذير مخناش" الفيلم الروائي(الفرانكفوني)"تحيا الجزائر"، بطولة الممثلات:"لبني الزبال"،"بيونة ونادية قاسي". فيلم عن جمال"الجزائر"(العاصمة) عمرانيا مزج الوثائقي والمتخيل بتناسق، مع اختيار دقيق لتقاسيم العمارة المزدوجة للجزائر العاصمة، وموسيقى وأغاني الراي والبطالة والدجل وحيوات ثلاث نسوة، من أعمار متفاوتة، وبتطلعات وأحلام مختلفة. فالبطلة
"فيفي"، بغي تحتمي ببودي غارد، يوفر لها الأمن/ يقتلها، اختفاء مسدسه من مسكنها في الفندق الذي تعيش فيه"بابيشا" وابنتها
"كوسيم" البطلة الرئيسة التي تظهر في بداية الفيلم عاملة في مختبر للتصوير، حياتها الخاصة: تؤمن بالكهانة والخرافات كوسيلة قد تمكنها من معرفة مدى صدق عشيقها في شعوره نحوها(متحررة- تقليدية) تائهة لا تعرف ما تريد!، تمارس دعارة العلب الليلية، بوهم الإرتباط بعشيقها الطبيب. "بابيشا" في الماضي، شهرة مغنية وراقصة كباريه تحولت الى شخصية تعيش بألم تحولات عاشتها الجزائر منذ أحداث عنف الفكر الديني المتطرف(مع إشارة لظاهرة الإرهاب سبب انتكاسة وضياع الشخصيات الرئيسة)، الذي ترى فيه تهديدا لحياتها الشخصية، كما ترى فيه وأداً لمسارها لمشروع مسجد!. تصوير الجسد العاري الايروتيك بورنوغرافيا حداثة!، لتقديم صورة مثالية عن الجزائر الفرانكفونية، باعتماد اللغة الفرنسية على امتداد الفيلم، لا دارجة منها اقتبس العنوان ولا قبائلية!(العربية حين السخرية منها ومن الدين) بتوظيف للأذان ولترتيل القرآن الكريم كمؤثرات صوتية في مشاهد لا تليق.
الفيلم يمجد الرأسمالية مجانا، فالشخصيات خطط لمسارها المستقبلي بالحلول الفردية على حساب حياة الآخرين، كقتل"فيفي" بسبب "كوسيم" التي سرقت المسدس!. السيناريو عجز عن تقديم بورتريهات متكاملة، كان مصير الشخصيات النسوية مأساويا بالقتل الفعلي، أو بالقتل الرمزي، باستثناء طبع الراقصة العجوز"بابيشا" التي تعود لرقصها وغنائها في الحانات، وتصوير جل الشخصيات الذكورية سلبا، فالزوج خائن، والعشيق قاتل، و"سمير" يعيش بطالة مستدامة ينتابها حلم اجتياز البحر الأبيض المتوسط صوب أوربا، والمكلف باستخلاص أجور الفندق لص، وابن العشيق شاذ جنسيا!!. انطباعا سلبيا لمجتمع في"تحيا الجزائر"!.

أيضاً 1958م عام صدور رواية«أنا أحيا». باكورة«ليلى بعلبكي» المتحدرة من عائلة شيعية جنوبية(مواليد 1934م).
ولدت ليلى بعلبكي ونشأت في بيت والدها الشاعر علي الحاج بعلبكي الذي كان يعمل في المفوضية السامية الفرنسية، ثم انتقل الى العمل مع اميل البستاني صاحب شركة كات الشهيرة، والى جانب عمله كان بعلبكي ينظم الشعر العامي ويعقد صداقات مع مثقفين وزعماء ووجهاء، في شارع رستم باشا لألوان الوجوه واللغات والأحلام، وللأناقة الدائمة أمام بحر مفتوح– عين المريسة– بيروت. يبدأ(شارع رستم باشا) من نزلة محطة الديك حيث مدرسة ابتدائية ملحقة بجامع عين المريسة تطلّ مباشرة على البحر، ومن هناك تمتد الطريق الى نادي الميديترانيه في أول الكورنيش القديم. لم تكن البيوت متلاصقة، فاذا تجولت في الحدائق ومطلات البحر ترى رسامين ينفذون لوحات في الهواء الطلق، معظمهم من الروس البيض. لكن رسامين اثنين كانا الأكثر شهرة هما الفرنسي جورج سير ولاحقاً اللبناني محمد. وينتهي(شارع رستم باشا) بشارع فينيقيا حيث أسس(آل البحيري)"دار ومطبعة الأحد"، ومن بعدهم(يوسف الخال) مجلة «شعر» (مع أدونيس وأنسي الحاج وشوقي أبي شقرا) ودار نشر باسم(المجلة) ومطبعة باسم(آل الخال)، وفي المبنى يسكن الطبيب"ايلي حلاق"، صهر المخرجة السينمائية اليسارية"هيني سرور"، الذي ما لبث أن خطف لاحقاً وربما قتل مع يهود لبنانيين آخرين في ليلة واحدة خلال حرب لبنان الدموية. المبنى الذي يملكه مع مبان أخرى(آل صعب)، كان مقراً للسفارة البريطانية في عهد(الجنرال سبيرز)، حتى أشكل على الناس فسموه«بناية سبيرز». في أحد طوابق المبنى كان الجنرال الإنجليزي يواجه الفرنسيين سياسياً، ومن المواجهة يحقق اللبنانيون استقلال بلدهم في 22 تشرين الثاني1943م.
بين نزلة محطة الديك و(شارع فينيقيا) يمتد شارع رستم باشا، وفي أحد بيوت الشارع كانت تسكن بعد الحرب العالمية الأولى السلطانة خديجة، شقيقة السلطان العثماني مراد، بيت قرميدي السطح عابق بزهر الياسمين، تصفه بالتفصيل كنيزة مراد في كتابها بالفرنسية «من طرف الأميرة الميتة» (De la part de la Princesse morte).
أثناء نشأة(ليلى بعلبكي) في خمسينات القرن الماضي كان سكان شارع رستم باشا: أم حمدي الحبوشي تزرع الزهور ويتزود منها غبريال طراد وصائب سلام وهنري فرعون بالقرنفل لتزيين عروة السترة، وتفتخر بشجرة المانوليا العالية في حديقتها تعطي زهرها النادر. ومن بعد، دكان اللبان الذي كان يوزع الحليب طارقاً البيوت كل صباح، ثم العجوز حنوف تبصّر للنساء، ومن بعدها عائلة يهودية تمتهن الخياطة، يلي ذلك بيت آل الجشّي ثم آل فاخوري فآل شاكر وآل فرشوخ، وفي مفترق صغير بيت القس عبدالله الصايغ وأبنائه: الراحلان فايز الصايغ وتوفيق الصايغ (الشاعر ومنشئ مجلة «حوار» بدعم المنظمة العالمية لحرية الثقافة – اختار مكاتب «حوار» أوائل الستينات في الشارع نفسه) وأنيس الصايغ (منشئ مركز الأبحاث الفلسطيني)، وتجاور بيت الصايغ عائلة يهودية تعمل في الصيرفة، ثم بيت انجلو الايطالي، اول من صنع البيتزا وباعها في لبنان، وكان محظوظاً في شيخوخته لأنه ربح جائزة اليانصيب الوطني اللبناني مرتين، فكان ابنه فلافيو يفاخر بأنه ابن الذي فتح مغارة علي بابا، ونصل الى بيت سعادة وسيدة من البيت قابلة قانونية ولد على يديها ابناء عائلات بيروت الكبرى، وقرب بيت سعادة مشغل الميكانيكي جورج ربيز الخبير في سيارات فورد وبويك وناش وشيفروليه وكاديلاك. وفي الجهة الثانية من شارع رستم باشا، بيت فانوس حيث يسكن أرمن ويهود، وعند بابهم العجوز عطارد تبيع الحمص الأخضر والفريكة، ويجاور البيت حديقة وبيت صغير لآل الريشاني حيث يسكن سوريون من آل البيطار، وتعلو في الحديقة نخلة وحيدة وقربها كوخ للحصان الذي يجر خزاناً لبيع الكاز، وبيت المختار عبدالكريم شقير ثم بيت آل الخانجي تجار الأقمشة، فبيت الصحافي ناصيف مجدلاني الذي أصدر «الحياة الرياضية» وزامل كامل مروة في إصدار جريدة «الحياة» عام 1946، ونكمل الى بيت سعد الذين يصنعون الشوكولا الفاخرة ويبيعونها في محلهم في شارع فوش. وفي شارع فرعي كان يسكن لفترة الشاعر محمد سليمان الأحمد(بدوي الجبل) والسياسي السوري غسان جديد الذي اغتالته لاحقاً الاستخبارات السورية في شارع بلس، وهناك بيت آل الشيخ ونسيبهم الطبيب حسن ادريس وعائلة هراري اليهودية التي انتقلت الى كندا بعد حرب 1967. في آخر هذا الجانب من شارع رستم باشا يقع نادي الدلافين BDD لكرة السلة يديره يهودي فرنسي، ولاعبوه أبناء جاليات أجنبية ولبنانيون من طوائف متنوعة، فيما كان«النادي الرياضي» للمسلمين ونادي «أبناء نبتون» للمسيحيين.
درست ليلى علي الحاج بعلبكي في جامعة القديس يوسف، ما يعني أنها تجيد الفرنسية على خلاف بطلتها التي درست في الجامعة الأميركية ولم تكن تجيد الفرنسية. شخصية البطلة«لينا فياض»/ الراوية التي أعلنت أقصى تمرّدها على القيم والثوابت و«الأصنام!» المعاصرة والعائلة والجامعة والأيديولوجيا، بحثاً عن الحرية، الحرية الفردية. تقع(لينا فياض) في حبّ طالب عراقي يدرس في الجامعة الأميركية، مناضل شيوعي في الخامسة والعشرين(يُدعى بهاء) وتعيش معه حالاً من الصراع الداخلي. تلتقيه في مقهى«العم سام» الشهير حينذاك في منطقة رأس بيروت وتداوم على لقائه. لكن العلاقة تنتهي سلباً وهجراناً ويأساً وقد اكتشفت فيه وجهه الآخر، الوجه الذكوري التقليدي الذي ينظر الى المرأة مثل بقية الرجال الذين تكرههم. وكانت تكره فيه شخصية الحزبي الملتزم والمتناقض وقالت له مرة: «أنت عبد للحزب وأنا حرة!». إلا أن الهجران أثر فيها كثيراً وجعلها تكتشف وحدتها من جديد ومستقبلها الضائع وواقعها السلبي والفراغ الذي تخشاه. وتحاول في لحظة يأس أن تقدم على الإنتحار لكنها تجبن من الإنتحار. رمت بنفسها أمام إحدى السيارات مدركة أن المارّة سيمسكون بها وقد فعلوا!. لم تقدم على هذه المحاولة إلا لأنها تعلم أنها عاجزة عن الإنتحار، تقول: «أنا جيفة لا تموت!». عمرها بين التاسعة عشرة والعشرين، عنيفة وشرسة ورقيقة في آن، تكره الحياة وتسعى إليها، تعيش الواقع وتحلم!. «بطلة» تناقض، تعاني الوحدة و«القمع» العائلي، تكره والدها الثري الذي يفيد من المآسي والأزمات ليتاجر بالقمح وسائر السلع بين لبنان ومصر وبريطانيا، وتسخر منه، رجلاً ذكورياً وزوجاً وتاجراً ينتمي الى طبقة الأثرياء الجدد. عقدة«أكسترا»(عكس أوديبية!). تفضح والدها يتلصص على «الجارة المترهلة». وتبلغ بها الكراهية لتصفه بـ «الأحمق» وتحتقره. أما الأم فلم توفر بغضها!. إنها في نظرها أنموذج المرأة التقليدية التي لا تعرف من الحياة إلا طهي الطعام وتربية الأبناء ومشاركة الزوج فراشه عندما يريد هو. امرأة خاضعة لسلطة «الذكر» تشفق عليها وتشمئز منها وتعاندها: «منظر لحم والدتي يثير قرفي منها». لعل هذا الموقف من الأم وبعض النماذج النسوية الأخرى يبعد الرواية عن مضارب الأدب النسوي. فقتل الذكر مجازاً يقابله قتل الأنثى مجازاً أيضاً ولم يقم في الرواية صراع صريح بين الذكورة والأنوثة كقطبين مضادّين. فالراوية تحتقر الرجل التقليدي مثلما تحتقر المرأة التقليدية.
شتاء عام 1958م أعلنت مجلة«شعر» عن صدور رواية عنوانها «أنا أحيا» لكاتبة لبنانية شابة تدعى ليلى بعلبكي، وورد في الإعلان أن هذه الرواية «سيكون لها أثر بعيد في مستقبل الرواية العربية». كان الإعلان لافتاً جداً في مضمونه أولاً وفي تبني مجلة«شعر» لعمل روائي، هي التي لم يشغلها سوى الشعر وحده. ولم تمضِ أشهر حتى راجت الرواية ولقيت نجاحاً كبيراً في الأوساط النقدية وأضحت بمثابة حدث روائي في مدينة الحداثة«بيروت» عقد ستينات القرن الماضي، وفي بعض العواصم العربية. ولم تلبث الرواية أن أصبحت أشبه بـ «الظاهرة»، وكان يكفي ذكر «أنا أحيا» حتى ترتسم صورة بطلتها لينا فياض في أذهان الكثيرين، نقاداً وأدباء وقرّاء.
في موسوعة«الكاتبة العربية»(المجلس الأعلى للثقافة في مصر) وفي الجزء الذي تناول الرواية النسوية اللبنانية اختارت الناقدة(يمنى العيد) «أنا أحيا» كأولى الروايات النسوية الحديثة واصفة إياها بأنها«شكّلت علامة بارزة على تطور الكتابة الروائية العربية في لبنان». هذه «المرتبة» التي احتلتها «أنا أحيا» سابقاً ما زالت تحتلها تاريخياً، فهي الرواية الأولى«الفضائحية» بالمعنى الوجودي العميق التي تعلن تمرّدها أولاً على الإرث الروائي اللبناني(من«زينب فواز» الى«توفيق يوسف عوّاد») جاعلة مدينة بيروت إطاراً مكانياً و«العصر» الحديث إطاراً زمنياً. وأعلنت ثانياً تمرّدها على الفن الروائي التقليدي(الكلاسيكي) وعلى مفهوم الشخصية الإيجابية وعلى النظام البنائي مانحة «الأنا» الراوية الفرصة لتتداعى بحرية وتوتر وتصبح المحور الرئيس الذي تدور حوله الأحداث وتنطلق منه.
تمثل الرواية جوّ بيروت ستينات القرن الماضي، المنفتحة على الحداثة، بيروت المقاهي الجميلة والترامواي وساحة البرج وشارع الحمراء. بيروت الحلم الذي أحرقته نار الحرب الأهلية. عام 1960م ختمت«ليلى بعلبكي» مسارها الروائي عندما أصدرت روايتها الثانية«الإلهة الممسوخة» ولم تحظ بما حظيت به«أنا أحيا» من فرادة ونجاح. لكنها، ما لبثت أن اختطفت الأضواء عام 1964م عندما منعت وزارة الإعلام مجموعتها القصصية«سفينة حنان الى القمر»، وكانت القصة التي تحمل المجموعة عنوانها هي الحافز نظراً لاحتوائها مقطعاً أو جملة وصفت بـالأروسية(الإباحية). وحوكمت(ليلى بعلبكي) وأوقفت ثم تراجعت المحكمة عن قرار المنع مبرّئة الكاتبة والقصة على مضض!. وتولى مهمة الدفاع عن الكاتبة قضائياً المحامي الراحل«محسن سليم» الذي كان صلباً في مرافعته الشهيرة.
لم تمتد تجربة"ليلى بعلبكي" أكثر من ستة أعوام عزفت بعدها عن الكتابة الروائية والقصصية منصرفة الى الصحافة. لكن روايتها«أنا أحيا» ظلّت تشغل النقد والإعلام. وكان جيل من الروائيات بدأ يظهر، في طليعته«منى جبور» التي تأثرت كثيراً بـ«أنا أحيا»، وظهر هذا الأثر بيّناً في روايتها«فتاة تافهة»(1962م) من نواح عدة: اللغة، التداعي، التوتر، بناء الشخصية الرئيسة(ندى) التي تشبه شخصية«لينا» في«أنا أحيا». ولم تتوان عن استخدام عبارة«أنا أحيا» في روايتها مستوحية أحوال التمرّد والإحتجاج التي حفلت بها رواية(بعلبكي). ولم تكمل(منى جبور) مسارها إذ أقدمت في مقتبل عمرها العشرين على الانتحار عام 1964م. وفي هذا الجيل ظهرت«إميلي نصرالله» عبر روايتها الرومنطيقية «طيور أيلول»(1962م) وظهرت«ليلى عسيران» من خلال روايتها «لن نموت غداً»(1962م).
نصف قرن على صدور الرواية– الحدث التي«اختفت» صاحبتها بدءاً من العام الأول للحرب اللبنانية ولم تنشر أي جديد.
في المستهل أنها قصّت شعرها الجميل في موقف عدائي من«الأنظار» التي يلفتها هذا الشعر/ تقول: «لمن الشعر الدافئ المنثور على كتفيّ؟ أليس هو لي؟ ألست حرة في أن أسخط عليه؟!». عبارة «ألست حرة» ترددها دوماً ممارسة فعل الحرية وإن كان ثمنه باهظاً أحياناً. لعل إصرارها(ابنة العائلة الثرية) على السير تحت المطر وعلى استقلال القطار(الترام)، يمثل أحد أوجه الحرية التي تبحث عنها وتعجز عن تحقيقها. المطر يغسل جسدها من(وحول!) السلطة/ السلطات التي طالما خضعت لها، ويمنحها لحظات من التحرر.
التحقت بالجامعة الأميركية ثم تركتها من دون أن تنال أي شهادة. إنها تكره أيضاً الدروس وأفكار الأساتذة رغم الأسئلة الكثيرة(أسئلة سياسية وفلسفية وفكرية) التي تطرحها على نفسها. تحاول أن تعمل في مؤسسة وتفشل وسرعان ما تقدم استقالتها الى المدير(البصّاص) الذي ودّت ذات مرة أن تقطع ساقها التي كان ينظر إليها بشهوة وترميها في عينيه فيسيل دمها في فمه كما تعبّر. واللافت أن المؤسسة التي عملت فيها فترة هي «مكتب دعاية ضد الشيوعية»، لكنها تناهض الإستعمار وتدافع عن فلسطين والجزائر في حربها ومصر مواجهتها العدوان، لم تعر الأمر أي اهتمام.
عملت«ليلى بعلبكي» في وظيفة رسمية، سكرتارية المجلس النيابي اللبناني بين 1957-1960م، ثم التحقت بالصحافة(الحوادث، الدستور، النهار، الأسبوع العربي) إلا أن البطلة – الراوية قد تحمل بعض سمات كاتبتها أو مبدعتها أو بعض أمانيها وأحلامها، مثلما قد تكون أيضاً خلواً من أي شبه بينها وبين مبدعتها. عندما اندلعت الحرب اللبنانية عام 1975م، هاجرت(ليلى بعلبكي) الى لندن وانقطعت عن الكتابة الصحافية وراح حضورها يخفت الى أن عزلت نفسها عن الوسط الأدبي والصحافي. وقيل إنها كانت ترفض أن تعقد أي لقاء مع الصحافة مؤثرة البقاء في الظل بعد كل تلك الضوضاء التي أحدثتها في ستينات وسبعينات القرن الماضي.

من«أنا أحيا»: على الشاطئ الباكي في سيارة سباق طروب

وفي الساعة السادسة عشرة، والدقيقة الثالثة، والثانية.. تقريباً، أمرنا أستاذ الفلسفة: لنصغ! وأصغيت.. أصغيت. ذبت آذاناً مرهفة، خلاقة، تلتقط أدق الاهتزازات.. فسمعت زقزقة عصفور، يحط على غصن يابس في جنينة الجامعة. وضحكات الزميل القريب، أحسستها. انها موجعة، تعبة. سأصرخ ان لم يكف هذا الخنزير عن تكديس قطع الثلج على رقبتي وخلف أذنيّ، وعن تفتيت أعصاب يديّ، وعن نزع نثر اللحم على ساقي! ثم أنا أتفهم بداية لقاء بين زميلين ينزويان: هو يغمزها مقترحاً، وهي تبتسم موافقة. اسمع حتى بقايا تراطم خشب الشباك، حين أقفله الخادم مساء أمس، واستغاثة العصفور، في الظلام، حين بعثرت الأمطار عشه.. انما أمر واحد اخفقت في استيعابه: صوت الأستاذ المأخوذ في سكب طيب محاضرته على الزملاء. لا، لن ينتهي هذا النهر.. جمعت أوراقي، وحشرتها في الملف الجلدي الأسود، وانتصبت أترك القاعة، وعيون الزملاء، والأستاذ، تحفر في ظهري ثقوباً، خيل إليّ أن الدم يتقطر منها ويسري تحت الثياب في ظهري.. واثارتني في فناء الجامعة دقات الساعة: السادسة عشرة والدقيقة الخمسون والثانية.. سيطول هذا النهار. لكن، ايبتسم هذا الزميل لي؟ لي أنا؟
تلفتُ حولي، فإذا في برود هذه العشية الكئيبة، تنتصب الأشجار رطبة الجذوع، يمر بها الطلاب في اندفاعهم الى القاعات وخروجهم منها فلا يهتمون، حتى بإلقاء نظرة على عريها. وتعمد الغريب المبتسم الاحتكاك بي. وتوقف أمامي فرحاً يهمس: «هالو..». وأنزلق متخفياً بين جذوع الأشجار الرطبة، فعصف بي غضبي، يدفعني على الطريق العام: هالو.. هالو.. أكره اللغة الانكليزية، أكره أن نؤدي بها تحية، كما أكره أن نؤدي بها صلاة! وكأن هذا الشاب، الذي عاش في مكان ما من البلدان العربية، لا يتمكن من أداء تحية بلغتنا: هالو.. هالو.. هذه الكلمة تقطع هدوئي ببطء.. الذنب ليس ذنب الزميل. فأنا لست سمراء، ولست شقراء. فمن أين له أن يفهم أنني من هنا، من لبنان؟
هالو.. هالو.. ها.. قبعت العبارة في رأسي تدق على أطراف أجفاني نغمة رتيبة فتمهلت على محطة الترام أذيـق النقمة خرساً أبدياً. ولم يتفهم المنتظرون على الرصيف سبب انتظاري معهم. كلهم على الرصيف يراقبون طلعة الترام الزاحف من المنحنى، في الطريق المستقيم، الى اللوحة الحمراء، والبيضاء: موقف. ووقف الترام، وتسابقوا الى جوفه كسمك صغير يزدرده حوت جبار. وتدلى البعض منهم على المدخل، وتشبثت أيدي البعض الآخر بقضبان الحديد المركزة على الشبابيك. واتكأ شاب على كتف فتاة. وتحسس كهل ظهر امرأة عطرة. واصفر وجه طفلة، تراقب يد غريب تتنزه على صدر أمها.. واستغرب الجاثمون على الشبابيك، تخلفي الكسيح على الحائط الرمادي. ثم جرجرتهم الحافلة، وابتعدت تتبعها أضواء السيارات، ناقمة على تباطؤ العجلات في كرّها بين حافتيّ الخط الأجوف. وتوافد الناس من جديد على المحطة، واذا أنا أغوص.. أغوص.. في بحيرات أضواء حمراء، صفراء، تصبها دائرات قانية باهرة، رماها أصحاب السيارات فوق الدواليب.
للترام خطّه وسط الطريق. للسيارات مواقفها. للناس أرصفتهم. وأنا ضائعة، أفتش غريبة عن مكاني! الوالد في لندن ينهي بيع صفقة البصل. نصيبي من نجاحها: خمسة وعشرون ألف ليرة لبنانية. وأمي مع الخياطة في البيت، تفصل قماشاً مورداً، لتحفظ به مقاعد غرفة الجلوس.
والشقراء على بوابة كلية البنات الأميركية، تنادي هسهسة الحلق في أذنيها شاباً ماجناً، فيدعوها هذا الى نزهة على الشاطئ الباكي. في سيارة سباق طروب.. والسمراء تجتر وقتها بين قلم، وكتاب، وعيادة اختصاصي في النظارات.. بلا وعي، وجدت نفسي في بيتنا، فتساءلت: كيف وصلت الى مأواي؟ وأدركت فوراً استسلامنا للعادة التي نصبت الجمل في الصحراء دليلاً، هذا الحيوان الذي تطبع العادة في مخيلته اتجاهات كل طريق يسلكه مرة واحدة.. هي العادة المسكرة، اذن، التي دفعتني من الشارع الى شبه القصر الذي أسكن فيه. واستقبلتني الوالدة بضحكة مستبشرة، الخياطة هنا.. منذ الصباح.. فلم أبادلها فرحتها. واصطدم بي بسام وهو يجر السكة الحديدية، فلم أزجره. ومشيت بإعياء الى غرفة الجلوس، حاملة كيس «التريكو».. فارتبكت الخياطة، تصلح ياقة فسطانها، وتفرك أنفها، ثم تجمعت على ماكنتها متهيبة، تسترق لفتة سريعة الى وجهي، من حين الى حين. انطرحت على ظهري، على المقعد، ومددت رجليّ على كرسي وفتحت الكيس الأبيض. أدنيت وجهي من فتحته أراقب الصوف الأصفر المختبئ فيه، ثم شككت رأس صنارة في القطبة الملتفة على الصنارة الأخرى، ولففت الخيط حوله، وحررته من رأس الأخرى، وعدت الى غرز رأس الصنارة، ولف الخيطان. غرز.. ولف.. فانتهى الدور الأول، وتفتحت على شفتيّ رطوبة ابتسامة طريئة، انطبعت في عينيّ الخياطة، فتنحنحت مكانها تذيب كوم الصمت المتحجر على شفتها وشفتي، تسألني. «ماذا تحيكين؟» فأجبتها بلطف:«أحيك كنزة لي، لي أنا». وعجلت تتقرب إليّ. «لونها رائع. لكن يلزمك شهور لإكمال حياكتها..» هذه اللعينة! نبهت اللعينة دقات الرقم 14 على قرص التلفون، وأيقظته في كل حواسي، فراح يطلق صعيقاً دامياً في كل أعصابي! وتقلصت عضلات يديّ، فسقطت قطعة الكم التي أحيكها، بين قدمي، وانطلقت تائهة الى التلفون. الساعة العشرون والدقيقة الخامسة والأربعون والثانية والأربعون.. الساعة.. الساعة..أخمدت الصعيق بضرب رأس السماعة مرات.. مرات.. عديدة.. عديدة، وتراجعت الى غرفة الجلوس، لتأمرني الوالدة: «لينا، المائدة جاهزة. تناولي عشاءك مع اخوتك مرة واحدة في الأسبوع على الأقل. لينا، هل سمعت ما أقول؟ لينا..». أراها تطعم الخياطة قطعتين من الكاتو. وأراها تلبس خاتم الزواج الباهت في يدها اليسرى. وأراها فخورة بحرصها على ثروة الوالد واقتصادها وتدبيرها: فهي تعد في البيت أغطية للمقاعد، بينما سيدة غيرها، في الظروف نفسها، تبدل كل سنة مقاعد غرفة الجلوس.. وأراها هزيلة أكثر مما يتقبل الوالد!
لكنني لن أجيبها، فأنا أود أن أحصل على نتيجة ملموسة لمرور هذا النهار.. وهمست هي في اذن الخياطة كلما تأفف من سلوكي، وحملت أنا كيس التريكو الأبيض، وانزويت في غرفة أشك رأس الصنارة.. والف الخيط.. ثم أسحب الرأس.. وتكدس دور فوق دور. وتتالت الأدوار. وكبر كمّ الكنزة الصفراء.. ففكرت على مخدتي:الكنزة أنا أصنعها، انها لي، أملكها. والوالد وحده، هو الذي يملك الخمسة وعشرين ألف ليرة.



#محسن_ظافرغريب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حزب الدولة/ إقليم البصرة
- بدع الأصول وسفلية السلفية
- لأجل عيون الذهب الأسود
- اليوبيل الذهبي/ ثانية
- ملف عام لديمقراطية العراق
- الناحية المقدسة وساعة الظهور !
- اليوبيل الذهبي 1958-2008م
- وزير له خال !
- مع صوت فيروز السماوي
- مُتحف جمهورية العراق
- الصرخة ؛ ياقائم آل محمد !
- صناعة السياحة وتحويل الطاقة
- أطيب المُنى وطني العراق
- إحصاء كرب ومصادر بلاء
- هوليود في فيتنام
- إحصاء ومصادر واقعة كربلاء
- في مقدمة ابن خلدون
- تهافت وبؤس الفلسفة والفلاسفة
- المزورون Die Fälscher
- رجاء غارودي Roger GARADY


المزيد.....




- في وداعها الأخير
- ماريو فارغاس يوسا وفردوسهُ الإيروسيُّ المفقود
- عوالم -جامع الفنا- في -إحدى عشرة حكاية من مراكش- للمغربي أني ...
- شعراء أرادوا أن يغيروا العالم
- صحوة أم صدمة ثقافية؟.. -طوفان الأقصى- وتحولات الفكر الغربي
- غَيْرُ المَأسُوْفِ عَلَيْهِم -
- وفاة الفنان العراقي عامر جهاد
- غَيْرُ المَأسُوْفِ عَلَيْهِم
- غَيْرُ المَأسُوْفِ عَلَيْهِم .
- الفنان السوداني أبو عركي البخيت فنار في زمن الحرب


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محسن ظافرغريب - أحيا؛ المرأة والأم والربيع وتجدد الحياة في آذار