عايد سعيد السراج
الحوار المتمدن-العدد: 2235 - 2008 / 3 / 29 - 08:39
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
القصة هذا العالم الرحب , والذاهب بعيداً منذ الحكاية الأولى , التي صاغها الإنسان , لكي , يريد بها قول شيء ما , ذي دلالة حاضرة أو ماضية , تحكم الإنسان أو الطبيعة أو الكائنات الحية , أو كل هذه المسائل مجتمعة , ولكنها ( أي الحكاية ) تطورت , أو تشعبت , وذلك بتطور وتشعب الحياة نفسها , وهكذا بدأت تأخذ دلائل مختلفة , وتتجذر أكثر فأكثر في الحياة , لدرجة أن الإنسان اتخذ منها سلاحاً لمسائل كثيرة تهمّه , كالتصوير لحادثة ما , بطريقة محزنة , أو مسلية , أو أكثر تراجيدية , وهكذا كًبُرَت القصة وتحولت إلى ما يسمى " رواية " أو صَغُرَت وتحولت إلى أقصوصة, وهكذا كل كاتب له أسلوبه فيها , لأنّ روحه – أي الكاتب – لا بد أنْ تظهر في العمل إذا كان هذا الكاتب تَخّلصَ من تأثير الآخر بشكل مباشر , أما التأثير العام " النسبي" لا أتصور أنّ كاتبه استطاع الخلاص منه , ما خلا بعض الكتاب القلائل في التاريخ , والذين أحدثوا حالات " انعطاف " في الكتابة القصصية – أو الروائية- وهؤلاء ندرة – ما يهمنا هنا هو تسليط الضوء على " كتابي " القاص – والأديب – محمد إبراهيم الحاج صالح – هذا الكاتب الذي كتب منذ زمن بعيد , ولكنّه لم ينشر إلا في عام – 1993 م – مجموعته الأولى – قمر على بابل – ونحن في دراستنا هذه لا نجيب عن الأسئلة الجوهرية , مثل التنظير لعالم القصة – بمفهومها العام – ولا بالتحديد الذي بين أيدينا – أي المؤلف والنص , اللغة وعالم القصة – الواقع أو, اللاواقع والنص – القارئ – أو الجغرافيا – الشكل المضمون – طريقة التعامل مع الجملة القصصية – الشخوص وحركتهم- وخصوصيتهم – الخ حيث الكاتب هنا –كتب قصصاً قصيرة – جميلة – مدروسة بعناية – فلم يترك للغة أن تأخذه بعيداً إلى عوالمها وتهويماتها – وكذلك فعل في الطريقة التي شكّلَ فيها نصوصه- حيث الدلالات العميقة المستوحات من الحياة اليومية , والحكايات التي تجذرت مع الناس , والبعض منها أصبح مثلاً يقال – وهو ربط هذه الحكايات بفعل الحياة والمعنى , حيث الدلالة العميقة التي تحتويها قصصه المركبة والدالة , ذوات المعنى المفضوح علناً كنهار جرئ, والمخفي كقلوب ٍ تحتوي الأسرار, وهكذا تراك تعيش مع الكاتب – محمد إبراهيم الحاج صالح – وقصصه الجميلة الرشيقة , غير المتكلّفة , والمضغوطة لتلمّ ذاتها على جوهر السرِّ الكامن في أعماق النص – الفأر – الذبابة الذاهلة – عذاب صرصور- الصؤابة – الخطاف – الحصان والكلاب – التماسيح وطيور القطقط , حلم فأر – الضب والعقرب والنّاس غبش وحيات وعصافير – الصراصير- العنز العّرارة- لا خير في ذكر ٍ يأكل ذرأه- قمر على بابل – الخ وهنا في المجموعة يطغى عالم الحيوان , وكأن الكاتب عرف أن هذا العالم غير الإنسي , أكثر أمناً وصدقاً من عوالم البشر , فراح يتحدث في قصصه بلسان الفأر والذبابة – والصرصور – والصؤابة – والضب والعقرب – والديك – والكلاب والقطط , كل هذه الحيوانات , والدابّات تحدثت هنا , وتحولت إلى عوالم إنسية , استطاعت أن تعطي مثلاً وتجربة لعالم البشر الذين , أصابهم المسخ , وأخرستهم الظروف التي تحيط بهم , أو المصالح , مما جعل الكاتب – يترك لنا هذه الحيوانات التي فيها الكثير من الذين يشبه طبع البشر من مكر , وحسد , وغيرة, ولؤم ٍ , وتخطيط , وتآمر , وبذا يكون الكاتب قد أدخلنا عوالم , نصوصه , العميقة , ذوات العِبَر, فلنقرأ معا ً, قصة النعمة (سقطتْ ذبابة في صحن دبس عنب 0 رشفت الذبابة منه مرات ٍ وتلفتت حولها وقالت : (( يا للنعمة 0 يا للحظ السعيد دهراً طويلاً يكفيني هذا )) وانصرفت ترشف وعندما امتلأت وملّتْ أرادت أن تطير لكنها لم تستطع 0 فكلما حاولت الطيران كان الدبس يُغْرِقُ أرجلها وكلما رَفّتْ طلس الدبس بطنها والتصق بأجنحتها وشيئاً فشيئاً , غاصت فيه إلى أن طمرتها النعمة وما عادتْ تستطيع حراكاً ) أرأيتم كيف هي النعمة عند الذين استولوا عليها وبدأوا يتنعمون بها , دون وازع من ضمير – وكيف استطاع الكاتب أن يوظف هذه الحكاية البسيطة , بشكل يخدم لا أدبه فقط , بل أيضاً الناس , هذا هو أسلوب الكاتب – الذي استفاد من التراث – ومن الموروث الشعبي , والبيئة , ووظّف مجموعة قصصية كاملة بحكايات جميلة ذات مغزى , مع ترابط فني وأدبي , دون ادعاء ولا فذلكة , فأخرج لنا نصوصاً من عسل 0 القصص كلها في مجموعة بابل القصصية – قمر على بابل- تفضح الشر والنفاق والدجل , وتعلن أن القص البسيط العميق , هو عمل فني متميز , وهو غير هين , ويَعْصَا على من أراد سلّمه , إذ السر يكمن في خلطة البساطة المكونة من لحم ودم , وهذا ما جعل " ابن المقفّع " خالداً وعظيماً , وكذلك – الجليل -الجاحظ – وغيرهما – أما في هذا الزمن – المركّب كل شيء فيه بطريقة – سوريالية – أن يظهر لنا كاتباً قال لنا أن الأدب الصادق والعميق والمتكئ على الحكايات الأكثر دلالة لقادرة على الاستمرار , مضيفاً المتعة والفائدة – هو إذن عمل يجب الوقوف عنده , وعميقاً من قبل النقاد , وهو أيضاً إضافة لصالح الكاتب لا عليه كما يدعي البعض , لأن الأدب السطحي والساذج والعادي والمدعي , والواهم , والمستجدي , هو أدب تخريب لا تحبيب , وهو أدب وصول لا تواصل , غير أنّ قمراً على بابل- ودفقة أخيرة – اختارا المسألة من الجانب الأكثر انحيازاً لا لقضية الأدب بمفهومه الجمالي فقط , بل أيضاً لمفهومه الإنساني / كحكم قيمةٍ / وحكمة قِيَم ٍ , وإليكم ما قاله – الأديب – محمد إبراهيم الحاج صالح – في مجموعته الثانية المعنونة – دفقة أخيرة – والمطبوعة عام 1995 م عن دار الحوار في اللاذقية –
عنون القصة بـ: حديث ُ المحُدِّث
(( قال المحدث:
- في الجنة أيضاً , أَنْهار من عسل ٍ ولَبَن ٍ
قال بدوي من البدو المأخوذة بحديث المحدث :
- فإذا ما أراد المرءُ أن يشرب لبناً ؟
قال المحدثّ
- يغترف من نهر اللبن ويشرب 0
قال البدويّ:
ولماذا لم يجعل الله في الجنة نوقاً ؟ إني لأفضل حليب ناقة ساخناً على الاغتراف من نهر بارد حليبه0
قال المحدَّث :
لكن لَبَنَ النَهْر في الجَنّة ليس بارداً , الّلهُ قادر ٌ على جَعْله دافئاً , تماماً كدفء لبن النّاقة 0
قال البدوي :
- ولكنني اُفَضِّل شَخْبَ الحليب في الطاسة والرغوة الفائرة فيها 0
قال المحدَّث :
- اللّه قادر أن يرْغيَ لبن النهر في الجنّة وأن يُصْحِبَ رغوته , صوت الشّخبة الذي تريده 0
قال البدوي :
فأين المنْحني على نهر يغرف منه ويشرب ؟ !!! من حالب ٍ يقف مُمَسِّداً ثذْي النّاقة لتدرّ , ثم عاصراً ثدياً بعد ثدْي والحليب ُ يشخبُ والرغوة تفور وتطمي 00
أنا 00 أَحَبُّ إليَّ أن ْ يكون في الجنّة نوق ٌ سارحة ٌ بدلاً من أنهار اللبن 0
في هذه القصة – الأقصوصة – كمثيلاتها في المجموعة يُرينا الكاتب أنّ دفقته ليست الأخيرة , وأنّ مشروعه يتجاوز القصة القصيرة – إلى المشروع الفكري والأدبي الأشمل , فنراه بعد ذلك كتب قصصاً طوالاً , وكتب الرواية أيضاً , ونال الجائزة الرابعة في مسابقة " القصة العربية " مسابقة مجلة العربي- أصوات ورؤى جديدة – حيث يقول رئيس تحرير مجلة العربي – كتاب العربي / 15 يناير / 1998 م الدكتور – محمد الرميحي – ما يلي:
(( ولو توقفنا مع القصص التي يحتويها هذا الكتاب وهي القصص العشرون التي تمخضت عنها مسابقة " العربي " للقصة القصيرة التي أُعلن عنها في يناير الماضي لتجلي لنا جانب إيجابي كشفت عنه هذه المسابقة وهو أن جذوة الإبداع العربي لا تزال تتوقد وتتلألأ , فقد أكدت هذه القصص أن هناك محاولة عجيبة من الكتاب للخروج عن الأطر المألوفة والشوق إلى الحرية والانطلاق والتجريب ))
* نال الجائزة الأولى في هذه المسابقة الكاتب المعروف – وليد معماري – عن قصته أولاد العنزة – والجائزة الثانية بعنوان " المزلقان " للكاتب المصري سعدي أمين حسن – وكانت الجائزة الثالثة من نصيب الكاتب – الليبي – عمر أبو القاسم شليق – أما القصة الرابعة فكانت من نصيب الكاتب والأديب السوري الذي نحن بصدد كتاباته – الدكتور – محمد إبراهيم الحاج صالح وهي بعنوان – عصا اللافتة – حيث يقول عنها الكاتب والناقد – أبو المعاطي أبو النجا – في موضوع القصص موضوع المسابقة ما يلي : (( القصة مروية على لسان أحد الموظفين الصغار الذي ينتدبه مدير أحد المصانع مع مجموعة مختارة من زملائه للمساعدة في تنظيم حفل استقبال للوزير , وربما كان اختيار الكاتب لهذه الشخصية لتقديم القصة على لسانها ومن خلال وعيها وراءه إتاحة الفرصة لرصد المجالات المتعددة التي تُحّرّك خلالها هذا الموظف مع زملائه بحجة توفير أفضل – وكان من الواضح أيضاً أنه آَثَرَ أن يتخذ أسلوب الفكاهة والسخرية سبيلاً لفضح هذا الزيف , وبطبيعة الحال فقد كان اختيار شخصية هذا الموظف البسيط مناسباً لأسلوب الفكاهة والسخرية سواء أكان هذا الموظف صانعاً للفكاهة أم موضوعاً لها )) 0
الكاتب والقاص الروائي – محمد إبراهيم الحاج صالح – كاتب مجد – وترى في أعماله – روح المداعبة , والسخرية , والفكاهة , والمرارة , والحزن , وهو يُلقم الأحدث من الأسفل إلى الأعلى , يهمه كثيراً الجذر , يدقق في التفاصيل الصغيرة , ليضيف إلى عالمه عوالم أخرى , الرصد النفسي لشخوصه يُرَكّز ودقيق , غير واهم في شخوصه , ينظر إلى عوالم النصوص بمنظار محدد ودقيق , ولكن منظاره يكبّر التفاصيل ليعزف بها على وتر الإحساس , فَيَهُمُّنا ويجعلنا نتأثر بهذه التفاصيل , غير مباشر , رغم أنه غير متردد , سهام مفرداته تذهب إلى أغوار النفس , وتصل به الموعظة المتقنة فنياً لدرجة الحكمة , فإنني أتمنى على الوزارات المختصة بالثقافة والتعليم , أن تتبنى هكذا أعمال , وبل وَتُدِّرسها في المدارس , خاصة قصص " مجموعتي ْ " قمر على بابل ودفقة أخيرة " لأن هكذا قصص يُفاد منها في المسألة التعليمية , ضمن إطار أدب المعرفة والحكمة , ما أريد قوله هو أن الأديب الكاتب – اسمعنا حركة – دوابه التي من لحم ودم , وكذلك قدّم لنا الفطنة الأدبية , والتسلية , وجودة النص الذي يستطع الناقد المتبصر أن يتعامل معه , وأن يزيح الستائر الشفافة التي غطا الكاتب بها , جسد الكلمات 0
• قمر على بابل – الطبعة الأولى – 1993 – الناشر دار الحوار للنشر والتوزيع اللاذقية 0
• دفقة أخيرة – الطبعة الأولى- 1995 – الناشر دار الحوار للنشر والتوزيع اللاذقية 0
• صدر للكاتب – مجموعة من الأعمال الأدبية الأخرى 0
#عايد_سعيد_السراج (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟