أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - ياسين الحاج صالح - هل نعرف الطائفية؟ تعقيب على ملف الآداب عن -الطائفية في الوطن العربي-















المزيد.....

هل نعرف الطائفية؟ تعقيب على ملف الآداب عن -الطائفية في الوطن العربي-


ياسين الحاج صالح

الحوار المتمدن-العدد: 2002 - 2007 / 8 / 9 - 08:56
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


لم يخطر ببالنا، سماح إدريس وأنا، أن أربعة أعداد من "الآداب" ستلزم لنشر الملف عن "الطائفية في الوطن العربي". ولا ريب أنه لو تسنى لنا الحصول على مواد تتناول المشكلات الطائفية المحتملة في بلاد عربية أخرا، كالسعودية والبحرين، وربما الكويت والإمارات واليمن ..، للزمنا عددان آخران من المجلة بعد أن كنا ظننا أن الملف بكامله سينشر في عددين فقط، وفقا لما ورد في تقديم العدد الأول الذي كان الأخير من عام 2006.
أول تقصير نسجله على الملف الذي أردنا أن يوفر أفقا مقارنا لمقاربات الطائفية في بلداننا هو، إذن، أنه يقتصر على سورية ولبنان والعراق ومصر والسودان. وهو بعد لا يوفر "تمثيلا عادلا" لهذه البلدان العربية. حظي لبنان وسورية بتمثيل كبير، تلاهما العراق ومصر، فيما حصلنا على مقالة واحدة عن السودان.
فهل كان إنجاز ملفنا أفضل في الرهان الثاني كما صاغته مقدمة العدد الأول، أي تحويل مشكلات الطائفية إلى أسئلة عقلانية عن الحياة السياسية والدينية والثقافية في مجتمعاتنا؟
وهل أمكن لنا أن نقترح نموذجا نظريا أو بعض الأدوات النظرية لمقاربة مشكلات الطائفية؟ كذلك أن نطور تصورا لحلول عملية لها؟ سيكون من الباهظ أن نطالب 26 مقالة، ما قد يعادل كتابا متوسط الحجم، أن تقدم مسحا للطائفية في البلاد العربية والتصورات النظرية الكافية والحلول العملية الشافية لمشكلات الطائفية الشائكة والمتأججة اليوم. ونحسب أن من المتعذر قبل أن يهدأ السعير الطائفي المحتدم اليوم في الوقائع وفي النفوس، في السياسة والثقافة، وفي المجتمعات والدول، أن نتمكن من مقاربته بشيء من الاتزان والسداد.
على أن الإنصاف يقتضي أن نلفت انتباه القراء والمهتمين إلى ما نظنها عناصر مهمة في تفكير الطائفية، أو علامات دالة على الأحوال الطائفية في سياستنا وثقافتنا. وإذ يتعذر كل التعذر تلخيص الملف ككل أو الإشارة إلى جميع المقالات فسيهتم هذا التعقيب بإبراز بعض الأفكار ومناقشة بعض المساهمات، وهو يجازف بذلك أن يكون ذاتيا في توزيع اهتمامه.

نقاش عراقي حول الطائفية
سأبدأ بمقالة من العدد الأخير الذي صدر في مطلع شهر حزيران الفائت، ولم يحظ بالتداول في سورية،
مقالة "طائفية أم عنصرية؟" للأستاذ محمود سعيد، الذي عرفته "الآداب" بأنه "كاتب وروائي عراقي مقيم في الولايات المتحدة". وستلزمني مقالته بالعودة إلى مقالة فالح عبد الجبار التي ينتقدها سعيد، وكانت نشرت في العدد الأول من الملف.
يأخذ سعيد على المساهمين في الملف أن "مفهوم الطائفية عندهم [ما زال] غير متفق عليه، متشابكا، غير واضح". والحال إن مفاهيم العلوم الاجتماعية والإنسانية قلما تكون متفقا عليها وواضحة وبريئة من التشابك. وهي أعصى بعد على الاتفاق في مجال جيوسياسي وثقافي يضطرم بعنف كمنطقتنا "المشرقية" أو "الشرق أوسطية". كان غرض الملف تنشيط التفكير في المشكلات الطائفية. ولا وهم لدينا البتة، وقت فكرنا في الملقف أو اليوم، في أن ملفات "الآداب" قد تغني عن دراسة الطائفية "دراسة علمية عقلانية" في كل بلد عربي على حدة كما يرغب الأستاذ سعيد.
على أن السؤال الأهم الذي تثيره مقالة الروائي العراقي يتصل بما إذا كنا قادرين، في مجتمعات بلا مرجعية وطنية، على مقاربة مشكلاتنا بشيء من التجرد والموضوعية. وبعبارة أخرى، ألا يحتمل ونحن ندرس الطائفية أن ننحرف تحت وطأة انحيازاتنا وانتماءاتنا وأهواؤنا عن الموضوعية ونحو الطائفية؟ ما الذي يضمن أن تناولي للطائفية بريء من الطائفية، وأني لا أسخر "العلم" للنيل من طائفة أو دين وإعلاء شان طائفة أو دين آخر؟ وهذا تساؤل راهن جدا في العراق بالنظر إلى عمق الانقسام العراقي وافتقار العراقيين إلى إطار فكري أو سياسي للإجماع الوطني. لكنه ليس أقل راهنية بكثير في بلدان مثل سورية ولبنان وغيرهما.
سعيد غاضب، ومرير. اتهامي أحيانا. يرى أن مقالة عبد الجبار تقدم صورة أحادية الجانب عما يجري في العراق، صورة تهمل دور الاحتلال الأميركي وإيران بينما تغلب دور نظام صدام السابق. لن ندخل في التفاصيل، لكن من الواضح أننا حيال نقاش نموذجي، تجنح التمايزات الدينية والمذهبية فيه إلى التحجب وراء خلافات فكرية وسياسية، أو تتخثر التمايزات السياسية والفكرية فيه في تكوينات ثابتة وشبه طائفية. والحال، إذا كانت الطائفية شيئا حقيرا فبالضبط لأنها تفسد النقاش العام، فوق إفسادها للسياسة والدولة. فهل يمكن في مثل هذه الأحوال السياسية والثقافية والنفسية القائمة تقديم قول علمي عن الطائفية؟ أو قول وطني؟ سنقول لاحقا إن هذا ممكن، لكن ليس دون احتياطات فكرية وأخلاقية وسياسية كبيرة.
كان الأستاذ عبد الجبار في مقالته المعنونة "أديان ومذاهب وطوائف" قد رصد مشكلة في "التقاطع بين الوطني (العراقي) والقومي (العربي)" في العراق، ورأى أن توحيد العراق على "الأساس العروبي [وهو ما وقع فعلا بين عامي 1968 و2003] يعني إقصاء ربع سكانه". وأن العراق "دولة إقليمية [شكلها الانكليز] تبحث عن دولة، لا أمة (جماعة قومية) تبحث عن دولة". ويقدم عناصر سوسيولوجية وتاريخية مفيدة للتفكير في الشأن الطائفي في العراق، إلا أنه يوحي في غير موقع أنه يخوض معركة إيديولوجية. مثلا حين يقرر مثلا أن "الفكاك من الاحتلال" يتطلب "استقرارا وبناء مؤسسات"؛ أو حين يكتب: "لن تزول الانقسامات الطائفية – فهي اختلافات ثقافية ذات بعد تاريخي مديد. لكن ما يمكن أن يزول هو تسييس الإسلاميين والمتعصبين لهذه الاختلافات". "الإسلاميين والمتعصبين" وحدهم؟ أليس في هذا تبسيطا مفرطا للمشكلة؟

اختلاف مفهوم الطائفية في السودان
يبدو أن تعبير الطائفية يحوز دلالة مختلفة في السودان عما في البلدان المشرقية. يقول سعيد عكاشة الذي كتب مقالة عن "طبيعة الطائفية في السودان ومستقبلها" في العدد الأخير من الملف إن "الطائفية في السودان عنت تاريخيا شيئا أشبه بالطرق الصوفية، ولكنها تمتعت بتنظيم أكثر إحكاما". وينسب لها دورا إيجابيا "في بناء هوية جماعية في مواجهة الانقسامات القبلية، وفي مواجهة التدخلات الأجنبية قبل قيام الدولة الحديثة". وأبرز الأمثلة التي يسوقها على "الطوائف" السودانية طائفتا الأنصار (المهدية) والختمية (الميرغينة)، وإن كنا لا نعرف إن كان ثمة غيرهما. وبعد استقلال السودان تشكل لكل تينك الطائفتين حزب سياسي، "الأمة" للأنصار و"الاتحادي" للختمية. ورغم أن هذا ليس هو المفهوم المشرقي للطائفية إلا أنه يوفر أفقا مقارنا مفيدا. وكان من شأن مواد أخرى عن السودان ونزاعاته، الشمال والجنوب، مشكلة دارفور، أن يضيء أوضاع السودان، وربما أن يتيح لنا فهما أفضل للصراعات الطائفية.

مقاربة غير معيارية
وفي مقالة بعنوان "فهم الطائفية" في العدد الثاني من الملف بين الأستاذ أسامة المقدسي أنه في "السياق الاجتماعي لجبل لبنان [منتصف القرن 19]، سمحت الطائفية لغير النخب بالانخراط في السياسة إلى درجة غير مسبوقة، تحديدا لأن السياسة كانت تُعَرّف على أسس جماعوية لا أسس نخبوية بشكل حصري". ويضيف: "مثلت الطائفية تغيرا عميقا أيضا: إذ لم تعد الدولة ذات أغلبية واحدة وأقليات عدة، تعرف جميعها بمصطلحات دينية حصرية، بل باتت سلسلة من المنجمعات الدينية المتعامدة [المتبادلة الاعتماد] التي منح أفرادها مكانة اجتماعية وسياسية متساوية أمام القانون". هذا مهم، لأنه يكسر المقاربة المعيارية للطائفية التي تجعل الاشمئزاز من الطائفية بديلا عن فهمها، لمصلحة مقاربة تاريخية وموضوعية تتبدى لها الطائفية شكلا لتدخل قطاعات أوسع من الجمهور ميدان السياسة، ما أدى، وإن بغير قصد، إلى "دقرطة السياسة، إذ اندفع أفراد من خارج النخب إلى واجهة التحركات الطائفية التي غالبا ما انتهكت، بدورها، حدود التراتبات التقليدية". ولا يترد مقدسي في تسمية ذلك "الثورة الطائفية". على أنه ينبغي القول إن مؤلف كتاب "ثقافة الطائفية..." لا ينقصه العداء للطائفية. فهو يرى أن "الثورة الطائفية" في لبنان "كرست الجماعات الطائفية أساسا للتمثيل السياسي الحديث"، من ثم جعلت الطائفية حقيقة ملموسة و"أبطلت إمكانية أية نزعة مواطنية علمانية عليا وجامعة". ولذلك فهو يحث على "إدراك التركيب التاريخي والاجتماعي والسياسي المعقد للطائفية" وإلا فإن "النقد العلماني لها لن يعدو أن يكون مجرد صخب وغضب ساخطين، وسيكون عاجزا وتائها عن الهدف الصحيح، وسيعجز عن إدراك حدة الولاءات والكراهيات الطائفية وتفاقمها".
وكانت مقالة كاتب السطور، "صناعة الطوائف، أو الطائفية بوصفها استراتيجية سيطرة سياسية" (العدد الثاني من الملف) قد اهتمت بهذا البعد "الجمهوري" للطائفية في لحظات تاريخية بعينها، تضمن الطائفية فيها تنشيط جمهور خامل وتمنحه شعورا بالوحدة والمساواة والأخوة. وكان في بالي موارنة لبنان في القرن التاسع عشر استنادا إلى كتاب أسامة المقدسي ذاته (للأسف سقطت الإحالات المرجعية من مقالي، وبينها إحالة إلى كتاب مقدسي) وتحولات تشبهها أو تذكر بها في سورية في النصف الثاني من القرن العشرين.

ونقاش سوري ...
الأستاذ لؤي حسين يعتقد أن "المسألة الطائفية فصل من المسألة الدينية"، لكن نقاشه يتمحور حول مسائل سياسية حصرا. وأساس نقاش حسين هو الرد على قول القائلين بطائفية النظام الحاكم، معتبرا أن ذلك "مغالطة معرفية وسياسية". لكن حسين لا يلبث أن يتهم بالطائفية النظام الذي قد يتلو هذا حين يصف بأنه غير صحيح القول إن "سيطرة "الجماعات الكبيرة" على الحكم لن تجعل منه نظاما طائفيا". ويضيف مفارقة ثالثة حين يذكر بالحرف "القلق" و"التخوف" و"انعدام الثقة" عند العلويين حيال الإخوان المسلمين، ثم لا يلبث أن يرفض وصف ذلك بأنه "أزمة ثقة". وكان كاتب هذه السطور قد استخدم تعبير "أزمة الثقة الوطنية" في غير مقالة وبحث له، للتعبير عن علاقات قلقة موسومة بالقلق والتخوف وانعدام الثقة بين جماعات دينية ومذهبية وإثنية سورية. ودون أن ينسب العبارة لأحد، ولا أعرف أحدا استخدمها غيري، يقول حسين: "وعبارة أزمة الثقة تشكل الآن أحد المحمولات الطائفية في الخطاب السياسي السوري المعارض"، وبرهانه على ذلك أنها "تحمل في أحد أوجهها تعبيرا عن خلل المحاصصة الطائفية في السلطة". وهنا نجد سمة أخرى لمقاربة حسين: إن منقوديه بلا ملامح، لا يقتبس نصوصهم، ولا يذكر أسماءهم، ولا يعرّف مواقفهم بغير أنها "معارضة"، مكتفيا بما انطبع في ذهنه منها، ومتأولا إياها على هواه. يقول مثلا إن "البعض اقترح حلا "ديمقراطيا" لأزمة الثقة عبر طريق "المصالحة الوطنية" التي عنى بها [أي "البعض"] إعادة التوزيع الطائفي للسلطة بشكل عادل بعد أن كان – بحسب ادعائه ["البعض" أيضا]- مجحفا بحق بعض الطوائف". من هذا "البعض" الضال؟ أين ورد ذلك؟ ولماذا لا بد لمفهوم المصالحة الوطنية أن يعني "إعادة التوزيع الطائفي"، بينما هو مطروح في بلدان شهدت كوارث وطنية أقل مما شهده بلدنا كالمغرب وتونس. وينكر حسين "الحل التوافقي" دون أن يكون واضحا من يتبنى هذا الحل، وما إذا كان المتبنون المفترضون له يقصدون به "تقاسم السلطة على أساس طائفي" حسب شرحه له. ويضع بين قوسين ما قد يكون وصفا أطلقه "البعض" نفسه أو "بعض" منه على "إحصاء قامت به السلطة" للطوائف (الأرجح أنها لم تقم، وان الأمر يتعلق بتسريب من جهات ما، لها أغراضها) بأنه "غير علمي وغير نزيه"، لكنه يبقى أمينا لمبدئه في إرسال الكلام كيفيا وعدم نسبة حتى هذا الكلام الموضوع بين قوسين لأي كان. هنا أيضا كان كاتب هذه السطور تناول الإحصاء المومأ إليه من وجهة نظر علاقات المعرفة والسلطة، أو توسل "العلم" في خدمة ألعاب سياسية خطيرة.
والحال، كيف يستقيم الكلام المرسل والانطباعي في نقاش حول الطائفية؟ وإذا كنا نعتبر أن هناك مشكلة طائفية، وواضح أن حسين لا ينكر ذلك، فكيف لا تكون ممارسة نقاشية بلا ضوابط كهذه جزء من المشكلة؟ وما الذي يمنع خصما لحسين من أن يصور موقفه بهذه الطريقة "الحرة"؟ وأية سوية للنقاش الوطني حول مشكلة خطيرة كهذه أن تركت للانطباعات والأحكام الذاتية المتضاربة؟ وهل من شأن مقاربة يسمها غياب التوثق والانضباط أن تضعف الوعي والممارسة الطائفيين أم تسندهما؟
ويبدو لنا أن الخلل الأساسي في مقالة حسين (العدد الرابع من الملف) هو افتقاره للانضباط النفسي والفكري الذي يأمله المرء من مقاربة المشكلات الاجتماعية المعقدة. لعله لذلك بقيت مقاربته مشاعرية، موصولة بتفضيلاته وانحيازاته وتخوفاته وهواجسه، المشروعة مثل غيرها، لكن التي تجازف بأن تكون عرضا للمشكلة وليس علاجا لها.
يلفت عنوان مقالة موفق نيربية إلى أن الطائفية مشكلة معرفية وليست مشكلة سياسية فحسب. معرفتنا للطائفية قد تكون طائفية هي ذاتها. هذا يعني أننا نحتاج إلى مقدمات معرفية، تضاف إلى مقدمات سياسية وأخلاقية، كي نتجنب الأفخاخ التي تنصبها الطائفية لوعينا وتفاعلنا الاجتماعي وحياتنا السياسية الوطنية. هذا ليس مبنيا على مقالة نيربية التي لم تتوسع كثيرا في البعد المعرفي للمشكلة الطائفية. إنه مؤسس على تصور أن الطائفية مشكلة عامة، وأنه لا يمكن أن نقول عنها كلاما علميا ووطنيا إلا إذا كنا متحررين منها، وهذا مطلب بالغ الصعوبة لكونها شرطا عاما كما قلنا. لا مجال للتوسع في هذا الشأن، حسبنا القول إن الاعتقاد بأن يمكن مقاربة الطائفية دون مقدمات معرفية وأخلاقية وسياسية قد يكون مسلكا طائشا ربما يسهم في تغذيتها وتثبيتها. ولعل الملف كان مفتقرا إلى مقالة أو أكثر تهتم بالبعد المعرفي لدراسة الطائفية، بالتحديد كيف يمكن أن تكون مقاربة الطائفية علمية في مجتمعات موبوءة بها؟ دون ذلك تبقى مقاربة الطائفية أسيرة منطق الاتهام والتبرؤ، المنطلق الطائفي ذاته.

الطائفية سوق سوداء للسياسة
يسوق الأستاذ برهان غليون أطروحة مركبة تفيد بأن "الطائفية تنتمي إلى ميدان السياسة لا إلى مجال الدين والعقيدة، وبأنها تشكل سوقا موازية (سوداء) للسياسة أكثر مما تعكس إرادة تعميم قيم أو مبادئ أو مذاهب دينية لجماعة خاصة". ويقيم غليون أطروحته الرئيسية هذه على أربعة افتراضات. أولاها أن "الطائفية لا علاقة لها بتعدد الطوائف أو الديانات". الثانية أن الطائفية مواكبة لنشوء الدولة الحديثة التي تفترض المساواة وتعتبر "استخدام التضامن الطائفي أو الإثني داخل الدولة خروجا على قانون الوطنية". والثالثة أن الطائفية استراتيجية سياسية لا علاقة لها بالتضامن الديني بل هي "النموذج الأوضح لاستخدام الدين والعصبية القرابية في السياسة". والفرضية الرابعة تربط بين الطائفية وخطط "النخب الاجتماعية المتنافسة في حقل السياسة ومن اجل السيطرة واكتساب المواقع". ويقترح غليون عنصرا تفسيريا للطائفية يتمثل في افتقار نخب السلطة في الدول الحديثة العربية وغير العربية إلى "النضج السياسي ونقص تمثلها لفكرة الدولة ومفهوم السياسة المرتبطة بها". والعنصر الأساسي الذي ينبني عليه مقاله : "نقد مفهوم الطائفية" يتمثل في "نقل منطق المجتمع التضامني الأهلي إلى ميدان الدولة"، وتاليا "إحلال العرف وعاطفة القرابة (..) محل منظومة الحق والقانون والتضامن الوطني العام والعلاقات المؤسسية".
ومعلوم أن مساهمات غليون هي من بين الأكثر تقدما في مقاربة الطائفية عربيا. لكن يبدو لنا أنه كان يمكن للاستفادة منها أن تكون أكبر لو كانت مصاغة في صورة أكثر تنظيما، يقرن الخصوبة وفيض القريحة المميزان لعمل غليون مع عرض أكثر "مدرسية" أكثر تقنينا.

الطائفية والريع
ومن أبرز الأطروحات في الملف ما ورد في مقالة الأستاذ زياد حافظ المعنونة "الفئوية واقتصاد الريع والفساد" من ربط بين الطائفية الاقتصاد الريعي. بيد أن حافظ يقيم نوعا من التوازي بين الريعية والطائفية دون أن يوضح الصلة بينهما. هذا أمر يستحق الإضاءة لا التقرير والبرهنة لا التوازي. هل يمكن مثلا الكلام على شرعية ريعية تقوم على الولاء والمحاسيبية تمييزا عن شرعية "إنتاجية" تقوم على المواطنة؟ وهل التحول نحو اقتصاد إنتاجي يقود بالضرورة إلى زوال الطائفية وقيام نظام المواطنة؟ وكيف؟
أما الحل الذي يقترحه حافظ لمشكلة "النظم الفئوية المرتبطة بالخارج" فهو "المشروع العربي النهضوي بأبعاده الستة"، الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والوحدة العربية والاستقلال والتنمية المستقلة والأصالة الحضارية. أليست هذه طوبى؟ لا أعنى رؤية جاذبة ومنشطة، بل رهن حل مشكلاتنا بمشروع كلي. ألا يمكن تحقيق تقدم على أحد المستويات إلا مقترنا بغيره؟ يخشى المرء أن حلولا إيديولوجية كهذه ترك المشكلات القائمة على حالها.

أنا مش طائفي، بس..
ننوه في الختام برسوم الكاريكاتير للفنان حاتم الإمام. لقد وضع الإمام يده على منطق الإنكار الذي يتحكم بالوعي الطائفي: أنا مش طائفي، لكن... القضية التي تتلو الاستدراك، مثلا "الأرثوذكس هن الوحيدين اللي مش طائفيين"، أو "بس ما بتجوز إلا من طائفتي".. إلخ، تفيد أني لست إلا طائفيا. فمنطق الوعي الطائفي يقوم على أنا مش طائفي، لكني في واقع الأمر طائفي؛ أو إني لست طائفيا، لكني أمارس وأفكر وأعيش طائفيا. إنكار الطائفية وإثباتها في جملة واحدة حال شائعة في كل مكان من ربوعنا. وغالبا ما نحاول التغلب على هذا التناقض الذي لا يخفى على أي منا باللجوء إلى الاتهام: "بس ليش هن بيجيبوا أولاد كتير"؟ "بس الإسلام ما بينطاقوا". وخلاصة منطق الإنكار، أو نواته البسيطة: "أنا مش طائفي...هني الطائفيين"؛ نقولها باحتدام وبملء الاقتناع الذاتي، كما يصور غلاف العدد الأول من الملف.



#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بعد قرن السياسة، أقرن للثقافة والدين في عالم العرب؟
- علمانيون، ديمقراطيون، وإسلاميون؛ لكن أين الأمة؟!
- أفكار في شأن العنف والهيمنة والمعرفة
- تصور أولي للمشكلة الدينية والإصلاح الديني
- أيام مشكلة الدولة ولياليها في المشرق العربي
- -أمة وسط- في المشرق؟!
- هل العلمانية ممكنة في بلد واحد؟
- تراجع السياسة الوطنية وصعود السياسة الأهلية
- تحقيب تاريخي بلا تاريخ: تعقيب على تعقيب بكر صدقي
- في شأن مشكلات العرب الواقعية ومشكلتهم الثقافية
- الإصلاح السياسي وإعادة بناء الهوية الوطنية في سورية
- بصدد بعض الأصول الأخلاقية لعنفنا..
- نظرات أولى في أطوار التاريخ السياسي الإيديولوجي المشرقي المع ...
- أية أكثرية جديدة لحل المشكلات الطائفية؟
- حين تكون المذابح أداة سياسية.. السياسة تموت!
- في نقد العلمانية والديمقراطية أو مشكلتا الدين والدولة
- في عقلانية الدول وغبائها المرشح، في أغلب الظن، أن يستمر طويل ...
- أية دولة تقتضي العلمانية فصلها عن الدين؟
- هزيمة حزيران: من حدث تاريخي إلى شرط ثقافي
- في شأن الطائفية والدولة والمثقف: تعقيب على موريس عايق


المزيد.....




- نيابة مصر تكشف تفاصيل -صادمة-عن قضية -طفل شبرا-: -نقل عملية ...
- شاهد: القبض على أهم شبكة تزوير عملات معدنية في إسبانيا
- دول -بريكس- تبحث الوضع في غزة وضرورة وقف إطلاق النار
- نيويورك تايمز: الولايات المتحدة تسحب العشرات من قواتها الخاص ...
- اليونان: لن نسلم -باتريوت- و-إس 300- لأوكرانيا
- رئيس أركان الجيش الجزائري: القوة العسكرية ستبقى الخيار الرئي ...
- الجيش الإسرائيلي: حدث صعب في الشمال.. وحزب الله يعلن إيقاع ق ...
- شاهد.. باريس تفقد أحد رموزها الأسطورية إثر حادث ليلي
- ماكرون يحذر.. أوروبا قد تموت ويجب ألا تكون تابعة لواشنطن
- وزن كل منها 340 طنا.. -روساتوم- ترسل 3 مولدات بخار لمحطة -أك ...


المزيد.....

- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح
- حزب العمل الشيوعي في سوريا: تاريخ سياسي حافل (1 من 2) / جوزيف ضاهر
- بوصلة الصراع في سورية السلطة- الشارع- المعارضة القسم الأول / محمد شيخ أحمد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - ياسين الحاج صالح - هل نعرف الطائفية؟ تعقيب على ملف الآداب عن -الطائفية في الوطن العربي-