حسن جميل الحريس
الحوار المتمدن-العدد: 2052 - 2007 / 9 / 28 - 10:12
المحور:
الادب والفن
أشار عبد الحق على غلامه يأمره :
- يا عبد الله .... اختر لنا مكاناً يقينا من رمضاء هذا النهار ..... فقد أنهكتنا رحلتنا دون جدوى .
عبد الله : لا أرى سوى أرضاً قاحلة يا سيدي ...... ولكن !!!! هناك بقايا شجرة يمكننا أن نستظل بها .
فانطلقا نحوها ونزلا بالقرب منها --- فقال عبد الله لمولاه :
- دع لي حصانك يا سيدي لأرعاه .
- ثم صرخ عالياً بهلع شديد : يا الله ... يا الله ... ما هذا ؟ ماذا أرى !!!!
عاده عبد الحق ليسأله : ما بك ؟ ما الذي تراه ؟!!
عبد الله : انظر يا سيدي .... خلف تلك الشجرة !!! كيس كبير مغلق بإحكام يتحرك !!!!!
تركا جواديهما وأخذا يفكان حبلاً غليظاً تم رصه بقوة حول فاه الكيس وبعقد عدة , وإذا بامرأة عجوز تخرج عليهما , ففر عبد الله هلعاً يوّحد الله بينما تسمّر عبد الحق في مكانه يقرأ المعوذتين , ثم تقدم منها وسألها :
عبد الحق : من أنت بحق الله ؟؟!!... إن كُنتِ إنسيةً فقد بَلغتِ مأمنك وإلا !!!!
جمعت العجوز شتات روحها وأجابته :- هل لي بشربة ماء ؟
لبى عبد الله طلبها فغرق صدرها بماء عذب فرات , ثم ضبطت رياح أنفاسها وقالت :
- أنا أَمَةُ الله ... قتلني قدري بمناجل بذور بستاني ..... لي ثلاثة أبناء وست بنات وأحفاد ..
ثم صمتت فجأة لتسأل عبد الحق :
- أرى على جبينك خيراً ... هل في جعبتك ما تطعمني إياه ؟
أمر عبد الحق غلامه : ضع طعامنا كله بين يدي سيدتنا .
ومزجت حديثها بطعام فمها , وفصلت بينهما بزفرات حزنها ورثائها لنفسها , إذ قالت ولقمة طعام تعصرها في كفها :
- كان زوجي رحمه الله تاجراً غنياً ..... يحلف الناس بطهارة يده حتى صار من اسمه رمزاً فخرياً وعنواناً .... وأنا نادمة الآن لأنني لم آخذ بنصيحته عندما قال لي : // الحمد لله الذي أعطانا المال والبنون زينة الحياة الدنيا ... ولكن إياك أن تفرّطي بمالك كله ... فحال البنات والصبية عندما يتزوجون غير تلك أحوالهم الآن ... وحينها لن يكون أمرهم ملكهم وحدهم بل ربما خرج من بين أيديهم كلياً ... لا بأس عليك أن تعطيهم سؤلهم بما يكفيهم ولكن احرصي ألا تتركي يدك خاوية ... أخاف عليك ذلتهم من بعدي ... فإن مُتُّ حكموك بعصا فرعون ودين عاد //.
فمالت ثانية وصاحت نادمة تنوح :
- آآآآآآآآه ..... آآآآآآه ... لقد وقعت بما حذّرني منه ... اجتمع أبنائي كلهم بعدما أخذوا مني كل ما أملك ... وقرروا أن يتخلصوا مني فألقوني عند ابنة أختي ... تلك التي كانت تقف على بابي راجية وكنت أمدّها بما أحسن الله عليّ من مال وثياب وطعام وغير ذلك من الطيبات والنعم ... وعندما وقعتُ في عهدتها ظننت أنها سترأف بحالي وتحفظني من جور أولادي .. ولكنها رمتني بغرفة صغيرة معتمة جدرانها من طين رطب كانت منذ وقت قريب زريبة تشغلها بقرة عجوز مثلي ... وقد منّت علي ّ بقطعة قماش بالية كانت بالنسبة لي .. فراشي وسريري ودنياي كلها وقد قضيت عليها أيامي كلها شريدة منفية ... آآآآآآآآه ... تلك عاقبتي أنني لم أفي بوعدي وأحرص على وصية زوجي ... حتى جاء يوم شهدت فيه توزيع ما بقي لي من كرامتي وروحي .. إذ اجتمع أولاد تلك الجاحدة فوق رأسي وانهالوا عليّ ضرباً ورفساً وكأنني شاة حان ذبحها حتى سقطت فأسعفوني .. كانوا يفعلون ذلك بي كل مرة يسعفوني بها .. إذ يطلبون من أولئك الذين ولدتهم من رحمي أن يزيدوا لهم أجرتهم المتفق عليها بينهم مقابل سجني عندها .. ولكن الله ليس بغافل عما يعملون ويمهل ولا يهمل ..... فقد ابتلت تلك الناكرة بموت ولدها البكر بعد اسبوع من ضربي ... فرمتني على عتبة ولدي البكر وليتها لم تفعل ؟؟؟؟!!!!!!
أعطاها عبد الحق شربة ماء ومدها بمنديل جيبه ثم سألها راجياً :
- على رسلك يا أماه ..... فو الله لكِ عندي خير منزلة .
فانفجرت باكية وصاحت بأعلى صوتها :
- يا الله ..... يا الله .. لن أنسى تلك اللحظة التي سمعت بها ولدي / شرمان / ينزل على مشورة زوجته إذ قال لها :
- // صدقتِ يا زوجتي الحبيبة / شربان / ... لاحل لها سوى أن نعقدها بكيس ونرميها في صحراء قاحلة //
وهذا ما فعله بي حقاً ... في الأمس رماني هنا .
ربّت عبد الحق على يدها وأسمعها كلماته الناعمة :
- هوّني عليك يا سيدتي ... فأنا وغلامي رهن إشارتك ... أكملي طعامك كي نعود أدراجنا ؟
وقام برفقة غلامه ليسرجا جواديهما فقال عبد الله لمولاه محذراً إياه :
- سيدي ... ربما تلك السيدة تهذي وأصابت أولادها ببهتان ؟!!
فأجابه عبد الحق حازماً :
- قلت هذيان وبهتان !! ألا ترى عظامها تلعب وتتجول تحت ثوبها من القهر والطغيان ... تا الله .. إنها جليلة عزيزة أذّلها أولادها ... وسأذهب بها لمجلس والينا غداً .. فهو القادر الحكيم الذي سيعيد لها حقها ونصابها ... لنعود أدراجنا الآن .
وبعد مسيرة يوم وليلة حضروا مجلس الحكم , وقصّت روايتها كلها فانتاب الوالي قشعريرة محزنة أخذت من عينيه ماءهما , ثم أمر بانصرافهم كلهم من مجلسه لينفرد بحديثه السري مع كبير وزرائه / أبي مخلص / :
- الوالي : ماذا سنفعل يا أبا مخلص ؟!!
- كبيرهم : أرى يا مولاي أن نستدعي ولدها البكر شرمان ليعترف أمامنا بجريمته , وهي محاولة قتل أمه برميها بكيس معصوب في صحراء قاحلة , وبذلك سنقتص منه ونعيد لها حقها .
- الوالي : إن أحضرناه هكذا بما أشرت علينا يا أبا مخلص .. فمن المؤكد أنه سينكر فعلته تلك بل وسيدّعي أن أمه كانت تائهة أو هاربة وقد بذل من أجلها الرخيص والنفيس وهو يبحث عنها لينال برّها .. اسمعني جيداً يا أبا مخلص !!
- كبيرهم : أمرك مولاي .
- الوالي : يجب علينا أن نتدبّر له خطة سرية ليعترف بجريمته كاملة ... ماذا قالت العجوز عن مهنة ولدها ؟؟
- كبيرهم : قالت إنه يصنع الأجبان والألبان ويتاجر بها ... وأن لديه بعض الإبل وبضع بقرات سمان .
- الوالي : حسناً حسناً ... نفذّ ما أقوله لك حرفياً واحرص ألا يشعر ولدها بما نخطط له .
- كبيرهم : السمع والطاعة يا مولاي .
وبصبيحة اليوم التالي وقف كبيرهم عند حانوت شرمان وسأله :
- سمعت بأنك أفضل من صنع الأجبان والألبان ... وقد جئت إليك لأتأكد من صحة ذلك .. عسى أن أمدّك بحظوة خير عند والينا ... ألا تريد ذلك يا شرمان ؟؟
فارتبك شرمان من شدة فرحه وأجابه بصوت راجف :
- على العكس يا سيدي .... إنه لشرف كبير لي أن أخدم والينا .
وبعدما تذوّق كبيرهم نتاج شرمان أخبره :
- صدق من أخبرنا ... إنك أفضل من صنع الجبن واللبن .. أعطني عينة أعرضها على والينا .
وبعد يومين عاد كبيرهم حانوت شرمان وبشّره :
- بشراك يا شرمان بشراك ... لقد عيّنك والينا على مزارعه كلها بما فيها من إبل وأغنام وأبقار ... تعال غداً لمجلس والينا كي تستلم عهدتك الثمينة الغالية .
أغلق شرمان حانوته وهوى على بيته مسرعاً ليخبر زوجته بما حدث :
- البشرى يا شربان البشرى ... لقد صرت عند والينا ذو حظوة وسلطان .. وقد منحني شرف إطعامه الجبن واللبن من حليب أنعامه ووهبني قصراً فخماً رحباً .
فانتهزت زوجته فرحته العارمة ونفثت في صدره سمّها الزعاف فقالت له :
- أرأيت يا شرمان أرأيت ... منذ أن رميت تلك العجوز النتنة والله يفتح عليك فتحاً عظيماً مباركاً .
ارتدى شرمان أفخر ما لديه من حلّة وثياب وحضر بين يدي الوالي شاكراً له ومتوسلاً :
- مولاي ... أشكر نعمك التي أنعمت عليّ بأن أكون لك خادماً مطيعاً ومخلصاً .
- الوالي : لقد سبقتك أفعالك يا شرمان وتذوقنا نتاجك من الجبن واللبن ... ولهذا فقد أوكلناك على مزارعنا وأنعامنا وخزينة مال زراعتنا ... فاحرص عليها وكن عند حسن ظننا بك ...اذهب من فورك لعملك ... نسأل الله ان يبارك لنا بما أنعم علينا كلنا .
وقضى شرمان سعيداً في عمله خمسة أيام , إلى أن جيء به لمجلس الحكم بتهمة اختلاس خزينة الزراعة التي عهدها إليه الوالي , وقيل له :
- الوالي : عشر سنوات مضت على عاملنا الذي سبقك في عهدة خزينتنا ولم ينقص منها شيئاً ... وأنت في أيام فقط اختلست منها أكثر من نصفها ... فإما أن تعترف بجريمتك وتعيد لبيت المسلمين أموالهم لنخفف عنك حكمنا .. وإما أنزلنا عليك قصاصنا بالحق ... فماذا أنت فاعل يا شرمان ؟؟ أجبني !!!
فأجابه شرمان متوسلاً صاغراً :
- أقسم بالله العلي العظيم أنني ما سرقت من مال المسلمين شيئاً .
- الوالي : لم تسرق مال أحد أو تغتصبه حقه ؟!! إنك أفّاك !!
وقبل أن يغادر مكانه توجّه الوالي بأمره لكبير وزرائه قائلاً له :
- يا أبا مخلص ... ضع ذاك الجاحد في غياهب سجني ولا تذكره أمامي أبداً ... واحجز على ماله وبيته وأنعامه وحانوته حتى يظهر الله في أمره شيئاً .
ومضت ثلاثة شهور على شرمان في سجنه ظلاماً دامساً , وصار يائساً من رحمة الله أو رحمة ينالها من أحد , حتى حضر إلى سجنه كبير وزراء الوالي وسأله :
- لماذا لا تعترف بجريمتك وتعيد لنا أموال الخزينة وأنا كفيل أن أضمن لك عند والينا حكماً مخففاً ؟؟
- - شرمان : ولكنني لم أفعلها يا سيدي .. وأقسم بالله أنني كنت حريصاً عليها .
- كبيرهم : هذا لن يفيدك أبداً ... يجب عليك أن تساعدني لأساعدك ... حكم والينا سيحلُّ بقص يديك أو على الغالب سيضرب عنقك ... لا سبيل لخلاصك إلا أن تعترف لنا أو ....
- شرمان : أو ماذا يا سيدي ؟
- كبيرهم : ربما هناك بارقة أمل تنجيك من حكم والينا ... هل والديك على قيد الحياة ؟
- شرمان : أبي مات منذ مدة طويلة ... وأمي لا أعرف أين هي !! ولكن لماذا سألتني عنهما ؟؟ وما شأنهما بمعضلتي ؟!!
- كبيرهم : لإن أم والينا ما زالت حيّة ترزق بيننا ... وتحظى بشفاعة عند والينا ... فإن أتاها أحد والديك ذهبت معه لتذهب بقرار والينا ... انتظر قليلاً ماذا قلت لي !!! أمك على قيد الحياة ولا تعرف أين هي !!هل يعقل هذا يا شرمان ؟؟؟
- شرمان : تلك حقيقة يا سيدي .
- كبيرهم : حسناً حسناً ... أخبرني أين كانت آخر مرة رأيتها فيها وأنا سأساعدك وأصل إليها وأحضرها عند أم والينا ... فهذا هو أملك الوحيد لنجاتك من معضلتك .
بدأ شرمان بضرب رأسه بكلتا يديه ثم ناح وصاح باكياً:
- لقد تركتني في منطقة خاوية منذ شهور عدة ولا أعرف مصيرها .
- كبيرهم : إهدأ إهدأ ... سأعود إليك بعد صلاة الفجر لتأخذني إلى تلك المنطقة الخاوية ... ولكن إياك ثم إياك أن تراوغني وإلا حّلت عليك لعنتي القاصمة .
ولإتمام مسيرة خطة الوالي السرية , وضع جنوده كيس الخشّ مفتتاً مع حبله الغليظ مضرجين بدم بقرة تحت تلك الشجرة , وعندما وصل كبيرهم برفقة شرمان ورأى ذاك المنظر , ظن أن ضباع الوحش أتت على أمه وذهبت ببقية جثتها لحجرها , فانكب على كيسه باكياً ينوح بذكرها :
- سامحيني يا أماه سامحيني ... وليسامحني ربي على ما فعلته بك ... أرجوكم أرجوكم خذوا قصاصكم مني كما تشاؤون فأنا جحدت بمن حملتني وعقرت رحمها ... أنا عاقٌّ كفرت بما عاهدت عليه ربي ... اقتلوني اقتلوني وخذوا مني ما شئتم ... ولكن أعيدوا لي أمي وجّنات دعائها .
وعلى حين غرّة حضر الوالي فوق رأسه برفقة جنوده وأحضروا معهم زوجة شرمان وولدهما البكر , وجيء بعبد الحق وغلامه, فالتفت الوالي إلى زوجة شرمان وسألها :
- أقترح عليك أن تفتدي زوجك بنفسك أو بولدك ... ماذا قلتِ ؟
رفضت شربان اقتراحه رفضاً قاطعاً وضمّت ولدها البكر لصدرها حتى كاد أن يخرج من ظهرها فانبرى الوالي بحديثه لشرمان يؤنبه قائلاً :
- الوالي : ماذا بقي لك يا شرمان .... لقد تخّلت عنك زوجتك وأولادك وذهبت أموالك وأملاكك حتى صرت تتمنى أن تقتات من روث أنعامك ... ماذا جنيت لنفسك ؟! لقد رميت أمك للتهلكة وسرقت مال المسلمين فوقعت في شر أعمالك ... إنك فاسد مفسد بالأرض ... ووجب علينا أن نأخذ عنقك بسيفنا .
فأمر الوالي جنوده قائلاً :
- أنزلوه ناقة على كيس أمه كي نأخذ منه حقوقنا .
كانت أمه في موكب الوالي عزيزة مكرّمة , وعندما سمعت أمر الحاكم بقتله هرعت فزعةً وسقطت عند قدمي الوالي تلعق جبين حذائه ترجوه وتتوسل إليه بكلمات راجفة :
- أرجوك أيها الوالي أرجوك ... أتوسل إليك أن ترحمه وترحم قلبي معه ... أستحلفك بالله أن ترأف بمضغة نبتت في غشاوة معلقة بعرش الرحمن ... أنا أفديه بروحي وبقية عظامي الهشّة ... فلا تقطع رجائي الوحيد في الدنيا والآخرة ... واذكر أننا كلنا بين يدي الرحمن بمواعيد مؤجلة ... أرجووووووك
نزل الوالي على رجائها ورفعها إليه وقال لها :
- لا تحزني يا أماه لا تحزني ... لقد رفعك ربي إلى مقام عال قرب عرشه قبل أن أرفعك أنا ... وقد عفوت عنه ووضعت أمره بين يديك إكراماً لله وحده الواحد الأحد ونزولاً على أمر نبينا / محمد (ص ) / .
ثم التفت الوالي إلى شرمان وقال له :
- ألم تسمع قول رب العزّة / جلّ وعلا / :
- بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم :
- " وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا فإما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أُفٍ ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً " // صدق الله الواحد الأحد //
#حسن_جميل_الحريس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟