أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبد الحسين شعبان - التنوع الثقافي في المجتمعات العربية - مصدر غنى أم فتيل أزمات؟















المزيد.....


التنوع الثقافي في المجتمعات العربية - مصدر غنى أم فتيل أزمات؟


عبد الحسين شعبان

الحوار المتمدن-العدد: 2087 - 2007 / 11 / 2 - 11:56
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


من أبرز مؤلفاته : الصراع الآيديولوجي في العلاقات الدولية، 1984 ، الصهيونية المعاصرة والقانون الدولي 1985، أمريكا والاسلام 1987، عاصفة على بلاد الشمس 1994، السيادة ومبدأ التدخل الإنساني 2000، الاسلام وحقوق الانسان 2001، من هو العراقي ؟ 2002، الاسلام والارهاب الدولي،2002، فقه التسامح في الفكر العربي الاسلامي، 2005، جذور التيار الديمقراطي في العراق، 2007.
تطرح مسألة التنوع الثقافي في المجتمعات العربية وخصوصاً منذ نشوء الدولة الوطنية عدداً من الاسئلة والتساؤلات المهمة، بما له علاقة بالسلام الاهلي المجتمعي ووحدة وتماسك الكيان الاجتماعي وأفقه ومستقبله أيجاباً أو سلباً.
السؤال الأول يتعلق بـ: هل أن الاهتمام بالتنوع الثقافي كان كافياً منذ عهد الاستقلالات، خصوصاً التنوع القومي والاثني والديني والطائفي والسلالي واللغوي في المجتمعات العربية؟ وإذا كان الجواب بالسلب، فسيترتب عليه بعض التساؤلات الاخرى منها:
لماذا كان التجاهل لطبيعة التنوع والتعددية الثقافية أو عدم الاعتراف بها أو التقليل من شأنها؟ وهل أفضى الإنكار أو التنكر وعدم الاعتراف بالحقوق الى وحدة ونقاء هذه المجتمعات أم زادتها إشكالية وانقساماً، بدلاً من وحدتها وتماسكها، وحتى لو تم بحث مشكلة التنوع والتعددية، فإن النظرة المسبقة الارتيابية الاستعلائية تظل هي السائدة، ولذلك فإن الحصيلة السلبية تبقى هي الطاغية.
السؤال الثاني يتعلق بـ: لماذا يتم التعامل بمسألة التنوع الثقافي بالعموميات، بل غالباً ما يجري بالشعارات المركزية الكبرى دون الاعتراف بالحقوق، كأن تتصدر قضية المصير المشترك والأمن القومي والتنديد بالامبريالية والتشبث بوحدة المجتمع والدولة وغير ذلك، باعتبارها تمثل الأولوية بل والقدسية أحياناً على حساب الحقوق والحريات والإقرار بالتعددية والاعتراف بالتنوع، وما عدى ذلك سوى جزئيات وتفاصيل يمكن تجاوزها، وبغض النظر عن أهمية هذه الشعارات الاّ أن مسألة حقوق الاقليات والاعتراف بالتعددية الثقافية والدينية والاثنية شيء آخر.
السؤال الثالث لماذا لا يتم بحث مسألة التنوع والتعددية في إطار مبدأ المواطنة الكاملة والمساواة التامة ركنا الدولة العصرية وعلى قاعدة حقوق الانسان محور التطور الحقيقي للمجتمعات الساعية الى تحقيق العدالة؟
السؤال الرابع غالباً ما تتقدم قضية الوحدة حتى وإن كانت قسرية أو فوقية أوامرية تسلطية على حساب الحقوق والحريات والمساواة التي تصبح مسألة فيها نظر، أما المركزية والاستعلاء الثقافي فيصبحان شيئاً مقدساً!! فهل يمكن استمرار هذه الحالة الى ما لا نهاية!؟
ويذهب بعض المتأسلمين الى اعتبار المسلمين (المواطنون) متساوون كأسنان المشط وأن التنوع القومي أو الاثني أو اللغوي أو الثقافي فليس سوى بدعة وضلال، والحل هو بوحدة الانتماء الاسلامي أي بالوحدة الاسلامية وإلغاء الفروق والتمايزات، أما بعض القوميين التقليديين فقد غلبت عليهم نزعة تعظيم القومية الكبرى على حساب الأقوام الأخرى، فمن عاش في الارض العربية ( المقصود الدولة- الأمة) وكانت لغته عربية فهو عربي بغض النظر عن دينه أو حتى قوميته أو عرقه. ويذهب بعض الماركسيين الكلاسيكيين الى اعتبار مصالح الكادحين (الدولة الاشتراكية البيروقراطية لاحقاً بما فيها فرعها للتحرر الوطني) هي الأساس على حساب حقوق الأقليات التي يتم الاعتراف بها شكلياً حتى وإن اتخذ الأمر بُعداً قانونياً أحياناً.
السؤال الخامس هل هناك مفهوم متبلور للتيارات الأساسية القومية، الماركسية، والإسلامية من الأقليات الدينية والقومية: مثلاً الموقف من حقوق المسيحيين، الأكراد، التركمان، البربر (الأمازيغيين) الشركس، سكان جنوب السودان، وهل يحق لأفراد الأقليات غير الإسلامية أو غير العربية تقلّد المناصب العليا في الدولة ( رئاسة الدولة والجيش والقضاء وغير ذلك)!؟
السؤال السادس هل صحيح أن الأقليات عرضة للتأثير الخارجي منذ حروب الفرنجة، وهل السبب يعود الى هضم حقوقهم؟ إذاً هل يبقى الشك في ولائهم الى ما لا نهاية أم أن تلبية الحقوق وتأمين مستلزمات المساواة كفيلة بقطع دور التأثير الخارجي؟ وكيف السبيل الى دولة عصرية فيها المواطنون متساوون بغض النظر عن العرق أو الدين أو اللغة أو غير ذلك.
ولماذا الكردي والمسيحي والأمازيغي الذين يعيشون في المنطقة العربية منذ مئات وآلاف السنين مشكوك في ولائهم في حين أن كيسنجر وبريجنسكي وساركوزي وغيرهم من أصول لا علاقة لها ببلدانهم الحالية!؟
أيمكن التعكّز على اضطهاد المتوكل لأهل الذمة والقسوة في التعامل معهم أو الى أن سلوك البعض منهم كان سلبياً وبخاصة سعيهم للإستقواء بالخارج باعتباره أحد أسباب ذلك، وماذا لو استجيب لحقوق الأقليات، فهل سيبقى التأثير الخارجي قائماً أو سبباً في التمييز!؟ ولنعيد السؤال على نحو آخر: هل أن العامل الخارجي هو السبب في عدم الاعتراف بحقوق الأقليات أم أن هناك نظرة قاصرة أساساً للحقوق والحريات الإنسانية!؟
السؤال السابع والأخير إذا كانت المواطنة مع الاعتراف بحقوق الأقليات وبخاصة القومية منها تشكل مدخلاً لحل مشكلة التنوع فهل أن مسألة الحكم الذاتي أو اللامركزي الاداري الفيدرالي (الاتحادي) سيكون استحقاقاً مناسباً مع قبول التغيير والإصلاح الديمقراطي وفي إطار هوية عامة شاملة مع الاحتفاظ بالهوية الصغرى، باعتبارها استكمالاً وتعبيراً عن حقيقة التنوع القومي والثقافي والديني وغير ذلك.
نبادر الى السؤال هل الثقافة العربية موحّدة، أو واحدة أم هناك تنوّعاً وانفتاحاً ناجم من حقائق حياة المجتمعات العربية، إضافة الى ذلك فهو تحصيل حاصل لتنوع المشارب والمصادر للثقافة العربية خصوصاً كون الوطن العربي مصدر استقطاب للحضارات والثقافات والأقوام والديانات المختلفة.
لكن هذه القضية بسبب هضم الحقوق أحياناً أصبحت مؤرقة لبعض الساسة والحكام منهم على نحو خاص، كونها تشكّل تهديداً لوحدة هذه المجتمعات وتفاعلها.
لقد ظلّت الثقافة العربية السائدة تنكر التنوع الثقافي وتتجاهل وجود ثقافات فرعية، وأحياناً تسعى لتدجينها أو احتوائها، بما يؤدي الى إضعاف وحدة المجتمعات وتماسكها الاجتماعي، ناهيك عن أمنها القومي، ولعل هذه المناهج والسياسات تفتح نافذة للتدخل الأجنبي وتكون مصدراً محتملاً لإستقواء فئات داخلية والاحتماء بالقوى الخارجية ضد مبدأ الشراكة الوطنية، الذي تستهين به القومية الكبرى أحياناً، في حين أن على القوميات والأقليات الصغرى التي تعمل لنيل حقوقها واحترام حقوق القوميات الكبرى أو القوى الكبرى في مجتمعاتها.
ما السبيل الى تأكيد البُعد الإنساني والتنوع الثقافي والتفاعل الحضاري بمجتمعاتنا ذات الهويات الموحدة والتعددية في الآن ذاته، والأمر يقتضي الاعتراف بالثقافات الفرعية والتعامل معها بايجابية، خصوصاً وقد أوصلت سياسة الإنكار والنفي مجتمعات بكاملها الى الاحتراب بما يضرُّ بالوحدة الوطنية، والسؤال المطروح هو هل أن التنوع الثقافي قيمة مضافة لإثراء ولتطوير الثقافة العربية أم أنه خصوصاً من خلال التعامل السلبي الإقصائي الإنكاري التسلطي، مصدر أزمات يؤثر في تماسك الدول والمجتمعات!؟
وقد يكون مناسباً عند الحديث عن التنوع الثقافي، التطرّق الى دور الثقافة وارتباطها بقضايا الحقوق والحريات لما لها من علاقة وطيدة بالدينامية والإبداع فهي متحركة تعددية وليست جامدة أو سكونية.

التنوع والحقوق الثقافية والشرعة الدولية
ترتكز منظومة حقوق الإنسان الثقافية على عدد من القواعد الأساسية. منها الحقوق الجماعية، ومنها الحقوق الفردية، أما الحقوق الجماعية فأهمها:
• المساواة في الحقوق بين الأمم، كبيرها وصغيرها.
• الحق في التمتع بالثقافة الخاصة، والإعلان عن أتباع ديانة خاصة، وممارسة طقوسها واستخدام لغة خاصة.
• اعتبار جميع الثقافات جزءًا من التراث الإنساني المشترك للبشرية، بما فيها من تنوّع واختلاف.
• واجب الحفاظ على الثقافة ورعايتها بكل الوسائل، باعتبارها التعبير التاريخي والاجتماعي عن التطور الروحي للإنسان.
• ضمان حق كل شعب في تطوير ثقافته، وتعزيز روح التسامح والصداقة بين الشعوب والجماعات.

اما على الصعيد الفردي، فإن الحقوق الثقافية ترتكز على ما يلي:
• حق كل فرد في المشاركة الحرة في حياة المجتمع، والتمتع بالفنون والآداب، والمساهمة في التقدم العلمي.
• الحق في حرية البحث العلمي، فالحرية الفكرية لها موقع مهم في منظومة الحقوق الأساسية للإنسان، سواء الحقوق المدنية والسياسية، أو الحقوق الثقافية.
• الحق في حماية المصالح المعنوية والمادية للنتاجات الفكرية والعلمية والأدبية.

واستناداً الى ما تقدم، وبخاصة عند تحليل وتدقيق " الشرعة الدولية لحقوق الانسان"، فإننا نلاحظ أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في 10 ديسمبر/كانون الاول 1948، والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الصادر في العام 1966 قد عالجا الحقوق الثقافية، التي حاولت منظمة اليونسكو العمل على تعميقها وتعزيزها.
يتألف الإعلان العالمي لحقوق الانسان من 30 مادة تحدثت عن حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، والتي تخص النساء والرجال دون تمييز. وأكدت المادة الأولى على الحرية والمساواة، باعتبارهما حقاً للإنسان منذ ولادته حتى وفاته، ولا يمكن – بأي شكل من الأشكال، ولأي سبب من الأسباب- التجاوز عليهما أو الانتقاص منهما.
أما المادة الثالثة فيمكن اعتبارها حجر الزاوية في الإعلان العالمي، حيث نصّت على أن لكل فرد " الحق في الحياة والحرية وفي الأمان الشخصي". وقدمت هذه المادة للمواد من 4 الى 21 التي تنص على الحقوق المدنية والسياسية، كما قدّمت المادة /22 لتكون حجر الزاوية الثاني في الأعلان العالمي للمواد من 23 الى 27 التي حددت الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
وقد تواكبت الجهود لإقرار العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، منذ العام 1954 حتى أقرّته الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1966، ودخل حيّز التنفيذ في يناير/كانون الثاني 1976 بعد إيداع وثيقة التصديق والانضمام. وقد تضمن هذا العهد ديباجه و31 مادة، حيث جرى التأكيد على "الاعتراف بالكرامة المتأصلة" و"الحقوق المتساوية"، وكذلك على الحقوق الجماعية لجميع الشعوب، تحقيقاً لغاياتها الخاصة، والتصرف بثرواتها ومواردها الطبيعية. وأكدت المادة /15 على حق المشاركة في الحياة الثقافية واحترام حرية البحث العلمي والنشاط الإبداعي، كما أكدت المادتان/13 و14 على حق التعليم.
الشرعة الدولية لحقوق الإنسان حين أقرّت التنوع الثقافي والحقوق والتعددية الثقافية، فإنها استندت الى المبادئ التالية:
1- المساواة بين الثقافات.
2- رفض التمييز بين الأمم والشعوب، كبيرها وصغيرها.
3- عدم الاعتراف بفكرة التفوق أو الهيمنة الثقافية، وما تستند اليه من مفاهيم عنصرية أو شوفينية.
وقد أكدت منظمة اليونسكو على حق كل شعب في الحفاظ على هويته الثقافية، وتبنّى إعلان مكسيكو عام 1982 هذا الحق مؤكداً على احترام الهوية الثقافية، وعدم السعي الى فرض هوية ثقافية بالإكراه على أي شعب.
ولا شك أن الحق في الهوية الثقافية للشعوب، يعطي الحق للأشخاص والجماعات في التمتع بثقافاتهم الخاصة، وبالثقافات الأخرى المحلية والعالمية. والحق في الثقافة يعني حق كل ثقافة لأمة أو لشعب أو لجماعة في الوجود والتطور والتقدم في إطار ديناميتها الداخلية، وبعوامل التأثر الخارجية، مع حفاظها على خصوصيتها واستقلالها، ولكن دون إهمال للعوامل المشتركة ذات البعد الإنساني، ولقيم التعايش والتفاعل بين الأمم والشعوب والجماعات.

الأقليات والحقوق الثقافية
شهد القانون الدولي في العقود الثلاثة الماضية تطوراً إيجابياً فيما يتعلق بحقوق الأقليات، حيث غطّت العديد من المعاهدات والاتفاقيات الدولية ميدان عدم التمييز تغطية جيدة. وحظيت " الحقوق الخاصة" باهتمام كبير، وخصوصاً بعد إبرام "إعلان حقوق الأشخاص المنتمين الى أقليات قومية أو إثنية أو أقليات دينية أو لغوية"، الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الـ 47 برقم 135 في 18 ديسمبر/كانون الأول 1992. وتجلى الأمر على نحو أوضح بإنشاء الفريق العامل المعني بالأقليات عام 1995، وذلك اعتماداً على " الحقوق الثقافية".
ومع أن تعريف الأقلية ليس محل إجماع، بل يثير الكثير من الالتباس والجدل إلاّ أن التوصيف الوارد في الإعلان، أو مقاربته بخصوص الأقليات أو الجماعات القومية والإثنية والدينية يكاد يكون الأقرب الى تحديد مفهوم الأقلية. إن الهوية الثقافية لبعض الأقليات تعتمد على شعور قوى بالتاريخ، خصوصاً عندما تكون تلك الأقلية قد تمتعت بشيء من الاستقلالية، أو الخصوصية المتميزة في إدارة نفسها.
ويقصد بالحقوق الخاصة، الحفاظ على تلك الهوية والخصائص الذاتية والتقاليد واللغة في إطار المساواة وعدم التمييز. ونصّت المادة (27) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية على ما يلي: " لا يجوز في الدول التي لا توجد فيها أقليات إثنية أو دينية أو لغوية، أن يُحرم الأشخاص المنتمون الى الأقليات المذكورة من حق التمتع بثقافتهم الخاصة، أو إعلان ممارسة دينهم أو استخدام لغتهم بالاشتراك مع الأعضاء الآخرين في جماعتهم". وتؤكد هذه المادة على الحق في الهوية القومية أو الإثنية أو الدينية أو اللغوية، وحق الحفاظ على الخصائص المتميزة، التي لا بد من تنميتها وحمايتها. ولا يعفي ذلك دولة من الدول من الالتزام بهذه الحقوق اعترافها أو عدم اعترافها رسمياً بوجود أقلية من الأقليات.
ويمنح إعلان حقوق الأقليات الصادر عام 1992، والمؤلف من 9 مواد، الأشخاص المنتمين الى أقليات عدداً من الحقوق منها:
• حماية الدول لوجودهم وحقوقهم (م/1).
• الحق في التمتع بثقافتهم الخاصة (م/2).
• الحق في المشاركة في الحياة الثقافية والدينية والاجتماعية والاقتصادية العامة (م/2- الفقرة الثانية).
• الحق في إقامة صلات سلمية، ومواصلتها مع سائر أفراد جماعتهم، والحق في إنشاء روابط خاصة( م/2 –الفقرة 495).
• حق ممارسة الحقوق فردياً وجماعياً، ودون تمييز (م/3).

وبالقدر الذي يتطلب مراعاة الخصوصية الثقافية والقومية والدينية وتعزيزها بوجه محاولات " الإلغاء" و"التهميش" و"الإلحاق" و"الاستتباع"، بحجة "الشمولية" والثقافة السائدة أو العالمية، إلاّ أنها لا ينبغي أن تكون وسيلة للانتقاص أو التملص أو التحلل من المعايير والالتزامات الدولية، خصوصاً في القضايا الأكثر راهنية وإلحاحاً بما أبدعه الفكر الإنساني وما توصلت اليه البشرية، وهو ملكها جميعاً، تعمق على مر العصور، وهو لا يقتصر على قارة أو أمة أو شعب أو جماعة، بل هو مزيج من التفاعل الحضاري للثقافات المتعددة المشارب والتكوينات والمصادر.
وأعتقد أن الإسلام ساهم برافده الثقافي في تعميق توّجه البشرية الحضاري باتجاه احترام التنوع والتعددية والخصوصية الثقافية والدينية، ولعل "حلف الفضول" الذي أبرم في عهد الجاهلية في دار " عبدلله بن جدعان"، حين تعاهد فضلاء مكة على ألا يدعوا مظلوما من أهلها أو ممن دخلها من سائر الناس إلا ونصروه على ظالمه، خير دليل على العمق الحضاري العربي، حيث أبقى عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، وفيما بعد عكست تعاليم الإسلام والقرآن الكريم النزعة الانسانية المتأصلة.
وكان دستور المدينة أول دستور مكتوب في العالم يتناول الحقوق والواجبات ويتضمن حقوق الطوائف والأديان والتكوينات التي تعيش في المدينة (يثرب) التي جاء الرسول (ص) مهاجراً وكتب فيها شرعة أو دستور المدينة .
وإذا كان دستور المدينة قد ضمن حقوق اليهود فإن صلح الحديبة كان قد ضمن حقوق نصارى نجران التي تعني الاعتراف بالتنوع الثقافي والديني. أما العهدة العمرية فهي عبارة عن وثيقة أصدرها الخليفة عمر بن الخطاب (رض) بعد معركة اليرموك الشهيرة التي انتصر فيها العرب على الروم. وعند دخول الفاروق مدينة القدس استقبله أهلها دون أن تراق قطرة دم واحدة وأعطاهم العهد المشهور " العهدة العمرية" وتضمن العهد حفظ الحقوق، مؤتمناً على نصارى وطوائف القدس على حياتهم وأمنهم وكنائسهم وأموالهم.
كما تضمنت وثيقة فتح القسطنطينية التي أعطاها محمد الفاتح الى سكان اسطنبول (الاستانة) منح حقوق الى أهلها والأمن والسلامة الشخصية وحفظ المال والعرض وحق تأدية الطقوس والشعائر الدينية خصوصاً وأن معظمهم من المسيحيين.
الخصوصية عليها إذا أن تتوجه لتدعيم لمعايير الانسانية المشتركة وهي إذ تؤكد التنوع الثقافي، والديني، والسياسي، والتاريخي، وتنمط الحياة الاجتماعية لمجتمع ما، أو جماعة قومية أو دينية أو لغوية، فإنها تعنى العقلية والتقاليد بين شعوب وبلدان، وتفاعل حضارات وأمم وأقوام أو تكوينات، وهي بقدر تناغمها مع الفكر الانساني، تستطيع التعبير على نحو أوضح عن تميّزها وتفرّدها وخصائصها، وهكذا فإن فكرة الحقوق الثقافية، مثلما هي فكرة حقوق الانسان، تكون قد حيكت من نسيج الفكر الانساني، ومن مصادره المتنوعة.
وبهذا المعنى فالخصوصية لا تعني " الانغلاق"، أو التصادم مع الحضارات الأخرى، أو الارتياب منها بل التعايش معها والتفاعل والتواصل من خلال المشتركات الانسانية، كما أن الحداثة والتواصل الحضاري لا يعنيان قبول منطق الوصاية والتبعية الفكرية، كما أن التعايش والتبادل الثقافي لا يبرر الاستتباع، أو ازدواجية المعايير، أو الانتقائية فيما يتعلق بقضايا الأقليات وخصوصياتها الوطنية والقومية والدينية وثقافاته، وليس هناك من مبرر لتجاوز السياقات التاريخية والثقافية لحضارات أمم وشعوب وإنكار دورها بحجة تعميم " الموديل"، أو لسيادة نموذج فكري وسياسي واقتصادي واحد.
إن الانقسام الحاد السابق، الذي بلغ ذروته في عهد الحرب الباردة، لم يلغ، وبخاصة في بعده الفكري، وإن اختلف في شكله وسياقه، وإن انفتحت بعض القنوات، ولكن ثمة شكوكاً وحواجز ومعوقات ما زالت كبيرة، ومع ذلك ففي عالم اليوم لم يكن بالإمكان الحديث عن ثقافة واحدة مهيمنة في دول متعددة التكوينات والثقافات ومرجعيتها، دون طعم خاص للمذاقات الخاصة الثقافية والقومية والاثنية والدينية واللغوية وغيرها، ورؤية خاصة للألوان الثقافية والدينية، وانتماءات متنوعة لأنماط سلوك وحضارات وثقافات وتكوينات اجتماعية وسكانية.
إن ما يجمع التكوينات المختلفة، ودرجة تفاعلها، وتأثيرها المتبادل في السياق الانساني الذي يشكل مرجعية جامعة، لكنها ليست الوحيدة أو النهائية لخطاب ما زال يعترف بالكثير من الخصائص الثقافية والحضارية المختلفة.
ومهما قرر البعض اختيار طريق العزلة، أو فرض على نفسه ستاراً حديدياً، فإنه لن ينجو من رياح التغيير، بعد أن تحول العالم الى " قرية عالمية"، ولا يمكن لأحد إدارة الظهر عن الاستحقاقات العلمية والتكنولوجية الماثلة في ظل ثورة الاتصالات والمعلومات وانفتاح السوق. ولعل سؤال الخصوصية والعالمية كان قد واجه مؤتمر فيينا لعام 1993 بعد مؤتمر طهران لحقوق الانسان عام 1968، ولذلك يصبح احتجاز " الثقافة الخصوصية" في ظل العولمة أمراً يكاد يكون مستحيلاً، فهي تتأثر وتؤثر في مجرى الحقوق الثقافية العالمية.
وقد أكد مؤتمر فيينا هذا التوجه حين أشار الى أن " جميع حقوق الانسان عالمية، وغير قابلة للتجزئة، ومترابطة ومتشابكة" وهكذا هي الثقافة دائماً وهذا يعني فيما يعنيه التأكيد على الخاصيات الوطنية، والخلفيات التاريخية والثقافية والدينية، في إطار من التوافق، وليس إهمالها. كما أشار المؤتمر الى واجب الدول، بغض النظر عن نظامها الاجتماعي، احترام هذه الحقوق، التي تعني التنوع في إطار الوحدة.
الثقافة تمثل الوعاء الذي يمكن أن تزدهر فيه التنمية، وهي القدم الثانية التي يمكن للمجتمع أن يسير عليه على طريق التقدم، الثقافة والتنمية عنصران يكملان بعضهما البعض، والحق في الثقافة يمهد ويتساوى مع الحق في التنمية، الذي اقرته الأمم المتحدة في العام 1986.
أخلص الى القول أن الإقرار بالتنوع الثقافي والديني والإثني هو إقرار بواقع أليم رغم محاولات الإنكار والجحود الطويلة، ويترتب على هذا الاقرار الاعتراف بحقوق الاقليات تلك التي أقرتها شرعة حقوق الانسان الدولية، ومن التجربة العملية فإن ثمن التنكر وادعاء الأفضليات ومحاولات التسيّد كان باهظاً على حساب التنمية وتعزيز الديمقراطية، وساعد في تفكيك الوحدة الوطنية بدل الادعاء في المحافظة عليها وهدد الأمن الوطني واستخدمته القوى الخارجية وسيلة للتدخل وفرض الارادة بحجة الدفاع عن حقوق الاقليات، بل إنه ساعد في هدر الأموال خصوصاً على النزاعات العسكرية والحروب الاهلية!!



#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- وجه آخر للتراجيديا العراقية: الطفولة المنسية!
- نهاية الديمقراطية
- المؤتمر الدولي ومهمات الوسيط الدولي توني بلير
- هامش على هوامش آرا خاجادور
- العراق .. بين التنظير والتشطير .. !!
- هامش على هوامش آرا خاجادور في شؤون وشجون الحركة الشيوعية !
- الذئاب الرمادية والحصانة القضائية
- بلفور العراقي.. حامل لوعد أم حامل لبرهان
- الحرب العالمية الرابعة وتروست الادمغة
- بلاك ووتر والحصانة القانونية
- تنميط الاسلام!
- بيئة العنصرية وسؤال ما بعد 11سبتمبر
- ثقافة العولمة أم عولمة الثقافة؟!
- تركيا وجدل الهويات !!
- إرهاب أشرار وإرهاب أخيار
- خيارات الديمقراطية
- موريتانيا واستحقاق الذاكرة
- هل هناك مستقبل للامم المتحدة
- ألغام دارفور...بين الغطاء القانوني والخيط الإنساني!
- جدلية المشاركة والقطيع ...هل هناك نموذج للإصلاح؟!


المزيد.....




- وزير الداخلية الفرنسي يزور المغرب لـ-تعميق التعاون- الأمني ب ...
- قطعها بالمنشار قبل دفنها.. تفاصيل جديدة تُكشف عن رجل قتل زوج ...
- فك شفرة بُن إثيوبي يمني يمهد الطريق لمذاق قهوة جديد
- الشرطة الهولندية: عصابات تفجير ماكينات الصرف انتقلت لألمانيا ...
- بعد موجة الانقلابات.. بقاء -إيكواس- مرهون بإصلاحات هيكلية
- هل يحمل فيتامين (د) سر إبطاء شيخوخة الإنسان حقا؟
- وسائل إعلام أوكرانية: انفجارات في مدينتي أوديسا وتشيرنومورسك ...
- الاحتلال يتحدث عن معارك وجه لوجه وسط غزة ويوسع ممر -نتساريم- ...
- كاتب أميركي: القصة الخفية لعدم شن إسرائيل هجوما كبيرا على إي ...
- روسيا تصد أكبر هجوم بالمسيّرات الأوكرانية منذ اندلاع الحرب


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبد الحسين شعبان - التنوع الثقافي في المجتمعات العربية - مصدر غنى أم فتيل أزمات؟