أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - محيي هادي - العقلية العربية- قراءة في كتاب د. جواد علي















المزيد.....



العقلية العربية- قراءة في كتاب د. جواد علي


محيي هادي

الحوار المتمدن-العدد: 2008 - 2007 / 8 / 15 - 05:02
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


"اتفق العرب على أن لا يتفقوا". مثل يقال و نسمعه دائما و ليس بين الحين و الآخر. و نراه اليوم مثلما رآه السابقون، و من يريد التأكد من ذلك فليراجع الكتب التاريخية العربية و لينظر ما حصل للعرب على مر التاريخ. و ليست الدول التي تكوّن ما نسميها بخيال ووهم بـ"العالم العربي" أو "الوطن العربي"، فقط، تعطي لنا التأكيد للمثل المذكور، بنزاعاتها المستمرة فيما بينها أو مع جيرانها، بل أن المجموعات التي تشكل كل دولة عربية على حدة نراها تتناحر فيما بينها، سواء كانت هذه المجموعات تنتمي إلى مذاهب أو أديان مختلفة أو تعتقد و تؤمن بنفس العقيدة و الدين. و ما نشاهد اليوم على أرض العراق من التصارع و الاغتيالات بين ما سموا أنفسهم بالمسلمين بشكل عام، او ما تسموا بالشيعة أو بالسنة بشكل خاص، يؤكد أيضا ما يريد العرب الاتفاق عليه: عدم الاتفاق. و الحقيقة أن السبب الرئيسي لعدم الاتفاق هو أن كل فرد عربي يريد أن يطبق ما يقوله المثل العربي: "الامارة حتى و لو كانت على الحجارة" أو ما يقوله المثل الأسباني: "راس فأر و لا ذيل أسد".

و قد كتب الكاتب العراقي الدكتور جواد علي في كتابه "المفصل في تاريخ العرب قبل الاسلام"، ذي الأجزاء الأربعة، فصلا كاملا عن عقلية العرب قبل الاسلام. و على الرغم من أن الكاتب حاول أن يبين هذه العقلية لعرب ما قبل الاسلام إلا أنني أرى أن هذه العقلية لا زالت مستمرة لحد الآن في أدمغة العرب المعاصرين، ما بعد الاسلام. و بهذا لا أريد أن يفهم القارئ أن هذه العقلية توجد فقط في المسلمين، بل أنها موجودة في من يعتنقون ديانات ثانية، يعيشون في الدول العربية. كما و أؤكد أن الغالبة العظمى من العراقيين و العرب الآخرين و المسلمين، و على الرغم من هجرتهم الى بلدان متحضرة، لا يزالون يحملون الأفعال و الافكار التي انهزموا منها عندما كانوا في بلدانهم. فلطميات الشيعة و سرقات المغاربة تنشر في مختلف البلدان المتحضرة.

لقد كتب الكاتب العراقي الدكتور جواد علي أن بعض العلماء والكتاب المحدثين في العقلية العربية تكلموا عنها "بصورة عامة، بدوية وحضرية، جاهلية وإسلامية. فجاء تعميمهم هذا مغلوطاً وجاءت أحكامهم في الغالب خاطئة. وقد كان عليهم التمييز بين العرب الجاهليين والعرب الإسلاميين، وبين الأعراب والعرب، والتفريق بين سكان البواطن، أي بواطن البوادي، وسكان الأرياف وسكان أسياف بلاد الحضارة. ثم كان عليهم البحث عن العوامل والأسباب التي جعلت العرب من النوعين: أهل الوبر وأهل الحضر، تلك الجبلة، من عوامل إقليمية وعوامل طبيعية أثرت فيهم، فطبعتهم بطابع خاص، ميزهم عن غيرهم من الناس".
و إذا كان جواد علي محقا في أن هناك فرقا بين هذا و ذاك من العرب، إلا أن هذا الفرق هو فرق محلي خاص و محدد، أما في الخواص العامة فلا أرى أنه يوجد فرق، و الحاضر و التاريخ يؤكدان ذلك.
و الرغبة الذاتية بأن تتغير السلبيات في المجتمعات العربية هي رغبة لا غير، و أن ما يراه الواحد منا بأنه سلبي يكون إيجابيا عند الآخر. فالسرقة هي فعل بذئ و إجرامي في قرآن المسلمين إذ تقطع يد السارق و السارقة، أما عند عرب الارياف و البدو و آخرين من العرب فهو رجولة و بطولة، و معروف المثل العراق: "الرجال هو اللي يخلي العنب بالسلة"، مهما كان هذا العنب و مهما كانت الطريقة و السلة لوضعه، و أن الموت الطبيعي هو فطيسة مخزية، أما الموت مقتولا في عملية سطو أو غزو شهادة مرضية. و القتل على الشبهة لا يزال فاعلا في المجتمعات العربية. و عسى أن يأتي يوم لكي أستطيع فيه أن أغير هذا الرأي.
و على الرغم من أن د. جواد علي يحاول إلقاء غالبية السلبيات على الأعراب البدو، إلا أنني أرى ذلك إجحافا ضد البدو لصالح العرب الآخرين فإن عربي المدينة له أفعال أشنع و أفظع من البدوي.

رأي التوراة في العرب
و ذكر جواد علي ما تقوله التوراة في أوصاف العرب، إذ تقول:
1) إنهم متنابذون يغزون بعضهم بعضا.
2) مقاتلون يقاتلون غيرهم كما يقاتلون بعضهم بعضاً، فواحدهم "يده على الكل، ويد الكل عليه".
3) يغيرون على القوافل فيسلبونها ويأخذون أصحابها اسرى، يبيعونهم في أسواق النخاسة، أو يسترقونهم فيتخذونهم خدماً ورقيقاً يقومون بما يؤمرون به من أعمال.
4) غير ذلك من نعوت وصفات.
ثم يقول جواد علي: "والعرب في التوراة، هم الأعراب، أي سكان البوادي، لذلك فإنّ النعوت الواردة فيها عنهم، هي نعوت لأعراب البادية، الذين لم تكن صلاتهم حسنة بالعبرانيين."
فهل هذا صحيح؟ و لكن العبودية و الاسترقاق هما فعلان لا يقوم بهما الاعراب فقط، بل هما لايزالان موجودان في الاسلام لحد الآن و لم ينسخ فعلهما القرآن بعد، و لا الانجيل و لا التوراة. إلا أن المجتمعات المتحضرة غير الاسلامية، في الوقت الحاضر، قد أكدت على أن العبودية و الاسترقاق معرضان لملاحقة القانون، على العكس تماما من المجتمعات الاسلامية.

راي اليونان و الرومان
وفي كتب اليونان والرومان والأناجيل، نعوت أيضا نعت بها العرب وأوصاف وصفوا بها مثلما وصفهم التوراة، فهم:
1) كانوا يغيرون على حدود إمبراطوريتي الرومان واليونان.
2) سلابة، يسلبون القوافل.
3) يأخذون الإتاوات من التجار والمسافرين وأصحاب القوافل للسماح لهم بالمرور.

و ذكر جواد علي أن "ديودورس الصقلي" وصف العرب بأنهم:
1) يعشقون الحرية، فيلتحفون السماء.
2) اختاروا الإقامة في أرضين لا أنهار فيها ولا عيون ماء، فلا يستطيع العدو المغامر الذي يريد الإيقاع بهم أن يجد له فيها مأوى.
3) انهم لا يزرعون حباً، ولا يغرسون شجراً، ولا يشربون خمراً، ولا يبنون بيوتاً.
4) الذي يخالف العرف يقتل.
و أعتقد أن الصقلي قد أخطأ عندما قال أن العرب لا يشربون الخمر، فأشعار العرب قبل الاسلام و بعده تعاكس رأيه. و لكنه محق في أن العرب لايزرعون و لا يغرسون و لا يبنون، فهم كسلة لا يحبون العمل بل يعتمدون اعتمادا كبيرا على تعب الغير، فهكذا تراهم اليوم لا يعتمدون إلا على ما تنجبه الارض من ثروات كالبترول، و على ما تصنعه شعوب أخرى. و في العراق، مثلا، يُنظر إلى مُزارع الخضروات نظرة استحقار و ينعتونه بالـ "الحساوي" لان زراعة الخضروات هي زارعة متعبة و تحتاج للعناية المستمرة. و لا أكون مبالغا إذا قلت أن العرب في أسفل السلم الحضاري و سيبقون إذا استمروا على هذه العقلية، فلا صناعة و لا زراعة متطورة و لا علم و لا هم يحزنون.
ولا يزال العربي الصريح ينظر إلى الحِرَف والمهَن نظرة ازدراء، وإلى المشتغل بها نظره احتقار وعدم تقدير.

رأي كسرى في العرب
و كتب جواد علي عن مناظرة، قيل إنها وقعت بين "النعمان بن المنذر" ملك الحيرة وبين "كسرى" ملك الفرس في شأن العرب: صفاتهم وأخلاقهم وعقولهم، ثم وصف مناظرة أخرى جرت بين "كسرى" هذا وبين وفد أرسله "النعمان" لمناظرته ومحاجته فيما جرى الحديث عليه سابقاً بين الملكين. ومجمل ما نسب إلى "كسرى" من مآخذ زُعم انه أخذها على العرب، هو أنه:
1) نظر فوجد أن لكل أمة من الأمم ميزة وصفة.
2) وجد للروم حظاً في اجتماع الألفة وعظم السلطان وكثرة المدائن ووثيق البنيان.
3) وأن للروم ديناً يبين حلالهم وحرامهم ويرد سفيههم ويقيم جاهلهم.
4) ورأى للهند، نحواً من ذلك في حكمتها وطبّها مع كثرة أنهار بلادها وثمارها، وعجيب صناعاتها ودقيق حسابها وكثرة عددها.
5) ووجد للصين كثرة صناعات أيديها وفروسيتها وهمتها في آلة الحرب وصناعة الحديد، وان لها ملكاً يجمعها.
6) و أن للترك والخزر، على ما بهم من سوء الحال في المعاش وقلة الريف والثمار والحصون ملوك تضم قواصيهم وتدبر أمرهم.
أما عن العرب فقال كسرى:
1) لم يرَ للعرب دينا ولا حزماً ولا قوة.
2) همتهم ضعيفة بدليل سكنهم في بوادي قفراء.
3) ورضائهم بالعيش البسيط، والقوت الشحيح.
4) يقتلون أولادهم من الفاقة.
5) ويأكل بعضهم بعضاً من الحاجة.
6) أفضل طعامهم لحوم الإبل التي يعافها كثير من السباع لثقلها وسوء طعمها وخوف دائها.
7) وإن قرَى أحدهم ضيفاً عدّها مكرمة. وإن أطعم أكلة عدها غنيمة تنطق بذلك أشعارهم، وتفتخر بذلك رجالهم.
لقد أراد يوما أحد زملائي الاردنيين دعوتي على وجبة غذاء فاتخذ جملة: "أريد أن أكرمك".
8) ثم إنهم مع قلتهم وفاقتهم وبؤس حالهم، يفتخرون بأنفسهم، ويتطاولون على غيرهم وينزلون أنفسهم فوق مراتب الناس.
9) حتى لقد حاولوا أن يكونوا ملوكاّ أجمعين، وأبوا الإنقياد لرجل واحد منهم يسوسهم ويجمعهم.
10) إذا عاهدوا فغير وافين.
و هل أفضل من المثل المار ذكره: "الامارة ولو كانت على الحجارة" للتأكيد على هذه النقطة؟
11) سلاحهم كلامهم، به يتفننون، وبكلامهم يتلاعبون.
12) ليس لهم ميل إلى صنعة أو عمل ولا فن.
13) لا صبر لهم، إذا حاربوا ووجدوا قوة أمامهم، حاولوا جهدهم التغلب عليها، أما إذا وجسوها قوة منظمة هربوا مشتتين متبعثرين شراذم.
14) يخضعون للغريب ويهابونه ويأخذون برأيه فيهم، ما دام قوياً، ويقبلون بمن ينصبه عليهم.
15) ولا يقبلون بحكم واحد منهم، إذا أراد أن يفرض سلطانه عليهم.

رأي هندي عن العرب
ثم ذُكر جواد علي أن أحد ملوك الهند كتب كتاباً إلى "عمر ين عبد العزيز"، جاء فيه: "لم تزل الأمم كلها من الأعاجم في كلّ شق من الأرض لها ملوك تجمعها ومدائن تضمها وأحكام تدين بها وفلسفة تنتجها وبدائع تفتقها في الأدوات والصناعات، مثل صنعة الديباج وهي أبدع صنعة، ولعب الشطرنج وهي أشرف لعبة، ورمّانة القباّن التي يوزن بها رطل واحد ومائة رطل، ومثل فلسفة الروم في ذات الخلق والقانون والاصطرلاب الذي يعدل به النجوم ويدرك به الأبعاد ودوران الأفلاك وعلم الكسوف وغير ذلك من الآثار المتقنة، ولم يكن للعرب ملك يجمع سوادها ويضم قواصيها، ويقمع ظلمها وينهى سفيهها، ولا كان لها قط نتيجة في صناعة و لا أثر في فلسفة إلا ما كان من الشعر. و قد شاركتها في العجم، وذلك إن للروم أشعارا عجيبة قائمة الوزن و العروض فما الذي تفتخر به العرب على العجم؟ فإنما هي كالذئاب العادية، و الوحوش النافرة، يأكل بعضها بعضا و يغير بعضها على بعض. فرجالها موثوقون في حَلَق الأسر. و نساؤها سبايا مردفات على حقائب الإبل، فإذا أدركهن الصريخ أستنقذن بالعشي، و قد وطئن كما توطأ الطريق المهيع".

رأي ابن خلدون
ولابن خلدون رأي معروف في العرب، خلاصته:
1) إن العربي متوحش نهّاب سلاّب.
2) إذا أخضع مملكة أسرع إليها الخراب.
3) يصعب انقياده لرئيس.
4) لا يجيد صناعة ولا يحسن علماً ولا عنده استعداد للإجادة فيهما.
5) سليم الطباع، مستعد للخير شجاع.
أظن أن في هذه النقطة وجود تعبير دبلوماسي لابن خلدون!
وتجد آراء ابن خلدون هذه مدوّنة في مقدمته الشهيرة لكتابه العام في التاًريخ.


راي المستشرقين
وقد رمى بعض المستشرقين العرب بالمادية وبصفات أخرى، هكذا كتب جواد علي، فقال "أوليري": " إن العربي الذي يعد مثلاً أو نموذجاً، ماديّ، ينظر إلى الأشياء نظرة مادية وضيعة، ولا يقومها إلا بحسب ما تنتج من نفع، يتملك الطمع مشاعره، وليس لديه مجال للخيال ولا للعواطف، لا يميل كثيراً إلى دين، ولا يكترث بشيء إلا بقدر ما ينتجه من فائدة عملية، يملؤه الشعور بكرامته الشخصية حتى ليثور على كل شكل من أشكال السلطة، وحتى ليتوقع منه سيد قبيلته و قائده في الحروب الحسد والبغض والخيانة من أول يوم اختير للسيادة عليه ولو كان صديقاً حميما له من قبل، ممن أحسن إليه كان موضع نقمته، لأن الإحسان يثير فيه شعوراً بالخضوع وضعف المنزلة وأن عليه واجباً لمن أحسن."

ونقل جواد علي عن لامانس "إن العربي نموذج الديمقراطية"، ولكنها ديمقراطية مبالغ فيها إلى حد بعيد، وإن ثورته على كل سلطة تحاول أن تحدد من حريته، ولو كانت في مصلحته، هي السر الذي يفسر لنا سلسلة الجرائم والخيانات التي شغلت أكبر جزء في تأريخ العرب، وجهل هذا السر هو الذي قاد الأوروبيين في أيامنا هذه إلى كثير من الأخطاء، وحملهم كثيراً من الضحايا كان يمكنهم الاستغناء عنها، وصعوبة قيادة العرب وعدم خضوعهم للسلطة هي التي تحول بينهم وبين سيرهم في سبيل الحضارة الغربية، ويبلغ حب العربي لحريته مبلغاً كبيراً، حتى إذا حاولت ان تحدها أو تنقص من أطرافها هاج كأنه وحش في قفص، وثار ثورة جنونية لتحطيم أغلاله والعودة إلى حريته. ولكن العربي من ناحية أخرى مخلص، مطيع لتقاليد قبيلته، كريم يؤدي واجبات الضيافة والمحالفة في الحروب كما يؤدي واجبات الصداقة مخلصاً في أدائها بحسب ما رسمه العرف."
ويوافق المستشرق "براون" "أولري" في رمي العرب بالمادية المفرطة. ورماهم "أوليري" أيضا بضعف الخيال وجمود العواطف.
أما "دوزي" فقد رأى أن بين العرب اختلافاً في العقلية وفي النفسية، وأن القحطانيين يختلفون في النفسية عن نفسية العدنانيين.

رأي أحمد أمين
وقد تعرض "أحمد أمين" في "فجر الاسلام" للعقلية العربية، بقوله: "لسنا نعتقد تقديس العرب، ولا نعباً بمثل هذا النوع من القول الذي يمجدهم ويصفهم بكل كمال، وينزههم عن كل نقص،...، إنما نعتقد أن العرب شعب ككل الشعوب، له ميزاته وفيه عيوبه، وهو خاضع لكل نقد علمي في عقليته ونفسيته وآدابه وتاريخه ككل أمة أخرى، فالقول الذي يمثله الرأي الخاص لا يستحق مناقشة ولا جدلاّ، كذلك يخطىء الشعوبية أصحاب القول الأول الذين كانوا يطلبون من العرب فلسفة كفلسفة اليونان، وقانوناً كقانون للرومان، أو أن يمهروا في الصناعات كصناعة الديباج، أو في المخترعات كالاصطرلاب، فإنه إن كان يقارن هذه الأمم بالعرب في جاهليتها كانت مقارنة خطا، لأن المقارنة إنما تصح بين أمم في طور واحد من الحضارة، لا بين أمة متبدية وأخرى متحضرة، ومثل هذه المقارنة كمقارنة بين عقل في طفولته وعقل في كهولته، كل أمة من هذه الأمم كالفرس والروم مرت بدور بداوة لم يكن لها فيه فلسفة ولا مخترعات".
و أعتقد أنه كان على الدكتور علي جواد إعطاء مقارنة:
* بين الطفل العربي و الطفل المتحضر،
* بين الكهل العربي و بين الكهل المتحضر،
* بين المرأة العربية و بين المرأة المتحضرة
* إعطاء احصائيات عن أرقام الاميين العرب و الاميين "المتحضرين".
* بين أغنى دولة عربية و أفقر دولة متحضرة.
* و هكذا، ليتبين لنا الخط الاسود العربي الجاهل من الخط الأبيض المتحضر.

إنفعالية العربي
ثم كتب أحمد أمين فوصف العربي الجاهلي، (و على نهجه يسير الاسلامي أيضا) بأنه "عصبي المزاج، سريع الغضب، يهيج للشيء التافه، ثم لا يقف في هياجه عند حد، وهو أشد هياجاً إذا جرحت كرامته، أو انتهكت حرمة قبيلته. وإذا اهتاج، أسرع إلى السيف، واحتكم إليه، حتى أفنتهم الحروب، وحتى صارت الحرب نظامهم المألوف وحياتهم اليومية المعتادة." "والمزاج العصبي يستتبع عادة ذكاء )!!)، وفي الحق أن العربي ذكي (جدا!)، يظهر ذكاؤه في لغته، فكثيراً ما يعتمد على اللمحة الدالة والإشارة البعيدة، كما يظهر في حضور بديهته، فما هو إلا أن يُـفْجَأ بالأمر فيفجؤك بحسن الجواب، ولكن ليس ذكاؤه من النوع الخالق المبتكر، فهو يقلب المعنى الواحد على أشكال متعددة (متقلبة !!)، فيبهرك تفننه في القول أكثر مما يبهرك ابتكاره للمعنى، وان شئت فقل إن لسانه أمهر من عقله." "خياله محدود وغير متنوع، فقلما يرسم له خياله عيشة خيراً من عيشته، وحياة خيراً من حياته يسعى وراءها، لذلك لم يعرف "المثل الأعلى"، لأنه وليد الخيال، ولم يضع له في لغته لفظة واحدة دالة عليه، ولم يشر إليه فيما نعرف من قوله، وقلما يسبح خياله الشعري في عالم جديد يستقي منه معنى جديداً ولكنه في دائرته الضيقة استطاعَ أن يذهب كل مذهب." "أما ناحيته الخلقية، فميل إلى حرية قلّ أن يحدّها حدّ، ولكن الذي فهموه من الحرية هي الحرية الشخصية لا الإجتماعية، فهم لا يدينون بالطاعة لرئيس ولا حاكم، تأريخهم في الجاهلية - حتى وفي الإسلام - سلسلة حروب داخلية" وعهد عمر بن الخطاب كان عصرهم الذهبي، لأنه شغلهم عن حروبهم الداخلية بحروب خارجية".
"والعربي يحب المساواة، ولكنها مساواة في حدود القبيلة، وهو مع حبه للمساواة كبير الاعتداد بقبيلته ثم بجنسه، يشعر في أعماق نفسه بأنه من دم ممتاز، (كاليهودي من شعب الله المختار!!!)، لم يؤمن بعظمة الفرس والروم مع ما له ولهم من جدب وخصب وفقر وغنى وبداوة وحضارة، حتى إذا فتح بلادهم نظر إليهم نظرة السيد إلى المسود"..
و عندا "يمرض أحدهم ويتألم من مرضه، فيصفون له علاجاً، فيفهم نوعاً ما من الارتباط بين الدواء والداء، ولكن لا يفهمه فهم العقل الدقيق الذي يتفلسف، يفهم إن عادة القبيلة أن تتناول هذا الدواء عند هذا الداء، وهذا كل شيء في نظره، لهذا لا يرى عقله باًساً من أن يعتقد إن دم الرئيس يشفي من الكَلَب، أو ان سبب المرض روح شرير حل فيه فيداويه بما يطرد هذه الأرواح، أو انه إذا خيف على الرجل الجنون نجسوه بتعليق الأقذار وعظام الموتى إلى كثير من أمثال ذلك، ولا يستنكر شيئاً من ذلك ما دامت القبيلة تفعله، لأن منشأ الإستنكار دقة النظر والقدرة على بحث المرض و أسبابه وعوارضه، وما يزيل هذه العوارض، وهذه درجة لا يصل إليها العقل في طوره الأول".

النظرة السطحية للعرب
و كتب أحمد أمين و قد تحدث عن مظهر آخر من مظاهر العقلية العربية، لاحظه بعض المستشرقين و وافقهم هو عليه، هو: "إن طبيعة العقل العربي لا تنظر إلى الاشياء نظرة عامة شاملة، وليس في استطاعتها ذلك. فالعربي لم ينظر إلى العلم نظرة عامة شاملة كما فعل اليوناني، كان يطوف فيما حوله، فإذا رأى منظرا خاصا أعجبه تحرك له، و جاس بالبيت أو الأبيات من الشعر أو الحكمة أو المثل. "فأما نظرة شاملة وتحليل دقيق لأسسه وعوارضه فذلك ما لا يتفق والعقل العربي. وفوق هذا هو إذا نظر إلى الشيء الواحد لا يستغرقه بفكره، بل يقف فيه على مواطن خاصة تستثير عجبه، فهو إذا وقف أمام شجرة، لا ينظر إليها ككل، إنما يستوقف نظره شيء خاص فيها، كاستواء ساقها أو جمال أغصانها، و إذا كان أمام بستان، لا يحيطه بنظره، ولا يلتقطه ذهنه كما تلتقطه "الفوتوغرافيا"، إنما يكون كالنحلة، يطير من زهرة إلى زهرة، فيرتشف من كل رشفة".
إن كلمات أحمد أمين تذكرني بما يفعله اللصوص ببساتين الأرياف، فهم ينتقلون من شجرة إلى أخرى يقطفون فواكها ليسرقوها و يبيعوها في الأسواق.

رأي حافظ وهبة
و ذكر جواد علي عن أن في كتاب "جزيرة العرب في القرن العشرين" لحافظ وهبة" فصلا بعنوان "السكان"، وردت فيه ملاحظات كيسة عن عقلية الحضر وعقلية البدو في المملكة العربية السعودية وفي بعض المناطق المجاورة لها في الزمان الحاضر. وهذه الملاحظات وان كانت تتعلق بعرب هذا اليوم، إلا أنها مع ذلك ذات فائدة ومنفعة لفهم العقلية الجاهلية، فالزمان وان تباعد بين عرب الجاهلية وعرب القرن العشرين، إلا إن الخصائص العقلية لأكثر أهل البادية المنعزلين عن عالمهم الخارجي لا تزال هي هي، لم تتغير في كثير من الأمور، بل خذ من نسميهم "الحضر" أو العرب المستقرين في جزيرة العرب، فإن البعيدين منهم عن الأماكن التي لها اتصال بالعالم الخارجي وبالأجانب لا يزالون يحتفظون بكثير من خصائص عقلية حضر اليمن أو الحجاز عند ظهور الإسلام..
وفي حديث "حافط وهبة" عن طباع الحضر أشار إلى اختلاف طباعهم باختلاف أماكنهم، فقال: "والحضر تختلف طباعهم باختلاف المناطق التي يعيشون فيها، وظروف الحياة التي تحيط بهم فأهل حائل أقرب مظهراً إلى البداوة. وأهل مكة والمدينة واليمن العالية أبعد مظهراً عن البداوة من البلاد الأخرى العربية، وأهل القصيم ألين عريكة من أهل العارض، لأنهم كثروا الاختلاط والتعامل مع البلاد الأخرى كالشام وفلسطين ومصر.
أما طباع البداوة، وهي طباع تختلف عن طباع أهل المدن فقد وصفها وهبة بقوله: "أما البدو، فهم القبائل الرحل المتنقلون من جهة إلى أخرى طلباً للمرعى أو للماء، والطبيعة هي التي تجبر البدوي على المحافظة على هذه الحياة، وحياة البدوي حياة شاقة مضنية، ولكنه وهو متمتع بأكبر قسط من الحرية يفضلها على أيَ حياة مدنية أخرى. هذه الحياة الخشنة هي التي جعلت القبائل يتقاتلون في سبيل المرعى والماء، وهي التي جعلت سوء الظن يغلب على طباعهم، فالبدوي ينظر إلى غيره نظرة العدو الذي يحاول أخذ ما بيده أو حرمانه من المرعى." "إن البدوي في الصحراء لا يهمه إلا المطر والمرعى، فأزمته الحقيقية انحباس المطر وقلة المرعى ولا يبالي بما يصيب العالم في الخارج ما دامت أرضه مخضرة، وبعيره سمينا وغنمه قد اكتنزت لحماً وقد طبقت شحماً." "أما إذا نما السكان وضاقت بهم الأرض أو لم تجد أراضيهم بالمرعى، فليس هناك سبيل إلا الزحف والقتال، أو الهجرة إن كان هناك سبيل إليها، وكذلك القبيلة التي غلبت على أمرها وحرمت من مراعيها وأراضيها ليس أمامها سبيل آخر سوى الهجرة".
لقد كان البدو في غارات وحروب مستمرة، كل قبيلة تنتهز الفرص للإغارة على جارتها لنهب مالها، وتعدد ألامارات وتشاحن الأمراء وتخاصمهم مما يشجع البدوي. "ولهذا كان للقبيلة قيمتها في بلاد العرب، فالإنسان يقوى بأبنائه وأبناء عمومته الأقربين والأبعدين، وإذا كانت العصبية ضعيفة أمكن تقوية القبيلة بالتحالف مع سواها حتى يقوى الفريقان ويأمنا شر غيرهما من القبائل القوية." "وقد جرى العرف أن القبائل تعتبر الأرض التي اعتادت رعيها، و المياه التي اعتادت أن تردها ملكاً لها، لا تسمح لغيرها من القبائل الأخرى بالدنوّ منها إلا بإذنها ورضاها، وكثيرا ما تأنس إحدى القبائل من نفسها القوة فتهجم بلا سابق إنذار على قبيلة أخرى و تنتزع منها مراعيها و مياهها."
أي أن القبائل ليس لها مفهوم دولة يتعايش فيها جميع المواطنين، و هذا ما تراه اليوم من انتشار المفهوم العشائري المتخلف على أرض العراق.
و قد استثنى حافظ وهبة بعض القبائل فكتب: "إن قبائل العرب ليسوا كلهم سواء في الشر و التعدي على السابلة و القوافل، فبعضها قد اشتهر أمره بالكرم و السماحة و الترفع عن الدنايا، كما اشتهر بعضها بالتعدي و سفك الدماء بلا سبب سوى الطمع فيما في ايدي الناس."

القيمة الحربية للبدوي
برأي "حافظ وهبة" أنه ليس للبدوي قيمة حربية تذكر، و لذا كان اعتماد الامراء على الحضر، فهم الذين يصمدون للقتال و يصبرون على بلائه و بلوائه. و كثيرا ما كان البدو شرا على الأمير المصاحبين له، فإن ذلك الأمير إذا ما بدت الهزيمة كانوا هم البادئين بالنهب و السلب و يحتجون بأنهم هم أولى من الأعداء المحاربين". "البدوي إذا لم يجد سلطة تردعه أو تضرب على يده يرى من حقه نهب الغادي و الرائح، فالحق عنده القوة التي يخضع لها، و يخضع غيره بها. على أن لهؤلاء قواعد للبادية معتبرة عندهم كقوانين يجب احترامها، فالقوافل التي تمر بأرض قبيلة و ليس معها من يحميها من أفراد هذه القبيلة معرضة للنهب، ولذا فقد اعتادت القوافل قديما إن يصحبها عدد غير قليل من القبائل التي ستمر بأرضها و يسمون هذا رفيقا.

النفاق البدوي
و مع إن البدو قد اعتادوا النهب و السلب، فإنهم حسب وجة نظر "حافظ وهبة": "كثيرا ما يعفون عن أهل العلم خوفا من غضب الله عليهم، و بعض البدو لا يحلف كاذبا مهما كانت النتيجة. و البدوي ينكر إذا وجد مجالا للإنكار، و يفلت بمهارة من الإجابة عما يسأل، و لكن إذا وجه له اليمين و كان لا مفر له اعترف بجرمه إذا كان مذنبا، و لا يحلف كذبا" "و"ليس أعدل من البدوي في تقسيم الغنيمة حتى قد يتلفون الشيء تحريا للعدل، و يقسمون السجادة بينهم كما يقسمون القميص أو السروال"

التأخر
"و البدو لا يفهمون الحياة حق الفهم كما يفهمها الحضري"، هذا ما ذكره "حافظ وهبة" و "لا يفهمون البيوت و هندستها، ولا يفهمون فائدة الأبواب والنوافذ الخشبية، حتى إن البدو الذين كانوا في جيش الملك حسين في الثورة العربية كان عملهم بعد الاستيلاء على الطائف نزع خشب النوافذ والأبواب، لا لبيعها والانتفاع بثمنها بل لاستعمالها وقوداَ أما للقهوة أو الطبخ أو التدفئة، وبدو نجد قد فعلوا مثل ذلك تمامأ، فعندما أسكنت الحكومة بعض القبائل في ثكنة جَرْوَلْ، اكتشفت الحكومة إن النوافذ الخشبية والأبواب تنقص بالتدريج، وأنها استعملت للطبخ وتحضير القهوة، فأخرجهم جلالة الملك تواً من الثكنة، وأسكن الحضر فيها، والحضر بطبيعتهم يفهمون ما لا يفهمه جهلة البدو عن النوافذ والأبواب".
فالبدوي محافظ متمسك بحياته وبما قدر له، معتز بما كتب له وان كانت حياته خشونة وصعوبة ومشقة. ومن هذه الروح المسيطرة عليه، بقي هو هو، لا يريد تجديداً وتطويراً، إلا إذا أكره على التجديد والتغير والتبديل، فهنا فقط يخضع لقانون "القوة"، وهو لا يسلم له إلا بعد مقاومة، و إلا بعد شعوره بضعفه وبعدم قابليته على المقاومة. فيتقبل الأمر الواقع مستسلماً، ومع ذلك يبقى متعلقا بما فيه، يحاول جهد إمكانه التمسك به، ولو بإلباسه ثوباً جديداً. وفي القرآن الكريم آيات بينات فيها تقريع و تعنيف للأعراب، ووصف لحياتهم النفسية. فيها أن الأعرابي محافظ لا يقبل تجديداً، ولا يرضى بأي تغيير كان لا يتفق وسنة الآباء والأجداد. ومنطقه في ذلك: "حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا "، "إنا وجدنا آباءنا على أمة، و إنا على آثارهم مقتدون".
ولهذا لا نجد البدو يؤمنون بصفة التقدم والنشوء والأرتقاء. فالبدوي يعيش أبداً كما عاش آباؤه وأجداده، مساكنه بيوت الشعر، وهي لا تحميه ولا تقيه من اثر أشعة الشمس المحرقة ولا من العواصف والأمطار، ومع ذلك لايستبدلها بيتاً آخر، ولا يفكر في تحسين وضعه وتغيير حاله. وليس من الممكن أن تقوم في هذه البادية ثقافة غير هذه الثقافة الصحراوية الساذجة، ما دام البدوي مستسلماً مسلماً نفسه للطبيعة ولحكم القدر، وهو استسلام اضطر إلى الخضوع له والإيمان بحكمه، بحكم عمل الطبيعة القاسية فيه منذ آلاف السنين.
حتى الطب، هو في البادية طب بدوي متوارث لا يتغير ولا يتبدل، يقوم على المداواة بتجارب "العارفة" في الطب. ولا يطمئن الأعرابي إلى طب أهل الحضر، مهما فتكت به الأمراض وأنزلت به من آلام، ذلك لأن طب أهل الحضر هو طب غريب عليه بعيد عنه، فهو لذلك لا يطمئن إليه. اللهم إلا إذا أقبل عليه رؤساؤه و ساداته، أو أقنع بمنطقه و بطريقة إدراكه هو للأمور أن في الدواء الذي يداوى به شفاءً لمرضه، وعندئذ يقبل عليه ثم يزيد إقباله عليه، حتى يكون مألوفاً عنده، بل يقوم في مثل هذه الحالات باختزان ما يمكن اختزانه من الدواء للمستقبل من غير أن يفكر في كيفية خزنه، أو في المدة المقدرة لعمل ذلك الدواء، وتلفه بعد انقضائها.
و عند ذكر الطب فلا بد من تذكر ما يفكر به المسلمون عما يسموه بـ"الطب النبوي" أو "الطب الاسلامي" أو "الطب الرضوي" ووقوفهم ضد الادوية الحديثة و استبدالها ببول الجمل و غيره.

آراء أخرى في البدو
ومن عادة القسم الأكبر من سكان الجزيرة، ولا سيما البدو، مخاطبة رؤسائهم بأسمائهم أو بألقابهم، لأنهم لا يعرفون الألقاب وألفاظ التعظيم والتفخيم، فيقولون يا فلان ويا أبا فلان ويا طويل العمر.

ذاكرة البدوي الأبدية
والبدوي، لا ينسى المعروف، ولكنه لا ينسى الإساءة كذلك، فإذا أسيء اليه، ولم يتمكن من رد الإساءة في الحال، كظم حقده في نفسه، وتربص بالمسيء حتى يجد فرصته فينتقم منه. فذاكرة البدوي، ذاكرة قوية حافظة لا تنسى الأشياء.

فترى من هذه الملاحظات إن كثيراً من الطباع التيّ تطبع بها عرب الجاهلية ما زالت باقية، وبينها طباع نهى عنها الإسلام وحرمها، لأنها من خلال الجاهلية، و مع ذلك احتفظ بها البدوي وحافظ عليها حتى اليوم، وسبب ذلك أن من الصعب عليه نبذ مما كان عليه آباؤه وأجداده من عادات وتقاليد. فالتقاليد والعرف وما تعارفت عليه القبيلة هي عنده قانون البداوة. وقانون البداوة دستور لا يمكن تخطيه ولا مخالفته، ومن هنا يخطئ من يظن أن البداوة حرية لا حد لها، وفوضى لا يردعها رادع، وان الأعراب فرديون لا يخضعون لنظام ولا لقانون على نحو ما يتراءى ذلك للحضري أو للغريب. انهم في الواقع خاضعون لعرفهم القبلي خضوعاً صارماً شديداً، وكل من يخرج على ذلك العرف يطرد من أهله ويتبرأ قومه منه، ويضطر أن يعيش "طريداً" أو "صعلوكا" مع بقية "الصعاليك".

جد في الكلام هزل في العمل
والعربي رجل جاد صارم، لا يميل إلى هزل ولا دعابة، فليس من طبع الرجل أن يكون صاحب هزل و دعابة، لأنهما من مظاهر الخفة والحمق، ولا يليق بالرجل أن يكون خفيفاً. ولهذا حذر في كلامه وتشدد في مجلسه، وقل في تجمعه الإسفاف. وإذا كان مجلس عام، أو مجلس سيد قبيلة، روعي فيه الإحتشام، والابتعاد عن قول السخف، والاستهزاء بالآخرين، وإلقاء النكات والمضحكات، حرمة لآداب المجالس ومكانة الرجال.
وإذا وجدوا في رجل دعابة أو ميلاً إلى ضحك أو إضحاك، عابوا ذلك الرجل وانتقصوا من شأنه كائناً من كان، وعبارة مثل "لا عيب فيه غير أن فيه دعابة، أو "لا عيب فيه إلا أن فيه دعابة "، هي من العبارات التي تعبر عن الانتقاص والهمز واللمز.

رأي قرآني في الأعراب
ووصف الأعراب في القرآن الكريم:
* بالغلظة والجفاوة
* وبعدم الإدراك
* وبالنفاق وبالتظاهر في اللسان بما يخالف ما في الجنان.
(قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) . (وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ) .
فالأعرابي "البدوي" إنسان لا يعتمد عليه، مسلم ومع ذلك يتربص بالمسلمين الدوائر، فإذا خذل المسلمون في معركة، أو شعر بضعف موقفهم خذلهم وانقلب عليهم، أو اشترط شروطاً ثقيلة عليهم، بحيث يجد فيها مخرجاً له ليخلص نفسه من الوضع الحرج الذي أصاب المسلمين. فلا يكلف نفسه، ولا يخشى من مصير سيئ ينتظره إن غلب المسلمون.
(الأعراب أشد كفراً ونفاقاً وأجدر ألاّ يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله، و الله عليم حكيم. ومن الأعراب من يتخذه ما ينفق مغرماً ويتربص بكم الدوائر علهم دائرة السوء والله سميع عليم).
والأعرابي لم يُسِلمْ في الغالب عن عقيدة وعن فهم، إنما أسلم لأن رئيسه قد أسلم فسيّد القبيلة إذا آمن وأسلم، أسلمت قبيلته معه. وقد دخلت قبائل برمتها في النصرانية لدخول سيّدها فيها. وقد وردت في سورة الحجرات هذه الآيات في وصف بعض الأعراب: (قالت الأعراب آمنا، قل: لم تؤمنوا، ولكن قولوا: أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم. وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم في شيئاً. إن الله غفور رحيم. إنما المؤمنون، الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، أولئك هم الصادقون. قل أتعلّمون الله بدينكم ؛ والله يعلم ما في السموات وما في الأرض. والله بكل شيء عليم. يمنّون عليك أن أسلموا. قل لا تمنّوا عليّ إسلامكم، بل الله يمن عليكم، أنْ هداكم للإيمان إن كنتم صادقين(.
وقد استثنى القرآن الكريم بعض الأعراب مما وصمهم به من الكفر والنفاق والتربص وانتهاز الفرص فنزل الوحي فيهم: (ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر، ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول، ألا إنها قربة لهم، سيدخلهم الله في رحمته، إن الله غفور رحيم(.

الغلظة و الخشونة البدوية
وقد وصف الأعراب بالغلظة والخشونة، فقيل، أعرابي قُحّ ، وأعرابي جلف، وما شاكل ذلك. وفي الحديث "من بدا جفا"، أي من نزك البادية صار فيه جفاء الأعراب.
وذكر أن الرسول وصفه "سراقة" وهو من أعراب "بني مدلج" بقوله: "وان كان أعرابيا بوّالاً على عقبيه". وأنه نعت "عُيَيْنَة بن حصن" قائد "غطفان" يوم الأحزاب ب "الأحمق المطاع". "وكان دخل على النبي صلى الله عليه وسلم بغير اذن، فلما قال له أين الإذن؟ قال ما استأذنت على مضربي قبلك. وقال: ما هذه الحميراء معك يا محمد؟ فقال: هي عائشة بنت أبي يكر. فقال: طلقها وانزل لك عن أم البنين. في أمور كثيرة تذكر من جفائه. أسلم ثم ارتد وآمن بطليحة حين تنبأ وأخذ أسيراً فأتي به أبو بكر، رضي الله عنه، أسيرا فمن عليه ولم يزل مظهراً للإسلام على جفوته وعنجهيته ولوثة اعرابيته حتى مات".

الأنانية
و قد تأصلت الفردية في انفس الأعراب وفي أنفس أشباه الحضر وفي اكثر الحضر، حتى صارت أنانية مفرطة، عاقت المجتمع العربي في الجاهلية وفي الإسلام عن التقدم و عن التوثق و الاتحاد، وفي الأدبين الجاهلي و الإسلامي أمثلة عديدة سارت بين الناس تمثل هذه النظرية الضيقة إلى الحياة. ورد في الحديث عن أبي هريرة أنه قال: "قام رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى الصلاة، و قمنا معه، فقال أعرابي في الصلاة: اللهم ارحمني و محمدا، و لا ترحم معنا أحدا". فقدم نفسه على الرسول، مع انه مسلم يحمله دينه و أدبه، أدب الإسلام، على تقديم الرسول عليه، ثم انه لم يخصص أحداً بالرحمة غير الرسول و غير نفسه مدفوعا بهذه الأنانية القبيحة. وكثيرا ما تسمع الناس يتمثلون بقول أبي فراس:
"إذا مت ظمآنا فلا نزل القطر".
يتمثل به الحضر تعبيرا عن فلسفة و وجهة نظر قديمة إلى هذه الحياة، مبعثها الوضع السيئ العام القلق الذي عمّ المجتمع وما زال يعمه، والذي جعل الفرد يشعر بعدم وجود من يحميه و يساعده ، فتحول غضبه إلى عقيدة مؤذية مضرة و يا للأسف.
"و البدواة عالم خاص قائم بذاته، تكونت طباعها و خصائصها من الظروف التي نشأت فيها، لها مقاييسها و موازينها الخاصة، وهي مقاييس و موازين تختلف عن مقاييس الحضر و موازينهم، الحضر البعيدين عن البادية و عن أحوال البداوة، و لذلك اختلفت افهام الجماعتين و تباعدت عقليتهما، ومن هنا يظهر خطأ من يحكم على البداوة بمقاييس أهل الحضارة و يفسر ما يقع من الأعراب تفسيره لما يقع من أهل المدر من أعمال، ومن هنا أيضا نجد أن البدواة لا تستطيع فهم منطق الحضر ولا تستسيغ أسلوب حياتهم، ولا تأمنهم، لأن عالمها يختلف عن عالم الحضر، ولأنها تجد من قيود الريف والمدن ما يصعب عليها تحمله، ولأنها ترى في الحضر جماعة حيل وشر. ومكر فلا تأمنهم، ولا تستطيع أن تطمئن اليهم، مهما أظهر الحضر نحوها من عطف و إحسان. وقد كابدت البداوة كثيراً كما كابدت الحضارة كثيراً أيضا من جراء سوء الفهم هذا الناجم من اختلاف العقليتين".

الاحتقار المتبادل
و البدوي يحتقر الحضري مهما أكرمه، كما إن الحضري يحتقر البدوي، فإذا وصف البدوي الحضري، فإنه في الغالب يقول حُضيري تصغيرا لشأنه.
و ذُكر إن "الأعرابي إذا قيل له يا عربي فرح بذلك وهشّ، والعربي إذا قيل له يا أعرابي غضب". وذلك لازدراء العربُ الأعرابَ، و لارتفاعهم عنهم في العقل وفي الثقافة والمنزلة الاجتماعية.
وهذه الصفات التي لا تلائم الحضارة ولا توائم سنن التقدم في هذه الحياة، هي التي حملت الإسلام على اعتبار "التبدي" أي "التعرب" بعد الهجرة ردّة على بعض الأقوال وعلى النهي عن الرجوع إلى البادية والعيش بها عيشة أعرابية. فلما خرج "أبو ذر" إلى الربذة قال له عثمان بن عفان: "تعاهد المدينة حتى لا ترتد أعرابياً". فكان "في يختلف من الربذة إلى المدينة مخافة الأعرابية". ولما وصل "عبد الله بن مسعود" الربذة، ورأى ابنة أبي ذر وهي حائرة وكان والدها قد فارق الحياة لتوّه، سألها: "ما دعاه إلى الاعراب". وفي الحديث: "ثلاث من الكبائر منها التعرب بعد الهجرة". وهو أن يعود إلى البادية ويقم مع الأعراب بعد أن كان مهاجراً. وكان من رجع بعد الهجرة إلى موضعه من غير عذر يعدّونه كالمرتد. وذلك بسبب جفاء الأعراب والجهالة، ومن هنا كرهت شهادة البدوي على الحضري فورد في الحديث "لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية". لأنهم في الغالب لا يضبطون الشهادة على وجهها وِلمَا في البدوي من جفاء وجهالة بأحكام الشرع.
وقد عُرفَ العربي الحضري ب "القراري"، أي الذي لا ينتجع ويكون من أهل الأمصار، وفيها، أن كل صانع عند العرب قراري. وهذه النظرية هي نظرة أهل البداوة بالنسبة لأهل الحاضرة، فالصانع عندهم إنسان مزدرى لاشتغاله بصنعة من هذه الصنائع التي يأنف منها العربي الحرّ.
والحق أن النعوت المذكورة لا تلازم جميع الأعراب ولا تنطبق عليهم كلهم. فهم يختلفون مثل أهل الحضر، باختلاف مواضعهم، من قرب عن حضارة ومن بعد عنها، ومن وجود ماء ونصب، أو جدب أو فقر، وما شاكل ذلك. كما أن بعض النعوت المذكورة تنطبق على بعض أهل المدر أيضا. ولهذا نجد القرآن الكريم يطلقها عليهم، ولكن لا على سبيل التعميم بل على سبيل التخصيص، فهي نتائج ظروف خاصة وأحوال معينة، لا بد وأن تؤثر في أصحابها فتكّسبهم تلك الصفات والمؤثرات. كما أن العرب، أي الحضر، لم يكونوا كلهم في التحضر على درجة واحدة سواء، فبينهم اختلاف وتباين، وبهذا التباين تباينت خصائصهم النفسية بعضهم عن بعض.
والبدوي الذي تمكن الحكام من ضبطه بعض الضبط ومن الحد من غاراته على الحضر أو على البدو ألآخرين، هو البدوي نفسه الذي عاش قبل الميلاد وفي عهد إسماعيل، والذي قالت في حقه التوراة: "يده على الكل و يد الكل عليه". و هو سيبقى كذلك ما دام بدويا ترتبط حياته بالصحراء، ينتهز الفرص كلما وجد وهنا في الحكومات (و هذا ما نراه اليوم في العراق) وقوة في نفسه على أخذ ما يجده عند الآخرين، وهو إن هدأ و سكن، فلأنه يجد نفسه ضعيفا تجاه سلطة الحكومة، ليس في استطاعته مقاومتها لضعف سلاحه، فإذا شعر بقوته لم يخش عندئذ أحد.

نظرة الحضري للبدوي
ويظهر البدوي في عين الحضري الحديث، وكأنه إنسان مزدوج الشخصية جامع للنقيضين، له وجهان. فهو محارب يحارب معك وفي صفوفك، أما إذا شعر أن الهزيمة ستحل بك، فإنه أول من ينقلب عليك، فيمعن عندئذ في سلبك ما معك ونهبه، لا فرق عنده أن يكون الذي حارب معه وفي صفوفه عربياً أو أعجمياً. شريفاً من أسرة عريقة أم قائداً محترفا. وهو كريم جواد يقدم لضيفه آخر شيء عنده ليأكله ويحبيه بكل وسائل الاكرام، ولكنه لا يمتنع من سلب غريب يجده في طريقه، ومن أخذ ما عنده. وهو رجل متدين لا يحلف كاذباً مهما رأى النتيجة، ولكن تدينه تدين بدوي سطحي إلى غير ذلك من متناقضات.

والحضر الذين نظروا إلى الأعراب، نظرة استصغار وازدراء، لما بينهم وبين الأعراب من تفاوت في الثقافة وفي العقلية، هم أنفسهم وفي الواقع أشباه حضر، وأخص من هؤلاء الحضر حضر الحجاز، فخصائص التعرب غالبة عليهم، تزيد على خصائص الحياة الحضرية. فقد قامت قراهم مثلاً وأعظمها مكة ويثرب على الفكرة الأعرابية القائمة على أساس النسب، فكل من مكة ويثرب شعاب، كل شعب لفخذ أو عائلة أو ما أشبه ذلك من أسماء تدخل في أسماء أجزاء القبيلة، تتعصب وتتحزب وتتقاتل فيما بينها وتتحالف، كما يتقاتل أو يتحالف الأعراب. ثم إنهم كانوا يأنفون من الاشتغال بالحرف، تماما كما يفعل البدو، ويعافون الزراعة في الغالب، لأن الزراعة في نظرهم من أعمال النبط والرقيق، والروح الفردية سائدة بينهم، موجودة عندهم، إلا في أوقات الشدة والضيق، والفردية الجامحة من طبائع البادية ومن خصائصها، إلى أمور أخرى عديدة تعدّ من صميم الحياة الأعرابية. وسبب ذلك أن هذه المستوطنات التي سموها قرى كانت وسطاً بين البداوة والحضارة، وكانت كالجزر الصغيرة وسط المحيطات الواسعة، محيطات من الأعراب،، تستمد غذاءها الروحي والمادي من البداوة أكثر مما تستمده من الحضارة. أضف إلى ذلك عامل الطبيعة الذي يلعب دوراً خطراً في تكون المجتمعات وفي تكييفها بالشكل الملائم. ولذلك لم تتكون في يثرب أو في مكة أو في غبرها حياة مشابهة لحياة الحضر العجم في الأماكن الأخرى مثل مدن وقرى العراق وبلاد الشام ومصر، بل وحتى حضر مدن اليمن وهم من العرب بالطبع.
ومن هنا نجد حضر اليمن، بل وأعراب اليمن أيضا يختلفون عن حضر وأعراب الحجاز ونجد والعربية الشرقية، في كثير من الخصائص والصفات. مع أنهم كلهم عرب ومن أصل واحد. فحضر اليمن، حضر لا يأنفون من العمل ولا يستصغرون شاًن الحرف. ولا يأنفون من الزراعة. بينهم الحائك والنساج والمشتغل بالأرض، والصانع والحداد والنجار وعامل البناء، وقالع الحجر ومربي الماعز والغنم والبقر، وزارع الخضر والبقول، ودابغ الجلود، مع أنها حرف يراها العربي في بقية مواضع جزيرة العرب من حرف اليد والطبقات الدنيا من الناس.
و أعراب اليمن، الذين ميزهم حضر اليمن عن أنفسهم في الجاهلية بإطلاق لفظة "اعرب" عليهم، لأنهم لم يكونوا في مستواهم وفي درجتهم في الحضارة. هم مع ذلك وبوجه عام أرقى مستوى وأكثر إدراكا من أعراب الحجاز ونجد. لقد وطنوا أنفسهم في أطراف الحواضر وعند مواضع الماء والخصب، وزرعوا ورعوا ماشية وأنعاماً، واستقروا في بيوت من مدر أو حجارة. وهي حياة لا يألفها البدوي القح. ولا يراها من مقوّمات البداوة. ثم انهم لم يكونوا رحلاً على شاكلة أعراب الحجاز أو نجد أو بادية الشام. وإذا كنا نرى بعض قبائل اليمن، وهي ترحل من مواضعها، فرحيلها هذا هو عن سبب قاهر، مثل حروب أو كوارث طبيعية تجعل من الصعب عليها البقاء في منازلها، فلا يكون أمامها للمحافظة على حياتها غير الرحيل إلى مكان آخر. انهم بالقياس إلى عرب الحجاز أو نجد رعاة أو شبه أعراب.

نظرة البدوي للحضري
أما الأعرابي، فيسخر من اتهام الحضري له بهذه التهم، ويعجب من سذاجة منطقه وحكمه، فمنطقه في نظره منطق رجل ساذج مريض معلول، وحكمه حكم إنسان ضعيف ذليل. وإلا فكيف يسمع عقل إنسان سليم لإنسان مثلاً أن يترك أموال صاحبه أو أصحابه تقع في أيدي غيره أو أعدائه، يأخذونها لينعموا بها وليفتخروا بحصولهم عليها، ثم لا يمد هو يده إليها يأخذ منها ما يحتاج أليه ويريد؟ ألا يدل هذا العمل على السخف والضعف وفساد الرأي؟ أن المحارب في نظر الأعرابي أولى من غيرة بأموال زميله المحارب، وهو أحق بها من أي إنسان آخر للحصول عليها إن داهمه خطر، وشعر أن تلك الأموال ستقع في أيدي عدوه، فهو زميله وصديقه، وهو فوق ذلك به حاجة أليها، فمن حقه الطبيعي إذن أن يأخذها ولو عنوة ويولي بها ليحرم عدوه الحصول عليها والحصول على أي مكسب كان من هذه الحرب. ثم إنه إن لم يباشر أخذ ما يجده أمامه في الوقت الملائم، فإن غيره سيأخذه حتماً، وقد يكون غيره هو خصمه وعدوه. ولما كانت النفس مقدمة على غيرها، كان من العقل والحكمة أن يأخذ حقه بنفسه، وإلا ضاع حقه عليه وأفلت منه. ومن هنا اختلف منطقه عن منطق الحضري وباين حكمه على الأمور حكم الحضري.
فترى أذن أن للأعراب رأياً في الحضر يشبه رأي الحضر فيهم، أي رأي فيه ازدراء و حط من شأن الحضر ومن مجتمعهم الذي يعيشون فيه، ومن قيمهم في هذه الحياة، وهو رأي تكون عندهم من بيئاتهم التي يعيشون فيها ومن ثقافتهم الخاصة بهم، التي تفسر الأمور بمقاييسها وأوزانها، وهي مقاييس وأوزان بعيدة عن مقاييس الحضر والحضارة. فالبداوة ثقافة خاصة بهذا العالم، عالم البداوة، والحضارة ثقافة أخرى خاصة بالحضر، وبين الثقافتين بَوْن وخلاف.

المسلمون من غير العرب
والإسلام الذي صهر الأعاجم في بوتقته، وجعلهم جنوداً يحاربون في الصفوف الأمامية لنشره وإعلاء كلمته، لم يلبث أن أنساهم أصولهم ولغاتهم، فحوّلهم بذلك إلى عرب من حيث لم يشعر العرب ولا الأعاجم أنفسهم به.
أن الأعاجم المتعربين أي الذين ينزلون بين العرب وينسلون بينهم ويتخذون العربية لساناً لهم، سرعان ما يتعربرون كل التعرب، ويتحول أبناؤهم إلى جيل عربي خالص، حتى ليصب عليك التفريق بينهم وبين العرب في الرسوم والعادات والتفكير، وذلك بتأثير المحيط الذي حلوا به، والظروف الطبيعية المؤثرة بالمكان. وقد تعرب آراميون في العراق وفي بلاد الشام، وصاروا عرباً في كل شيء، وقد وجدت البعثة الأمريكية (لم يذكر المؤلف تاريخ وصولها) التي جاءت إلى العراق للبحث عن السلالات البشرية إن في دماء القبائل العربية التي ترى نفسها إنها قبائل عربية خالصة نسباً مختلفة من الدماء الغربية.

واقعية البدوي
والأعرابي واقعي، تتأثر أحكامه بالواقع الذي يراه، وبمقياس المادية التي تتمثل عنده، يؤمن بالروح، ولكنه يحولها إلى ما يشبه المادة الملموسة. يؤمن بإلّه أو بآلهة، كما كان في الجاهلية ولكنه حوّل تلك الآلهة إلى أوثان وأصنام، يلمسها ويحسها بيديه، فيتقرب أليها ويتوسل بها، وخاف من الأرواح مثل الجن والأرواح الخبيثة التي صورها عقله، أكثر من خوفه من آلهته، فإذا نزل مكاناً قفراً، أو محلاً موحشاً، أو دخل مكاناً مظلماً أو كهفاً، تعوذ من الأرواح، واحتال عليها بمختلف الحيل التي ابتكرها عقله، ليتغلب عليها وليتخلص منها. فهو يخافها اكثر من خوفه من الآلهة، لأنه جعلها تعيش معه في كل مكان، فهي تحيط به. أما الالهة، فإنها بعيدة عنه، ثم إنها لا تؤذي، ومن طبع الإنسان التخوف من المؤذين.
والعربي الجاهلي لم يكن يؤمن بحياة ثانية بعد الموت، لأن هذا العالم الثاني عالم غير محسوس بالقياس إليه. ولهذا لم يتصوره كتصور غيره من الأمم الأخرى، بل هو لم يتعب نفسه بالتفكر فيه، ولهذا كانت مراسيم دفن الميت بسيطة جداً، لا تكلف فيها ولا تعقيد، على نحو ما نجده عند الحضري أو العجم، متى دفن في قبره وهيل التراب عليه، انتهى كل شيء. ولهذا كاد عجبهم شديداً إذ سمعوا بالبعث وبالقيامة والحشر والنشر. (أ إذا امتنا وكنا تراباً وعظاماً أإنا لمبعوثون، أو آباؤنا الأولون؟). وكان قائلهم يقول:
حياة، ثم موت، ثم نـشـر: حديثُ خُرافة، يا أم عمرو!
وقال شدّاد بن الأسود بن عبد شمس بن مالك، يرثي قتلى قريش يوم بدر:
يحدثنا الرسول بأن سنحيا وكيف حياةُ أصداءٍ وهامِ
وقد ورد البيت المذكور في صورة أخرى في كتاب "الصبح المنير في شعر أبي بصير"، في باب شعر "أعشى نهشل"، ورد في هذا الشكل:
وكائن بالقليب قلـيب بـدر من الفتيان والعرب الكرام
أيوعدني ابن كبشة أن سنحياً وكيف حياة أصداءٍ وهامِ ؟
أيعجز أن يرد الموت عني وينشرني إذا بليت عظامي
ألا مَنْ مبلغ الرحمن عني بأني تارك شهر الـصـيام
فقل لله يمنعنـي شـرابـي وقل لله يمنعني طعـامـي

في النهاية

ما دفعني إلى كتابة هذه الكلمات هو استلامي من أحد الأصدقاء لعدد من صور بغداد كانت قد صورت قبل مائة سنة مع صور أخرى لنفس المواقع صورت قبل بضعة سنين، و لم أجد أي فرق بين الصور المأخوذة قبل مائة سنة و الصور المصورة "حديثا". فالعرضحالجي و مسطبته هو نفسه، عفوا هو ابن لحفيد الأول و هكذا..
و إذا ما أراد العراقي أن يتقدم قليل فإننا لانرى إلا و عصي التأخر المتشبثة بماضي الظلام توضع في عجلة الحضارة و التقدم.

محيي هادي – أسبانيا
13/08/2007



#محيي_هادي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حيرة عراقي
- عليك مني السلام يا أرض أجدادي
- زعران و جرذان؟
- أسئلة من جاري
- الأساطير العبرية و علاقتها بأساطير أخرى
- أسئلة عن الله
- أساطيرٌ عبرية: وعد الله لابراهام
- البدون و الانسانية على الطريقة العربية
- سؤال إلى المرحوم نزار عن مصير الأشرار
- ما يريده أعراب النفاق
- حكم الاعدام بين المبادئ و النفاق
- العقل و الدين
- التقديس و الخرافة
- جنة البله و المجانين... و الإرهابيين
- شهر رمضان بين الحروب و نوم الموظف الكسلان
- بين أشرار المسلمين و أخيارهم
- الحجر الأسود 05/05
- الحجر الأسود 04/05
- العشائر
- الحجر الأسود في كتب التراث 03 /05


المزيد.....




- أنباء عن نية بلجيكا تزويد أوكرانيا بـ4 مقاتلات -إف-16-
- فريق روسي يحقق -إنجازات ذهبية- في أولمبياد -منديلييف- للكيمي ...
- خبير عسكري يكشف مصير طائرات F-16 بعد وصولها إلى أوكرانيا
- الاتحاد الأوروبي يخصص 68 مليون يورو كمساعدات إنسانية للفلسطي ...
- شاهد: قدامى المحاربين البريطانيين يجتمعون في لندن لإحياء الذ ...
- وابل من الانتقادات بعد تبني قانون الترحيل إلى رواندا
- سوريا.. أمر إداري بإنهاء استدعاء الضباط الاحتياطيين والاحتفا ...
- طبيب: الشخير يمكن أن يسبب مشكلات جنسية للذكور
- مصر تنفذ مشروعا ضخما بدولة إفريقية لإنقاذ حياة عدد كبير من ا ...
- خبير أمني مصري يكشف عن خطة إسرائيلية لكسب تعاطف العالم


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - محيي هادي - العقلية العربية- قراءة في كتاب د. جواد علي