أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - علي جرادات - إلى الباقين سلام















المزيد.....

إلى الباقين سلام


علي جرادات

الحوار المتمدن-العدد: 1986 - 2007 / 7 / 24 - 06:28
المحور: القضية الفلسطينية
    


يوم الجمعة الماضي، عند "نقطة الفصل" بين الحرية واللاحرية، بوابة معتقل "عوفر"، احتشد الأهل والأصدقاء في جمع غفير، انتظروا مئتين وخمسين أسيرا ويزيد، قررت حكومة الاحتلال الإفراج عنهم. كانت الفرحة بادية وعارمة، رغم قلة العدد وقصر المدة المتبقية، قياساً بالباقين في السجن، بينهم كثيرون "يذوبون" فيه منذ عقود.
كنت واحدا مِن المنتظرين الفرحين، إلى أن تَجاوزَ المحررون البوابة إلى أحضان أهلهم، عندها طار قلبي إلى الباقين، لأنني أعرف قسوة المشهد عليهم، وعلى عائلاتهم، وعلى أطفالهم تحديداً، واعرف أنه منذ بداية الحديث عن عدد المفرج عنهم وأسمائهم، تصطلي نفس كل سجين بسؤال: " هل اسمي بين الأسماء"؟ ولا غرابة، فعلى الإجابة يرتسم الحد الفاصل بين مَن سيغادر، وبين مَن سيمكث. بين الحرية واللاحرية، بين الطليق والمُقيَّدِ، بين مَن يرى الشمس متى شاء، وبين مَن يراها كما يقرر السجان، بين مَن يستطيع تعريض كامل جسمه للشمس، وبين مَن لا يستطيع ذلك إلا عبر ثقوب "شبك" سقف ساحة "الفورة"، بين مَن يستطيع رؤية طفله متى شاء، وبين مَن لا يراه إلا متى شاء السجان، بين مَن يستطيع رؤية وجه طفله كاملا، وبين مَن لا يستطيع رؤيته إلا "مقطَّعا" بعدد فتحات "شبك" زيارة الأهل، الفاصل للابن عن أبيه، والأم عن إبنها، بين مَن يستطيع النوم على سرير ثري بأحلام سعيدة، وبين مَن ينام على "برش" يخلق كل صنوف الكوابيس، وبكلمات بين ما لا يحصى مِن فوارق حياة الحياة عن حياة السجن.
مع هذا السؤال، يغدو يوم السجين بألف يوم، وساعته بألف ساعة، يعيشها مثل مَن انتظر "غودو"، يتحدث عفويا، يناجى خارج السجن، يلوك زاده روتينا، يتمشى في ساحة السجن برتابة، يدخِّن مُرَّ سجائره بتتابع، ينظر في ألبوم صور يستعيد ذكريات حياة كانت، يتصفح كتابه شارد الذهن، وهو، وإن حاول إخفاء دواخله، فإنه في المساحة الفاصلة بين الشك واليقين، بين الحرية واللاحرية يجلس ينتظر. وتلك حالة تحيل الوجود إلى عبث، لا يدرك قسوتها إلا مَن عاشها مرات ومرات، مِن أسرى أمضوا في السجن عقوداً، وما أدراك كيف تكون مع ثقل هذه المرحلة المريضة والعبثية، تلف الفلسطينيين مِن الرأس حتى أخمص القدم، وتخترق الوطن "المقسوم" بين ضفة وغزة مِن أقصاه إلى أقصاه.
مع هذه الحالة الوطنية العامة، بما يعتريها مِن عبث، تتضاعف معاناة الأسرى الباقين، وتزيد تعقيداً على تعقيد، لأنهم يدركون أكثر مِن غيرهم أن الفعل يصنع الكلام، وأنهم الفعل الذي جعل للكثيرين لسان، وأن الجماعة قاطرة التاريح لا ينصف صناعه الحقيقيين دوما، والأسرى مِن الذائبين في "جماعتهم" حتى الثمالة.
الأسرى الباقون في هذه المرحلة المريضة يتذكرون كل شيء، ويسترجعون أن للصوان صلابتهم التي تسيل شوقا لأطفالهم، وأن للجبال رسوخهم يجري التلاعب به مِن هواة السياسة الفلسطينيين، وأن للجِمال صبرهم لا يمكنه احتمال "قسمة" الوطن، تحملوا لأجل حريته كل هذه المعاناة، وأن للبحر سعة صدرهم ضاق ذرعاً بعبثية تبديد الانجازات والمكتسبات الوطنية، وأن للمحراب طهارتهم، لوثتها ممارسات تعرية السجين للسجين في "سجن غزة" الكبير، وأن للطبيعة أسرار، بعددها، وربما أكثر، تغفو ببراءة في صدر السجين أسرار وأسرار، وأن للأشجار ظلال، وبظل فعل الأسرى يتفيأ الكثيرون ولا يصونونه، وأن لكلِّ عاشق معبود، ومعبود السجين حرية الوطن، وأن لكلِّ شخص حضن دافيء، وحضن السجين هو الشعب يفديه عن طيب خاطر، وأن لكل مناضل خصلة فارقة، وبالقهر اليومي يتميَّز السجين، وأن لكلِّ فاقد حزنه، وعلى نار فقدان الحرية "ينشوي" السجين، وأن لكل مرء جبلة، وجبلة السجين كره الكره وحب الحب، وأن لكل نهر مجرى، ومجرى السجين قهر القهر والصمود في وجهه، وأن لكل زهرة رائحة، ورائحة السجين معاناة وبطولة، وأن لكل انسان كاتم أسرار بطولة يبوح بها عند الحاجة، وكاتم أسرار بطولة السجين هي قضبان السجن تصدأ ولا تتحدث، وأن لكل إنسان سر عظمة، وسر عظمة السجين أنه شمعة تذوب بإباء وشموخ، وأن لكل انسان عمق، وعمق السجين الوفاء والشهامة والحمية والصدق والاخلاص.
الأسرى الباقون هم مِن ما في مسيرة الشعب التحررية مِن عنفوان، ما زال يصد ما يجتاحها مِن توهان، لأنهم زرعوا بكدٍ وجدٍ، ولم يقطفوا غير مجدهم، يغفو معهم ببراءة في زنازينهم، يمزقه عبث العابثين بتاريخ النضال التحرري الفلسطيني ومكتسباته على مدار قرنٍ مِن الزمان، ولأنهم رغم إدراكهم لهذا العبث الذاتي الجنوني، ما زالوا يزأرون: أن اصمد، لأنك تستطيع.
في "النقب" و"عسقلان" و"نفحة" و"بئر السبع" و"هداريم" و"الرملة" و"هشارون" و"مجدو" و"عوفر" و"الجلمة" و"المسكوبية" و"الدامون" و"كفار يونا".....ما زال هناك فلسطينيون أسرى، يقطنون الزنازين، ويقطنهم قهرها، يشهد أن غزة لم تتحرر وأن الضفة محتلة، وأن لحظة قطاف الزرع ما زالت بعيدة، وليست على مرمى حجر، ما يفرض الكف عن رفع رايات اللون الواحد، والعزوف عن جرائم ضرب علم الأربعة ألوان، لأجل حماية ما يرمز إليه مِن كينونة وطنية مستهدفة، رحل الشهداء، وعانى الجرحى والأسرى والمشردين، وما زالوا يذودون عنها.
الأسرى الباقون، يحتاجون عملا وطنيا جماعيا لتحريرهم، ولكنهم يحتاجون أيضا عملا ما يوقف ما يجري مِن حماقات سياسية تزيد معاناتهم على معاناة، فهم ما زالوا يعيشون التفاني ثوارا، وتسكنهم نظافة اليد واللسان والروح حرباً على أهواء فئوية فجة، قادت إلى "قسمة" الوطن الممزق أصلاً بفعل الجرافات، ويمتلؤون بحنان تتكسر أجنحته في كل لحظة، يسيل في مجراه التلقائي نحو الأم والأب والابن والزوج والصديق وزميل العمل وشريك النضال، ويكابدون كأطواد شامخة تجربة شائكة قاسية.
الأسرى الباقون هجوم وطني في مرحلة تراجع قومي ودولي، لا يتراجعون خطوة للوراء إلا لإحراز خطوتين للأمام، فقد كان يمكنهم اللعب بالدولار، لكنهم اختاروا الزنزانة عليه، لينتزعوا عظمة "لا تمت قبل أن تكون نداً"، واصرار "حاصر حصارك لا مفر"، ومكابدة أسطورية أن يسمع الأطرش بأذن الأعمى، ويرى الأعمى بعين الأطرش، فتحرروا، وظلوا، وما زالوا "يدقون جدران الخزان".
الأسرى الباقون، هُمْ تجسيد لمعانٍ جميلة، جوهرها الحقل والزرع، وإقتران القيادة بالتضحية والقول بالفعل، وتساوي "الأوائل" بشموع تذوب لتضيء للآخرين، وصعود القادة مِن القاع منذ إنطلاقة "خيمة عن خيمة تفرق"، وقشط العجز الرسمي العربي بمعجزة إخضرار العرق اليابس على يد أم سعد، وعظمة "لا صوت يعلو فوق صوت الانتفاضة". قادة الأسرى لم تصنعهم "فضائيات" "الرداحات" بربطة عنق، ما زالوا يربون العضوية الحزبية الفلسطينية على حب الشعب والوطن أولا، ولا يبرمجونها على خرافة أن النصر يمر عبر قتل قابيل لهابيل، وأنه لا يكون إلا حصيلة ائتلافهما، وعدم اقصاء أحدهما للآخر.
تجربة الأسر المريرة أنتجت قادة مثَّلوا معانٍ وطنية، عززت قيماً تحررية انسانية سامية، لكنها تُذبح اليوم في فلسطين بسكاكين إعلاء الذات على الموضوع، وتحويل الأداة إلى هدف، وتفضيل الحزب على الشعب و"السلطة" على الوطن، إنها سكاكين صدأة، ولكنها موجعة، وتغطي على قادة ما زالوا في زنازينهم، يتقاسمون السيجارة مع الاشبال، يرفضون تسليع التضحية، وتحويل جهودها التحررية إلى تجارة تباع وتشترى.
الأسرى الباقون: لا تقنطوا، فلا أظن أن الشعب سيترككم وحدكم، فمشواركم لأجله كان طويلا، شاقا، مليئا بالعطاء والإيثار، أدعوكم، رغم القيد أن تبتسموا، فقط ابتسموا، أبداً ابتسموا، دائماً ابتسموا، لأنه ما زال في الوادي حجارة، مثلكم تحيل المشقة إلى تضحية تلد حرية، سلام عليكم ولكم وإليكم، يوم ولدتم ويوم كافحتم ويوم انغرس القيد في معصمكم، لكنه سينكسر.






#علي_جرادات (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حضور خطة وغياب بصيرة
- الماء والسراب
- معبر رفح والخطاب الفلسطيني المشوه
- وعي المظهر وانكار الواقع
- قطع الحوار انتحار ولكن
- صراع على السلطة أم قلبٌ لمعناها؟!!!
- حلقة الخلاص الوطني المركزية
- ًكي يبقى النهر لمجراه أمينا
- العبرة في النتائج
- خطوة إضطرارية أم إنتحارية؟!!!
- موانع إجتياح غزة سياسية
- 5 حزيران تطرف النصر والإنهزام
- تجليات الفوضى الخلاقة
- تجاوز لكل الخطوط
- لماذا يستباح الدم الفلسطيني؟!!!
- دعوة لإستعادة الوعي
- الحكم أم الوطن؟
- رهان النسيان والذاكرة الجمعية
- الطغيان الأمريكي....مصاعب وإنتكاسات
- أين فينوغراد العرب؟!!!


المزيد.....




- -جريمة ضد الإنسانية-.. شاهد ما قاله طبيب من غزة بعد اكتشاف م ...
- بالفيديو.. طائرة -بوينغ- تفقد إحدى عجلاتها خلال الإقلاع
- زوجة مرتزق في أوكرانيا: لا توجد أموال سهلة لدى القوات المسلح ...
- مائتا يوم على حرب غزة، ومئات الجثث في اكتشاف مقابر جماعية
- مظاهرات في عدة عواصم ومدن في العالم دعمًا لغزة ودعوات في تل ...
- بعد مناورة عسكرية.. كوريا الشمالية تنشر صورًا لزعيمها بالقرب ...
- -زيلينسكي يعيش في عالم الخيال-.. ضابط استخبارات أمريكي يؤكد ...
- ماتفيينكو تؤكد وجود رد جاهز لدى موسكو على مصادرة الأصول الرو ...
- اتفاق جزائري تونسي ليبي على مكافحة الهجرة غير النظامية
- ماسك يهاجم أستراليا ورئيس وزرائها يصفه بـ-الملياردير المتعجر ...


المزيد.....

- المؤتمر العام الثامن للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين يصادق ... / الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
- حماس: تاريخها، تطورها، وجهة نظر نقدية / جوزيف ظاهر
- الفلسطينيون إزاء ظاهرة -معاداة السامية- / ماهر الشريف
- اسرائيل لن تفلت من العقاب طويلا / طلال الربيعي
- المذابح الصهيونية ضد الفلسطينيين / عادل العمري
- ‏«طوفان الأقصى»، وما بعده..‏ / فهد سليمان
- رغم الخيانة والخدلان والنكران بدأت شجرة الصمود الفلسطيني تث ... / مرزوق الحلالي
- غزَّة في فانتازيا نظرية ما بعد الحقيقة / أحمد جردات
- حديث عن التنمية والإستراتيجية الاقتصادية في الضفة الغربية وق ... / غازي الصوراني
- التطهير الإثني وتشكيل الجغرافيا الاستعمارية الاستيطانية / محمود الصباغ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - علي جرادات - إلى الباقين سلام