أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - ياسين الحاج صالح - في أصول المشكلة الثقافية العربية وجوهرها















المزيد.....

في أصول المشكلة الثقافية العربية وجوهرها


ياسين الحاج صالح

الحوار المتمدن-العدد: 2046 - 2007 / 9 / 22 - 10:37
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


1
تناولت مقالات سابقة لكاتب هذه السطور مشكلات ثلاثة كبرى للعرب المعاصرين: مشكلة الدولة، مشكلة الدين، والمشكلة الغربية. ولم يكن اختيار كلمة مشكلات بدل كلمة مسائل اعتباطيا أو مزاجيا. إن التمييز بين الكلمتين يضعنا في قلب مشكلة عربية رابعة هي المشكلة الثقافية. ولا نقصد بالمشكلة واقعا صعبا أو وضعا متعسرا يتعذر التحكم به. نقصد بالأحرى التقاء صعوبة واقعية مع تشوش فكرتنا عنها أو عجزنا عن تكوين صورة واضحة لها. نتحدث عن مشكلة الدولة لا لأننا نواجه صعوبة في التحكم بهذا الكائن المنفلت الذي اسمه الدولة، وإنما كذلك لأن إدراكنا لهذا الكائن مختلط ومضطرب وبلا نظام. مثل ذلك يصح على الدين. وعلى الغرب. تجدنا لذلك نتقلب بين موقفين أقصيين من هذه الكائنات/ القوى الثلاث، موقف الولاء والتعبد، وموقف العداء والإنكار. ويوحد الموقفين أرجحية العنصر الشعوري فيهما على العنصر العقلي، ما يشير إلى أننا منفعلون حيال تلك القوى، وغير قادرين على تنظيمها إدراكيا، ومن ثم ضبطها عمليا. ولما كنا ندرك الأشياء بالصور أو الأشكال الذهنية، فإن التشوش يعني أن تلك الكائنات/ القوى مختلة الشكل أو مشوهته أو لا شكل لها. هي مشكلات لذلك بالذات، يتعذر تكوين تصور منظم وواضح لها، وتكون مفاهيمنا عنها مضطربة وغير مجدية. لمفهوم المشكلة إذن مكونان: مكون واقعي يتمثل في وضع مربك يصعب التحكم به، ومكون عقلي يتمثل في تشوش صورته أو شكله في أذهاننا. وما نريد الخلوص إليه هو أن ما لا شكل له مشكلة، أما ما له شكل فمسألة، أي صعوبة عملية لكن دون مشكلة إدراكية (أو ثقافية). الدولة والدين والغرب مشكلات لأننا لا نعرف كيف نتعامل معها ولما نتمكن من ضبطها وتنظيم إدراكها، تحويلها من ثم إلى مسائل. ولو نجحنا في ذلك لكان حل هذه المسائل صار شأنا عمليا، أعني قضية جهد ووقت. في حالها اليوم هي لا تقبل الحل لأنها مشكلات، كائنات/قوى بلا شكل. من شأن العمل على حلها ربما أن يزيدها تعقيدا وفقدانا للشكل. فالمشكلات لا تقبل الحل، ما يقبل الحل هو المسائل.

2
توحي السطور السباقة بأنه يتعين أولا صوغ المشكلات في مسائل قبل التفكير في حلها. قد يبدو هذا الطرح صوريا أو شكليا. هو كذلك. الغرض منه التبسيط والتوضيح. في الحياة الواقعية نرجح أن صنع المسائل من المشكلات، وبلورة حلول عملية لها وجهان لعملية واحدة، عملية النهوض الثقافي أو التحضر. وهذه فاعلية تشكيلية وتنظيمية وتحويلية، نظهر قصورا شديدا عن حيازتها.
ونتكلم على مشكلة ثقافية عربية بالضبط لتوفير اسم جامع لتعثر عملية صنع الصور والتصورات المنظمة وصوغ المسائل الواضحة. مشكلاتنا الأخرى تتعقد وتزداد امتناعا على المعالجة لأن الثقافة، في وصفها فاعلية إنتاج الأشكال والصور والإدراك المنظم، التصورات والمفاهيم، معاقة أو ضامرة. نعم، لدينا ثقافة بالمعنى "الانثروبولوجي" للكلمة، أي تشكيلات من العلامات والقيم والرموز المعطاة تاريخيا، والتي تميزنا عن غيرنا، لكن لا تكاد تكون لدينا ثقافة بالمعنى المعياري للكلمة، أي ثقافة رفيعة المستوى، تتمتع بطاقة ابتكارية عالية للصور والأشكال والنظام. بالمعنى الأول الثقافة موجودة لدى جميع الشعوب مهما تكن بدائية، هي اختلاف محض، لكن الثقافة كحضارة وارتقاء وإبداع للأشكال ليست سمة إلا بعض الثقافات الحديثة، ثقافتنا ليست منها بكل أسف.

3
تبدو الثقافة كإنتاج للأشكال وتنظيم للمشكلات قريبة من تصور الفيلسوف الألماني كانط لـ"الحساسية المتعالية"، وبالخصوص اعتباره مقولات الزمان والمكان والسببية والنسبة...أشكالا يضفيها العقل على الظواهر فيتمكن من إدراكها وتنظيمها. بلغة أقل تجريدا وميتافيزيقية نفضل التكلم على الثقافة. الثقافة هي "الحساسية المتعالية" (على مداركنا الفردية) التي تشكل إدراكنا للعالم وظواهره. والمشكلات ليست أوضاعا واقعية حصل أن تجردت من الأشكال أو تشوهت أشكالها؛ إنها علامات قصور ثقافي لأن الثقافة هي وحدها ما تنتج الأشكال والصور، وتنظم المدارك. لذلك المسائل لا توجد في "الطبيعة"، توجد في الثقافة فقط. ما يوجد في الطبيعة هو قوى خام غير منظمة، مشكلات، كائنات لا شكل لها أو مشوهة الأشكال، أي بالضبط: أشباح، مسوخ، غيلان، جن وعفاريت. رأى ماكس فيبر أن الحداثة "نزعت السحر عن وجه العالم". أفقدته أسراره وأشباحه وغرابته... ولم تلبث بعد حين (نيتشه) أن أعلنت موت إلهه. وضعت "العالم" أمام التلسكوب أو تحت المجهر أو في زجاجات أو أنابيب اختبار..، وانكبت عليه تفحصه و"تقتله بحثا". ضبطته في أشكال وصور وأطر ومفاهيم و..قماقم. قيدته إلى درجة تتجاوز حلم أقوى السحرة، وحبسته في قماقم من شأن فتحها أن يدمر الأرض كلها، ما يتجاوز مخيلة ملوك الجان جميعا. وكانت عبارة "قانون علمي" تعكس مطمح العلم إلى تقييد العالم والسيطرة عليه.
في ثقافتنا لم تجر هذه العملية بصورة متسقة. لم يكتمل نزع سحر، ولا تم تقييد كائنات شبحية، ولم تمت آلهة. أكثر من ذلك يبدو أن تفتح الحداثة الغربية، ولأسباب سياسية وثقافية وتاريخية مستمرة (الغرب "آخرنا"..)، يقترن لدينا بحداثة مشوهة أو معاقة، لا هي قدامتنا "الأصيلة" ولا هي انخراط مسترخ في حداثة الغرب ولا هي مشاركة إيجابية في صنع حداثة عالمية متعددة الوجوه. هي حداثة مضطربة، لا شكل لها بدورها، مشكلة. ولعله لذلك ثقافتنا لا تنتج الأشكال، فلا تصوغ المسائل، فلا تبتكر الحلول.

4
هل مشكلتنا الدينية هي سبب مشكلتنا الثقافية؟ نميل إلى إجابة سلبية. منذ القرن التاسع عشر انخرطنا في نظام سياسي وحضاري عالمي يهيمن عليه الغرب، يحصل أن يسمى الحداثة أيضا. لم يبق منا شيء خارجها. لدينا مشكلة دينية بالتأكيد، لكن الدين لم يعد أوليا، شيئا يشبه ذاته فقط، لا يختلط بغيره أو يتفاعل مع غيره. الإسلام اليوم، ومهما يكن رأي الإسلاميين، نتاج الحداثة وتفاعلنا معها أكثر مما هو نتاج تاريخه الذاتي "الأصيل". وهو تاليا متأثر بتشوهنا الحضاري والثقافي أكثر مما هو سبب أولي له.
ويبدو الإسلام موطنا لكل ما هو لاحداثي في ثقافتنا لأن السحر الذي لم ينجل والأشباح التي لما تقيد وجيوش الجن التي لم تهزم.. وجدت فيها ملاذا. أكثر من الجميع اليوم، الإسلام ذاته فاقد شكله، مشكلة. فلا هو دين فحسب. ولا هو نظام أخلاقي، ولا هو هوية، ولا هو نظام دولة، ولا هو أمة، ولا حزب سياسي. إنه كل ذلك معا، يقول الإسلاميون. لكن هذا بالذات هو معنى أن لا شكل له. أشبه بجراب فيه كل شيء، فلم يعد له شكل منتظم. بلى، ليس الإسلام سبب مشكلتنا الثقافية، لكن كذلك لا يملك من الأشكال والصور ما يتيح تنظيمها ومن ثم حلها. هو ذاته بلا شكل، وتاليا مشكلة اليوم.

5
يبقى أن مقياس "أصالة" ثقافتنا، أو إبداعيتها، هو مشكلاتها لا مسائلها، شعورها المشوش لا عقلها المنظم، محسوسها الخام لا معقولها الصوري، أشباحها وغيلانها وعفاريتها المشاغبون لا ملائكتها المطيعون المنضبطون. قول هذا ضروري لأنه يحصل أن نستوفد مسائل أو أشكال جاهزة، دونما مرور بمشكلاتنا ودون صنع الأشكال التي تحولها إلى مسائل. والكلام على مشكلاتـ"نا" هنا لا يحيل إلى هوية، إلى "نحن" خفية متماثلة مع ذاتها من وراء تبدل الأزمنة، بل إلى أوضاع تاريخية مختلفة، واختلافها هو هويتها هي، وإنكار الاختلاف ينكر التاريخ أكثر مما ينكر "هويتنا".
المسائل تتنقل من ثقافة إلى أخرى، ومن عصر إلى آخر من عصور الثقافة نفسها، أما المشكلات فلا تنتقل. ولا ينتقل بالخصوص صنع الأشكال، فاعلية إنتاج التصورات والمفاهيم.



#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في أزمة الهيمنة ومصير العروبة في سورية
- قضية محمد حجازي وحرية الاعتقاد الديني
- صراع مطلق فصنع طوائف فتقسيم دول..
- تأمل في شأن الحرية ونقد الدين
- العلمانية أهم من أن تترك للعلمانويين!
- العرب أمام المشكلة الغربية
- سورية والدول العربية بين ما دون الدولة وما فوقها
- -أمتان-: حكم ذاتي إسلامي في ظل دولة علمانية، أو العكس!
- في أصل خراب الديمقراطية والوطنية في المشرق
- تقييم ائتلاف -إعلان دمشق-
- في شأن النقد والتضامن ودور المثقفين
- هل نعرف الطائفية؟ تعقيب على ملف الآداب عن -الطائفية في الوطن ...
- بعد قرن السياسة، أقرن للثقافة والدين في عالم العرب؟
- علمانيون، ديمقراطيون، وإسلاميون؛ لكن أين الأمة؟!
- أفكار في شأن العنف والهيمنة والمعرفة
- تصور أولي للمشكلة الدينية والإصلاح الديني
- أيام مشكلة الدولة ولياليها في المشرق العربي
- -أمة وسط- في المشرق؟!
- هل العلمانية ممكنة في بلد واحد؟
- تراجع السياسة الوطنية وصعود السياسة الأهلية


المزيد.....




- إعلان مفاجئ لجمهور محمد عبده .. -حرصًا على سلامته-
- -علينا الانتقال من الكلام إلى الأفعال-.. وزير خارجية السعودي ...
- عباس: واشنطن وحدها القادرة على منع أكبر كارثة في تاريخ الشعب ...
- شاهد.. الفرنسيون يمزقون علم -الناتو- والاتحاد الأوروبي ويدعو ...
- غزة.. مقابر جماعية وسرقة أعضاء بشرية
- زاخاروفا تعلق على منشورات السفيرة الأمريكية حول الكاتب بولغا ...
- مسؤول إسرائيلي: الاستعدادات لعملية رفح مستمرة ولن نتنازل عن ...
- وزير سعودي: هجمات الحوثيين لا تشكل تهديدا لمنتجعات المملكة ع ...
- استطلاع: ترامب يحظى بدعم الناخبين أكثر من بايدن
- نجل ملك البحرين يثير تفاعلا بحديثه عن دراسته في كلية -ساندهي ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - ياسين الحاج صالح - في أصول المشكلة الثقافية العربية وجوهرها