إنه حقا لتساؤل مؤلم ، ألا و هو لماذا نستحق نحن جرذا مثل صدام ليكون زعيما علينا، حسب ما يدّعي كثيرون و في مقدمتهم أيتام النظام القومي البعثي المقبور في العراق و حتى أناس يختلفون عنهم و يخالفونهم ؟ ان فكرة "كل شعب يستحق زعيمه" لها جذور عميقة في التراث ، و تكرست نتيجة النكسات التي أصابت الحركات الأحتجاجية ضد المستبدين في منطقتنا . فبينما كان هناك دوما وعاظ السلاطين يسوغون للطغاة المستبدين استبدادهم ، كان هناك أيضا و دوما أناس يائسون استسلموا للأمر الواقع ، كقدر منزل عليهم لا راد له . و قاموا – سواء وعاظ السلاطين أم اليائسون البائسون- ينظّرون في هذا المجال أ يضا ، و يدبجون حِكَما و حكايات مأثورة مغزاها أن الله يسلط ظالما على الظالمين ، أو نحن شعب نستحق هذا العقاب الألهي لكوننا غدّارين و لا نعرف الرحمة ، و ما الى ذلك من خرافات. و هذه الفكرة مدعومة ايضا عند أوساط استعمارية غربية ، و هي فكرة عنصرية و استبدادية لتبرير الدفاع عن المستبدين الذين يفتكون بشعوبهم و تسويغ دعمهم لأنظمة القتل و الإرهاب في الشرق . وقد أطلقوا على هذه السياسة "سياسة النسبية الحضارية و التعددية الثقافية" و الدفاع عن التقاليد و التراث ، و يتبعها النازيون الجدد لضرب مصالح الشعوب المضطهدة و في نفس الوقت تبرر تعاون الغرب الاستعماري مع الدكتاتوريين العرب ، و التنسيق مع الأنظمة الجائرة ضد معارضيها. هذه السياسة النازية الاوروبية يتبعها كثير من الأحزاب الأوروبية سواء ألإشتراكية منها أم البرجوازية و يتلقفها وعاظ السلاطين و مثقفو ثقافة التدمير الشامل العربية و يتبنونها للمزيد من الارتزاق على حساب لقمة العيش لأبناء شعبنا. وأتساءل أيضا ، لماذا لا يستحق شعبنا زعيما حكيما ينتخبه بإرادته الحرة . ألم يحكم طوال التاريخ في فترات معينة في اوروبا زعماء دكتاريون و قتلة ، لماذا لا تستحق شعوب اوروبا في هذا العصر زعماء مثل جرذان الأمة العربية ؟ لقد كان في العراق و لا يزال سياسيون شرفاء نحن العراقيين نستحق أن نختارهم لإدارة شؤون بلادنا. فكفى و كفى إهانة لجماهير العراق المظلومة.
لا يمكنني هنا أن أبرئ ساحة الكثيرين مما يسمى بالنخبة ، سواء كانوا صراحة يرقصون لفارسهم كجرذان حقيرة ، أو الذين كانوا يخدمون سياسته الفاشية عبر أفكارهم الرجعية و تفاهاتهم المقززة التي سموها بالمعارضة ، فلا يمكن تبرأتهم من الجرائم التي ارتكبها النطام البعثي ، فهم شركاء له في كل جرائمه ، و ستبث الجماهير المظلومة بأمرهم حيث يتسنى لها ذلك.
و يمكن أن تكون تلك الفكرة صحيحة بحق هذه النخبة المبتذلة ، و لكن ليس بحق مجتمع ذي أكثرية مسحوقة و مظلومة .
فهذه الفكرة بدعة قديمة و جديدة لعرّابي اللبراليّة و النظام العالمي الجديد ، مبنية على اسس عنصرية بغيضة لايمكن لأى انسان ذي مشاعر انسانية القبول بها . فأنصار" التعددوية الثقافية" multiculturalism يدّعون ان حقوق الأفراد تتفاوت حسب الملّية والدين والثقافات و يقولون إن الحقوق الإنسانية لفرد من مواليد العراق او الصومال او ايران او افغانستان تتميز عن حقوق الذي هو من مواليد امريكا ؛ كانادا او السويد .
ادعياء "التعددوية الثقافية" يدّعون ان الشعب العراقي شعب كان على شاكلة دكتاتوره ونظامه الفاشستي وانهم اختاروه لكي يبطش بهم و يدوس على ابسط حقوقهم الإنسانية .حيث ان هذا البلد حسب رأيهم خال من الفروق الطبقية , والنضالات والتضحيات الجسام من اجل حياة افضل ؛ خال من أحرار ومناضلين في سبيل الحرية .
و للرد على هذه الأكاذيب يجب القول ؛ لماذا تم اعدام الآلاف في العراق ؟ ماذا كانت تعني المقابر الجماعية و الأنفال ، إذا كان حقا كان هذا الشعب يستحق النظام البعثي ؟ و اذا كان حقا الارهاب و الدكتاتورية و العادات المتخلفة جزء مقدسا من ثقافة هذا الشعب .
,,شعب أي بلد تحكمه حكومة تليق به ’’ هذه الكذبة الكبيرة تم ويتم ترديدها كراراومرارا بحيث اصبحت قطاعات واسعة من الناس في اوروبا وامريكا تصدقها ، كما ان كثيرين من ابناء البلدان المتخلفة سواء كانوا في بلدانهم الاصلية او في المنافي ترددها كالببغاوات .
هذه الكذبة كانت تدعوا كل العراقيين ان يفدوا " فارس أمتهم" بالأرواح وبكل غال ونفيس وان مقتل مئات الآلاف منهم لحماية نظام مفروض عليهم من قبل مبدعي "التعددوية الثقافية" شأن عادٍ وأداء لطقوس دينية وثقافية آمنوا بها وبقناعاتهم . وبهذا المنوال يبرر ابطال التعددوية إبادة اهالي حلبجة بالغازات الكيمياوية وقتل أكثر من 150 ألف من الأبرياء في هجمات الأنفال وسبي نسائهم واطفالهم و المقابر الجماعية التي لم ينته الناس من نبش الكثير منها.
و لكن تاريخ شعوب العالم تثبت لنا خطل هذه النظرية اللاإنسانية وهذه الأحكام اللاأخلاقية ؟ فاذا كانت الحكومات حق اتعكس ما يليق بشعوبهاالمحكومة ؛ فماذا تعني الفاشستية الايطالية و النازية الألمانية، و الفرانكوية الاسبانية ، والابادة الوحشية للهنود الحمر في امريكا وجرائم ألاوروبيين في أفريقيا وآسيا ،مقارنة بأوضاع العالم اليوم ، و هل كانت تلك الشعوب مستحقة تلك الحكومات وتستحق حكوماتها اليوم ايضا ؟
لماذا لايستحق اهل العراق اليوم ان يكونوا من واضعي القوانين مثلما وضعوها قبل آلاف السنين ؟ لماذا لاتليق بهم بغداد النور والعلم ، بغداد مركز العالم حينما كانت اوروبا تعيش في ظلام دامس ؟ لماذا لايستحق الأوروبيين ظلامهم الدامس الذي كانوا يعيشونها في القرون الوسطى ؟
ان نظرة متأنية ومنصفة لمسير التاريخ وتحولاته والمدوالجزر فيه ، تبين ان المسألة لاتتوقف على نوع الثقافة والعنصر والدين بل تتوقف على المسير التاريخي والإجتماعي . لهذا علينا البحث عن العوامل المؤثرة في هذا المسير . واذا ارجعنا المسألة الى الجغرافيا والعنصر القومي وسمو هذه الثقافة او تلك يعني اننا نبرر التفوق العرقي والعنصري للاوروبيين والامريكيين، وهذه الفكرة في عالمنا المعاصر مدعاة للضحك والسخرية.
فإن المكتسبات الانسانية من ديمقراطية ،وحريات سياسية ، وحرية التعبير والتجمعات والانتخابات و سواها ليست هبة الراسمالية و(اصحاب التفوق العرقي والثقافي ) ، وان تاريخ العالم ملك لكل العالم . فتلك المكاسب ثمار نضالات وتضحيات شعوب الارض على مر العصور . و لكننا نرى كيف يتم التجاوز على مكايب الإنسانية و حقوقها في العالم المتحضر " أصحاب الثقافة السامية" الانسانيين جدا؟ و نشهد اليوم كثيرا من انتهاكات لمقررات حقوق الانسان وقّعوا عليها بأنفسهم وفق ما تقتضي مصالحهم الأنانية؟ صحيح أن النخبة الراعية لسكان الأرض لها ثقافتها ، لكن ليس هناك من مجتمع من مجتمعات الغرب يخلو من تعدد ثقافات ، والا لتوقف مسير التاريخ . ليس هناك مجتمع ما ولاشعب ما له ثقافة واحدة موحدة ويعيش ويعمل في مستوى ثقافي واحد . طالما هناك طبقات سائدة ومسودة ، و طالما هناك استغلال و نهب وامتيازات وهضم لحقوق الآخرين الاجتماعية والاقتصادية ، فلايمكن تصور ثقافة واحدة لمجتمع من هذا القبيل ، فتلك الفوارق تنتج اختلافات فكرية وسياسية وتمايز في النظرة الى العالم وتعيد انتاج نفسها . "التعددوية" عند الغرب و التي أشبهها بالطائفية عندنا ، تدعونا الى احترام تلك الفوارق وتقديسها ، و تفرض علينا التسليم بقبول فكرة أن مآسي شعبنا نتاج ثقافتنا إذ لايمكن لنا الا القبول بها بل الابتهاج بها .
ان حقوق الانسان في ظل هذه البدعة أي "التعددوية الثقافية" ، وهي مقولة خطيرة- تتعرض لانتهاكات ، حين تمكن أصحاب هذه السياسة في التأثير في مجتمعات شرقية واستطاعوا تعبئتها أبنائها ضد التمدن والتحضر بحيث أصبحوا يعتقدون أن حقوق الانسان لاتعنيهم بل أنها اإداع غربي ونوع من الاستعمار . فقتل النساء وفق مبدعي التعددوية الثقافية تقليد ثقافي لنا ، لهذا نلمس تساهلاملموسا مع قاتلي النساء من الشرقيين عند المحاكم والسلطاتالأوروبية وتخفيفا لعقوباتهم ، إذ أن القانون الذي يشمل السويدي أو البريطاني مثلا في هذا المجال لايطبق على المسلمين . فالعنصريون في الغرب على معرفة تامة بثقافتنا وإذا عصت عليهم مسألة ما بخصوص ثقافاتنا بامكانهم الإستفسار من متخصصيهم في شؤون الحركات القومية الفاشية صنيعتهم ، و القوي الرجعية الأخرى في منطقتنا ، ليحصلوا على المعارف المفيدة لصناعاتهم الإنسانية جدا وتلبية احتياجات صنائعهم المفروضين على شعوبنا المغلوبة على امرها من اسلحة الدمار الشامل وصيانة بوابات اممهم المجيدة وتحرير اراضيهم المغتصبة وإحياء عظام االأجداد العظام والافتخار بهم والتضحية بمئات الألوف قربانا لهم . هكذا تضمن المصالح السياسية والاقتصادية لأوروبا وامريكا في ظل التعددوية الثقافية دعمها للعنصرية ويدا بيد مع اشد الجكومات رجعية تؤدي الأحترام ل(ثقافاتنا ) المقدسة .