أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الارهاب, الحرب والسلام - ياسين الحاج صالح - بصدد بعض الأصول الأخلاقية لعنفنا..















المزيد.....

بصدد بعض الأصول الأخلاقية لعنفنا..


ياسين الحاج صالح

الحوار المتمدن-العدد: 1964 - 2007 / 7 / 2 - 10:43
المحور: الارهاب, الحرب والسلام
    


قد تكون أبرز خصائص العنف المزدهر في مجالنا العربي الإسلامي خصيصته الأخلاقية. إنه قبل كل شيء عنف أخلاقي، يمارس كواجب باسم مبدأ أو عقيدة، ويقتحم أهلوه المخاطر بجسارة لنصرة قضية أو هدف، ولا يترددون في بذل الروح في مواجهة عدو. كيف يحصل إذن أن تفانيا قل نظيره في عالم اليوم، وشجاعات لا مراء فيها، تقترن بتفكك مجتمعات العرب والمسلمين وتدهور أحوالهم السياسية والأخلاقية في كل مكان؟ ولماذا يفضي المزيد من التضحية إلى المزيد من الانحطاط المادي والمعنوي والسياسي في مجالنا الثقافي السياسي؟ يبدو لنا أن أكثر من نصف الإجابة يتمثل في نوعية الأخلاقية الموجهة للعمل العام على أوسع نطاق في بلادنا، وليس فقط في أوساط الإسلاميين والقوميين.
نستعير من ماكس فيبر تمييزا أساسيا بين أخلاق الاعتقاد وأخلاق المسؤولية، ربما يسهم في تفسير تلك المفارقة وإضاءة أحوالنا الثقافية والنفسية. وسنقول إنه تشيع في أوساطنا السياسية والدينية والإيديولوجية أخلاقية الاعتقاد، بينما تغيب تماما أخلاقية المسؤولية. فليسوا قلة في عالمنا العربي أولئك المستعدون للموت في سبيل أفكارهم، ولعلهم اليوم أكثر من أي وقت مضى. ولم يكن ضئيلا عدد الإسلاميين واليساريين الذي تحملوا تعذيبا وحشيا دفاعا عن قناعاتهم ومن أجل حماية إخوانهم ورفاقهم. وفكرتنا للبطولة تتصل بالاستعداد للفداء وبتحمل الأهوال في سبيل العقيدة أو المبدأ أو القضية. وهذا جوهر أخلاقية الاعتقاد التي تجد تربة خصبة في ثقافتنا. قد يتبدل السند الاعتقادي من القومية إلى الشيوعية إلى الإسلامية، لكن الأخلاقية تبقى ذاتها وتحتفي بالقيم ذاتها: التفاني والفداء والتضحية والبطولة، في مواجهة "عدو" لا بد من القضاء عليه.
قد تحث أخلاقية الاعتقاد على البذل والقيام بجلائل الأعمال، بيد أنها كذلك أخلاقية أنانية وعصبوية وطائفية، متمركزة حول حزبنا "العظيم" وأمتنا "الخالدة" وعقيدتنا "السامية" وجماعتنا الرفيعة، في مواجهة أحزابهم الفاسدة ودولهم المنحطة وعقائدهم الكافرة أو الشريرة وشراذمهم السافلة.. وهي لا تضمن الالتزام تجاه الآخرين، من غير حزبنا أو طائفتنا أو ديننا..، ولو من أبناء بلدنا. فالواجب الاعتقادي لا يوافق الواجب الوطني إلا حين تكون الجماعة الوطنية مطابقة للجماعة الاعتقادية، وهذا نادر في مجتمعاتنا المركبة والمتعددة الأديان والمذاهب والإيديولوجيات. وأخلاقية الاعتقاد تصادر على التطابق بين "الجماعة" والأخلاق، فترفع الحماية الأخلاقية عن كل من هو من غير "جماعتنا"، أي ديننا وطائفتنا وحزبنا إلخ.
بالمقابل تبدو أخلاقية المسؤولية، أي التفكير في نتائج أفعالنا وانعكاساتها المحتملة على من قد يتأثرون بها، ووجوب أخذ موافقتهم عليها إن كان مرجحا أن يتأثرون بها، واعتبار ذلك شرطا لسلامة الأفعال، يبدو خارج أفق تفكيرنا وحساسيتنا الأخلاقيين. وهي الأخلاقية الأنسب للعمل العام في الدولة الحديثة، الدولة التي طردت الحرب إلى خارجها، وأقامت نظامها الداخلي على الثقة والقانون.
البطل في أخلاقية الاعتقاد هو من يموت من أجل القضية، لكن هو من قد يقتل من أجل القضية أيضا. أما "بطل" أخلاقية المسؤولية فهو من قد ينتحر لأنه لم يقم بواجبه، أو لأنه ترتبت على قراراته أضرار على مواطنيه (ليس ثمة أخلاقية مسؤولية عالمية بعد إلا على نطاق ضيق، الدول تستهدي بأخلاقية الاعتقاد في مجال العلاقات الدولية). الاستقالة من المنصب والانتحار تعبيران عن رسوخ أخلاقية المسؤولية، وندرة المستقيلين والمنتحرين من "المسؤولين" في بلداننا، رغم ما عانته من كوارث وهزائم، تصلح مقياسا على غياب مبدأ المسؤولية ذاته.
والفارق الأهم بين أخلاق الاعتقاد وأخلاق المسؤولية أن الضمير ليس مستقلا في الأولى، إنه تابع للعقيدة ومثلها ومبادئها، فيما يقوم استقلاله في الثانية على استبطان فكرة الواجب وعموميته الكونية. بعبارة أخرى، ضمير المعتقد عقيدته، فيما للمسؤول ضمير ذاتي.
تحتفي أخلاق الاعتقاد لدينا بأربعة أدوار اجتماعية مكرسة ثقافيا: البطل والشهيد والضحية والخائن. ندافع عن مبدئنا، فننتصر، فنغدو أبطالا؛ أو نخفق، فنحن ضحايا الأعداء أو الظروف؛ أو نموت، فنحظى بالشهادة؛ أو نجبن، فنكون متخاذلين وخونة. أما في أخلاقية المسؤولية فننجح في القيام بواجبنا فننال الاحترام، أو نخفق فنتحمل اللوم.
ونميل إلى أن هيمنة أخلاقية الاعتقاد في حياتنا الثقافية والسياسية تعود إلى كون بنى السياسة والسلطة في بلداننا ومنطقتنا صراعية وتنازعية، تقوم على العداوة والمواجهة والحرب. والحرب تقوم تفضيليا على أخلاقية الاعتقاد، بالخصوص في ظل اختلال موازين القوى لمصلحة دكتاتوريات داخلية وإقليمية وحشية. في مثل هذه الشروط تبقى البطولة والتضحية شيئا مرغوبا.
بعبارة أخرى، تلتقي شروط واقعية تختزن كثيرا من العنف مع استعدادات ثقافية ذاتية لتدعيم أخلاقية الاعتقاد وإضعاف أخلاقية المسؤولية. وإذا هي تعلي من الرد على العنف بالعنف، أو مقاومة الجور بالعنف، فإن أخلاقية الاعتقاد لا تصلح أساسا لرفض العنف وإدانته. كما لا يمكن أن يتأسس عليها قرار ثقافي، ولا نقول قرارا سياسيا أو محض إجرائي، بالتوقف عن العنف. وهو ما يعني أنها تسهم في إغلاق دائرة خبيثة من الأوضاع الجائرة ومن ردود الأفعال الثأرية والعنفية ومن الأخلاقية التي تضفى عليها قيمة سامية.
هذه الدائرة يتعين كسرها. لسبب عملي أولا: ففي شروط التاريخ المعاصر، وبالتحديد تفوق الغرب وإسرائيل في صناعات العنف والحرب، العرب والمسلمون هم أول المتضررين من العنف، وأقل المتضررين من وقفه. ولسبب سياسي ثانيا: إن دوائر أخلاقية الاعتقاد لا تطابق دولنا القائمة على مفهوم الوطنية، تتجاوزها نحو "الأمة الإسلامية" أو تتدنى عنها نحو الطائفة والميليشيا والعصبة، الأمر الذي يجعل منها قوة تفجير لهذه الدول، مع ما قد يترتب على ذلك من كلفة إنسانية وسياسية ومادية باهظة. ولسبب ثقافي وأخلاقي أخيرا: إن الدائرة تلك تحصرنا في ثقافة الثأر والانتقام والتعصب والكراهية، وتثبتنا في أوضاع نفسية موتورة ومتحجرة، وتجعل الارتقاء الأخلاقي متعذرا علينا.
وليس الاستعداد الثقافي لأخلاقية التضحية والتفاني والاعتقاد مدونا في جيناتنا. إنه ميل مرجح لأن المثقفين والفاعلين العامين يفضلون ما يدر عليهم شرعية اجتماعية عاجلة، تجامل أدوارا موروثة في ثقافتنا، على بناء شرعية جديدة، تناقض التراث، وتقوم على المسؤولية، وقد تسهم في حقن دمائنا قبل غيرنا. وهل من واجب أوجب من هذا على أي فاعل أخلاقي؟ وهو أوجب بعدُ حين نعاين النتائج اللاأخلاقية لأخلاقيات الاعتقاد المتضاربة، من موت وفير وتفجر لمجتمعاتنا وتدهور مستمر لاعتبارنا في العالم وفي عين أنفسنا بالذات. يكتسب دور المثقفين قيمة إضافية من حقيقة أن أخلاقيات الاعتقاد تنتج اليوم من الخونة الحقيقيين أكثر مما تنتج من الأبطال، بالخصوص لكون أبطال هذا الاعتقاد هما خونة الاعتقاد ذاك، فلم يبق من الوطنية غير التخوين (ومن الدين غير التكفير). ولا يعني إنتاج الخونة غير أن أخلاقيات الاعتقاد بلغت ذروة أزمتها، وأن من شأن نقدها فكريا وقيميا أن يكشف التهافت العقلي والأخلاقي والسياسي لتلك الأخلاقية وأسسها الاعتقادية. المطلوب اليوم شجاعة من نوع مختلف، لا تقتضي من أحد التضحية برأسه، بل فقط ببعض ما في رأسه.



#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نظرات أولى في أطوار التاريخ السياسي الإيديولوجي المشرقي المع ...
- أية أكثرية جديدة لحل المشكلات الطائفية؟
- حين تكون المذابح أداة سياسية.. السياسة تموت!
- في نقد العلمانية والديمقراطية أو مشكلتا الدين والدولة
- في عقلانية الدول وغبائها المرشح، في أغلب الظن، أن يستمر طويل ...
- أية دولة تقتضي العلمانية فصلها عن الدين؟
- هزيمة حزيران: من حدث تاريخي إلى شرط ثقافي
- في شأن الطائفية والدولة والمثقف: تعقيب على موريس عايق
- في اندماج الاقتصاد والسياسة وتحولات اللوحة الاجتماعية السوري ...
- تأملات في السلطة الدينية والسلطة السياسة ومعنى العلمنة في عا ...
- بحثا عن معنى ثقافي لتحولات سياسية عجماء
- ضمائر الحداثة المنفصلة والمتصلة و...المعاقة
- ملحوظات أولية في شأن اللغة والطائفية
- في العلاقة بين الأوليغارشية والطائفية
- أقليات وأكثريات: هويات ثقافية، علاقات اجتماعية، أم عمليات اج ...
- أطوار متعددة في حرب لبنانية واحدة
- نمذجة تاريخية مقترحة للنظم السياسية المشرقية
- -ميدل- إيستولوجية-: في شأن المعرفة والسلطة و.. العدالة!
- انتخابات نيابية في سورية أم موسم لصناعة العصبيات؟
- شاذ، استثنائي، وغير شرعي: المعرفة والمعارضة في سورية


المزيد.....




- لحظة سرقة حانة في شيكاغو بأقل من دقيقة.. شاهد ما فعله اللصوص ...
- العديد منهم بحالة حرجة.. مقتل شخص ونقل 23 آخرين للمستشفى جرا ...
- 21 عاما على سقوط نظام صدام حسين: الفجوة بين الأحزاب الحاكمة ...
- الخارجية الألمانية تعلق على إغلاق قناة الجزيرة في إسرائيل: ي ...
- البحرية الروسية تدمر 5 زوارق مسيرة أوكرانية قرب سواحل القرم ...
- اجتياح رفح.. حسابات معقدة وتكاليف -باهظة الثمن-
- جولة الرئيس الصيني في أوروبا.. فرق تسد؟
- الدفاع الروسية: تحرير بلدتين جديدتين وتدمير طائرة و5 زوارق م ...
- ألمانيا تستدعي سفيرها لدى روسيا للتشاور بسبب -الهجوم السيبرا ...
- -مصر ترفض التعاون-.. الإعلام العبري يكشف عن خطة لترحيل عدد م ...


المزيد.....

- كراسات شيوعية( الحركة العمالية في مواجهة الحربين العالميتين) ... / عبدالرؤوف بطيخ
- علاقات قوى السلطة في روسيا اليوم / النص الكامل / رشيد غويلب
- الانتحاريون ..او كلاب النار ...المتوهمون بجنة لم يحصلوا عليه ... / عباس عبود سالم
- البيئة الفكرية الحاضنة للتطرّف والإرهاب ودور الجامعات في الت ... / عبد الحسين شعبان
- المعلومات التفصيلية ل850 ارهابي من ارهابيي الدول العربية / خالد الخالدي
- إشكالية العلاقة بين الدين والعنف / محمد عمارة تقي الدين
- سيناء حيث أنا . سنوات التيه / أشرف العناني
- الجدلية الاجتماعية لممارسة العنف المسلح والإرهاب بالتطبيق عل ... / محمد عبد الشفيع عيسى
- الأمر بالمعروف و النهي عن المنكرأوالمقولة التي تأدلجت لتصير ... / محمد الحنفي
- عالم داعش خفايا واسرار / ياسر جاسم قاسم


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الارهاب, الحرب والسلام - ياسين الحاج صالح - بصدد بعض الأصول الأخلاقية لعنفنا..