أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - عامر عبد زيد - حفريا المعرفة في الحدث الحضاري العراقي















المزيد.....


حفريا المعرفة في الحدث الحضاري العراقي


عامر عبد زيد

الحوار المتمدن-العدد: 2101 - 2007 / 11 / 16 - 12:09
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


حدث القرية :- محاولتنا إن نجعل من مفهوم (القرية) مفهوما داخل التاريخ ، لهذا جعلنا منه حدث بوصفه يمثل حلقة في نمو المجتمع والثقافة والحضارة الإنسانية ، وهو نافذه إلى إمكانية البحث في الملامح الخطاب الذي تهيمن عليه اقتصاديات القرية ناظرين لها من بعدين:
البعد الأول : الواقعة الطبيعية ذات الأفق التاريخي ـ الاجتماعي : وفي هذا نحاول إن نستعرض المراحل التكوينية للقرية وكيف تشكلت هذه الظاهرة من خلال استعراضنا للطبقات التي مرت بها. حيث تمثلت عصور ما قبل التاريخ بالكثير من الإثارة واللقى التي اتسمت بكونها فنية وعلمية وروحية باعتبارها ثقافة بابعادها تلك، وهي تؤكد على المراحل الطويلة التي قطعتها الحياة حتى وصلت الى هذه المرحلة (حيث في أواخر العصر السبلوري الذي بدأ قبل 360 مليون سنة واستمر مدة 35 مليون سنة ـ بدأت الحياة تزحف نحو اليابسة ببطء في أول الأمر ، ثم بسرعة ، وفي العصر الدينوني الذي بدأ قبل 325 سنة واستمر 45 مليون سنة ، وفي نهاية هذا العصر تطورت مجموعة من الأسماك النقرية التي كانت تعيش في المستنقعات واستطاعت ان تنمي في نفسها جهازا تنفسيا يلائم فصل الجفاف فاكتسبت المقدرة على التنفس بواسطة رئة وهي مستلقية في العين وفي مجموعة أخرى من الأسماك تمت الزعانف بحيث أصبحت تستطيع ان تنتقل بها في هيئة اقدام من مستنقع الى آخر ، وهكذا ظهرت البرمائيات .(3) .

بالمقابل فان الحضارة البشرية قد بدأت ببطء وبخطوات تدريجية استغرقت زمنا طويلا ، واذا تذكرنا ان بداية الحياة القروية قد ظهرت في جرمو شمال العراق في نهاية الالف الثامن قبل الميلاد ، أو في حوالي سنة 7040 قبل الميلاد حسب اختبار كربون 14 الاشعاعي ، وان أولى المدن ظهرت في السهل بجنوب العراق في عصر فجر التاريخ بمنتصف الالف الرابع قبل الميلاد الى حوالي سنة 3500 قبل الميلاد تكون المدة التي استغرقها هذا التطور قد جاوزت الثلاثة الاف سنة وقد غطت بعرف علماء اثار العصر الحجري الحديث والعصر الحجري المعدني وبوسعنا ان نحدد مسيرة هذا التطور في العراق على النحو التالي
.
ان تطور القرى في العصر الحجري المعدني من 5000 -3500 (ق.م)
ويمكن تمييز ثلاث مراحل في هذه الفترة تمثل الاولى منها قرى عصر حلف ما بين 5000 -4200 وتمثل الثانية قرى عصر العبيد ما يلي 4200 -3800 (ق.م)وتمثل الثالثه قرى عصر الوركاء ما يلي 3800-350 (ق.م).

الاولى _قرى العصر الحجري الحديث :كانت الثورة الزراعية وليدة ازمة مناخ التي انهت عصرا الجليد ومهدت الطريق للاستزاع ومن المحتمل ان اقدم نوع من الزراعة بدأ بنشر البذور على ارض رطبة ترويها مياه الامطار أو مياه الفيضانات فتنمو بالري الطبيعي دون حرث ثم استخدمت العصا الحاضره .

وكل الدلائل تشير الى ان العراق من المناطق الاولى التي جرت فيها المحاولات الاولى للزراعة والرعي وان المنطقة الشمالية الشرقية منه هو الموطن الاول لزراعة القمح والشعير وتربية الحيوان في لالف الثالث . وان أهم القرى العراقية الاولى التي كشفت فيها معاول المنقبين عن اثار مزارعين مستقرين هي قرية جرمو وحسونه ونينوى وبارم تية وام الدباغية والصوان ومطارة وشمشارة . وكانت الزراعة ديمية ترويها مياه الامطار في الاقسام الشمالية من العراق وهي كافية في العادة للانبات وكان انتاج القوت يعتمد بالدرجة الاولى على الزراعة وتربية الحيوان ونجم عن هذا الانقلاب الزراعي نشوء الملكية الفردية اي ملكية المزرعة وادوات الانتاج والحيوانات الداجنة في المراعي

ومن العناصر الاقتصادية الزراعية جمع الحبوب الغذائية في كل موسم وخزنها حتى نضوج محصول السنة التالية ولذلك كانت عناصر الحبوب او المخازن من المظاهر البارزة في كل قرية وقد تبين وجودها في كثير من انحاء الشرق الادنى القديم وفي اقطار العالم القديم الاخرى .

ان هذا الاستعراض يشغل مساحه طويله من التاريخ يقول الاستاذ طه باقر :"ان الانسان ظل طوال العصور الحجرية القديمة التي شغلت زهاء 98% من حياة الانسان يعيش حياة همجية يعتمد في عيشه على جمع القوت بالصيد والالتقاط ثم بدأ ينتقل في اواخر تلك العصور الى طور جديد من حياة تبدلت فيها اساليب العيش تبدلا اساسيا بتعلمه الانتاج الاقتصادي الذي اتضحت معالمه في العصر الحجري الحديث (5).

حيث نحن هنا نحاول ان نعرض الجهود الاثرية في تكوين القرية رغم ان ريجيس دويرية يرى ان :"المحراث السومري لا يهم سوى علماء الاثار لانه لا يفيدنا في شيء . اما ملحمة "جلجامش" فيمكن ان تلفت ايا كان لان مادتها الخرافية تخترقنا من الداخل ) الا اننا نرى الامر مترابطان فبدون معرفة الظرف الذي ظهر فيه المحراث لايمكن ادراك سر الملحمة والمقاصد التي كانت ورائها ،لانها وليدة فضاء حضاري .

ومن خلال دراستنا لهذه المعلومات الاثارية تسهل لنا ادراك ذلك التمفصل بين حدث القرية وحدث المدينة حيث ان كل منهما مرتبط بظروف كان لها اثر في ظهورهما .

الاول :- العصر الحجري الحديث ( النيوليت ) بعد اكتشاف الزراعة وتدجين الحيوان واستقرار الانسان ونشوء القرى والتجمعات الفلاحية حصل تحول نوعي في الطقوس والممارسات الدينية النيوليتية فقد شدها جميعا الى مركز واحد جوهر أساسي هو اخصاب الالهة الام الممثلة لخصب الارض.(6)
وتظهر في هذا العصر بواكير مادة الاشكال الدرامية الاولى وشكلها البسيط والمرتبط بالارض وخصوبة التربة والقرية والزراعة والمرأة والالهة الام التي سادت في القسم الشمالي من العراق(7).

الثاني هو العصر الحجري المعدني (الكالكوليتChalcolithic )حيث تنقلب وظيفة الاشكال الدرامية السابقة (التيوليتية ) تنقلب او تنعكس تماما وترتبط بأشكال جديدة تتمحور حول استخدام المعادن وخصوبة الماء وظهور المدينة والمعبد وسيطرة الرجل وبدء الانقلاب الذكوري في الدين وكان المسرح الواسع لكل هذه التحولات جنوب العراق (8)

اذا فهناك حدث للقرية تشكل داخله الخطاب الانثوي وقد مرت به ثلاث لحظات :
الاولى :- لحظة الالهة الام التي صبغت بدمى من الطين مصنوعة بهيأة نسوة بدينات ، ولقد وجد الكثير من نماذجها بين أنقاض القرى.كانت تماثيل الام الكبرى أول عمل فني تشكيلي صاغه الانسان على شاكلته مجسدا أول معبوداته ( لم تكن تلك الاعمال الفنية نتاج ولع فني جمالي بمقدار ما كانت نتاج حس ديني وخبرة أولى مع العنصر الالهي . وتظهر تماثيل الام الكبرى سمات متشابهة في جميع مراكز الثقافة الباليوليتية ، فالرأس عبارة عن كتلة غير متمايزة الملامح ترتكز على الجذع مباشرة أو بواسطة رقبة قصيرة والكتفان دقيقان أو منحدران بطريقة تبعد الذهن عن أي مفهوم للقوة بمعناها الذكري. والذراعان نحيلان جدا يرتكزان على الصدر أو البطن ، موحيان بعدم جدواهما للعمل الاداري، ٍوقد يقوم الفنان بمجرد الاشارة اليهما دون العناية باظهارهما كعضوين تشريحيين كاملين ، والساقان في جزئهما الاسفل ضعيفان وقصيران وينتهيان بقدمين صغيرين . أما المنطقة الاساسية في كل تلك التماثيل ، فمنطقة الثديين والبطن والحوض وأعلى الفخذين التي تشكل معا كتلة ممتلئة عني الفنان باظهار وتضخيم كل جزء فيها بطريقة تبدو معها بقية الاعضاء وكأنها رسمت لتظهر ما لهذه الكتلة من أهمية قصوى . فالثديان عبارة عن كتلتين هائلتين مستديرتين، والبطن منتفخ في اشارة لحمل ابدي ، والردف ثقيل، والوركان قويان بارزان ومثلث الانوثة منتفخ يشكل مع أعلى الفخذين وحدة متماسكة .وقد يتدلى الثديان ليشكلان مع البطن والوركين تكوينا واحدا متراصا تتجمع فيه هذه الرموز في ثورة واحدة هي مستودع الخلق (9)

فان تعليل ظهور العبادة للالهة الام تظهر في طقوس المحاكاة أفرزت الزراعة ديانة الخصب النيوليتية التي كانت تستند بالاساس على عبادة الالهة الام ، فحينما كان الرجل منشغلا بصيد الطرائد وجمع القوت كانت المرأة الملازمة لأبنائها تقضي وقتها في جمع الحبوب ثم توصلت الى تكثيره عن طريق دفن الحبوب في الارض من أجل خزنها في بداية الامر لكنها فوجئت ان هذه الحبوب أنتجت نباتات تحمل أضعاف تلك الحبوب ، وهكذا تهيأ للمرأة القيام بأعظم اكتشاف ألا وهو الزراعة.

وقد قام الانسان والمراة بصفة خاصة بالولادة التي تجعلها مهيأة للزراعة ، ولم يكن الرجل آنذاك يعرف دوره في حمل المرأة إذ من أين له معرفة ذلك طالما ان انتفاخ بطن المرأة وظهور بوادرالحمل ثم الولادة يأتي بعد شهور من الاتصال الجنسي بالمرأة.

وهكذا ارتفعت المرأة الى مرتبة الالوهية . وأصبحت الالهة الام لاحقا تبدو وكأنها سبب اخصاب الارض العقيدة الدينية .
وتظهر فعالية هذه السلطة من خلال "طقس الاستسقاء " الذي وظيفته "استنزال المطر" عبر "الرقص الديني" كشفت الثقافة النيوليتية الشمالية وخصوصا في سامراء في حدود الالف الخامس ق.م عن مجموعة من الاثار الدالة على ظهور طقس استنزال المطر "الاستسقاء" لعل أهمها ذلك الطبق الخزفي الذي تظهر عليهاربع نساء متقابلات تتطاير رقصةواضحة أساسها نثر الشعور باتجاهالشرق (انظر الشكل في رقم 2 )

ويشكل مظهر النسوة وشعورهن مايشبه الصليب المعقوف أو رمزالسواستيكا الذي هو رمز الخصبالانثوي الذي تمثله المرأة في نهاية عصر النيوليت ويجسد هنا علاقة.0المرأة بالخصب توسلا بالمطر الذي هو أساس الزراعة في منطقة مثل منطقة سامراء التي تقع جنوب الخط المطري في وادي الرافدين .وقد انتشر هذا الرمز انتشارا واسعا في العالم القديم انطلاقا من وادي الرافدين . (10)

الثانية:- اللحظة المشاركة (أي مشاركة الذكر في الاخصاب ) :منذ الالف السادس قبل الميلاد سيبدأ الاله الابن ظهوره معها ، وتبدأ الاعمال التشكيلية في رسمهما معا بعد ان كانت وقفا على الام وحدها.(11)
ويظهر أثر الرجل في اخصاب المرأة وهذا ما تظهر آثاره في الآتية:
1- المصارعة كطقس ديني درامي:
لم تكن المصارعة في العصور ما قبل التاريخية نشاطا رياضيا،بل ارتبطت جذورها البعيدة بالحياة الدينية.
ان المرأة التي تزعمت النشاط الاجتماعي والسياسي والديني في الثقافات النيوليتية الشمالية في وادي الرافدين كانت تختار زوجها أو ضجيعها عن طريق اجراء منافسة قوى بين الرجال الاشداء ليكون الزوج جديرا بالمرأة الزعيمة .
وكانت مسابقات المصارعة بين الرجال تجري كل عام قبل طقس الزواج المقدس الديني ، حيث يتم زواج المرأة الزعيمة باعتبارها ممثلة للالهة الام من الرجل القوي المنتصر في المصارعة ، وبزواجهما هذا يشار الى اخصاب الطبيعة .
انه لما يلفت الانتباه ان مشاهد المصارعة في الاعمال النحتية والتشكيلية تظهر في العصر السومري (حوالي 2500-2350 ق.م)ثم تزول في العصور اللاحقة وهذا يدل على ان طقس المصارعة كان يمتد بجذوره الى فترة قديمة
أبعـد من هـذا التاريخ بكثير.

فان المصارعة كانت جزءا من طقوس استنزال المطر في شمال العراق لتوحي لنا بأن رياضة المصارعة في العراق كانت تمثل في أغلب الظن الاختبار الذي يختار من خلاله الكاهن الذي يأخذ على عاتقه مهمة استنزال المطر والذي يكون كذلك عريسا في الزواج المقدس. (12)

2- الزواج المقدس : الاحتفال الدرامي الاول .الزواج المقدس هو الطقس والعيد الاكبر في الديانة النيوليتية الشمالية حيث تقع المرأة الكاهنة في مركزه وهي تمثل الالهة الام استمرارا وتكريسا للدور العظيم الذي اكتسبته المرأة بعد الزراعة حيث مثلث قوة خصب الارض . ورغم اننا لا نملك الكثير من الاثار والوثائق التي تشرح لنا طبيعة هذا الزواج الا اننا يمكن ان نستنتج ان زعامة المرأة للمجتمع الزراعي فرضت ظهور طقوس تأتي مع بداية كل سنة ربيعية يتم فعها زواج الزعيمة الممثلة بالكاهنة العليا من الزوج الذي اختارته من طقس المصارعة ليكون ترميزا لاخصاب الارض باعتبارها انثى الارض ورمزا لها .وتشير لنا تقاليد الزواج المقدس السومرية الى الكثير من الجذور القديمة له فهو زواج الهي بالدرجة الاولى ، ثم زواج ملكي يقوم به الملك والملكة وتقوم الكاهنة العليا بدور الزوجة الالهة ، ويمكننا الاستنتاج ان الكاهن الاعلى هو الذي كان يقوم بدور الزوج ولكنه لايقوم بدور الاله بل هو القوي الساحر المؤثر الذي يجيد ممارسة الطقوس الدينية والذي يجب ان يدافع عن موقعه هذا مع بداية كل سنة بالمنافسة مع الرجال الجدد الذين يحاولون جمع صفاته وغالبا ما يتم هذا عن طريق المنافسة بالمبارزة والمصارعة وغيرها.

ان هذا الطقس كان يجري وسط الزرع مع بداية الربيع وكان الناس يشاركون به ، وكانت الملكة تقوم بدور تمثيلي درامي عن الالهة الام . (13)

اللحظة الثالثة وهي التلفيقية:- لانها تجمع بين خطاب الانوثة والذكورة لكن مثلما يظهر واضحا هيمنة الخطاب الانثوي الى جانب هامش من وظائف الذكورة . وهذا يظهر واضحا في تلك النصوص الكتابية التي تعكس ظل تلك المرحلة ، وقد ظهر هذا في أساطير (نخرساج - أنكي) و (أنليل ـننليل ) و ( انانا ـ دموزي) .

البعد الثاني :- الواقعة الثقافية ذات الافق الديني السياسي .في هذا البعد نلاحظ ان الظاهرة الدينية بدت واضحة في هذه المرحلة في العلامات سابقة الذكروالتي تجسدت في المرأة وخطابها المؤنث وهامش موازي للرجل ، بالاضافة الى مخطط القرية اذ كان هناك تنوع في حضارة العصر الحجري الحديث ، فالقرى تختلف في التوازن بين الزراعة وتربية الحيوان وفي تخطيط البيوت وبنائها ثم في شكل سائر الالات والمادة التي تصنع منها وفي شكل الاواني الفخارية وزخارفها ، وهناك اختلافات أشد في أشكال التمائم وفي طقوس الدفن وأساليبها. وهكذا فان كل قرية تمثل تكيفا تقريبيا لبيئة معينة مع مجموعة أفكار تتناسب معها كثيرا وقليلا .

أما اذا بحثنا عن العلاقة بين البشر أنفسهم من جهة والعلاقة بين البشر والاله من ناحية ثانية فاننا نكون في ثنائية السياسي / الديني وهذا ما نجد ظلاله واضحةفي النصوص المدونة التي تشكل محاولة ربط بين الحياة الواعية للوجود الطبيعي للانسان وبين الحياة اللاواعية، أي في كل ما في داخله أو يصدر عنها من أفكار ووقائع ذات طبيعة لغزية(وذلك لان كل مجتمع يؤكد رغبته في الخلود ويخشى العودة الى الفوضى كتحقق عنه ) (14)
هذه الرغبة مصحوبةلعلاقة بين الحياة الواعية وغير الواعية ، وهذا يظهر في الممارسات الطقسية القائمة على التضحية أبعاداللرجس أو جذبا لخصب والعنف بحق يخترق العرف الاجتماعي ـ الديني للجماعة (ما ان تنتهك التصرفات الاجتماعية داخل العشيرة وعلاقاتها القرابة والقرابة الوهمية التي يقيمها حلف العصب والعلاقات المعبرة عن الوضع حسب الجنس أو العمر أو المقام )(15)

ان هذه العلاقة بين الانسان والالهة وبين القيم الاجتماعية هي حاصل أمرين
الاول/ الظاهرة الدينية " الارتهان للالهة ".
الثاني/ مجتمع قبل الدولة والحرية الفردية للارتهان للانسان .

أولا : أما الظاهرة الدينية: فاننا نلمس هذا المجتمع البدائي الذي كان يعبد الام ويقيم بينها وبين الخصب علاقة سرعان ما يشكل مخيال سردي عن المجتمع الالهي الذي يظهر فيه الالهة وهم يعيشون حياة هي صدى للحياة البدائية لهذه المرحلة حيث الزراعة ، وهي محاولة لتحليل كيف ظهرت الاشياء ، وكيف يحمل أنكي ثم أنانا ألواح القدر بمعنى ان البشر محكومون بهذا العقل الجبري الذي تقوده الالهة سنويا ولا يمتلك الفرد خلالها الا الطاعة والا سقط في المحضور (عندما ترتكب خطيئة بوعي وقصد ، فان النجاسة المتولدة من الجريمة لا يكفر عنها بتقديم تضحية الكفارة أو الاستغفار ، فهناك حالات لقوم فيها الانسان يفعل ضد ما هو مقدس ، وهو بذلك يخالف ارادة الالة، يتحداه ، فيحطم الكبرياء العاصية ، وفي هذه الحالة يكون العقاب موت المذنب ) (16)

بمعنى ان المجتمع الزراعي قد وضع السلطة بيد قوى مفارقة هي التي تقرر مصير المجتمع وهي الضابطة لقيمه الاخلاقية ومصيره، في حين ان هذه القوى هي قوى انفصلت عن المجتمع ذاته الام الكبرى مثلا ذات بعد انساني أولا ثم تحولت الى حالة مفارقة وكذلك المجتمع الالهي وهو صدى لذلك المجتمع البدائي الزراعي الذي يقوم على سلطة الجماعة ، يتزعمها الكبير وكل فرد له وظيفة يبرع بها كما هو الحال في المجتمعات البدائية في بعض المجتمعات المعزولة في انحاء العالم ، وهذا الانفصال للسلطة الالهية وتحولها الى قوى مفارقة مقدسة يشكل الكهنة وسطاء بين البشر والالهة يمكن رده الى الاسباب التالية:-
1- (الخارجية) أي المحتمع يحاول ان يجعل قوانينه تصدر من الخارج حتى يضفي عليها القداسة ويتجنب أي معارضة لها من قبل فئات لا ترى فيها مصلحتها.
2- ( التعليل) محاولة المجتمع تبرير ظهور الاشياء وإخفائها أي الخصب والموت فحاول ان يبرر هذا في تعليل يتعلق بسيرة الالهة الاسطورية ومحاولة التحكم بهذه السيرة بالتقرب عبر الطقوس والسحر .
3- ( السلطة الكهنوتية) محاولة هذه السلطة ان تحافظ على مكانتها كوسيط بين الغيب والانسان وما لهذا من أثر على سلطتها الاقتصادية والاجتماعية.
4- (اجتماعيا) محاولة المجتمع المحافظة على اتلاستقلالية القروية داخل الجماعة ورفض أي تمايز بين الافراد ، فهناك الالهة وهناك بشر حتى يحافظ المجتمع على المساواة بين أفراد الجماعة فان هذا يقتضي الخضوع و الاكراه الذي يوجب الخضوع لطقوس والمساواة الاجتماعية ، وهكذا فان المحتمع من خلال الظاهرة الدينية أقام تمايزوأقام بوادر الثقافة ، وهذة مشكلتها ؟؟ رؤيته الكونية والمنهج الذي سارت عليه حياته.

وبهذا تشكلت السلطة الاجتماعية التي أقامت مخيال جمعي يضفي عليها الشرعية ويحوي حتما رغبات الافراد داخل ذلك المجتمع ويحاول ان يجعل من مخاوفهم وأسئلتهم محل اهتمامه (لأن السلطة تفرض قانونها الخاص على الذي يملكها ، والا فانه يتصرف خطأ ويدمر ما يفترض به ان يحافظ عليه ) (17) لهذا نجد ان تلك الديانة من خلال سردها التخيلي عن حياة الالهة فانها تكشف ان الاخطاء حتى الالهة لا ينجون من نتائجها اذا فعلوها ، فرغم ان الانسان يريد تعليل ظهور الاشياء وما هو نافع وما هو ضار نجده يسرد هذا في اسطورة ( أنكي ـ نخرساج) وكيف كان يخلق (أنكي) عبر الفعالية الجنسية الأشياء وكيف يرتكب المحارم فيخلق الاشياء غير النافعة ، فالنص بقدر ما يعلل ظهور الاشياء غير النافعة فهو يقيم معيارا خلقيا عندما يتعرض (أنكي) نتيجة تلك الفعلة الى العقاب من قبل الالهة الام بعد موافقة المجلس الالهي.

وكذلك الحال مع الاله (أنليل) (الهواء) الذي يرتكب فعل الغواية فيعاقبه المجلس هذا الاله بان يهبط الى العالم السفلي ، وهكذا يظهر العالم السفلي وقوانينه التي لا يمكن افتراقها حتى من قبل الالهة وعن خسارة الخلود وعن اسطورة (أدابا) وكيف فقد امكانية الخلود.

فالاسطورة بقدر ما تعلل الظهور الكوني ، تقدم معيارا خلقيا وقانونا كونيا ايضا ، لانها تعتقد ان الجنس ليس فعلا بشريا فقط بل وكوني - فهو اخلاقي ووجودي (كوني ) معا.فهذه الظاهرة بقدر ما انها حافظت على المساواة داخل القرية أو العشيرة التي يحكمها مجلس وأم وزوج لها، فانها أقرت الانفصال بين المجتمع وقوانينه منذ البداية حتى تمنع التمايز واللامساواة بين البشر الا انها أقرت امكانية حصول التمايز وذلك بظهور مجتمع ما قبل الدولة "بداية الارتهان للانسان".

مع نمو القرى تبلورت فكرة "الصراع" ، وهي آلية تقو على محافظة المجتمع على ذاته وأبنائه على الانسجام والوحدة ومنع الالتباس لهذا قعد داخل المجتمع في صراع للمحافظة على سلطة "الام الكبرى" في ظل الديمقراطية البدائية ، فقد كانت هذه الديمقراطية وهي تظهر في سلطة المجتمع الالهي ، وهي أيضا انعكاسا للسلطة الاجتماعية التي تحافظ على الوحدة للقرية دون ارتهان وتباين طبقي.

بمعنى ان القرية دخلت دوامة الحروب حتى تحافظ على الوحدة الاجتماعية داخل المجتمع نفسه أو خضوع القرية الى سلطة قرية اخرى مما يؤدي الى ارتهان الانسان للانسان ، كما هو الحال في ظل مهيمنة المدينة ، أو في ظل مهيمنة الدولة (أو الامبراطورية).

ومن هنا فان الحرب داخل المجتمع القروي سوف تؤدي الى عكس ما كانت القرية تريده ففي الوقت الذي كانت القرية تعتمد الحرب لغرض المحافظة على الوحدة والمساواة ، فأن النتيجة كانت قد أدت الى ظهور التباين بين البشر والبشر فظهر رجال أمثال أوتونبشتم وأدابا وجلجامش فكانت تلك هي طبيعة السلطة المؤثرة أي الخطاب الذي تهيمن فيه الام الكبرى ، والديمقراطية البدائية .

فظهرت النصوص ضمن حدث"القرية" فأنتجت أساطير ذات طابع تخيلي اجتماعي وكوني تحاول أن تشبع الرغبة الفردية في الخلود، وفي معرفة ظهور الاشياء ، أو في المحافظة على بقاء واستمرار الظواهر الحسنة واستبعاد الضار منها، فظهرت الطقوس.



#عامر_عبد_زيد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الأسطورة والأدب
- انطولوجيا الموت والحياة في العراق القديم
- قراءة في ديوان (ايماءات بعيدة)
- شعرية السرد
- قراءات في المتن الابداعي الحلي
- نقد النقد ام نقد تهافتي؟
- أخلاق الطاعة في ظل مهيمنة الدولة
- المخيال السياسي في الآداب السلطانية
- الموت في الفكر المصري القديم
- قراءة في رسالة شفرة دافنش
- حوار مع ثلاثة فنانين
- الموت غدا رائجا
- الوجودية في الفكر الفلسفي المعاصر
- النص الرشدي في القراءة الفلسفية العربية المعاصرة
- القراءة الابستمولوجيه لتراث ابن رشدعند محمد عابد الجابري
- المثقف بين خانقي التخوين والتهميش
- ظاهرة القراءه ورهانا الوعي
- الفرد وروح التعايش والأمل
- الكتاب وقيم القراءة
- :الديمقراطية والإطار ألمفهومي


المزيد.....




- قدمت نصائح وإرشادات للمسافرين.. -فلاي دبي-: إلغاء وتأخير بعض ...
- -شرطة الموضة-.. من يضع القواعد بشأن ما يُسمح بإرتدائه على مت ...
- رئيسي لبوتين: إيران لا تسعى للتصعيد في الشرق الأوسط
- إسرائيل.. إصابات جراء سقوط مسيّرتين أطلقتا من لبنان (فيديو + ...
- إسرائيل تغلق الطريق رقم 10 على الحدود المصرية
- 4 أسباب تستدعي تحذير الرجال من تناول الفياغرا دون الحاجة إلي ...
- لواء روسي: الحرب الإلكترونية الروسية تعتمد الذكاء الاصطناعي ...
- -سنتكوم-: تفجير مطار كابل عام 2021 استحال تفاديه
- الأمن الروسي يعتقل مشبوها خطط بتوجيه من كييف لأعمال تخريبية ...
- أوكرانيا تتسبب بنقص أنظمة الدفاع الجوي في الغرب


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - عامر عبد زيد - حفريا المعرفة في الحدث الحضاري العراقي