أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عامر عبد زيد - انطولوجيا الموت والحياة في العراق القديم















المزيد.....



انطولوجيا الموت والحياة في العراق القديم


عامر عبد زيد

الحوار المتمدن-العدد: 2065 - 2007 / 10 / 11 - 11:19
المحور: الادب والفن
    


انطولوجيا الموت والحياة في العراق القديم
ملحمة جلجامش أنوذجا
أ- ملحمة جلجامش ملخص المتن الحكائي :
" في قديم الزمان كان يحكم مدينة أوروك ملك ظالم مستبد ثلثاه من البشر والثلث الباقي من الآلهة ، ولما لم يستطيع الشعب وضع حد لتسلطه شكاه إلى الآلهة . فقامت هذه الأخيرة بخلق منافس له عله يعدل أو يغير سلوكه ، فدار بينهما صراع مميت انتهى بصداقة حميمة بين المصارعين . ينطلق الصديقان في مغامرات لم ترض الآلهة ، فقررت معاقبتهما بالحكم بالموت عن المخلوق المنافس ( انكيدو ) . وبعد وفاته ينطلق صديقه ( جلجامش – الملك ) في بحث لا يمل منه عن سر الموت والحياة ، وبعد عناء كبير يصل إلى جده المقيم عند ملتقى الأنهار ( الجنة ) حيث أسكنته الآلهة لدوره في حادثة الطوفان . يشكو الملك حالة لجده ، فيدله هذا الأخير على مكان وجود نبات الخلود . وبعد إن حصل عليه لم يشأ جلجامش الاستئثار به لوحده ، وانتظر حتى يأكل شعبه معه منه . إثناء نومه في طريق العودة ، تسللت أفعى وأكلت النبات ، حزن الملك كثيرا ، وعاد إلى مسقط رأسه ليقوم بإعمال خالدة لصالح المدينة . وهكذا استطاع هذا الملك أن يحصل بنفسه على ما لم تقدمه الآلهة أي الخلود (4).
ب – تحليل البنية السياسية للحكاية :
أولا- تستهل الملحمة الحديث عن أزمة مجتمعية ثقافية تظهر على أنها أزمة حقيقية تعيشها مدينة أوروك وهي نتيجة للبعد القدسي للبطل جلجامش ذلك أن معظم أبطال الميثولوجيا يمارسون العنف والرحمة وكأنهما وجهان لحقيقة واحدة البنية التي تجمع بين المقدس والمدنس ، الخير والشر ، فان جلجامش ينتهك المحرم ، الذي هو التعبير الحي عن ألازمة القربانية برمتها و ( لم يترك عذراء لحبيبها ولا ابنه لأبيه ولا خطيبة البطل ) .ويقتل ( ولم يترك ابنا لأبيه ، ولا تنقطع مظالمه عن الناس ليل نهار ) .
إما جلجامش فإننا هنا إزاء ملحمة حضارية تشير بشكل جليل إلى حدث المدينة ومركزيتها فهي الخطاب الأول والرئيس الذي تنشده الملحمة وهي تركز على ظهور واحد من أهم ملامح المدينة إلا وهو الرعوي السياسي وهذا يظهر من خلال ألازمة الاجتماعية التي تظهر مع ظهور هذا الرعوي ورد
الجماهير على أفعاله فهي بسين مؤيد له على أفعاله الحميدة وبين كاره له على أفعاله غير الحميدة ، التي هي تتضمن مديحا له بشكل غير مباشر فان الإخصاب الذي يقوم به هو فعل غير ممدوح إلا انه يشير إلى انه يعتمد الخصب كخصلة فيه وهي من ملامح الرعويان يكون خصب حتى يمارس الزواج المقدس حيث يتم ترشح الكاهنات حتى يتم الاقتران به .
ومن ناحية ثانية أن الغضب استوجب استجابة آلهة لهذا الطلب لعامة الناس التي ترى فعل الرعوي السياسي مقترنا بفعل الآلهة فهو استمرار لهم وانه رمز كوني حاوي على الخصب وانه وسيط بين السماء والأرض ، لهذا جاءت استجابة الآلهة بشكل غير مباشر من خلال منافس له هو الذي سيذكر أهل أوروك ( بالراعي البدائي) الذي كان موجودا حيث كانت بقايا عن حياة بسيطة قبل المدينة في الذاكرة الجمعية احتفظ بها سكان اورك ومن هنا ظهر بين أوروك المدينة والسهل باعتبار العلاقة بين المدينة وممتلكات المعبد والقصر خارج المدينة حيث أن المدن العراقية تحتفظ بممتلكاتها وحقولها خارج المدينة .
حيث ثمة صلة بين جلجامش وانكيدو : حيث يقدم ( دياكونوف ) مقارنات بين الصور التي ظهرت ل ( جلجامش وانكيدو ) ، في النقوش والأختام حيث يقول :" أنصور البطل بالمشهد العادي ، في صراعه مع الثور أو الأسد أو حتى مع الوحش الذي نصفه ثور ونصفه الأخر إنسان .
وأحيانا نجد البطل والإنسان – الثور معا يتصارعان مع الوحوش ، وقد اعتبر بان هذا البطل هو ( جلجامش) ، أما الإنسان – الثور فهو ( انكيدو) ، وفيما بعد ، وابتداء من الدور الاكدي القديم ( في النصف الثاني من الإلف الثالث ٌ . م) تظهر أحيانا إلى جانب الصور القديمة صورة لشخصيتي ( جلجامش ) و ( انكيدو ) ، التي مع ذلك بقيت صورهم محبوبة ، والجواب الذي تقدمه الملحمة لتبرير أفعاله يمس بنية جلجامش فهكذا جلبته الآلهة ( لقد أراد الآلهة هذا الأمر وقدّروه له منذ أن قطع حبل سرته ) وحبل سرته هذا يشدنا إلى أصله البعيد والوحشي والمقدس(5) .
إن هذه النقطة التي يؤكد ( ربيعو ) على أنها أزمة إلا أنها أزمة قربانية ، والحقيقة أن الأمر بين الاثنين مختلف . فالأزمة كمفهوم ( هي التي تندلع عنها إعمال اضطهاد جماعية تعيشها بنفس الطريقة تقريبا الجماعات التي تتعرض لها .
وأقوى انطباع لديهم يكون الشعور بفقدان جدوى للمفهوم الاجتماعي نفسه ، ونهاية للقواعد والاختلافات التي تميز الأنظمة الثقافية (6) .
وهذا المفهوم ( ألازمة ) هو حالة تغير في القواعد الاجتماعية أي تلك القواعد التي شهدت ظهور الخطاب ألذكوري بوصفه خطابا مهيمن يقوم على التباين والاختلاف في النظام الاجتماعي ، وهو يظهر
بوصفه بديلا للخطاب الأنثوي القائم على المساواة في الديمقراطية البدائية ، ولكن بسبب تطور القرى وتحولها إلى مدن وما صاحب ذلك من صراع وحاجات اقتصادية اقتطفت ظهور الرعوي السياسي الذي يمثله جلجامش وكما عرضنا في النقاط السابقة .
وهذه ألازمة تمثل تغيرا في التشكيلة الاجتماعية التي أدت إلى ظهور مفهوم الاضطهاد فهو مفهوم حديث يحاول البحث في أسباب الاضطهاد وفي الملحمة تشكل النزاعات السياسية والاجتماعية ذات الطابع الديني أو الخاضعة للرهان الديني والسياسي فهي تجعل من الملك جلجامش ذي قوة مهولة ثم ينتج عنها انفلات ليس هو مسؤول عنه بل الآلهة كما قررت ذلك منذ البداية وهذا الأمر يعود إلى الطابع الاقتصادي ألخراجي الذي يجعل من الملك رمزا للإخصاب وتحويل سلوكه إلى سلوك كوني فهو وسيط بين السماء والأرض وأفعاله مقررة مسبقا من الناحية الدينية فهو قائد الجيش وهو راس الإدارة . ومن هنا تكمن أهمية الملك التي مهدنا لها والتي دفعت الآلهة إلى خلق انكيدو كمنافس له ، ( فالفارق بينهما هو الحكمة والمعرفة التي لجلجامش وليست لدى انكيدو . كما نلمح المعارضة بين الوسطين اللذين ينتمي كل منهما إليه
( سيجلجل صوتي في اورك . أنا الأقوى
نعم أنا من سيغير نظام الأشياء
من ولد في البراري هو الأقوى وعنده ألباس العظيم )
ولكن الخلاف القائم بين المجتمعين ينتهي بتصالحهما – بعد تصارع ودي بين جلجامش وانكيدو – ليحققا تحالفا سياسيا – عسكريا لمواجهة عدو مشترك لا نعرف له أرضية مادية هو الوحش خمبايا ) (7) .
إن ألازمة التي قامت بفعل تقدير مسبق من السماء والتي حاولت إصلاح الأمر بإدخال ( انكيدو ) وهو الرعوي المتخيل العادي القوي الذي جعل من جلجامش محبوبا لدى أهل أوروك ( إن منتهك القانون يتحول إلى مصلح للقانون بل مؤسس له ، بعد إن كان قد خرقه في عجلة بعض الشيء والمجرم شديد الأجرام يصبح من احد أعمدة النظام الاجتماعي (8) .
ومن هنا نرى إن فعل الملك لدى البابليين الذين يعتقدون أن الله ينصب ملكا على عرش لكي يقصص بلدا وليكون أداة الغضب الإلهي . وهذا يعني إن الملك لا يمثل ، حتى الإله على الأرض حسب وإنما غضبه أيضا . فالملك حين ينحرف عما يريده الإله منه فان مجده الزمني ينهار عند أول ضربة . وان الملك على الأرض ليسسوى لسان حال الآلهة في حالتي غضبها ورضاها ،وانه نصب على العرش من اجل منح البلاد الرفاه أو إيقاع العقاب بها .
فان الملك يظل إنسانا إلى زوال إما الملكية فان لها ( ذات الحسية ) والملك إن تصرف بشكل يتعارض مع واجبه أي انه ارتكب إثما أو الذنب يقترفه يعاقب عليه الجميع ، وحتى عندما لا يقترف الملك الإثم شخصيا فانه بوصفه تجسيدا لشعبه يكون مسؤولا عن الذنب الذي ارتكبه أي فرد من أفراد شعبه أو عن الذنب الجماعي . وحتى الظاهر التي لايمكن تفسيرها وليس هناك شخص يمكن إن يتحمل مسؤولية ظهورها حتى يصبح لزاما على الملك ان يتطهر وان يكفر عن ذلك لمصلحة المجموع (9) .
وبهذا المعنى يغدو الملك الممثل للسلطة الإلهية على الأرض ومسؤولا عن شعبه ، وهو يتحمل مسؤولية هذا الشعب أي انه يغذي الجميع في حالة ألازمات ، سواء بالطقوس أو الملك البديل .
وهذه السلطة تجعل من الملحمة أول خطاب تخيلي سياسي يتناول الملكية وتبرير التمايز بين البشر أنفسهم وهيمنة الفرو قات الاجتماعية بوصفها أمرا سماويا ، وبهذا يصبح الشعب رهبن هذه الصورة الجبرية بوصفها سنة السماء .
ثانيا – العنف الذي يتجسد في صراع جلجامش وانكيدو وذلك الذي خلقته آلهة النسل ( ارو رد من قبضة طين ألقتها في البوية وذلك استجابة من الآلهة لأبطال ( أوروك) من مظالم جلجامش .
وهنا نلاحظ أن العلاقة بين جلجامش وانكيدو علاقة تكشف عن تداخل بين مفهوم الراعي والرعية، فان الصورة التي ظهرت ل ( جلجامش ) ودرسها ( دياكونوف) تظهر أن مفهوم الراعي هي الصفة الأساسية التي ظهرت فيها شخصية جلجامش ثم كيف أعار تلك الصفات إلى انكيدو وأصبح يملك صفانا أخرى يشير إلى التغير الذي أصاب الوظائف التي اخذ يشغلها ، أي انه أصبح يرمز للرعوي السياسي المدني العارف الجميل الذي يعبر عن الملكية والمعونة المدنية ، وهذا يكشف الأرضية السياسية لتلك القصص التخيلية فهي ( تشكل نواة الأدب الملحمي ترجع إلى عصر الإشكال المبكرة لوجود الدولة ) ، وتظهر هذه الحالة من خلال ( سرد تخيلي ملحمي يحقق فعلين هما :/ ( التعرف ) الذي يرافقه فعل التحول الذي يعني كمنا يعرفه أرسطو " تحول الإحداث من النقيض إلى النقيض "وهذا الفعل حدث عندما عرف انكيدو وأصبح صديقه حيث أصاب أفعال جلجامش تغير كبير ، إما الفعل الثاني فهو التعرف الذي عرفه أرسطو " الانتقال من عدم المعرفة إلى المعرفة " وأحسن أفعال التعرف ما يصاحبه تحول وهكذا كان السرد الملحمي عبر ثنائية جلجامش انكيدو يسعى إلى تحويل فعل جلجامش وتعرفه على أسرار الأشياء المتعلقة بالموت والخلود إثناء السرد الملحمي الذي ابتدأ بحادث الصراع ثم موت انكيدو وتحول جلجامش.

وفي الوقت نفسه يتحول جلجامش إلى صورة جديدة الرعوية السياسية ويظهر في ضمن الثنائية مع صديقه ( يصور ( جلجامش) مرة مثال السومريين والاكديين في ذلك الوقت ، مرتديا زيا قصيرا لصياد أو
محارب ، إما صديقه فيأخذ ذلك المظهر ( الايقوتوغرافي) الذي كان سابقا خاصا ب ( جلجامش) إلا هو شكل الحيوان العاري ، ثم تجد صور ب ( جلجامش) و ( انكيدو ) تصبح بعد ذلك نادرة في بلاد ما بين النهرين ، ذاك بأنه ابتداء من سنة 2100 ق . م يبدأ طغيان المواضيع الرسمية والكهنوتية المطلقة على فن التصوير.(10)
من هذا نرى أن جلجامش كان سابقا يمثل الرعوي البدائي ، لكن سرعان ما تتحول صفاته إلى انكيدو ، ويظهر جلجامش بشكله الأخير الذي يعبر عن كونه رعويا سياسيا يتم له التعاون مع صديقه انكيدو ويسهم في قتل عدو أوروك الذي هو خمبابة الوحش الذي يحول بينها وبين حاجاتها .
إن الغاية من ظهور انكيدو تظهر إن الغضب الذي ظهر في أوروك من قبل الجماهير كان الدافع إلى خلق انكيدو ، الغاية المعلنة من النص محاولة كبح جماح جلجامش يشكل غير مباشر من خلال تقديم منافس له ، أما الغاية غير المباشرة فهي محاولة تقديم مقارنة بين الرعوي البدائي انكيدو والرعوي السياسي جلجامش المتمدن وجعل الاثنين في خدمة أوروك وإصلاح صورة جلجامش وجعلها تظهر بصورة البطل والمحافظ على مصالح أوروك والحامي لها ضد أعدائها من سكان المدن المتصارعة معها من خلال هيبته وبنائه أسوار أوروك ، وتشييد حضارة شمسية تحل محل الحضارة الامومية القمرية ، ونجد لدى جيكبار دوران قوله :" انه بامكاننا إن نتبين عبر مجموعة الصور المتجاورة التي تنظم مخيالنا نظامين اثنين من الصور : نظام نهاري ونظام ليلي . فإما النظام الأول ( النهاري) فيجمع كل الصور الرامزة إلى القوة والسلطان مثل الصولجان والسيف ويشهد الشكل الأفقي لهذا النظام على الافتتان بالصور و التسلط والسيادة يسبح النظام النهاري لمخيالنا في نور ساطع خالص ويطمح إلى التفوق والانتصار على الموت والتمرد على العدو . وهكذا يتغلب زيوس على كرونوس ، وهكذا يرفض بروسيثيوس الانصياع لمشيئة الضرورة .
ومن صفات النظام النهاري البطولة ، ووحدانية الإله والدفاع عن نقيض الأطروحة ، والمثالية ، والعقلانية والتجديد ، النظام النهاري نظام يتهاوى ذكوري صوب السكيزوفريفيا ، ان لم يعّدل كفته النظام الأنثوي المضاد له ، أي النظام الليلي .
إما النظام الليلي للمخيال بأنه يشمل الصورة المعبرة عن الألفة الحميمية في هذا النظام لن ( تبحث عن الترياق الشافي عن عوائد الدهر في المستوى المتعالي عن الإنسان ولا في حقل الماهيات الخالص بل في دفء الألفة وطمأنينتها (11) وهو الذي عبرنا عنه في الصراع بين الرموز الأنثوية والذكورية في المبحث السابق .
وثمة أمر أخر في الصراع بين جلجامش وانكيدو انه عطل طقس الزواج المقدس الذي كان يدور بين المتنافسين اللذين يدخلان في قتال حتى ينتصر احدهم ويقتل الأخر حيث يفوز الاقتران بعشتار . لكن عقل هذا الطقس نتيجة ذلك التغير الذي تعرضنا له أي لم يعد الأفراد من الذكور يتصارعون من اجل الفوز بعشتار بل أصبح الرجل الملك هو المركز للخصب والبركة والوسيط بين السماء والأرض لهذا فان الكاهنات يتم ترشيح من بينهن حتى تقوم بطقوس الزواج المقدس من خلال الاقتران بالملك .
ثالثا- علاقة المجتمع مع الأخر ( المسرخ ) :
ضمن انتقال الصراع بين السهل والمدينة وتحالفنهما من خلال صداقة جلجامش وانكيدو ، تبحث المدينة عن حاجاتها وتظهر غابة الأرز باعتبارها تسد حاجات أوروك إلى الأخشاب ، ومن هنا كانت المعركة من اجل مصالح المدينة وتم تحديد العدو ( خمبابا) باعتباره يحول بين أوروك وحاجاتها من جهة وبين ظهور النظام ألذكوري الشمسي من جهة أخرى باعتبار( خمبابا) رمز لديانة الأنثوية القمرية ، ومن هنا تفهتم ظهور المسخ في الثقافة هي موضوع العنف الجماعي وهي مشاهد على جو الهلوسة والرعب الذي تتم فيه التجربة الدينية الأولى وهي شاهد على بلوغ العنف ذروته يظهر البديل المسخ في كل مكان(12) .
إن إنتاج هذا العدد هي محاولة متخيلية تقدمها الملحمة تحاول إن تنمط ذلك العدد بوصفه مسخا جبارا يحول بين أوروك وحاجاتها ونظامها الثقافي الجديد ومن هنا فان مقاتلة جلجامش وصديقه تمثل القدرة على تجاوز الفضاء الثقافي القديم صوب فضاء أخر تحاول الملحة التأسيس له .
ومن هنا فالعنف المقدس الناتج عن تحالف مخلوقين مقدسين هما جلجامش وانكيدو يمثل مرحلة تأسيس اجتماعية ثقافية يؤسس لها هؤلاء الإبطال بإعمالهم الجبارة ضد حارس الغابة ( خمبابا) الذي زمجرته عباب الطوفان وتنبعث من فمه شواظ النيران .
ومن هنا فالانتصار جعل من جلجامش الرعوي السياسي بطلا محبوبا حطم عدو المدينة أوروك واشبع رغباتها في البناء والتوسع وهذا حدث عبر السرد الملحمي التخيلي الذي أحدث تحولا تعرفا لدى جلجامش .
رابعا – مشكلة الموت :
إن الصراع مع الرموز الأنثوية تؤدي إلى حلول أللعنة على انكيدو وموته ، هنا يكشف جلجامش بعده الوجودي كونه إنسانا وساعتها يتم تلاشي البعد السماوي له ، فهو غير خالد مثل الآلهة ، فهو خارج ذك الخطاب وهنا تكمن عقدة الملحمة الخاضعة لهيمنة المدينة .
بعد إن يدرك جلجامش بعده الوجودي ومصيره الحكمي يسعى من اجل تغير ذلك المصير و الأدب الأسطوري العراقي كان قد قدم رحلات قام بها ملك ( أتانا) بحثا عن الخصب و ( آدابا) بحثا عن الخلود وكلها رحلات سماوية ، إما رحلة جلجامش فهي صوب ملتقى الأنهار حيث كانت الآلهة قد أنعمت على حد جلجامش الذي أنقذ الحياة من الطوفان من خلال معونة ( أيا) ومنحته سر الخلود .
يشد جلجامش العزم صوبه من اجل الحصول على ذلك السر ( فان الزيارات الغيبية إلى يقوم بها البطل تمنحه أولا ثباتة وثانيا تشظية ضمن خاصية الفكر الأسطوري تشظية فور تكونه وهذا ما يفسر بنا باستمرار عثورنا على تشظيات أسطورية عديدة تشكل بدورها مجموعة من النصوص الأسطورية الجافة التي تحيط بالنص الأسطوري الأصلي إن وجد (13) .
كانت الرحلة التي ظهرت فيها المصاعب الكثيرة والتو صبات لإحداث قديمة خصوصا الطوفان ، والكائنات المصرفة التي عرقلت الرحلة حتى بدت الرحلة وكأنها مسكونة بالأشباح والرعب حتى حصل جلجامش على ( عشية الخلود ) وكما تقول مرسيا الياد : الفكرة الدينية المتعلقة بالحقيقة المطلقة إنما يعبر عنها ، في جملة صور أخرى كثيرة ، في هيأة ( ثمرة عجيبة ) تمنح في وقت واحد الخلود والمعرفة الكلية والقدرة الكلية ، وهي الثمرة القادرة على تحويل البشرى الىالهة (14).
لكنه فقد هذا الخيار في الحصول على الخلود مثل ( اوتونابشتم) وكان الخيار الأول هو العالم السفلي الذي كشف سرية انكيدو وانه عالم عبث فلم يبق سوى الخيال الثالث : وهو العمل على إسعاد أهل المدينة وبناء المدينة والدفاع عنها .
ومن هذا كانت هذه الملحمة تقدم خطابا تخيليا سياسيا يجعل من المدينة هي مركز الفعل الحقيقي الخالد والخيار الوحيد الصحيح . وقد حدث هذا عبر اللغة وقدرتها على خلق عوالم تخيلية باستعمال التشبيه والمجاز .
ج – المكان والزمان المتخيلان :
إن الحديث عن المكان والزمان بوصفهما من أدوات الفكر الأسطوري يشتركان في صياغة عوالمه التخيلية وتقطيع الأفكار على وفق تلك ألاماكن والأزمنة .
المكان المتخيل : إن الحديث عن المكان يظهر إمامنا أمرين ، الأول ألاماكن البارزة وهي :
(أ) مدينة أوروك في زمن الملك جلجامش .
(ب)السهل حيث يظهر انكيو وهو الفضاء الخارجي للمدينة ومرتبط بها أفقيا . وهما مكانان لهما الصفة المادية على الرغم من تعاليمهما على الزمن عند انتقالهما من الواقع التاريخي إلى الواقع الأسطوري الحكائي المتخيل .
(ج) السماء : وهي عالم تخيلي يشكل مقر القرار حيث الآلهة وهي عالم علوي خالد ، وهو الذي يتحكم بكل شيء . حيث إن هذا المكان الذي شهد استغاثات شعب أوروك كان يعمل على تلافي نتائج مزاج جلجامش ، لهذا خلق له ند يحد من اندفاعه .
(د) وهناك المكان المتخيل الذي هو الجنة أي ( ولمو) حيث متلقى الأنهار وهو مكان يتم بناؤه من قبل صانع الأسطورة حتى يكون الجزاء الذي يمكن إن يحصل عليه من يسعى للحصول على الخلود ، وهو المكان الذي يحل فيه الخالدون ، والذي لم يستطيع جلجامش من الفوز به .
(هـ) العالم السفلي وهو العالم الذي يظهر بصور مكررة حيث يصعب تحقق العدالة فيه كما نقل ذلك انكيدو .
وفي تقديم صورة لهذه ألاماكن نجد إن أوروك تبقى الخيار الامثل للخلود .
الأمر الثلاثي – ألاماكن التخيلية الجزئية والمتعرفة مثل :
غابة الأرز ، وجبل ماشو ، ومدينة الآلهة ، وبحرا لموت ، قد ذكرناها في القسم النظري بوصفها أمثلة على المكان التخيلي .
2- الزمان التخيلي : هو ذلك الزمن الذي يقدم توصيف للإحداث ، مثلا يظهر إمامنا زمن الحدث الملحمي الذي يقوم به جلجامش لكن هناك أزمنة تحكم العالم السماوي تتصف بالثبات والأبدية ، بالمقابل هناك زمن للعالم السفلي فهو أيضا زمن ابدي حيث العبث مقابل الزمن التخيلي الأبدي الدائم في ( دلمو) حيث الخلود ، وهناك زمن أخر هو الزمن الذي شهد البدايات حيث حدوث الطوفان ، وهذه الأزمنة تبدو وكأنها واحدة على الرغم من أنها تنتمي إلى أزمنة وأماكن متخيلية مختلفة فيما بينها .
د- محور الرغبة :
إن جلجامش كان يمثل محور الرغبة التي يتم تجسدها بوصفها كامنة لدى شهب ومدينة أوروك .
الطرف المساند شعب أوروك وصديق جلجامش انكيدو ومساعديه الآخرون الذين ساعدوا جلجامش من اجل حماية مصالح أوروك وقتل خمبايا ، والثور السماوي بالمقابل هناك الآلهة التي غضبت من سلوك جلجامش ( وعشتا ر ) التي رفضها ، كانوا يمثلون الطرف المعادي .
فالرحلة ككل الرحلات الميثولوجية تظهر ، وكأنها متاهة مسكونة بالأشباح والرعب ، حيث معظم الميثولوجيات تكون السماء مأهولة بالرعب ومحروسة بالمسوخ على ( البشر العقارب) (15).
وهذه المصاعب التي تصاحب البطل المخاوف والصعوبات والمسوخ فهو يعبر عن إخلاصه تجاه شعبه أو رعيته ( فهو يخلص لرعيته ويسهد على قطيعه وذلك شغله الدائم من خلال عمله على تدبير طعام قطيعه بينما قطيعه نائم وانه يسهد عليه بعينه التي لا تنام فلا يسهو ولا يغفل عن أي ضرر منه ) (16) . إما الغاية الكامنة وراء السرد فهي :
الوظيفة الأولى ( الاعتبارية ) : بما ان الحكاية تدور حول سيرة رمز ثقافي وسياسي هام ، ولغرض جعل تلك القيم التي تظهر عبر أفعاله وأقواله قيما دينية وأخلاقية وسياسية ، ممكن إن يتلقاها الناس على أنها قيم ممكنة طالما وجدت التحقق في تلك السيرة التخيلية .
والوظيفة الثانية : تمجيدية وهي تقدم تصورا يعلي من شأن تلك الشخصيات التي تدور حولهم الحكاية . وجلجامش أنموذجا هنا ، فأنها تحاول إن توضح مفهوم الرعوي السياسي ( الملك) بوصفه سلطة كونية فهو رمز للخصب ورمز للمعونة ، مما يجعله ذا سلطة كونية فهو يملك زمام الرعية ويعمل على صياغة تلك الرعية بالشكل الذي يحقق لها الصالح الذي يراه صالحا لها ، لهذا تسرد عبارات تخوص في ذكر وسامته ، وعبارات في ذكر حجمه الضخم وعبارات في ذكر أصله الإلهي فهو ابن الآلهة وقد يكون قد جاء بفعل الزواج المقدس الذي يسرد فيه اقتران ملك حاكم بالآلهة عشتا ر أو احد الالهات من خلال الكاهنان والمراد الرقع من شأن هذا الملك حتى يبدو أعلى من باقي الشعب . ولعل صدى لهذا محاولة بعض الحكام العرب والمسلمين إن ينسبوا أنفسهم إلى الرسول الكريم ,ص) مثلا – أخد هذه الأفكار كانت تحاول إن تجعل الحاكم متعاليا فوق مستوى البشر .
(هو الذي رأى كل شيء فغني بذكره يا بلادي
وهو الذي عرف جميع الأشياء وأفاد من عبرها
وهو الحكيم العارف بكل شيء )
إما الوظيفة الثالثة : ( الوظائف البنائية ) وهي الوظائف التي يقوم بها الراوي ، والتي تقوم على بناء العمل السردي بشكل يتحقق من خلاله بناء العمل وهي وتقوم على الوظائف التي تكمن وراء تلك الوظيفة البنائية وهي كالأتي :
وظيفة التنسيق التي تحاول إن تنسق بين إحداث تحدث بشكل متزامن كما حدث في الحديث عن جلجامش في الوقت الذي يظهر غضب الشعب عليه حيث تحاول هذه الوظيفة تنسيق الإحداث بحيث تتسم بالانسجام ويخدم الحدث العام داخل النص الملحمي ، ويتم أحيانا التطرق إلى إحداث متفرقة تتشعب داخل الملحمة ، مثال النصوص الخمسة السابقة للملحمة .
وظيفة الاستباق :/ التي يحاول الراوي من خلالها ان يقد م صورة عن إحداث ، لم تأت بعد فيحاول إن يقدمها من خلال أحلام تعطي تصورا عنها مثل حلم جلجامش من قبل رؤية انكيدو .
وظيفة الإلحاق : وفيها يتم إلحاق أجداث قديمة بالسرد وذلك من خلال اللقاء الذي حدث بين جلجامش واوتونابشتم في دلمو بعد رحلة مضنية قام بها جلجامش حيث تم سرد إحداث الطوفان وموقف الآلهة من ذلك .
وظائف أبلاغية : ومنها يقدم الراوي الحديث وكأنه شاهد على ذلك الحدث وهذا ما نراه من خلال وصف إحداث من خلال ضمائر الفاعلين
وظيفة تأويلية : وهنا يحاول الراوي إن يقوم بإدخال تغيرات على النصوص من خلال الإضافة والحذف بسبب ظهور بعض الإضافة ، مثل النصوص التي سبقت الملحمة أي النصوص السومرية وكيف جاءت النصوص الاكدية وفيها إضافة ، وقد عرضنا لهذا في المدخل النظري لهذا نحاول الاكتفاء بذلك .
خلاصة:
إن اللغة هي الوسيلة في التعبير عما يحرك رغبات الفرد ويفعلها أو يجيشها في صيرورة الفعل الاجتماعي الذي لابد وان تسيره سلطات فاعل توجه الرغبات الفردية لتحقيق إشباع وإرضاء لحاجاتها الاجتماعية والنفسية .
وهكذا كانت اللغة التي تحدثنا عن آلياتها تشبيها ومجازا بوصفها الآليتان المتحدثان في بناء ذلك المخيال الجمعي الذي يقترب إلى حد كبير من الطبيعة ذات البعد المادي المباشر والذي يدركه الإنسان ، وبتعبير فيكو (Vico ) :" إن الشعور هذا ، لم يكتب لأسباب جمالية ، أي لإشباع العقل وتجميل العالم الكثيب ، انه ضرورة ، فالخيال ليس انعكاسا سلبيا للعالم الخارجي بل الصيغة التي يصبح فيها العقل أو الروح مدركا لذاته وينضح من خلال صياغة الخصائص العديدة للعالم الخارجي بصورة تلقائية إلى صور عينية وهكذا ( يخلق الخيال المجاز والأسطورة "(17) . وهذا الأسلوب الذي كان جون لوك يرى فيه وسيلة من وسائل اللغة الأولى تقوم على التشبيه والمجاز والأخرى تقوم على إسقاط المتشابهات والتجريد .
إن الفعل الشعري ليس فعلا يعتمد الطرق الجدلية أو البرهانية بقدر ما يسعى عبر المخيلة والرغبات والحاجات والعواطف إلى التسلل إلى مكامن النفس وإثارتها وتسيرها ( كان هدف صانعي
الأساطير إن ينظموا قصيدة ترمي إلى تفسير الآراء والمعتقدات والشعارات الدينية بطريقة جذابة وملهمة .. أنهم لم يهتموا بسوق الدلائل والحجج المقنعة للعقل والفهم ، بل كان همهم الأول إن يرووا قصة تؤثر في العواطف ... لذلك فان عدّتهم الأدبية الأساسية لم تكن المنطق والعقل بل الخيال والوهم (18) .
رغم إن هذا الرأي يجعل من الفكر الأسطوري اقل درجة من الفكر الفلفسي إلا إن الاثنين يعتمدان على اللغة في بناء تصوراتهما للوجود والمعرفة بالتشبيه والمجاز ، لكن الملاحظ إن الفكر الأسطوري اقرب إلى الطبيعة في اعتماد استعارات مباشرة مأخوذ منها انظر هذا المقطع
ما أنت إلا الموقد الذي تخمد ناره في البرد
أنت قير يلوث من حمله
أنت قربة تبلل حاملها
إن يعتمد تشبيهات طبيعية مباشرة حتى يرسم صورة عن عشتا ر . وهكذا ( استخدم الشعراء السومريون التشبيه على نطاق واسع ، وكانت الظواهر الكونية بارزة في هذا المجال ، فالمدينة المقدسة في سومر ( تيبور) ( عالية كالسماء ) و ( جميلة من الداخل والخارج كالسماء ... )(19) .
ومن هنا جاءت تلك التشبيهات لتكون الصفات للفكر الأسطوري صوب القلوب والمشاعر لان هذه النصوص الأسطورية جاءت من الشعب سومري أو بابلي أو آشوري عاكسا رؤياه للعالم والأشياء ثم خضع هذا النص إلى ( المؤلف) الذي مارس سلطته بالحذف أو الزيادة أو بالتغيير أو التقديم أو التأخير بفعل التوجيه المهيمن للسلطة التي مثلت بداية حلول العصر البطولي حيث مالت الطبقة العليا ذات النزعة الحربية في ممالك يستند وجودها بالضرورة على الحرب لان تنظر إلى الحياة بطريقة دنيوية فردية مما فرض على الشعر مضمونا حديثا وجعل للشاعر مهاما جديدة ( وبات الشعر في العصر البطولي أغنيات فردية عن مصير الأفراد ، وكان على الشاعر إن ينشد فيهم المدائح وان يتوّه بأسمائهم وينشر أمجادهم ويخلد ذكرهم.(20)
إن هذا القول إن يصف الشاعر بوصفه المؤلف المنتج للخيال إلا أمثالا يمكن إن نحصر العملية به وبالملوك بل إن العملية تقوم ضمن بنية ثقافية ذات إبعاد دينية سياسية فالبطل الذي يتم الحديث
عنه يغدو حاملا وممثلا للقيم الجمعية التي تسبغ على المجتمع الوحدة وعلى الدين السيطرة والمصداقية وهذا الأمر وجدناه في الشخصيات البطولية اوتونابشتم ، آدابا ، جلجامش وانكيدو
فالبطل هنا يمثل لحمة في نسيج .
إن أوضح لحمة نسيج البطل تمثيله للقيم الجماعية .
أي إن البطل يمثل محور الرغبة الفردية والجماعية وعلى هذا يتحول البطل إلى مثال فان الشيء القيم يكون اقرب إلى المثال الذي يطمح إليه الإنسان ، فالقيمة ترتبط بالفعل كما يرتبط الفعل بالرغبة ، وهذه بدورها ترتبط بالدوافع ، و معنى هذا إن الفعل لا يتم إلا بدوافع يتولد عنها الرغبة في تحقيقه . وهنا يرتبط الفعل بعامل أخر هو عامل الحرية ، إذ إن الفعل الذي يرغب الإنسان في تحقيقه لا يتم إلا بمحص إرادة الإنسان (21)
فالذي وجدناه في النماذج التي شغلت فعالية مقبولة كانت تعمل على أنها أيطال أفعالهم تشكل تأثيرا دينيا على المجتمع لاسيما وإنهم يخوضون في أفعال ذات صلة وثيقة بقضايا اجتماعية – ودينية تمثل الموت والخصب ومواجهة العدو الأخر الذي ظهر في صور نمطية تثير الفزع كما هو الحال في خمبابه في الغابة أو الثور السماوي ، أو الموت وما يثيره من رعب ، أو الرجل العقرب إشكال نمطية للأخر الذي يهدد المدينة العراقية والذي لابد من مقاومته . وهكذا كان دور البطل ( آدابا ) في الذود عن المعبد والطقوس والرغبة في الحصول على الخلود فكانت رحلته رحلة قدسية سوف تتردد أصداؤها في الأدب والفكر للعالم أدبا ودينا . وكذلك ( اوتونابشتم) البطل الذي يمثل أنموذجا تخيوليا في السلوك والدين ، فقد تم اختياره حتى يحافظ على النوع البشري وكيف قام بتلك الرحلة لإنقاذ البشر ، كانت أصداؤها ذات المدلولات في مجال الدين والأخلاق والسياسة والتبرير الديني لحدوث الكوارث الطبيعية ، ثم جاء أنموذج جلجامش / انكيدو وهما يمثلان البطولة ومحور الرغبة للإفراد والمجتمع معا في الدفاع عن أوروك وتحقيق العدالة والدفاع عن المصالح الاقتصادية ومقاومة الأعداء واستيعاب التغيرات الدينية التي صاحبت نمو الخطاب السياسي .
وهنا ام بعد هؤلاء الإبطال يمثلون ذواتهم كإفراد بل أصبحوا يعبرون عن الإرادة الجمعية للأمة في ترسيخ القيم والعادات والمعارف التي تقوم عليها الأمة متخذة منها مسوغا لوجودها .
إن تجاوز البعد الفردي يجعل من أفعالهم ليست أنية بل ذات صفة نقوم على الإثبات والديمومة فهم يبنون أفعالهم على اعتبارات خارجية تضعها المؤسسة السياسية والدينية متخذ من الإبطال مجالا للتعبير عن تلك القيم ، وبالتالي يصبح أفراد المجتمع مقلدين لهذه النماذج متخذين منها قدوة للفعل الأخلاقي والديني والسياسي فيتحول الخطاب التخيلي الذي يتخذ من اللغة وقدرتها الخلاصة من السرد
والتخيل وسيلة لبناء مخيال له تأثير جمعي عاطفي يجعل من الجماعة تنصهر في وحدة واحدة بعد إطلاعها على الرموز التي يقدمها الإبطال الذين يمثلون هذه القيم للجماعة .
فهذه القيم ( تصبح شفرة من الرموز التي ترتكز على أساس معرفي ويفهمها الجميع وهذه الشفرة تمثل نماذج معيارية للسلوك مقابل المعتقدات والعادات التي تمثل نماذج وجودية للسلوك ) .(23)
بمعنى إننا هنا إزاء بعدين ممكن إن يستلهمهما في تلك الحقبة جانب وجودي يتمثل بالمعتقدات والطقوس تجد في الأساطير تلك من خلال تبرير الظاهر الطبيعية .
إما البعد الثاني فهو البعد المعياري للسلوك ، أي ان البطل يمثل قدوة يتم الإقتداء بها في السلوك لدى الأفراد الذين يحاولون محاكاة ذلك السلوك النقي ، أو الملتزم أو المغامر البطولي وكلها سلوكيات يتم من خلالها بقاء السلوك لدى الأفراد ، ومن هنا فالسلوك (Behaviour ) هو معرفة النفس ما لها وما عليها ويسمى بعلم الأخلاق فحيز السلوك هو حيز الحياة ومجاله هو الظروف البيئية أو المثير الذي يؤثر في توجيه سلوك الفرد وفي لحظة معينة .(24)

فالسلطة التي تكمن في خلق تلك النصوص الأسطورية التي عرضناها تحاول إن تدافع عن المجتمع ضد نقائضه الخاصة والمحافظة عليه وتخضع تلك السلطة التي ظهرت في ظل مهيمنة المدينة –لحتميات داخلية تظهر كضرورة ويخضع لها كل مجتمع ، فهي تبدو أيضا كنتيجة لضرورة خارجية . إن كمل مجتمع على صلاة بالخارج وهو مرتبط بمجتمعات أخرى يعتبرها معادية واستنادا إلى هذا التهديد الخارجي ، يتجه المجتمع إلى تمجيد وحدته عبر سلطة الرمز (25)
ومن هنا تظهر تلك الرموز التي يقدمها الإبطال حيث يتم بناء الوحدة الاجتماعية في أوروك التي تعيش اضطهاد الطاغية السياسي الذي يشكل بداية التميز والتباين الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم ، إلا إن الملحمة تحاول من خلال الوساطة الإلهية التي خلقه منافس استطاع الحاكم إن يتحول سلوكه من الطغيان إلى رعوي يسعى من اجل رعيته ومكاسب مدينته حتى يموت انكيدو وهنا يستطع إن يتعرف على مصيره فيجتهد في تغيره وتظهر إمامه ممتلكات كثيرة لم يفز إلا بخدمة مدينة حتى يحصل على الخلود في ذهن الشعب ، وبالتالي بقاء المجموع ، وسيرة هؤلاء الإبطال تشكل محفز مثير للفعل ومشجع عليه جاعلتة من الفرد واعيا وفعالا ومدفوعا إلى التجارب وأداة للتجارب في الوقت نفسه .
إن الأنموذج الذي تم تقديمه في هذه النصوص يجعل من البطل يترسخ في ضمير الجماعة ويظل أنموذ جا حيا محفز ويتطور هذا مع التجارب التي تمر بها الجماعة فتحدث زيادة وتحذف غي سيرة البطل مما يجعله قادر على الاستجابة للتحديات التي تطرأ على المجتمع او الجماعة . فهناك تغيرات ظهرت في شخصية جلجامش عما كانت عليه عند السومريين ، وأحيانا يتم تغير الاسم مع بقاء نفسها الشخصية حيث يتم تأميمها حتى تصبح رمزا وطنيا . وهكذا ترتحل الرموز بين الثقافات مثل العلاقة بين اوتونابشتم عند السومريين وتغيرها في الاكديين والتوراة فيما بعد ، وهذا يؤكد أهمية تلك الرموز البطولية لكون البطل الجمعي رمزا كبيرا ، كما إن الإنسان يتعامل معه بوصفه رمزا للوجود الذي يكون هو فيه المبدع والمخرب والعبد والسيد والجزئي والكلي وهو ( أي البطل فيه من المرونة ما يقبل التغيير والتشكيل الجديدين ) (26).



#عامر_عبد_زيد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قراءة في ديوان (ايماءات بعيدة)
- شعرية السرد
- قراءات في المتن الابداعي الحلي
- نقد النقد ام نقد تهافتي؟
- أخلاق الطاعة في ظل مهيمنة الدولة
- المخيال السياسي في الآداب السلطانية
- الموت في الفكر المصري القديم
- قراءة في رسالة شفرة دافنش
- حوار مع ثلاثة فنانين
- الموت غدا رائجا
- الوجودية في الفكر الفلسفي المعاصر
- النص الرشدي في القراءة الفلسفية العربية المعاصرة
- القراءة الابستمولوجيه لتراث ابن رشدعند محمد عابد الجابري
- المثقف بين خانقي التخوين والتهميش
- ظاهرة القراءه ورهانا الوعي
- الفرد وروح التعايش والأمل
- الكتاب وقيم القراءة
- :الديمقراطية والإطار ألمفهومي
- في أنماط الاتصال بين الإسلام والغرب المسيحي
- الشعور العربية بين نفوذ الاخر واستبداد الذات


المزيد.....




- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عامر عبد زيد - انطولوجيا الموت والحياة في العراق القديم