|
في إيديولوجية المواجهة ووظيفتها ومآلاتها
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 2077 - 2007 / 10 / 23 - 10:59
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
أشد نقد يمكن أن يوجه إلى الامتناع السوري عن الرد على العملية العسكرية الإسرائيلية في السادس من أيلول الماضي هو النقد الذي يستند إلى الإيديولوجية المشرعة للنظام السوري نفسه. تقوم هذه على نظرة عسكرية إلى العالم، تدركه بمفردات الجبهة الحرب والمعركة والصراع والمؤامرات والأخطار، وتنشغل من ثم بالاستنفار والتعبئة والصمود والمقاومة والنضال والمواجهة، وتقيم النظام السياسي والقانوني والثقافي في البلاد على هذا الأساس. صحيح أن النظام أفضل إدراكا للواقع من إيديولوجيته، وأنه يمتنع بحق عن مواجهة عسكرية مباشرة، إلا أنه يحرص على منع أية مراجعة للإيديولوجية هذه. هذا لأنها تحولت من وعي ذاتي مفترض لمواجهة محددة مع خصم محدد إلى عقيدة مشرعة للنظام، تتيح له قمع الانشقاق المحتمل، ورفع سيف التخوين في وجه الاعتراض السياسي. أي أن وظيفتها تحولت من مجال مواجهة العدو المفترض إل مواجهة الخصوم السياسيين المحتملين. وبينما يتبين معارضو النظام على العموم التحول الوظيفي الذي طرأ على إيديولوجية المواجهة، إلا أنهم قلما طوروا تصورا متماسكا للتعامل مع المشكلة الإسرائيلية. الواقع أنهم يتوزعون على توجهين عريضين. توجه أول يخص بنقده التحول الوظيفي وتجلياته السياسية والقانونية، مثل حالة الطوارئ والقوانين الاستثنائية ومصادرة الحياة السياسية، لكنه يضع ذلك في سياق الدفع نحو ما يفترضه مواجهة أكثر جدية مع إسرائيل. ويصدر هذا التوجه الذي يشارك فيه قوميون بعثيون وناصريون، ويساريون شيوعيون، عن افتراض أن إخفاق العرب في حلقات المواجهة السابقة ناجم عن نقص في جذرية القيادات أو إخلاصها الوطني. ليس البعد المتصل بموازين القوى وحده الذي يغيب عن هذا النقد، وإنما هو يفترض أيضا أن إيديولوجية المواجهة بريئة اجتماعيا وسياسيا، ينعقد حولها إجماع تام، ولا تخفي امتيازات سياسية ومادة ومعنوية للفريق الحاكم. ويتلمس المتابع توجها آخر غير معبر عنه بوضوح، يبدو أنه يقر بتعذر المواجهة العسكرية وبضرورة تجنبها، لكنه أقل ثقة بالنفس من أن يصوغ نقدا جذريا لعسكرة الحياة العامة والتصور العسكري للعلاقات الدولية والإقليمية. ويتقبل التوجه هذا الذي يشترك فيه وطنيون عقلانيون وليبراليون، فكرة التسوية ومقتضياتها، لكن تبدو مواقفه وجهات نظر واجتهادات خاصة أكثر مما هي ثقافة أو تيار ثقافي عام. ويمد ضعف التيار المعارض الأكثر نقدية جذوره في الثقافة السياسية السورية. فقد استقرت هذه منذ استقلال البلاد تقريبا على أن "القضايا الوطنية"، معرفة بدلالة الخارج ومواجهته، هي ذروة الشرعية، بحيث أن فرصة أي إجراء عام في نيل القبول العام مرهونة بمردوده المحتمل على "الصمود الوطني" و"مواجهة الأخطار" وما إلى ذلك. تعم الثقافة السياسية هذه المعارضة والسلطة معا. فلطالما بررت المطالب الديمقراطية ذاتها بأن من شأنها أن تعود بالخير على مواجهة العدو. وهذا موقف متهافت، يعدم شخصية الديمقراطية بأن يشرطها بشيء لا علاقة له بالحريات الفردية والاجتماعية. وهو بعد موقف غير صحيح على الأرجح. إذ أن ديمقراطية ناشئة ستحرق نفسها إذا انجرت نحو مواجهة عسكرية، أو اندفعت نحوها. لدينا إذن ثلاثة مواقف ممكنة. موقف النظام، وهو يقوم على إيديولوجية المواجهة دون مواجهة. موقف تيار معارض، قومي ويساري، يريد مواجهة فعلية تترجم إيديولوجية المواجهة. وموقف تيار معارض آخر ينتقد إيديولوجية المواجهة لكنه أقل راديكالية من أن يمضي إلى نقد المواجهة ذاتها. ثلاثة مواقف غير صالحة، تولد فراغا فكريا وسياسيا، لا مرشحين لملئه إلا القوى الجهادية. فهذه وحدها تظهر استعدادا فعليا لمواجهة لا يكف آخرون عن التحدث عنها: الجهاديون. فكأن كل دور الدولة والنخب السياسية والثقافية التي انشغلت عقودا بعسكرة الثقافة والحياة والعامة التهيئة لقدوم أبطال الجهاد. النظام يتحدث عن الحرب والمقاومة والصمود كثيرا لكنه لا يحارب ولا يقاوم... وأطراف من النخبة السياسية والثقافية تفعل الشيء نفسه، وهي أعجز من السلطات نفسها عن المقاومة والمواجهة والحرب. وأطراف من النخبة لا تجسر على نقد متسق لهذه الهوامات. والنقد هذا ضروري لأن مصلحة سورية كدولة وقوى اجتماعية أوثق صلة في الأفق المنظور بنزع العسكرة عن علاقاتها الإقليمية والداخلية. إذ أن العسكرة تعني لعب لعبة الأقوياء: إسرائيل والاستبداد والتشكيلات الجهادية. المشكلة الكبيرة جدا أن أولويات المواجهين الجدد مختلفة كثيرا عن "الإجماع التقدمي" الذي تبلور في سورية منذ خمسين عاما، وشكل أرضية مشتركة لكل من الشيوعيين والبعثيين والناصريين. في الإجماع هذا بقايا انفتاح على وقائع عالم اليوم رغم تعفنه الاجتماعي وانحطاطه الفكري؛ وفي تقدميته عقلانية جزئية رغم فساد دعاتها واستسلامهم لمصالحهم الأنانية؛ وهم ليبراليون اجتماعيا رغم طغيانهم السياسي. الشكل الجهادي للمواجهة، بالمقابل، عدائي صراحة للحداثة ولعالم اليوم، قد لا يكون أنانيا إلا أنه غير عقلاني في المبدأ والجوهر، وهو استبدادي على الصعيد الاجتماعي والفكري، ومعاد للديمقراطية على الصعيد السياسي، وهو بعد طائفي بنيويا من وراء وهم أنه هو "الأمة". من شأن ذلك أن يدفع في سورية، البلد المتعدد الأديان والمذاهب، نحو مزيد من التفكك، ما قد يقوض الكيان الوطني ذاته. العراق قد يكون مجرد مثال باكر على مسار كهذا. وبعد سنوات من اليوم قد نرى إلى أيامنا هذه باعتبارها أيام تعايش موضوعي بين بقايا قوى الإجماع الإيديولوجي التقدمي وبين الجهادية الصاعدة، مع بقاء الطرفيين متعاديين ذاتيا. تبدو القوى الأولى كالمسرنمة وهي تفسح المجال للثانية. هذا ربما لأن تراجعها ينبع من غريزتها العميقة، من صميم عقيدة المواجهة التي تكونت حولها. فضمن "مستمر" المواجهة، تشكل القوى الجهادية امتدادا طبيعيا وأكثر شبابا لقوى الإجماع التقدمي الشائخة. وفي هذا المجال الخيار التقدمي فعلا هو الخيار المتسق ذاتيا والحائز على طاقة نقدية. المواجهة التي تعي ذاتها في إيديولوجية مواجهة خيار متسق و"نقدي"، بيد أنه يتجسد واقعيا في الجهاديين دون غيرهم. أما العمل على طي صفحة إيديولوجية المواجهة ونظامها وسياساتها فيجمع بين الاتساق والنقدية و...اللاواقعية. لعله لذلك يمكن أن يكون خيارا ثوريا.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في نقد الردح والردح الذاتي
-
حوار شخصي وصريح مع إسلامي سوري في شؤون الإسلام والحرية والعق
...
-
في النموذج الإخواني وتناقض الإسلامية المعاصرة
-
نحو إعادة هيكلة الدور الإقليمي لسورية
-
خواطر مرسلة في شأن السياسة والثقافة
-
في أن الليبرالية الاقتصادية سياسة الجيل البعثي الثالث
-
في أصول المشكلة الثقافية العربية وجوهرها
-
في أزمة الهيمنة ومصير العروبة في سورية
-
قضية محمد حجازي وحرية الاعتقاد الديني
-
صراع مطلق فصنع طوائف فتقسيم دول..
-
تأمل في شأن الحرية ونقد الدين
-
العلمانية أهم من أن تترك للعلمانويين!
-
العرب أمام المشكلة الغربية
-
سورية والدول العربية بين ما دون الدولة وما فوقها
-
-أمتان-: حكم ذاتي إسلامي في ظل دولة علمانية، أو العكس!
-
في أصل خراب الديمقراطية والوطنية في المشرق
-
تقييم ائتلاف -إعلان دمشق-
-
في شأن النقد والتضامن ودور المثقفين
-
هل نعرف الطائفية؟ تعقيب على ملف الآداب عن -الطائفية في الوطن
...
-
بعد قرن السياسة، أقرن للثقافة والدين في عالم العرب؟
المزيد.....
-
البرتغال تخطط لطرد نحو 18 ألف مهاجر غير شرعي من البلاد
-
-التحالف الدولي- يجري تدريبات ومناورات في محيط أكبر قواعده ب
...
-
استطلاع: ثلثا الألمان يعتبرون حزب -البديل من أجل ألمانيا- مت
...
-
الاحتلال يعتدي على فلسطينيات بأريحا والمستوطنون يصعّدون عدوا
...
-
قطر ترفض تصريحات -تحريضية- لمكتب نتنياهو حول دورها في الوساط
...
-
موقع عبري يكذّب رواية مكتب نتنياهو بخصوص إلغاء الزيارة إلى أ
...
-
فرقة -زيفربلات- الأوكرانية تغادر إلى سويسرا لتمثيل بلادها في
...
-
-كيماوي وتشوه أجنة-.. اتهام فلسطيني لإسرائيل بتكرار ممارسات
...
-
قطر ترد بقوة على نتنياهو بعد هجومه العنيف والمفاجىء على حكوم
...
-
موسكو تؤكد.. زيلينسكي إرهابي دولي
المزيد.....
-
الحرب الأهليةحرب على الدولة
/ محمد علي مقلد
-
خشب الجميز :مؤامرة الإمبريالية لتدمير سورية
/ احمد صالح سلوم
-
دونالد ترامب - النص الكامل
/ جيلاني الهمامي
-
حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 3/4
/ عبد الرحمان النوضة
-
فهم حضارة العالم المعاصر
/ د. لبيب سلطان
-
حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 1/3
/ عبد الرحمان النوضة
-
سلطة غير شرعية مواجهة تحديات عصرنا-
/ نعوم تشومسكي
-
العولمة المتوحشة
/ فلاح أمين الرهيمي
-
أمريكا وأوروبا: ملامح علاقات جديدة في عالم متحوّل (النص الكا
...
/ جيلاني الهمامي
-
قراءة جديدة للتاريخ المبكر للاسلام
/ شريف عبد الرزاق
المزيد.....
|