المثقفون العلمانيون ساهموا، مساهمة كبيرة في رفد الثقافة العربية من خلال زعزعت المسلمات الفكرية الموروثة وعرضها للمناقشة والتساؤل وبالتالي البحث عن حلول لمعالجة الخلل بين الواقع العربي المتخلف والتطور الجاري على المستوى العالم.
ولكن المأخذ على تلك الإطروحات، كان (على العموم) وحيداً الجانب وينهل من منطلقات فكرية أحادية الاتجاه حيث أنها اعتبرت قوالبها الفكرية صالحة لكل بيئة ومجتمع دون أن ترى الخصوصية التي يتميز بها مجتمع عن آخر، نظراً لاختلاف المورثات الاجتماعية-الفكرية لتكون المجتمعات.
وهذا أدى إلى تخندق بعض العلمانيين بخندق الحزبية وبالتالي الانطلاق من مسلمات أخرى لا تختلف من حيث الجوهر عن المسلمات التي يتم انتقادها ومناقشتها.
ويجد ((أودنيس)) أن الفكر الحقيقي يجب أن ينطلق من نقد المسلمات ذاتها، ومن زلزلة هذه المسلمات بحيث تبدأ من الدرجة الصفر إذا أردنا بناء فكر عربي جديد.
فالفكر حين يتقيد بالنصوص ويعتبرها نصوصاً مقدسة لا يمكن المساس بها، لا يعد فكراً حقيقياً. الفكر يعني الحركة والتطور والتواءم مع المستجدات على الساحة العالمية. وبهذا فأن التواصل والعمل على إيجاد علاقة طردية بين الأفكار الحية والمستجدات هي إحدى سمات التطور للفكر الإنساني.
ويعتقد ((أودنيس)) بأن الفكر مهماً إن كان صادقاً (ويجب أن نقيس صدقه على الواقع) فهو متغير أيضاً لأن مادة الفكر هي الواقع. وبما أن الواقع حركة متغيرة باستمرار، فالفكر يجب أن يتغير بتغير الواقع.
وعليه، فالثقافة الحية والإنسانية هي المرجل الذي تتفاعل به جميع الآراء والأفكار لنقد المسلمات الموروثة وبالتالي الخروج بفكر جديد يجيب على الأسئلة الصعبة التي تواجه المجتمع.
فبدون هذه العملية الديناميكية لصراع الأفكار ونقد المسلمات الموروثة لا يمكن للفكر الإنساني أن يتطور، فعند وجود خلل فكري في مجتمع ما ووجود حركة فكرية متطورة في مجتمع آخر يتعين أن يكون المسار الفكري متاحاً وحراً لكي يعالج الخلل في ذاك المجتمع.
فالمسلمات الفكرية-الاجتماعية الموروثة تعمل على بناء عدداً من السدود والحواجز لإعاقة حركة المسار الفكري بغية المحافظة على تلك المسلمات من جرف التيار الجديد.
ويتساءل ((أودنيس)) بقوله: أنا لا أعرف كيف يمكن أن يكون هناك فكر داخل ثقافة لا يسأل سؤالاً عن صحة هذه المسلمات أو أهمية هذه المسلمات.
المثقفون الحزبيون ونزعة الوصايا:
الأحزاب السياسية مارست (بغير وجه حق) هيمنة فكرية على الثقافة العربية وقولبت مفاهيم الثقافة لتكون متطابقة مع أسسها الفكرية، وبالتالي فرض مسلماتها على الثقافة مما أدى إلى نمو الثقافة بأطر فكرية محددة. وبما أن تلك الأسس الفكرية جامدة ومتحجرة لذا فأنها لا تسمح بأي تطور يمكن أن يطرأ على الثقافة. وباتت الثقافة العربية تراوح مكانها ولم تنتج أفكاراً ذات شأن خلال نصف قرن من مسيرتها.
وساهمت تلك الأحزاب في إلباس الثقافة العربية بلباس مخالف لمقاسها التاريخي-الاجتماعي مما أدى إلى تشوه حركة الثقافة العربية. وهذا لا يعني أنها لم تساهم في نقد المسلمات الموروثة، لكنها (بذات الوقت) ساهمت في فرض مسلمات جديدة لا تقل تخلفاً عن المسلمات التي تم نقدها،كما أنها عمدت على فرض عباءتها الحزبية على المثقفين ومارست حرباً لا هواة فيها لإعاقة مسيرة الثقافة الحرة.
ويجد ((ماركيز)) أن كثيرين من أصدقائه النشطين سياسياً، واللذين يعبرون عن شعورهم بأنهم ملزمون بإملاء معايير الكتابة على الكّتاب، إنما يتخذون (ربما دون أن يدروا) موقفاً رجعياً وذلك لأنهم يضعون حدوداً للحرية الفنية.
وبهذا فأن المثقف العربي، يتعرض إلى تيارين قويين من الإعاقة الثقافية هما: السلطات العربية والأحزاب السياسية.
المثقفون المستقلون ورفض نهج الوصايا:
يعاني المثقف المستقل من حالة التهميش والإلغاء من قبل السلطة والأحزاب السياسية، ويعمل كلاً من الاتجاهين على ممارسة عملية الجذب والضم لخدمة منطلقاته ومصالحه. ويجد المثقف المستقل، أن الحزبية تعمل على إعاقة الثقافة من التطور لذا يتوجب على المثقف أن يترك مسافة بينه وبين السياسي كي يتجنب الوقوع في شرك القوالب الفكرية الجاهزة.
ويجد ((أودنيس)) أنه بقدر ما يضع الفنان أو الأديب أو المثقف نفسه على مسافة من السياسة يخدم الثقافة والفن والأدب وقضيته معاً.
أن عقلية الإخضاع والتبعية (للسلطة والأحزاب السياسية) التي فُرضت على الواقع الثقافي العربي جعلت كلا الجانبين لا يدرك مفهوم الاستقلالية وينطلق من شعار (من ليس منا فهو ضدنا) ويعتبره معياراً لتقيم المثقف ونتاجه الأدبي.
إن الإشكالية الفكرية التي تهيمن على الحزبين، هي رفض الآخر وتبني نهج الهيمنة لاطلاء الثقافة العربية بلون واحد ويتم التعبير عنه بمفهوم (التقدمية)!!. فأي (تقدمية) هذه التي ترفض الآخر وتعتبر الثقافة ذات لوناً واحداً وأي لون آخر لا يعبر إلا عن ثقافة (معادية)!!.
ويعتقد ((أودنيس)) المثقفون العرب لا يفهمون معنى أن يكون الإنسان مستقلاً، لا يستطيعون تصور وجود إنسان عربي يكافح ويموت من أجل أن يظل مستقلاً. وهذه المسألة، بدلاً من أن تُقدر وتُحترم لا تُفهم على حقيقتها. أن ما يمكنهم تصوره هو أن الفرد يجب أن يكون تابعاً أو مرتبطاً بشكل أو بآخر.
وعلى ما يبدو أن فرض القوالب الفكرية لا يقتصر على الأحزاب السياسية التقليدية في الوطن العربي بل يمتد ليشمل أغلب الأحزاب السياسية التقليدية الأخرى في العالم.
يقول ((ماركيز)) أن مقالاتي المنتقدة للنظام الشيوعي في ألمانيا الشرقية، قال عنها المتعصبون آنذاك أنها مدفوعة الأجر من قبل الولايات المتحدة الأمريكية والطريف في ذلك هو أن هؤلاء المتعصبين يجلسون (اليوم) في مقاعد السلطة البرجوازية والمالية لكن مع الزمن بين سير التاريخ أن الحق كان معي.
فالصحافة (الحزبية) تعمد على شن حرباً على من يخرج عن قوالبها ويطالب باستقلالية الثقافة عن العمل الحزبي ويرفض الهيمنة القسرية على النشاطات والمنتديات (الثقافية) ويطالب بالديمقراطية الحقيقية ورفض القوالب الحزبية على الشأن الثقافي.
فالمثقفون العراقيون، خاضو هذا الصراع بشكل مرير مع السلطة في الداخل والحزب الشيوعي العراقي في المنفى بغية تحرير الثقافة من الهيمنة والوصاية ومازال الصراع مستمراً!!. فالمثقفون العراقيون ليسو قاصرين كي يتولى الآخرين الوصاية عليهم.
ويتحدث ((ماركيز)) عن علاقته مع الشيوعيين: أنها علاقة في غاية التقلب وأحياناً تسودها الخلافات، فدائماً عندما لا يناسبهم رأي من آرائي ينهالون عليًّ نقداً في صحفهم. ولكن حتى في أسوأ الحالات لم اتخذ مرة موقفاً ضدهم.
ونأمل أن يستفيد الحزب الشيوعي العراقي (خاصة أنه مُقبل على مؤتمره الجديد العام القادم) وتسنم أحد قياديه وزارة الثقافة العراقية من أخطاء الماضي ويكف عن محاولاته للهيمنة على الثقافة والمثقفتين العراقيين ويتركهم وشأنهم، وكذلك يتخلى عن محاولاته (غير المجدية) لخلق جمعيات ومنتديات ثقافية وهمية في المنفى بغرض تعطيل أي جهد ثقافي جاد خارج عن إطاره ووصايته!!.
وقد أسفرت تلك المحاولات غير المجدية (خلال سنوات المنفى) عن إساءات بالغة بقيادة الحزب، وآن الأوان لتبني النهج الديمقراطي بشكله الصحيح في العراق الجديد والاتعاض من تجربة النظام البائد في تعامله مع المثقفين.
واعتقد أن أي مراجعة عقلانية لقيادة الحزب الشيوعي في تعاملها مع المثقفين، تتطلب النظر بعين فاحصة ودقيقة للأسباب التي أدت إلى انسحاب أغلب المثقفين العراقيين من الحزب وتبني العديد منهم سياسة عدم التعاطي مع أي نشاط سياسي أو ثقافي يتبناه الحزب.
وهنا يتوجب تذكير السيد وزير الثقافة العراقي ((مفيد الجزائري)) بأن يكون وزيراً لكل العراقيين، وأن يستفيد من تجربته السابقة كمسؤولاً عن الأعلام الحزبي ويأخذ بنظر الاعتبار أسباب الاحتقانات والمواقف المتشنجة التي تعرض لها المثقفون في المنفى من قبل رفاقه في الحزب بغير وجه حق!!.
ستوكهولم بتاريخ 19/12/2003.