من عادة الإسرائيليين أن يقوموا بتعميم خبر أو توزيع قضية ما على الأعلام وذلك من اجل الخروج بفهم أدق وأعمق لردود فعل المعنيين بالقضية،إن كان من بعيد أو من قريب.
ثم وبعد أم تصبح القضية مملة ومتكررة،أي من الأشياء العادية التي تظل طاغية على الأخبار اليومية،ويسمع بها ويراها الإنسان كل يوم وكل ساعة، وبعد أن يعتاد العالم على الأمر ويظن بأن القضية انتهت بفعل تقادمها ومرور الوقت عليها،وبأن شيئا لن يحدث من تلك القضية،يقوم الكيان الإسرائيلي فعلا بمفاجئة الجميع بفعلته التي كان قد نوى فعلها أو هدد بها وتوعد بتنفيذها، وقد أثبت هذه الطريقة الإسرائيلية المتبعة نجاحها في التعامل مع الفلسطينيين والعرب على مر العقود،و في النهاية هي مأخوذة من النظرية الكيسنجرية المعروفة،التي لا تعطي الطرف الآخر وقتا للراحة وطول التفكير،بل تواصل رجمه بالمبادرات والاقتراحات الجديدة،فما يكاد ينتهي من واحدة حتى يأتوه بأخرى جديدة وهكذا حتى يقطعوا أنفاسه ويأخذوا منه ما يريدون.
هكذا جاءت تهديداتهم بإبعاد الرئيس عرفات أو قتله أن تطلب الأمر ذلك،وهذا الكلام ليس من نسج الخيال ولا من بنات أفكارنا لكنه من وحي العقيدة الصهيونية التي تتحكم بالسياسة الإسرائيلية.
فقضية قتل الرئيس الفلسطيني طرحت في جلسة خاصة لمجلس الوزراء الإسرائيلي بقيادة رئيسه شارون، وبعد البحث والتداول والنقاش تمت الموافقة بالأغلبية الساحقة على القرار المذكور.
ومن الطريف في القضية أيضا أن أحد الوزراء من لصوص الأرض ومصاصي الدماء الفلسطينية،عارض قرار طرد عرفات،ولما سُئِل لماذا ؟
أجاب : لأنه يريد قتله لا طرده.
كما أن الوزير أولمبرت قال بصريح العبارة أن عرفات إرهابي ويجب قتله،لذا لم تعد تنفع تصريحات شالوم سيلفان وزير خارجية الحكومة الإسرائيلية، فقد قال الوزير إياه يوم الاثنين الماضي( 15 الشهر الجاري) أن إسرائيل لا تخطط لقتل عرفات،وجاء كلامه قبيل انعقاد جلسة مجلس الأمن الدولي لمناقشة هذه القضية،حيث ظن الوزير انه بهذا يحمي سمعة دولته وكيانه وحكومته.
نحن بدورنا نقول له لا تخف أيها الوزير فالعالم نائم من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب،ومن يقبل بحصار عرفات وحبسه ومحاولات قتله لمدة سنتين كاملتين لن يأبه بتهديداتكم ولن يقوم بفعل أي شيء جدي لوقفكم. لكن الذي بالتأكيد سيوقفكم هو الشعب الفلسطيني،هذا الذي لا يسمح لأي كان بالتعدي على شرفه وكرامته وعزته الوطنية.
و لسوء حظ شالوم فليس هناك ما يمكن حمايته في سمعة دولة إسرائيل،لأنها دولة عدوانية تلتزم طريقة مميزة في القهر والعدوان والعنصرية، ليس أقلها التصرف وكأنها عصابة أو مافيا تقود جيش ودولة ومؤسسات وأجهزة وقتلة من كل الأشكال والأصناف.
كما أن التاريخ الإسرائيلي الطويل مع الاغتيالات والتصفيات والاقتلاع والترانسفير وتدمير المساكن والبيوت واقتلاع الشجر والحجر ومحاربة الخبر وقتل البشر، لا يمكن محوه بكلمات قليلة أو بضع كذبات وزارية تصدر عن هذا أو ذاك الوزير من وزراء حكومة شارون.
أما الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات وأن اختلفنا أو اتفقنا معه ومع نهجه القيادي والسياسي والتفاوضي،إلا أنه الرئيس الفلسطيني الذي انتخب ديمقراطيا في انتخابات أشرف عليها مراقبون دوليون ومحليون وإقليميون من إسرائيل وأمريكا والاتحاد الأوروبي ودول عالمية أخرى ليست النرويج أصغرها ولا روسيا أكبرها،هذا من جهة انتخابه رئيسا للسلطة الفلسطينية التي أنجبتها اتفاقيات السلام مع إسرائيل.
أما على الجانب الآخر فهو قائد منظمة التحرير الفلسطينية،الكيان الوطني الفلسطيني الذي جمع معظم أبناء هذا الشعب خلال سنوات طويلة من الكفاح الشرعي والشعبي والملحمي للفلسطينيين.
صحيح أن المنظمة مغيبة ومشلولة ومعطلة وأنه كان للرئيس الفلسطيني دورا في تعطيلها وشللها،لكن المؤامرة على المنظمة أكبر من عرفات ومن الذين ينضوون تحت لوائها الوطني.
فالذي كان في السابق مطلوبا شطبه هو الحلم الفلسطيني الواقعي، أي شطب منظمة التحرير الفلسطينية واقتربوا من ذلك الهدف كثيرا بمساعدة بعض الفلسطينيين من الجاهلين أو المتعاملين،وكذلك بفضل مشاركة بعض العرب من المتحكمين والحاكمين.
كان مطلوبا أيضا تصفية القضية الوطنية الفلسطينية واستسلام الشعب الفلسطيني أفرادا وجماعات، لذا جاءت الانتفاضة الفلسطينية المباركة لتحيي الأحياء الأموات في الساحة الفلسطينية، ولتضخ دماء جديدة في شرايين فلسطينية كانت قد جفت وأضمحلت.
استطاعت الانتفاضة أن تقلب المعادلة وتحيي القضية الفلسطينية وتعيد النور للذين أعمت بصيرتهم مسيرة أوسلو السلمية، كما أنها أعادت للنضال الوطني الفلسطيني معناه ومعاني الانتماء إليه في زمن الفضائح العربية المتتالية.
ولم يكن لدى الانتفاضة سوى برنامج وحيد هو طرد الاحتلال والاستيطان وبناء الدولة الفلسطينية المستقلة، ومن ثم إعادة ترتيب البيت الفلسطيني من جديد وبشكل لائق يليق بتضحيات شعب الشهداء والعطاء والفداء.
أما الآن وفي هذه الأيام ومنذ وبعد أن عصفت التفجيرات بنيويورك وواشنطن في أيلول الشهير، أصبح المطلوب شطب الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات وتصفيته حتى جسديا، لأنه بنظر بوش وشارون ومن معهما من المتربصين بقضية فلسطين، أصبح فعلا عائقا، فهو الذي رفض في كمب ديفيد أن يخضع للابتزاز الأمريكي الإسرائيلي،الذي مارسه كل من كلينتون وبارك،ورفض التخلي عن حق العودة للاجئين الفلسطينيين، بالرغم من التراجع الذي حصل في مواقفه لاحقا وبالذات يوم كتب مقالته الشهيرة لأحدى الصحف الأمريكية. على هامش هذه القضية فهناك البعض من المقربين والمحيطين بالرئيس عرفات ينقلون عنه النكتة التالية : الله طول عمرهم يقولوا عني كذاب، طيب ليش صدقوني هذه المرة..
أبو عمار الذي تتم محاصرته فعليا منذ أشهر طويلة لازال وبرغم التبدلات والعواصف التي شهدتها القضية والمنطقة، مثل سقوط العراق ووصول الأمريكان إلى قلب الوطن العربي بجيوشهم وأساطيلهم وتهديداتهم ، وانكشاف عورة الأنظمة العربية ومدى عجزها وقلة حيلتها وهشاشة بنيانها ووقاحة سياستها، لازال صامدا في وجه الذين يريدون تقديم المزيد من التنازلات وتصفية ما تبقى من حقوق وطنية للشعب الفلسطيني، وقد يبقى هكذا على موقفه لأنه يعي حجم الخطر والمؤامرة التي تعصف بالقضية الفلسطينية وبه شخصيا باعتباره رمز لهذه القضية.
نعتقد أنه لا يجوز لأي فلسطيني الوقوف في هذه المحنة وفي هذه الأوقات العصيبة ضد عرفات ، بل أصبح مطلوبا منا جميعا حمايته والعمل على لجم التهديدات التي توجه إليه في حصاره،كل من موقعه وفي مكانه،فمجالات التضامن والعمل والمناصرة عديدة ومتشعبة وكبيرة،وحصار عرفات جزء من حصار يطال ويشمل كل الشعب الفلسطيني.
فالقضية ليست عرفات كشخص بل عرفات كرمز فلسطيني يمثل النضال الوطني الفلسطيني، وكلنا أمل أن يخرج عرفات من الحصار المميت أكثر قوة وعزم وإصرار على تحقيق الانتصار الفلسطيني على الأعداء بكل أشكالهم وأصنافهم.
كما نأمل أن تكون هذه المعركة عبرة يستفيد منها الرئيس وكافة القوى الفلسطينية، لتكون حافزا على تسريع العمل من أجل رص الصفوف الفلسطينية وبناء الجبهة الوطنية العريضة والقيادة الوطنية الموحدة والحقيقية،التي تستطيع قيادة الشعب الفلسطيني ونضاله العادل عبر الانتفاضة والتفاوض وفي الحرب والسلام.