أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد البوزيدي - عتبات -في انتظار الصباح-















المزيد.....


عتبات -في انتظار الصباح-


محمد البوزيدي

الحوار المتمدن-العدد: 1963 - 2007 / 7 / 1 - 05:49
المحور: الادب والفن
    


مجموعة قصصية لمحمد سعيد الريحاني

I- تمهيد:

تتوزع المجموعة القصصية "في انتظار الصباح" على أربعة عشر نصا قصصيا كتب في فترات متباعدة نسبيا (1993 -2003) لكن أغلبها نشر مع مطلع الألفية الحالية، وبالعودة لمنهج المبدع محمد سعيد الريحاني في الكتابة القصصية وهو "الكتابة بالمجموعة القصصية وليس بالنصوص المتفرقة" يجعلنا نطرح السؤال التالي :
هل تبلورت فكرة المجموعة منذ مدة طويلة، وهذا هو الرأي هو الراجح، أم أن الكاتب اكتشف في لحظة ما أن هذه النصوص يجمعها رابط مشترك يشكل مجموعة متكاملة فيما بينها ؟

II- فلسفة التصدير في "في انتظار الصباح":

كعادته يصر محمد سعيد الريحاني على تصدير نصوصه بنصوص استهلالية دالة ومعبرة، ويمكن تقسيم هده التصديرات داخل المجموعة القصصية إلى قسمين :
أولهما- اعتماده في نصوص قصصية عديدة على مقولات الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه الواردة في كتابه المشهور "هكذا تكلم زرادشت" وختم المجموعة بنص ذي دلالة عميقة وهو نص "هل كان سقراط مجرما؟".
فهل الكاتب/ المغربي عموما مجرم في ظل هذا الواقع الذي نكتشف جزءا عميقا منه في ثنايا هده النصوص القصصية الجميلة؟
إن سر استدعاء الكاتب لكتاب "هكذا تكلم زرادشت" الذي ألفه فريدريك نيتشه سنة 1883 يكمن في أن دواعي تأليف الكتاب الذي أثار نقاشا واسعا بين الفلاسفة آنذاك والآن لأفكاره المختلفة والتي صنفها البعض بالراديكالية واعتبرها البعض الآخر بالعبثية، نجدها في الواقع المغربي الذي استلهمت منه القصص المختلفة التي تطرح وقائع مجتمعية تحيل على القلق من المستقبل، والتشاؤم من الحاضر، والحزن على وضع مجتمعي لا يزداد إلا تدهورا خاصة في الموقف من رجال الفكر والتعامل مع القيم المختلفة.
وثانيهما- اعتماده في تصدير قصص أخرى على مقتطفات شعرية لأبرز الذين كانوا صوتا للكادحين والغاضبين في العالم العربي، والذين شكل غناء قصائدهم تفجيرا للمكبوت السياسي في مرحلة معينة كمحمود درويش وأحمد مطر وناس الغيوان والشيخ إمام.

III- غلاف "في انتظار الصباح":

تصدرت الغلاف دائرة تكتسي لونا أسودا داكنا وسط فضاء أبيض، ويسكن وسط اللوحة "حنظلة" الرمز الفني للرسام الفلسطيني ناجي العلي، هذا الطفل الذي توقف نموه في السنة العاشرة من عمره ويرمز لبؤس شديد، كما أن تأملاته الخاصة في هذه الحياة نظرة استثنائية وفلسفية للكون، كما أنه يدير ظهره دائما للقارئ ويصر على عدم الاستدارة إليه .
ومن خلال قصص المجموعة يمكن أن نجد أوجه تشابه بين وضعية "حنظلة" المشرد من الأرض وشخصية الكاتب المشرد افتراضيا والحزين على الواقع الرديء، ويبرز ذلك من خلال صورته خلف الغلاف في وضعية غير أنيقة على خلاف ما اعتاد الكتاب الذين لا ينظرون للواقع بنفس الرؤية ويتمتعون بعمى الألوان العميق .
فهل الكاتب يرفض مثل "حنظلة" الإستدارة أم أنه ينتظر صباحا قادما ليبتسم لنا أم تراه يقول لنا "ابتسموا انتم إن بدا لكم ما تبتسمون له"؟

VI- تيمات "في انتظار الصباح":

تتوزع المجموعة القصصية إلى تيمات معينة مع طغيان تيمة الإختطاف/السرقة. هذه الجريمة التي يبرز الكاتب من خلال النصوص عمق الفظاعة التي وصل إليها السارق الذي لم يحدده الكاتب، لكن يمكن معرفته من خلال ثنايا النصوص، فالكاتب يعري الجريمة ويصفها، بل يصل أحيانا لتوجيه أصابع الاتهام لمجرم معين وتحديده بالأوصاف التي تحدده. وتتوزع التيمات إلى خمسة أصناف:
1*اختطاف الشخصية
2*اختطاف الهوية
3* اختطاف صوت الإنسان
4* اختطاف الحلم
5* اختطاف البراءة


1- اختطاف الشخصية:

في نص "المقص" يبرز الكاتب التحول الذي خضع له شاب في مقتبل العمر منهجيا لعملية غسل الدماغ والى عملية تركيب جديدة للتصورات المختلفة من طرف الغير الذي يمكن أن يكون فرديا :الأب /المدرس/رجل السلطة ....أو جماعيا:الإعلام /الأسرة /المخزن.....
يتلقى الشاب الطموح درسا في كيفية التصرف وهي عبارة عن "نصائح" للكثير من أسرار الجسد ومن يريد أن "يخلصه" من مأزقه:
" دعني أخلصك من مأزقك ،وافتح لي أبواب عقلك لأقدم لك دروسا تقويمية تجعل منك رجل العصر ،سيد المرحلة." الصفحة 9

فهل كان يعيش مأزقا حقا حتى يتدخل مقص الرقيب ويقتص أجزاء من كينونته في شكل النصائح التي تتوزع باختلاف الدروس؟
في درس "الغضب" مثلا يجب على المرء ألا يغضب وأن يدقق جيدا بل وأن يختار معجم غضبه كما يجب عليه ألا يضحك في درس "الفرح".
وفي درس "اليقين" يجب أن يتعلم الانصياع للجماعة:
" اسحب رأيك، قبل الأوان... وبسرعة" الصفحة 11
إن مراحل تلقين هذه الدروس تستدعي انضباطا لعل أهمها "السكوت" أثناء عملية الإلقاء. لذلك تبدأ الدروس بمقدمة مشهورة في واقعنا خاصة أثناء التعامل مع الأطفال وهي:
"اششش!"
لكن التلميذ البئيس الذي أوصاه الأستاذ قبل ذلك ب "قليلا من الشجاعة!" يخرج بخلاصة أن النتيجة المنطقية لتلقي الدروس هي أنه "يستحيل وجودي من الآن فصاعدا دون شخص يقودني ويوجهني ..." وبعد أن يطمئنه انه سيبقى "دائما بجانبه"، يتساءل عما بإمكانه فعله في حالة غياب مرشده ليجد الجواب جاهزا وهو:
"آنذاك، الزم الصمت ...ريثما أعود" الصفحة 11

إنه لوضع خطير هدا الذي يعيشه شبابنا. إنه لصمت مميت هدا الذي يفرض عليهم لضعفهم... فمتى يعود المرشد الذي أمرهم بالصمت والانتظار؟
ومن يتدخل لفك حصار الصمت الذي أكد أن إحساسهم بالأخطاء أصبح أشد من قبل..؟ لكن هل يمكن ذلك مع التصدير الذي افتتح الكاتب به النص ، وهو وصف لعملية جراحية وقعت للبعض أو للكل حيث يقول الشاعر أحمد مطر نيابة عن التلاميذ الضحايا:
"في بضع ثوان
ذبحوا سري
وسال الدم في حجري
فقام الصوت في كل مكان
ألف مبروك:
وعقبى للسان" الصفحة 9

وفي قصة "التشظي"، يبرز الكاتب تدخل شخصيات مختلفة في حياة الشخصية المحورية للنص، وجعلها تفقد وجودها المعنوي بأشكال مختلفة وإعارتها إلى آخر ليتحكم فيها ويوجهها وفق مقاسات مختلفة انطلاقا من علاقات عمودية خطيرة مازالت تخترق مجتمعاتنا.
في هدا النص، نرى كيف كان المعلم سعيدا بحياته ويتمتع بعلاقات طيبة مع الجميع. لكن خبر قرب زيارة المفتش يدفع المدير ل"نصحه" بتغيير سلوكاته مع التلاميذ :
"سأقف بجانبك أنا المدير الجديد لمساعدتك على الخروج من المأزق..استعد جيدا تلاميذك كثر ومراهقون اللين معهم ليس في صالحك...أنت مقبل على تفتيش فرصتك التاريخية." الصفحة 13

ومنذ ذلك اليوم تُخْتَطَفُ شخصيته ويعاد تشكيلها من جديد لتكون النتائج كارثية ومأساوية. فالزملاء ابتعدوا عنه:
"يعز علي أن أراه مشتتا هكذا..يخطو في كل الاتجاهات ثم يتراجع عنها" الصفحة 16

والتلاميذ فقدوا محبته:
"لقد تغير معلمنا ..وكل الدروس أصبحت نهرا وشتما" الصفحة 14

وجمعية الآباء قدمت شكوى به لأن المدرسة صارت في نظرها "معتقلا لأطفالنا...وأولادنا صاروا ينفرون منها بسبب قسوة هذا المعلم" الصفحة 15

والمحكمة تستدعيه للمثول أمامها:
" نحن
بناء على المسطرة المتبعة في القضية المشار إليها طرفه.
بناء على الفصلين 36 و 329 من قانون المسطرة المدنية
نأمر باستدعاء المدعي أو المستأنف السيد س.
وذلك للحضور في الجلسة العلنية التي ستعقدها المحكمة يوم كذا كذا كذا للنظر في القضية المشار إليها طرته." الصفحة 17

أما الزوجة فقد أصبحت تعيش جحيما لا يطاق من جراء نفس التصرفات:
" لا يقول شيئا. لا يفصح حتى عن هيجانه. أحيانا حين يشتد غليان صمته، ينتصب غولا. عفريتا. وحشا كاسرا … فأخافه . أذوب خوفا حين تنتابه هذه النوبات. يكسر الأواني ويركل المنقولات والأثاث المنزلي ويقذف بالأحذية على صوره المعلقة على الجدران … وحين يتعب، يتهالك أرضا. لا يطاق ! الحياة معه مجرد تكسير. قد يصلني دوري قريبا. لا بدـيل لي عن الطلاق." الصفحة 16

وبينما يحمله المدير كامل المسؤولية رغم أنه أبدى له بأنه *سيساعده على الخروج ..* 14 ليأتي تقرير المفتش الذي انتظره لمدة شهر حافلا بما يوحي بجنون المعلم وغياب المستوى المشرف رغم بذله مجهودات خارقة كطبع النصوص واختيار نص آخر سماه من "أجل تواصل أفضل".
يقول التقرير:
" اختار السيد المعلم نصا قرائيا من خارج المقرر الدراسي. طبعه بالآلة الكاتبة على أوراق ووزعها على التلاميذ رغم أن بداية السنة الدراسية تتطلب التزاما بنصوص المقرر.ولقد اختار السيد المعلم كعنوان لهذا النص :
" من أجل تواصل أفضل".
وهو عنوان غير مبرمج سلفا في التوزيع الشهري، كما أنه عنوان نشاز بين مواد الوحدة التربوية المقررة لهذا الأسبوع.
نرفزة السيد المعلم خلال الدرس كانت واضحة، مما أثر سلبا على معنويات التلاميذ الذين كانت قراءة النص تفرض عليهم فرضا حين لا يبادر أحد بذلك.
السيد المعلم لم يحقق الهدف من الدرس. أدعوه لعقلنة عمله بتنصيص الأهداف الإجرائية والخضوع لسلطة المقرر الدراسي ومنهجيته.
علائقيا، يتمتع السيد المعلم بعلاقات غير طيبة مع أولياء التلاميذ. أدعوه لفتح باب الحوار معهم. واتباعه للنصائح المسداة إليه قد تساعده على تطوير أسلوبه في العمل". الصفحة 18

إن رسائل النصين القصصيين معا، "المقص" و"التشظي"، تحيلنا على ضرورة حفاظ الإنسان على شخصيته. فالنتيجة المنطقية لتوجيهات الآخرين تقود دائما إلى المأزق:
" أحس وكأنني لم أعد أعرف ما أريده. لهذا لا أجد ما أقوله. الصمت يناسبني. أحيانا حين أنتبه لحياتي، يروعني منظري : دائما مجرور، مثل محراث قديم. أحيانا أخرى، أتخيل نفسي بيضة تتدحرج في كل الاتجاهات. أتخيل نفسي بيضة كبيرة. وأشعر بالاختناق تحت قشرتي." الصفحة 15


2- اختطاف الهوية:

في قصة "هوية"، يبرز الكاتب جليا مكانة بطاقة التعريف الوطنية في حياة الإنسان. فسارد النص بضمير المتكلم سرقت منه بطاقة هويته ثلاث مرات وانضافت الرابعة كذلك وسط ازدحام السوق اليومي. ولهدا الحدث دلالات يمكن تلخيصها في:
• لا مبالاة الآخرين اتجاه أزمات الفرد فلا مكان لخصال التضامن الاجتماعي المفترضة في المجتمع.
• لا إنسانية العلاقات الاجتماعية في مراكز الأمن والتعامل مع المواطنين. لنلاحظ المعجم الموظف داخل نص "هوية":
" وضـعـت وثـائـقـي عـلى مـكـتـب رجـل الأمــن :
- هـذه لــوازم البطـاقـة الوطـنية، وهـذه شـهادة الضيـاع...
انـدهـش الـرجـل :
- ضـيـاع من ؟ ألـســت ذاك الـذي تـسلـم النـسـخـة الثـالـثــة مـن ب ـطـاقـتـه الـوطـنيـة هـذا الصـباح ؟...
ظـل مـشـدوهــا يتـفـرسـني. عـيناه في عيـني تبحث عـن الـخـدعـة الـتي أنـسـجـهـا لـه.
يـتـفـرسـني...
خـبـط أخـيرا عـلى مـكتبـه ثـم نـهض مـن مـقعده، مسـتـغـربـا :
- انـتـظـر هـنـاك. سـأصـعـد لأسـتـشـير فـي قضـيتك." الصفحة 41

• تنشيط النص لتساؤلات جوهرية حول "هوية" الإنسان: فهل تشكل بطاقة الهوية عبئا على شخصية الإنسان انطلاقا من كونها لا تعكس مواطنته الحقيقية بحيث يخفف فقدانها من وزنه ويحرره من أثقال كان يحملها كرها ؟ أم أنها أثقال داخلية تحتاج من المواطن التخلص منها، لأنها لا تحمي مواطنته، ولا تمثل له شيئا مادامت لا توفر له كرامته ؟ وهل الوثائق فعلا هي التي تصنع شخصية الإنسان و أنه "كلما كانت الوثائق كاملة ومنسجمة كانت الشخصية حقيقية وشرعية"(الصفحة 40)؟...

إنها تساؤلات عميقة مغلقة ومفتوحة في آن واحد، تحيل على تساؤل أكبر وهو أن ضياع البطاقة الوطنية ضياع خاص بامتياز.
فالسؤال المطروح في الصفحة 41 "ضياع ماذا ؟" سيبقى مفتوحا لإجابات خاصة:المستقبل، الأمل، الإنسان... لذلك يجب علينا دوما البقاء في احتراز خاص فلمواجهته واسترداد ما ضاع منا وجب علينا، كما أكد محمود درويش في التصدير، "أن نربي الأمل" الصفحة 35


3- اختطاف صوت الإنسان:

في نص "أرض الغيلان"، نجد دلالة خاصة على القمع المتواصل الذي يتعرض له الإنسان في وطنه سواء بشكل ذاتي أو من طرف الآخر المتعدد الألوان والذي ليس بالضرورة أن يكون سلطة.
إن دلالة الكلمة التي تكررت كثيرا في عدة نصوص في المجموعة القصصية وهي عبارة "اششش!" التي تبقى أمرا خاصا بالصمت تتكرر داخليا:
"أيها الإخوة خطاب الزعيم
اششش" الصفحة 43

ففي الوقت الذي اجتمع القوم حول الزعيم لمواجهة الغول، وبعد أن خدرهم، في غفلة منهم، بخطابات حماسية، يكتشفون بعد قليل أنه قد خانهم بصفة خاصة مع الغول الذي توهمون أنه يحاربه باسمهم لدرجة أصبحوا يتساءلون حول الشخصين "أيهما الزعيم ؟أيهما الغول ؟" حيث تكلما في وقت واحد وبصوت واحد في خطاب مشترك فتكون النتيجة هي الصمت المطبق.
بل الأدهى انه يوظف معجما خاصا خطيرا يتجلى في اللعب على الكلمات والمصطلحات:
" أيـها النـاس، اسـمعوا وعوا. وإذا وعيتـم فانتفـعوا... إن الدهـر قـد أدبني وقـد أحببـت أن اؤدبـكم، وأزودكـم أمـرا يكـون لـكم بعـدي معقـلا... كفـوا ألسنتـكم فـإن مقتل الرجل بـين فـكيـه... أيهـا النـاس، إصـلاح فسـاد الرعية خير من إصلاح فساد الراعي.ولـهــــــذا فـإنـــــي لأرى..." الصفحة 46
لينتهي النص بعلامات تعجب دالة ومعبرة على مصير من أوصلوا الزعيم إلى مرتبة خاصة يساوم فيها الغول طبعا لمصالحه الخاصة.


4- اختطاف الحلم:

للحلم رنين خاص لدى محمد سعيد الريحاني. كيف لا وهو الذي أشرف على إعداد وتقديم وترجمة "أنطولوجيا الحلم المغربي"، مختارات من القصة المغربية الجديدة. والأحلام دوما تحيل على طموح واسع وآفاق رحبة للمستقبل القادم بشكل يمكننا من تجاوز إخفاقات الراهن وتعثرات محتملة للأجيال القادمة .
وتأسيسا عليه، في قصة "افتح، ياسمسم!" التي أهداها الكاتب "إلى شاب جامعي معطل" يبحر بنا الكاتب في مشهد حلم خاص انتهى بسرقته والرجوع للواقع الذي طالما سعى الكاتب للهروب منه: واقع يتميز برهبة خاصة من خلال المعجم الموظف فيه "فالناس بلا أجنحة" الصفحة 59، وهناك في "المدينة الخالية ..الكل حزين ..والرجال يعتصمون ..يئنون شعارات حزينة" . وهناك يسود الصمت الذي تجاوز مرحلة تلقين الدروس في حجرات خاصة بل يمتد إلى ضرورة السكوت في الأماكن التي يرتادها الشخص للاستراحة. فكيف يعقل أن يسود الصمت حتى في المقاهي؟ وتوظف هي كذلك لازمة "اششش!" وهي المعروفة بحيويتها وشغبها الخاص الدائم الأمر الذي لم يكن رجاء خاصا بصاحب المقهى وإنما أصبح قانونا تم تعليقه في لوحة بارزة:
"الرجاء من الزبناء الكرام عدم التدخين والكلام والصراخ حفاظا على الصالح العام" الصفحة 63

واقع مجتمع وصلت وقاحته درجة "شباب يستر عورته بشواهده الجامعية" وفي الطرقات، "المجانين..ماسحي الأحذية...المتسول حاف عار يستر عورته بيده" الصفحة 64، والكل مراقب لدرجة يسود فيها إحساس غريب أن "حياتي لم تعد لي وحدي لدرجة أصبح غيري يعرف أسراري... ويسمع أفكاري....يغمرني الخوف..اضطرب..تسود الدنيا أمام عيني..سواد ظلام دامس..."
ومن جراء هذا الإرهاب، أصبحت "أخاف أن أفكر" بل لم يبقى ثمة خيار سوى أن البحث عن مخرج:
" يغمرني الخوف… أضطرب… تسود الدنيا أما عيني … سواد ظلام دامس… أتحسس الحاجز أمامي … أبحث عن مخرج … هذا باب … باب موصد … باب خشبي …حديدي… حجري … أقرع الباب…
لا أحد يجيب …
أنادي بكل قواي :
-"افتح يا رفيق!"
سكون …
-"افتح يا أخ !"…
سكون
-"افتح يا سمسم ! " الصفحة 62
لكن في لحظة خاصة ينقلب الوضع إلى بياض خاص ليصبح شعار المرحلة:
"لاتخف.. فكر... كما تريد... والإخوان نشيطين على غير عادتهما ..يحاكيان اللقلاق القادم من الجنوب جناحاه دوما مبسوطتان" الصفحة 63 .

إنها متعة التغيير التي طالما حلم بها كل المقهورون، والصباح الذي مل الجميع من طول انتظاره. وحين كاد الصباح أن يستوي على الزمن النهاري الهارب، استيقظ الكاتب على لحظة سرقة الأحلام البيضاء وعلى صوت طرقات خاصة لساعي البريد ويفقد الأمل والأحلام الواقعية ويكتشف أنه حلم ليلي عابر لا علاقة له بالواقع ويدرك بالملموس وتحت أشعة الشمس الحارقة ألا تغيير حصل، بل ما أكد ذلك أن ساعي البريد أتى حاملا رسالة أدرك صاحبنا "أنها لا تحتوي سوى على وثائقه المرفوضة في مباراة شغل" الصفحة 66


5- اختطاف البراءة:

بالرغم من نضالات المثقفين وسعيهم الحثيث لإحداث التغيير المنشود داخل الواقع القرمزي الألوان الغريب، إلا أن أغلب التضحيات تذهب جفاء. وفي مستوى معين يرتفع حجم الرداءة التي أصبحت تعيشها القيم المجتمعية ليصبح المثقف /المناضل من أجل الشعب هو العدو الأول للشعب . هكذا ينقلنا نص "الحياة بملامح مجرم" إلى الحقيقة المرة ، وهي عبارة عن محاكمة خاصة تجري في مكان يشبهه الكاتب بالسينما المختصة طبعا في التمثيل وتوهيم الصورة واللعب على الخدع المختلفة ... إنها محاكمة استثنائية بكل المقاييس:
1- خلافا للمعتاد، مضمون المحاكمة "إدانة قبلية لإحتمال ارتكاب جرائم بعدية" الصفحة 67
2- كل الشهود ضد المتهم المحروم من حقه في الدفاع عن نفسه. وشهادتهم تحمل دلالات مختلفة في رسائل معبرة من الكاتب لواقع المجتمع. فشهادة المنجم تحيل على قراءة فنجان المتهم /المثقف ، والشهادة مضمونها أن المتهم الماثل أمام المحكمة يشكل خطرا كبيرا لأن خط كفه "يبدأ من خارج خط الحياة ، وينحدر نحو الأسفل بشكل مخيف ينذر بتحرر يصل حد التهور واقتراف أبشع الجرائم" الصفحة 68، كما أن اسمه الشخصي يدل على برج كبار المجرمين والقتلة ومن "مميزات مواليد ذلك البرج التصلب في المواقف والميل للوحدة القاتلة" الصفحة 68.
أما صديق الطفولة فيشهد بأن المتهم "يرتدي وزرة بيضاء"! تهمة ارتداء اللون الأبيض الناصع أكد عليها النظاراتي أيضا في شهادته دلك ان اللون الأبيض هو "نتيجة مقاومة الكتلة للأشعة الضوئية المتسلطة عليها..والأبيض ياسادة لون المقاومة ولون الرفض والإنسان حين يختار لونا من ألوان فهو يختار لغة بصرية للتعبير عن ذاته ورغباته" الصفحة 69
أما شهادة موظف المكتبة فبينت أن المتهم "يقرأ في الآن ذاته للأنبياء والملاحدة وللجبابرة والمنبوذين" الصفحة 70
وتتواصل الشهادات المختلفة والتي تبدا كل مرة ب *أقسم ألا أقول إلا الحقيقة" لتعطي انطباعا بأن المحاكمة احترمت فيها كل القواعد القانونية من حضور للجمهور والضرب بالمطرقة في بداية الجلسة وتلاوة نص الاتهام ... حتى وإن كانت تحاكم "شكل" الإنسان و"اسمه" و"هواياته" وتتدخل في "عناوين قراءاته" و"طريقة كتاباته"... إنها تحشر نفسها في الحياة الخاصة للكاتب/المتهم، لتكتمل المشاهد في "الفيلم السينمائي" بإصدار الحكم:
" بناء على تصريحات الشهود،
وبناء على...
وعلى...
فقد تمت إدانة المتهم، ضمن مجموعة اليوم، بالسجن المؤبد مع وقف التنفيذ، ورفعت الجلسة." الصفحة 72

إنها محاكمة تطرح تساؤلات مفتوحة:
1. لماذا لم تعط الكلمة للمتهم للرد على الاتهامات الخاصة والصادرة ضده؟
2. من سيعطيه الكلمة ؟
3. فأين هي هيئة الحكم ؟
4. من الذي أصدر الحكم ؟
5. هل يمكن القول أن الذين أصدروا الحكم عمليا هم الشهود (الأب، موظف المكتبة، النظاراتي، صديق الطفولة...)، أي الأشخاص الذين يحتك بهم الكاتب في الواقع؟
6. هل المحاكمة مجتمعية؟
إنها فعلا إدانة قبلية لاحتمال ارتكاب جرائم بعدية للكاتب الذي يصرخ على لسان فريدريك نيتشه في الفصل الأخير من المجموعة القصصية المعنون "هل كان سقراط مجرما؟":
" كان سقراط ينتمي بالولادة، إلى أكثر الدهماء دونية : كان سقراط رجل الشعب. نعرف، ويمكن كذلك أن نلاحظ كم كان سمجا. لكن القبح، الذي كان في حد ذاته اعتراضا، كان بالنسبة للإغريق مبرر رفض، تقريبا. من جهة أخرى، هل كان سقراط إغريقيا ؟ غالبا ما تكون السجامة نعبيرا عن تهجين، عن نمو معاق بفعل التهجين. في حالات أخرى تكون شهادة على تطور منحرف. الإناسيون من بين علـمــاء الإجــرام يقــولون لنا إن المجرم المميز سمج. بل المجرم منحط. هل كان سقراط مجرما مميزا ؟ على أية حال، لن يكون ذلك مناقضا لهذا الحكم الشهير الذي نطق به فراس، ووجده أصدقاء سقراط جارحا. خلال مروره بأثينا، قال غريب خبير بالوجوه لسقراط، مباشرة، بأنه قبيح وبأنه ينطوي على أقبح العيوب وأسـوأ الشـهـوات. وقد اكتــفى سقــراط بــأن أجـاب : "لشد ما تعرفني جيدا !" " الصفحة 73

فهل الكاتب/المثقف في مجتمعنا مجرم بالفعل؟
ومن سيمتلك الإجابة إن كانت التشكيلات المجتمعية أدلت بدلوها في محاكمة شكلية.


V- قبل الختام:
في ظل وضع خاص لتشظي الإنسان بفعل عمليات الاختطاف المختلفة التي يتعرض لها من نواح متعددة، يصبح الوجود الإنساني والمجتمعي فاقدا للإحساس بالزمان أو المكان. وسيبقى ينتظر كل شيء حتى الصباح. فكل شيء معلق حتى إشعار آخر. كل شيء مؤجل إلى ما لا نهاية له. كل شيء متوقف في انتظار رجوع الأشياء المختطفة إلى أصحابها حتى لحظات أخرى غير لحظات الزمن الهارب الحالي بشكل يدعو الكاتب للتساؤل فعلا عن الحقيقة الماثلة أمامه وليستعير صراخ "ناس الغيوان" وليصدح:
"واش حنا هما حنا
ياقلبي أو لا محال؟
واش الدنيا هكذا ياقلبي محال
ياقلبي أو لا محال؟" الصفحة 31

هكذا تضعنا قصة "الأبدية" في واقع آخر ضمن المتواليات السابقة لتكشف عن نفس تأملي خاص للكاتب يعبر عنه بعبارات حساسة تخفي غضبا يجد مبرراته في رداءة الواقع المعاش:
" 1 – من لديه ساعة ؟
2 – لا أحد .
1 – كم الساعة، تقديرا ؟
2 – لا ندري.
1 – الأفضل أن نعرف الزمن بحركة ما…
2 – كل شيء جامد في مكانه. لا شيء يتحرك…
1 – حركة الشمس، مثلا.
2 – الشمس لازالت في المكان الذي كانت فيه دائما" الصفحة31

إنه التيه الخاص الذي يجعل الإنسان يسبح وسط دوامة لا متناهية في "دوائر متشابكة ومنفصلة دوائر لا نهائية" (الصفحة 32 ) يبدو ظاهرها أبيض بينما عمقها أسود تماما كما يصرح الغلاف من أول تصفح له: دوائر تقضي على كل ابتسامة في الحياة وتوقف الاحتفال حتى بيوم العيد الذي أصبح غريبا في نص "العيد":
"هـل اليـوم عيـد ؟ !
أصبحت أنسى أيام الأعياد فلا أتذكرها إلا صدفة عند تسكعي في شارع المدينة الرئيسي حيث تعبث الأضواء الموسمية بسحنات رواد المقاهي المظللة برايات بالية ولافتـات مكمشة توارت أغلب الحروف الـمكتـوبـة عليـها…" الصفحة 7

لقد فقدت الأعياد ذاتها حضورها وصار الناس مجرد متفرجين سيئين كما كتب نيتشه "إنني لا أحب أعيادكم إذ رأيتها مليئة بالممثلين رأيت المتفرجين أبرع منهم تمثيلا ". فمتى ينجلي هدا الليل ومتى يحين الصباح؟
محمد البوزيدي
روائي مغربي



#محمد_البوزيدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- يورتريه الشهيد مهدي عامل
- الشباب والراهن :أية علاقة ؟
- ذكريات معلمة في الخليج كتاب يرصد التعليم بمدينة صحار بسلطنة ...
- فاس
- ربيع الصيف
- الهجرة في * موسم الهجرة إلى أي مكان* للمبدع محمد سعيد الريحا ...
- علي الصحراء
- علي و الصحراء
- البحر
- سلك احسن لك
- العاصفة
- اليتيم
- آلام بلا حدود
- في حوار مع محمد سعيد الريحاني: “فصل المقال في ما بين الأغنية ...
- تيمة المرض في نص - مأدبة الدم - للفقيدة مليكة مستظرف
- بور تريه الفنان الملتزم سعيد المغربي
- السلام.........السلام
- أحمد فؤاد نجم
- الرحيل
- في الذكرى الخامسة لموقع الحوار المتمدن


المزيد.....




- وفاة الفنانة السورية القديرة خديجة العبد ونجلها الفنان قيس ا ...
- مطالبات متزايدة بانقاذ مغني الراب الإيراني توماج صالحي من ال ...
- -قناع بلون السماء- للأسير الفلسطيني باسم خندقجي تفوز بالجائز ...
- اشتُهر بدوره في -أبو الطيب المتنبي-.. رحيل الفنان العراقي عا ...
- عبد الرحمن بن معمر يرحل عن تاريخ غني بالصحافة والثقافة
- -كذب أبيض- المغربي يفوز بجائزة مالمو للسينما العربية
- الوثائقي المغربي -كذب أبيض- يتوج بجائزة مهرجان مالمو للسينما ...
- لا تشمل الآثار العربية.. المتاحف الفرنسية تبحث إعادة قطع أثر ...
- بوغدانوف للبرهان: -مجلس السيادة السوداني- هو السلطة الشرعية ...
- مارسيل خليفة في بيت الفلسفة.. أوبرا لـ-جدارية درويش-


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد البوزيدي - عتبات -في انتظار الصباح-