أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كمال سبتي - مقالان في مهاجمة الحداثة















المزيد.....


مقالان في مهاجمة الحداثة


كمال سبتي

الحوار المتمدن-العدد: 1996 - 2007 / 8 / 3 - 09:00
المحور: الادب والفن
    


-أمامي مقالان يهاجمان الحداثة ، أو بيانان ، كما قال أحد كاتبَيْهما عن مقاله تصريحاً، وكما سعى ثانيهما إلى ذلك تلميحاً، بل هو تمنى أن يكون مقاله نداءً.
الأوّل بعنوان موت الحداثة للشاعر العراقي خزعل الماجدي " مواليد 1951"، والثاني بعنوان ثياب الإمبراطور للشاعر العراقي أيضاً ، فوزي كريم "مواليد 1945".
والمقالان أو البيانان إن شئتَ ذلك ، هما التباسان ثقافيان في أدلّ مايكون عليه الالتباس من معنىً كما هو اشتباه وخلط ، في المعاجم ، أوكما قصده عليٌّ في معركة الجمل حين أجابَ أحدَهم :( إنَّ الأمرَ لملبوس عليك..).
نشر خزعل بيانه في مجلة الطليعة الأدبية البغدادية عام 1999، وأمّا المقال الثاني ، فلم أره حين نُشِرَ في جريدة الحياة اللندنية عام 1992 ، ولم أهتدِ إليه ، إلا بعد أحَدَ عشَرَ عاماً.!
المقالان التباسان ثقافيان ، كما قلت ، فيسعى الكاتب الأول إلى الخروج من الالتباس في مقاله بجرد تاريخي للمدارس الفنية التي عرفتها أوروبا ، لبناء مرجعية ما للمقال. بينما يسعى الكاتب الثاني إلى الخروج من الالتباس بِإيراد أمثلة من شعراء ، ومن نقاد، مقتطعة من قصائد أو من دراسات نقدية ، لإقناع القارىء بقضية المقال.
الأول - وهو أول لأنني قرأتُ مقاله قبل مقال فوزي - يحاول أن يستنجد بمعلومات سريعة ، مدرسية، تاريخية عن نشوء المدارس الأدبية، مستلة من كتب التاريخ الأدبي في أوروبا، يقول بين سطورها كلاماً موضوعاً- في الإِنشاء - كأنْ يقول :(انَّ استرخاءنا الكسول امام الحداثة والنظر الى بلدوزرها الفخم وهو يقلع الأخضر واليابس من أرضنا.. وإعجابنا بهذا الهول والجبروت سيجعلنا ذات يوم فريسة لها وسنمزق على سرفتها " لماذا ليس تحتها ؟ " عقولنا وأرواحنا.)
لا تعليق لديّ ..
ويقول :
(أميل الى أن نضع أنفسنا مراقبين لها لمسافة معقولة "ما معنى معقولة هنا ؟ " وأن نراقب مشكلاتها وأمراضها وغريزتها الكاسحة.. وسأحاول هنا ان اقوم بهذا الدور بعد أن كنت في مركزها ، وسأريكم ما رأيت وأنا على هذه المسافة المعقولة منها.)
كنت متحفّظاً ،في بغداد ، على فهم الصديق الماجدي للحداثة ، بل ومعارضاً في مقالاتٍ عديدة ما كان يفعله من كبِّ القاموس اللغوي كَبّاً على الورق وتسمية مايفعله شعراً.
لم تكن الحداثة في نسختها الأوروبية لعباً لغوياً ، ولم أطّلع على نصٍ واحدٍ فيها ، في دراستي الجامعية ، أو في قراءاتي الخاصة ، يدلل على هذا ، فما بالك اذا كنا لا نشبّه أنفسنا بالحداثة الأوروبية ، بل نقول بأن لنا هماً ومصيراً آخرَيْن ؟
ما شأني أنا والكلام المدرسي عن نشوء المدارس الأدبية في أوروبا ؟ فنحن نستطيع أن نقرأها في كتاب والسلام ، بل فينا من درس نشوءها أكاديمياً، فهو يعرف عنها- قطعاً- أكثرَ مما في البيان. إن القارىء يحتاج فهماً عقلياً للحداثة أكثر من إنشاء في الكلام قد لا يضيف شيئاً جديداً.
ثمَّ يقول في مكان آخر : (الثورة الصناعية التي نمت الحداثة في أجوائها والتي حصلت قبل قرنين في المجتمع الغربي لم تظهر الى الآن في المجتمع العربي ، وهكذا ظلّت الحداثة العربية بلا ظهير فلسفيّ ولا قاعدة تكنولوجية واجتماعية متطوّرة أي انها دخلت المجتمع العربيّ مثل محارب أعزل تنتظره آلاف الشراك والحفر والمصاعب.)
قد يكون مانقلت من كلام الشاعر الماجدي هو زبدة لمقال يتوخى مناقشة الحداثة المنتقلة إلى بلادنا ، جدياً، على الرغم من خلافي العميق معه – في حال حداثتنا - لكنه شاء أن يكوّن في ذهنه فكرة " شرق أوسطية " كما في مقطع السرفة ، سترافقه حتّى الكلمة الأخيرة من بيانه :
(انَّ الحداثة الآن هي مؤسسة ، ينبغي تحويلها الى "فكرة !!" أي ارجاعها إلى ما كانت عليه قبل أدلجتها وعند ذاك ستقلع لوحدها مكاتب وكراسي وبيروقراطيات الحداثة..)يبدو لي "خزعل" هنا وكأنه يتحدَّث عن دائرة في وزارةٍ مّا..!
ويقول : (انَّ بؤس مؤسسة الحداثة يأتي من طردها المتصل لكلّ ما هو قديم تاريخياً ، وهذه واحدة من أكبر مشكلاتها ، فهي لم تعمل على محاربة البالي والقديم في عصرها فقط بل اختلطت عليها الإمور وشهرت رماحها بوجه الماضي كله.)
من أين أتى الصديق خزعل بهذا ؟ ومن قاله له ؟ والحداثة بحث وتقصٍ في الماضي على الدوام ، و من أين لها تلك الرماح ؟ وشعراؤها قضوا مرضى ومجانين وعزّلاً ومنتحرين ، ثمّ ماهذا التعبير البدويّ "شهرت رماحها" في الحديث عن الحداثة ! ؟
اذن فقد كوّن في ذهنه قضية عن شيء مّا سماه الحداثة أو توهَّم أنه الحداثة ، كما يكوِّن العرب قضاياهم الوهمية في أكثر الأحيان ، وكما يحرصون على تسويقها عادة في شيءٍ من الإثارة .
فمركزية الحداثة قد تحوّلتْ الى إيديولوجيا ، وهذه: تهضم وتدفن وتطرد وتسحق التيارات والحركات والألوان المحلية ، وهذه الأفعال المضارعة " العنيفة "، هي كلها لخزعل أنقلها على التوالي من مقطع آخر في بيانه، ولم يقل لنا اسم المصدرالذي أفاده في كتابة بيانه، أو تحديداً ، في كتابته عن الحداثة ، والمدارس الأوربيتين.
ومثلما الحداثة عنده مؤسسة ، وإيديولوجيا ، فهي أيضاً غول وتنين وهي جهاز آليّ ضخم.. وما إلى ذلك من فكاهاتٍ عديدة.
وغير هذا ،هي كتابة تلتجىء إلى التقنية والمعلومة المدرسية " على تشوّشها " ، مفرغة كل قصتنا من أي عذاب روحي.
لكنه يعلن موت الحداثة !، وهو يذكِّرني هنا بدون أن يدري ، مع الفرق في جدية الحال، بما فعله ثربانتس ، عندما أمات دون كيخوتة في نهاية القسم الثاني من عمله الشهير ، حتى يقطع الطريق على المؤلفين المزوِّرين ، من تأليف أقسام إضافية لعمله .
لقد ترك الحداثة، لكنه يعزّ عليه أن يبقيها لغيره.. فأَماتَها.!
وماذا بعد ؟
أعاب الماجدي على الحداثة عندنا افتقارها للقاعدة التكنولوجية والإجتماعية، وللظهير الفلسفي في مقطع منقول من كلامه.
وكأنّ شهداءَ الآداب ، كانت لهم " قواعد تكنولوجية ،أو اجتماعية" حين صُلِبوا ، أو ظهير فلسفي.
بعد ذلك ، نستشف من القضية الوهمية التي كوَّنها عن الحداثة أن الرجل كان يريد حداثة مفصَّلة على مذاقه تفصيلاً وتتماشى مع تقلباته الفكرية ، ليتآلفَ ، ببرود ، مع تحصيل معرفي وتقني فيها -لا يقول لنا مصدره- خالٍ من أية تراجيديا شخصية.
تعبيرات حربية ، ومفردات عنف في البيان المكوّن من سبع صفحات:
*ليس المطلوب من بيان كهذا اطلاق الرصاص على الحداثة الغربية أو العربية "السطر الأوّل"
*القيود والأمراض التي أنتجتها ايديولوجيا الحداثة والتي أصبحت تقف أمام حرية الشاعر وتقلل من مساحة أفقه وتقمع بمركزيتها.
*انَّ الحداثة نفسها أصبحت غولاً ضخماً.
*أعجابنا بهذا الهول والجبروت سيجعلنا ذات يوم فريسة لها وسنمزق على سرفتها عقولنا وأرواحنا.
*..بل انَّ بعضها جاء كثورة كاسحة على الآخر.
*وهكذا أصبحت الحداثة برأسها وجذعها وأطرافها غولاً أو تنيناً صناعياً مرعباً تتلاعب في جسده أسماك وطيور وحيوانات عديدة حية يراد لها فك سجونها ..
*.. يصل إلى حد سلبها من الروح الإنساني وتبدو مأسورة في أقفاص تدار آليّأً ..
*فأذا ما أدركنا انّ كلّ هذه المنظومة الجبّارة التي تعمل مثل جهاز آليّ ضخم..
*.. فهناك أزمة وعنف وبداية تحطم..
*وهناك تحطم ما يتحطّم على الأرض العربية..
* مثل محاربٍ أعزل تنتظره آلاف الشراك والحفر والمصاعب..
*..كشفِ عنفِها وتعسفِها..
*واستطاعت ان تخلق من أية حركة جديدة كوكباً يُدفَنُ في هذا المركز..
*بل انها عملت على سحقها..
*ان مركزية الحداثة مارست هنا دوراً دكتاتوريّاً تعسفيّاً..
*حتى صار من الصعب زحزحته..
*فقد دارت بينهما"أي الكلاسيكية والحداثة" حرباً شعواء..
*مما قطع عنها الهواء..
*قد يقود الى الإطاحة بكل هذا..
*سمحت الحداثة لنفسها ان تكون العصا اتي تضرب..
*اذن كانت قطعاً عنيفاً وهمياً..
*نفخ في الشكل اللغوي حتى اصبح ورماً وسحق تحته جوانب الشعر الأخرى..
*الهمّ اللغويّ الذي طحن تحته العوامل الأخرى..
*أصبح الشعر....مهارة لغوية وشكلاً لغوياً تسلطياً يذكرنا بعنف التقنيات الذي هو عنف عقلي..
*بعد أن كشفنا الآليات التعسفية للحداثة والتي عملتْ على طرد المحيط..
*وأظننا الآن في مرحلة احتضار الحداثة..
*لا يمكننا أن نستخدم العنف مع المؤسسة الحداثوية لتحطيمها لأن هذا سيؤدي
إلى كارثة جديدة..
*انها حرب ايديولوجيا..
*بل نكون قد اِستخدمنا نفس السلاح..
*سيطردُ فئراناً ويقلع اصناماً..
*وشهرت رماحها بوجه الماضي كله..
*لذلك فهي تقدم عنقها للبتر ودفن ما..
*العنف الذي تنطوي عليه.
*يسبِّب دماراً كبيراً وقد يسبّب عنفاً مضاداً..
*مثل سيف المتعصِّب..إلخ
" ملاحظة : لقد غضضت النظر عن تعبيرات ومفردات أخرى في البيان ، لاتقل عنفاً عما اخترته هنا ، مقتنعاً بأن ما اخترته كان كافياً لتقديم صورة ما عن لغة الكاتب في بيانه.."
والثاني ، يبدأ مقاله بإشكالٍ معرفي واجتماعي ، لا أستطيع حقاً أن أصوّر حجمه لكم ، لكنه يرميه بارداً ، في جهة هي غير جهته في التاريخ وفي الأدب وفي الحياة وفي الدراسات الجامعية.. يقول الشاعرفوزي :
( الهوة التي تفصل الشعر عن جمهوره لم تعد مدعاة مباهاة لعدد غير قليل من الشعراء بل هي مدعاة يأس دفع كثيرين الي مزيد من تعميق الهوة ، أو الى اغفالها واللامبالاة بها . الشعر الذي عمق الهوة ، بفعل عوامل أقل شرفا من الشعر ، هو شعرنا جميعاً ، شعراء المدرسة الحديثة . لا بسبب انتباهته الى طبقات سفلى داخل الوعي لا تصلها مجسات العامة ، بل بسبب انتباهته الى حقيقة عزلته القاهرة فأخذته العزة بالاثم فتسامى أعلى من جمهوره ومن الشعر.)
هذا كلام يريك لوحده ، المأزق الشعري الشخصي .. في فهم الشعر. يعارض فوزي كريم هنا ، من دون أن يعرف كما أحسب ، طبيعة الشعر في كل مكان وزمان.
سأترك الحديث عن تراثنا الشعريّ ، الذي فيه الكثير من الأمثلة التي لا تخفى على قارئه اللبيب،وسأبدأ من عصرنا، ومن بلدانٍ متقدمة علينا في القراءة.
خوان رامون خيمينيث ، الشاعر الإسباني الكبير" نوبل للآداب" يهدي أحد كتبه الشعرية : إلى الأقلية الهائلة، والتي يعني بها قراء الشعر ، سيلتقطها بذكاء ، الراحل الكبير أوكتابيو باث " نوبل للآداب أيضاً"، فيكتب مقالاً رائعاً في كتابه" الصوت الآخر" ، مقدماً تفسيرات متدرجة لإهداء خيمينيث ، حتى يقول بتفاؤله المعهود : (ولكن قد يكون للجملة معنى آخر: ان قرّاء القصائد ، الذين يظلون قلة رغم كثرتهم ، يشتركون ، إفرادياً وجماعياً، في ما هو هائل . ولكن ماهو الهائل ؟ انه ذلك الذي لا قياس له ، أوهو ما يستحيل قياسه . الكثرة / القلة التي تقرأ القصائد تشق طريقها عبر وقائع غير قابلة للقياس ، وفي مرايا الكلمات يكتشفون لا نهائيتهم ولا محدوديتهم .) وبعد أن يقول بأن ستندال دعا تلك الأقلية بالأقلية السعيدة ، يرى أنَّ خيمينيث قد أجاب في الإهداء عن السؤال: كم من الناس ما زالوا يقرأون القصائد ؟ ومن هم ؟
يقول باث :
(منذ مجيء الرمزيين الكبار صار الشعر فعلَ تمرد فردي " معتزل ": صار تدميراً سرياً للغة أو للتاريخ. ولم يحاول أي من الشعراء المبشرين بالحداثة أن يسعى لنيل رضا الجمهور ، بل على العكس من ذلك كانوا يسعون متعمدين إلى الكتابة بطريقة " تتنافى وذوق الجمهور " ويمثل رامبو وورثته في النصف الأول من القرن العشرين مظهراً من مظاهر الإتجاه. ويمثل المظهر الآخر ،الأكثر سعياً الى التعبير الجمالي الصرف، مالارميه وأتباعه.)
والمقالة سياحة في التاريخ الشعري كما هي عادةُ باث في الكتابة عن الشعر أو كما يقول هو : الدفاع عن الشعر.
ويأتي باث بمثل من ويتمان الذي طبع من أوراق العشب تسع طبعات حتى مات ، ولم يدفع ويتمان تكاليف الطباعة فقط ، بل كان هو نفسه الطباع ، وحتى الطبعة الخامسة لم يكن قد ربح بنساً واحدأً ، فجنى منها لأول مرة ، 25 دولاراً.
ويذكّرنا باث بأسماء أخرى من الشعراء الذين لم يكن حظهم بأحسن حالاً من ويتمان .. لكنه يصل في ما بعد وهو يقرأ كتاباً لناقد أميريكيّ قدَّمَ في أحد كتبه وقائعَ وارقاماً حول بيع الشعر الأميريكي .. إلى ان شعراء عديدين في العالم من الكبار يُقرَأون ، ويُطْبَعون بآلاف النسخ ، وهذا تفاؤل كنت سمعته من باث شخصياً.. لينتهي المقال بانتصار مذهل للشعر ضدّ كتب البست سيللرز "الأكثر مبيعاً".
لذلك فأنا مستغرب أن يبدأ شاعرعراقي ، مقاله تلك البداية.فإذا كانت الآداب الغربية واللاتينية نفسها ،وعلى لسان كبارها، تعاني مأزقاً في القراءة ، فكيف بنا نحن في البلاد العربية التي لا تقرأُ ، كما يقول تقرير اليونسكو قبل عامين ؟
وأتذكَّر لقاءً صحافياً أُجريَ عام 1980 بين الشاعر الفرنسي آلان بوسكيه والشاعر الروسي ايفتشنكو، تباهى فيه الأخير بأن كتبه تباع بسرعة ، وأن الحجز يتم عليها قبل ستة أشهر من صدورها ، وحين تنفد يتم بيعها في السوق السوداء. فقال بوسكيه : إنه دخل قبل أيام مكتبة في باريس فرأى نسخة من ديوان لإلوار، كان قد طبع منه خمسمائة نسخة فقط ، عام 1918..!
لكنّ فوزي لا يحدثك في المقال عن بيع كتب الشعر في البلاد العربية ، بما فيها كتب الشعرالتقليدي ، حتى لا يتضح الالتباس أكثر ، إنه يحمّل الحداثة كتابة شعر لايُفهم . ويأخذ عليها أن عدداً غير قليل من الشعراء فيها لا صوت لهم ، ويكتبون شعراً متشابهاً..إلخ
من هنا يبدأ الالتباس: إحالة القصة العويصة : " الشعر والجمهور" والتي لا تنتسب إلى زمن معين ، إِلى الحداثة.
يصبّ كاتب المقال، إِذن ، جامَ غضبه على الحداثة،مورداً أمثلة شعرية ونقدية ، ضعيفة ، منشورة في هذه المجلة أو تلك ، في أغرب شكوى من نوعها أقرأها لشاعر ، فقد تعوّدنا قراءةَ مثل هذه الشكوى في مقالات يكتبها صحافيون ، أو كتاب شعبيون،أو أدباء سلفيون - أصوليون..إلخ
أعداد غفيرة من الشعراء لا يحبون، مثل كاتب المقال، أمثلةَ الشعرالتي جاء بها ، ولا النقد الذي يقف وراءها مهلهِلاً وممجّداً في كثير من الأحيان ، فيميلون عنها إلى الشعر بلا ضجة يحدثونها ، وبلا إعتداء على إنجازات هامة في الشعر ، أنجزتها الحداثة لا غيرها ، بل وبلا تعصّبٍ للروح الإنجليزية ضد الروح الفرنسية ، كما جاء في مقاله :
(..ولم يحدث ان وجد قراء الثقافة الانكليزية في البلدان العربية الاخرى ذات الجرأة في التحطيم والعجز عن اعادة البناء ، في الذهاب الجرىء الى آخر الشوط التجريبي ـ ولا آخر ـ في أقصر فترة عرفتها حركات التجريب في العالم . ان أدباء الثقافة الفرنسية لا شك يجدون شاعراً كخليل حاوي وحتى يوسف الخال غرباء " الصحيح : غريبيْن " عنهم دخلاء "الصحيح : دخيليْن" عليهم . فهما بحكم ثقافتهما الانكليزية لا يملكان جرأة التجاوز و اختراق حجب اللغة و انتهاك عذرية الخيال .. ان هذين عرفا ، في حداثة القصيدة الجديدة، وحدتها وتماسكها وانطواءها على معنى ولذلك جربوا " الصحيح : جرّبا " الاشكال جميعا. والامر لا يختلف كثيراً مع الشعر العراقي او الشعر المصري والسوري . الثقافة الانكليزية او ظلها، على ما يبدو، هادئة الطبع ، تعلم الحذر ولا تأخذ الجديد ، وهي الطموحة للتجديد أبداً ، الا بعد تروّ وقد تتأخر عنه زمناً. عرفتْ، شأن مدنها ومعمارها وشوارعها ، الاستكانة للظل . الدأب وراء الجدار. التشكك بالموضة . الاصطبار الممل والنفس الطويل . والفرنسية بالمقارنة ، شأن مدنها ومعمارها وشوارعها ايضاً شارعية، تظاهرية ، تحب الاضاءة . ولا تعرف طعماً للنفس الطويل ازاء رغبات التغيير و التحول . تميل الى التشظي لا الوحدة في النص الشعري وفي التيارات الشعرية علي السواء، والى الرفض المتسارع اللاهث ..)
وهذا الكلام يتعدّى الرأي الأدبي كثيراً.. فالثقافة في أوروبا- كما في كل مكان- هي الروح . هذا الكلام هو تغنٍّ بالروح الإنجليزية ، ضد الروح الفرنسية.!
والإنجليز أنفسهم لا يقوونَ على تعصبٍ علني كهذا في هذا الزمن .
وأذكر أننا في العراق تكلمنا كثيراً في مرجعية الأدباء الدارسين ببلدان مختلفة . ممّا يعني أن لهذا الأمر دخاناً مّا، حكايةً مّا، في التفكير الأدبي العراقي ، فكنت أخشى أن يخرج أحدنا مماهو أدبي فينشر تبنياً لطرفٍ مّا ضد آخَرَ ،في الصراع الروحي والفلسفي بين الأطراف الأوروبية . لنقرأ ما يقوله "الألماني" نيتشه ، في ما وراء الخير والشر :
( إنهم ليسوا عِرْقاً فلسفياً ، هؤلاء الإنجليز، ثمّ َيقول: لكن مايهين أكثر هو افتقار الإنجليزي إلى الموسيقى ، نقول ذلك مجازاً " ومن دون مجاز " لاإيقاع ولا رقص في حركات نفسه وبدنه..، ويقول: فليصغِ المرء إلى كلامه ، فلينظر إلى أجمل الإنجليزيات وهنَّ يسرن. وأخيرأً فليسمع غناءَهنّ.!
ثمَّ يقول من بين صفحاتٍ عديدة كما يعرف قارئوه :
باختصار ، النبل بكل معنى رفيع ، هو ابتكار فرنسا ومأثرتها ، أمّا السوقية الأوربية ، ورعاعية الأفكار الراهنة ، فمنبتها إنجلترا..)
كيف هو إذن الصراع الروحي والفلسفي..؟
ونيتشه هو ابن عقلٍ يحتل أجزاءَ واسعة من فلسفة أوروبا ، وعسى أنْ يُفهَمَ قولي هذا .
إننا " في أغلب حالاتنا" لاجئون ، قرأناهم كثيراً هنا في أوروبا وعندما كنا هناك في بلادنا ، ونعيش الآن في بلدانهم - وقد فقدنا بلدنا إلى الأبد ، منذ أن هربنا منه ، وليكن هذا الكلام عني ، إذا استصعبه آخَرُ- مرة مثلهم ومرة مثلنا، وهم عندي أقرب إليَّ من بعض أبناء بلدي أحياناً أو في كثير من الأحيان.
لكنّ تاريخهم هو تاريخهم ، ولربما لايعطونه لك مع الجنسية ، بل ولا يعطونه لك حتى لو تغنّيتَ به بمكبرات الصوت في لندن أو في أية عاصمة أوروبية ، كلّ يوم.
فأنْ تدخل بالنيابة عن أحد من بلاد أوروبا في صراع مع آخَرَ ، هو ليس صراعك - بل وربما لاتعرف فيه تفاصيل كافية في التاريخ ، سياسياً وأدبياً- فتصرّح تصريحاً في طبيعة الروح، يُحسَبُ قومياً لصالح أحد ضد آخر، لصالح أمة ضد أخرى ، وأنت العراقي ، الشرقي ، الذي ينوء بتاريخه متعباً ، ومخذولاً ، فهذا عندي مما لايُفهَمُ حقاً، عندي وربماعند إنجليزي مّا أيضاً.
لا تجرؤ جامعة في العالم ، معتبَرَة ، بكل تاريخها في البحث والدراسة على قول ما قاله الشاعر- العراقي- فوزي كريم في مقال صحافي.
على أية حال.
لقد كتب كتاب مختلفون ، مقالات مثل ثياب الإمبراطور، عدداً غيرَ قليل من المرات ، في العراق ، أو في غيره من البلاد العربية . وقد لا تكون جريدة واحدة قد تغافلت عن نشر شكوى ضد الشعر الحديث غير المفهوم . لكن أحداً من كتاب تلك الشكاوى ، لم يطمح الى جعل مقاله ، مشروع حياة.
ويقول كاتب المقال في فقرة أخرى بأنه لا يفهم 70 % مما يَقرأ ، ولا أدري كيف يستطيع كاتب مّا أن يحصر هذا الظنّ في رقم ؟ فالرقم يتعلَّق- عادةً- بإحصائية مّا ، لا أدري كيف تُجرى؟
بل يصل به الأمر إلى أن يقول للقارىء )وأحسب أنك مثلي لا تفهم نسبة تبلغ 70 % ممّا يُكتَب هذه الأيام.)! ولا أدري كيف يمكنه أن يخمّنَ هذا ؟
وإذا كان كاتب المقال مستاءً لأنه لا يفهم 70 % من الشعر، فأنني لاأرى في استيائه مبرراً لكي يشن هجوماً على الحداثة ، أو غيرها ، من خلال مثل من شاعر ضعيف هنا ، أو شاعر ضعيف هناك .
الحل عندي جد بسيط ، يستطيع أَلاّ يقرأَ مثل هذا الشعر ويستطيع أن ينصرف إلى مشروعه الشعري ، بكل هدوء .
وأودّ أن أقول شيئاً بصدد ورود " الشعر العراقيّ " في المقال والإيحاء بأنه ظل للثقافة الأنجليزية :
الشعر العراقيّ ليس ظلاًّ للثقافة الإنجليزية يا فوزي. ولاأظنّ أن ثمّة شعراً لبلد مّا على الأرض هو ظل لثقافة بلد آخر.
هذه قصة عويصة تتعلق بالتاريخ والأديان واللغة والمناخ و..و، تُختصَرُ سريعاً مرة أخرى ، في مقال صحافي.
الشعر العراقي وُجِدَ زمنياً قبل أن توجد ثقافات عديدة.
وفيه من الشعر والمآسي التي عاناها شعراؤه بسببه ، ومن العلوم اللغوية والأدبية التي رافقته ، ما لاتمتلكه ثقافة تكونت بعده زمنياً كالثقافة الإنجليزية ، التي أكنّ لها محبةً لما قدمته في الشعر والمسرح والرواية والنقد- وأعلام هذه الحقول معروفون - ولما قدّمته في التراث الفلسفي على قلّتِهِ : " باكون المرتشي والمسجون والمعاقَب بالطرد من البرلمان في شغله الطموح بتجديد كل فروع المعرفة ، وكرونويل مهندس الانتصار الكبير ضد الحكم الملكي المطلق ، ولوك الليبرالي الذي غادر إنجلترا إلى هولندا وفرنسا وألمانيا وماعاد إليها إلاّ بعد ثورة 1688 .. إلخ ".
ومهما قال المؤرخ ، أي مؤرخ ، عن التقلبات السياسية القاسية التي شهدها العراق عبر القرون ، فلا يستطيع أن ينكر بأن المنجز الشعري ، والمعرفي بعامة ،كان ينتقل من جيل إلى آخر،هو وخلفيته الثقافية والإجتماعية أيضاً ، كما في أي تاريخ لأية مجموعة سكانية. قد يخفت في لحظة ، لكنه لا يتلاشى نهائياً.
وأنْ يتأثر شاعر مّا في الشعر العراقي أو شاعران أو ثلاثة بثقافة مّا في العصرالحديث لا يعني، البتة ، تبعية إنجازهم أو شعر بلدهم ، روحياً وثقافياً بالكامل إلى تلك الثقافة.
والشعر العراقي الآن هو شعر حداثة لا شعر لُعَبٍ لغوية ، ولا شعر أغانٍ وجدانية ، ينتهي طعمها حال الإنتهاء من سماعها.
وقد بدأت حداثته منذ زمان ، ودخل شعراؤه في العصر الحديث، بعد الحرب العالمية الثانية تجربة في التغيير الشكلي والمضموني أغنت الشعر العربي كله.
لكنّ هذا الشعر، حاله حال أي شعرله تاريخ طويل وشائك ، لا يتوقف ، نهائياً ، في محطة مّا.
انه الآن في طور الخروج من التربية التي شاعت فيه طوال فترات ماضية إلى تربية أخرى تعتمل فيه منذ عقدين ونصف تقريباً ، لها ذائقتها ولها بحثها المتأنّي في الدين والتاريخ والأدب.
أمّا ما بقي من مقال ثياب الإمبراطورفهو يشبه هذا الذي قلناه منذ البدء كثيرأً أو قليلاً.
ويبدو لي أن الشاعرين الصديقين قد كتبا شكواهما ضد الحداثة، تحت تأثيرعامل نفسي شخصي .
فلقد كان خزعل يفهم الحداثة لعبة لغوية ،" تقنية بلا روح " ، لكنه استفاق مؤخراً – كما يبدو – تَعِباً مما كان يفعل .. فأراد أن يعود إلى ما كان يكتبه قبلاً، فعاد ، ولكن بعد أن أمات الحداثة مرة واحدة. وكأن لسان حاله يقول : " اذا متُّ ظمآناً فلا نَزَلَ القْطْرُ ".!
ويورد فوزي نفسه في مكان آخر قولاً لأحد الكتاب الذين ناقشوا مقاله :
ثياب الإمبراطور: يشبّه الكاتب فيه فوزي بشاعر( فاته القطار، يعمد إلى كل سبيل ليلفت النظر إلى كونه موجودأً.)
فقد لا يكون بدون دلالة أن يجعل الشاعر فوزي مقاله مشروع حياة ، كما يقول هو نفسه.
وبعد أن أرسل مودتي إلى الشاعرين الصديقين خزعل وفوزي ، أودُّ أن أقول للقارىء الكريم شيئاً :
يُلاحَظُ في الكتابة ضد الحداثة ، عادةً ، أن معارضيها يتكلمون عن تاريخ أوروبي لها بل انهم يتكلمون عن مابعد الحداثة أيضاً ، كماهي في أوروبا الآن .قد يكون الأمر- مدرسياً- فيه الصحة كلها، عندما يقصرون كلامهم على أوروبا.
لكنهم حين يعممونه على حداثتنا أيضاً ، فإنه سيبدو ضرباً من الهذيان.
الحداثة الشعرية عندنا هي كفاح شاق ، وطريق طويل.
هي قراءة أخرى للدين وللتاريخ وللأدب ،لن تنتهي في قرن ، أو قرنين أو ثلاثة..إلخ
هي مشروع نهضة بدأ في الشعر.
مشروع نهضة ، تراجيدي قاس ، سُمِّيَ بالحداثة ، لكنه لن ينتقل إلى ما بعد الحداثة ، لمجرد أنَّ أوروبا تشهد حركة جديدة بهذا الاسم ، ولا أظنه منتقلاً إليها ذات يوم ، واذا حدث أنِ انتقلَ إليها ، فلن يكون إلا على يد مغفل حتماً..




#كمال_سبتي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كلمات في المهب
- كلمات في المهب / الكتابة الجديدة / 2
- كلمات في المهب : في الكتابة الجديدة
- الطريق إلى الحرب.. والإعلام العربيّ
- الاختلاف الحر
- لم أهدأْ فعرَّفني الجبلُ تائباً
- مصائرُ السّرد
- خَريفُ الغِياب
- تلك السَّعادةُ غائبة
- في الليل .. قصيدة بدر شاكر السياب والاستثناء الشعري
- بمناسبة ذكرى رحيل السياب ..تشظّي الصّوتِ الشّعريِّ الأوّل
- الآخَرُ ، العدوّ، عند إدوارد سعيد والشعراء العرب
- الشاعر والتاريخ والعزلة
- قصيدة البلاد
- مكيدة المصائر
- بريد عاجل للموتى
- وسوى الرومِ خلفَ ظهرِكَ رومٌ : نشيد انتصار
- الشاعر واصدقاؤه
- أنعتبُ على أدوارد سعيد وهو غائب عنا ..؟
- الأَقْبِيَة


المزيد.....




- وفاة الفنان صلاح السعدني عن عمر يناهز الـ 81 عام ….تعرف على ...
- البروفيسور منير السعيداني: واجبنا بناء علوم اجتماعية جديدة ل ...
- الإعلان عن وفاة الفنان المصري صلاح السعدني بعد غياب طويل بسب ...
- كأنها من قصة خيالية.. فنانة تغادر أمريكا للعيش في قرية فرنسي ...
- وفاة الفنان المصري الكبير صلاح السعدني
- -نظرة إلى المستقبل-.. مشاركة روسية لافتة في مهرجان -بكين- ال ...
- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كمال سبتي - مقالان في مهاجمة الحداثة