الماركسية ودراسة الواقع


تاج السر عثمان
الحوار المتمدن - العدد: 8422 - 2025 / 8 / 2 - 11:22
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     

١
أشرنا في تعقيب سابق على عماد حسب الرسول الطيب، الي خطل اختزال الماركسية في نصوص جوفاء خالية من ارتباطها بواقع وحياة الناس، ودون بذل الجهد لدراسة الواقع والتاريخ السوداني، والدراسة المستقلة لخصائص شعب السودان وتاريخه، الماركسية كما يقول لينين في موضوعات نيسان "ليست عقيدة جامدة، بل مرشد للعمل". إضافة لخلل الجمود والعزلة عن الواقع، واستبدال الجهد الفكري والنظري والعملي لدراسة الواقع بالطنين الاجوف بنصوص ماركسية، الذي يمكن أن يتحصل عليها الشخص دون عناء بالذكاء الصناعي.
٢
أوضحنا في بحث سابق أن دراسة الماركسية واكتشافها الأساسي المفهوم المادي للتاريخ أو مناهج دراسة التاريخ الأخري ليست بديلا لدراسة التاريخ والواقع السوداني.
ففي رسالة انجلز الى شميدت بتاريخ:5/8/1890م، يقول: ( إن الفهم المادي للتاريخ اليوم مجموعة من الأصدقاء الذين يرون فيه حجة لئلا يدرسوا التاريخ ، وهكذا يتكرر الوضع نفسه الذي قال فيه ماركس عن الماركسيين الفرنسيين أواخر السبعينيات (من القرن التاسع عشر) اعرف شيئا واحدا هو اني لست ماركسيا)( ماركس وانجلز: المؤلفات، المجلد 37، ص 370).
والمفهوم المادي للتاريخ في جوهره مستمد من فهم الظروف الواقعية والحياة الانسانية متنوعة وخصبة ومتجددة من الصعب حشرها في نموذج، بل تتعدد النماذج وفقا لتنوع وخصوبة الواقع والحياة الإنسانية، ستظل دائما الهوة الموجودة بين النظرية والواقع، سيظل السؤال: ما علاقة الاطار النظري بالواقع وما علاقته بالمجتمع السوداني؟ وسيظل دائما الواقع اغني واعمق من كل نظرية، وجوهر الديالكتيك هو التحليل الملموس للواقع الملموس.
العلم لايعرف الكلمة النهائية، ويبدأ العلم بالمشكلات، ويعمل على بناء النظرية التي تحل المشكلة ، وكل نظرية جديدة ذات شأن تثير مشاكل جديدة تحتاج لنظرية علمية جديدة لحلها.
* المجتمع السوداني شأنه شأن المجتمعات الإنسانية الأخرى مرّ بمراحل تطور مختلفة بدءا من العصور الحجرية واكتشاف الزراعة وتربية الحيوانات / ومرّ بحضارات عرفت الزراعة والرعي وتربية الحيوانات والصناعة الحرفية والتجارة وقيام المدن واللغة المكتوبة وبناء الأهرامات التي تظهر من الآثار الخالدة لحضارات نبتة ومروي وعرفت التفاوت الاجتماعي والدولة التي تنوعت وتطورت وتوسعت في أشكال متنوعة. كما عرفت الديانات الوثنية والديانات التوحيدية( المسيحية والاسلام)، وتفاعل مع العالم أخذا وعطاءا.
دراسة تطور المجتمع السوداني تتطلب الذهن المفتوح لمعرفة خصوصيات تطوره و تمايزه عن المجتمعات الإنسانية الأخرى.
فمثلا: عند دراسة الدولة السودانية نأخذ في الاعتبار تاريخية الدولة وخصوصية تطورها بفعل اختلاف الثقافات والجماعات الاثنية والعوامل التاريخية المختلفة ( انظر على سبيل المثال: تاج السر عثمان: الدولة السودانية: النشأة والخصائص، الدار العالمية 2007م).
وعند دراسة نظام الرق نأخذ في الاعتبار السمات والخصائص التي ميزت دور الرق في النسيج الاقتصادي والاجتماعي لتشكيلات ماقبل الرأسمالية في السودان، دون الانطلاق من استنساخ النموذج الأوربي أو البلدان الشرقية الأخرى(انظر على سبيل المثال وثائق الرق التي نشرها الاستاذ محمد ابراهيم نقد في كتابه: علاقات الرق في المجتمع السوداني 1995).
الطبقات:
معلوم أن الفضل لايرجع لماركس في اكتشاف وجود الطبقات، ولا حتى اكتشاف الصراع فيما بينها. فقد وصف المؤرخون التطور التاريخي لهذا الصراع بين الطبقات، ووصف الاقتصاديون البرجوازيون التشريح الاقتصادي لهذه الطبقات، كل مافعله ماركس، انه اثبت أن وجود الطبقات، إنما يرتبط بمراحل تاريخية بعينها لتطور الانتاج، وهذا ما تؤكده مسيرة تطور المجتمع السوداني الذي عرف اول انقسام طبقي- كما أشار علماء الآثار- منذ: 3000 ق.م في حضارة كرمة حيث ظهرت طبقة الحكام(ملوك، كهنه، اداريين، وموظفين، وطبقة الشعب التي تتكون من المزارعين، الحرفيين. وبعد ذلك تطور التركيب الطبقي في الحضارات السودانية اللاحقة المختلفة، سواء كان ذلك في تكوينات ما قبل الرأسمالية في السودان أو في السودان الحديث.
والدراسة في هذا الجانب خصبة ومتنوعة، فيما يتعلق بالتركيب الطبقي في السودان، وتتطلب الدراسة الميدانية واستخلاص نتائج من الواقع و بذهن مفتوح، دون اقحام مصطلحات الطبقات الاجتماعية، والتي نشأت وتبلورت مع تبلور الرأسمالية في أوروبا. المهم دراستها في اطار خصوصية وتطور المجتمع السوداني ونشاطه الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وهذا ميدان خصب ورحب وبلا ضفاف للدراسة.
الأرض:
والأرض في السودان التي تشكل ركيزة العمل الأساسية في مجتمع زراعي رعوي، وكيف تجلت وتطورت وتنوعت أشكال ملكيتها في السودان؟.
كيف كانت خصوصية نظام الاقطاع في السودان، وما هي الاشكال التي تجلت فيها تشكيلات ما قبل الرأسمالية في السودان؟. وتشكل وثائق الأرض التي نشرها د. محمد ابراهيم ابوسليم: (الفور والأرض)، (الفونج والارض)، ( الارض في المهدية)، إضافة للوثائق الموجودة في مصلحة الأراضي والمحاكم، مادة خصبة للدراسة.
الرأسمالية السودانية:
ضرورة دراسة نشأة وتطور الرأسمالية في السودان، لمعرفة خصائصها ومصادر التراكم الرأسمالي، ومعلوم أن السودان شهد ظهور بذور نمط الإنتاج الرأسمالي في فترة الحكم التركي - المصري ، عندما ارتبط السودان بالسوق الرأسمالي العالمي عن طريق تصدير سلعتي: الصمغ والعاج، وكذلك سياسات النظام الوحشية في جباية الضرائب والتي أدت إلى اقتلاع الآلاف من المزارعين من اراضيهم وسواقيهم، ليجدوا انفسهم عاملين باجر في المصانع التي أنشأها الأتراك مثل: مصانع الصابون والذخيرة..الخ، إضافة لاتساع ظاهرة التعامل بالنقد بعد إدخال المحاصيل النقدية ( القطن، النيلة..الخ)، ثم بعد ذلك تطورت الرأسمالية في الفترات التاريخية المختلفة، حتى ظهور الرأسمالية الطفيلية أو التداولية في مايو، و الطفيلية الاسلاموية التي توسعت في فترة الإنقاذ.وهناك الدراسة التي تم إنجازها في المؤتمر الرابع وصدرت ضمن وثيقة: الماركسية وقضايا الثورة السودانية حول الرأسمالية السودانية ومصادر التراكم، كما أنجزت د. فاطمة بابكر دراسة ميدانية حول الرأسمالية السودانية، ونشرتها في كتاب بعنوان: الرأسمالية السودانية: اطليعة للتنمية وهو جهد مقدر وممتاز، كما أنجز: تاج السر عثمان دراسة عن: الرأسمالية السودانية: النشأة والخصائص، ونشرت في حلقات في صحيفة الرأي الاخر، كما انجز د. صدقي كبلو دراسة عن الرأسمالية الطفيلية ونشرت في كتيب صدر عن دار عزة للنشر 2007م.
المجتمع المدني:
من المهم دراسة التطور الباطني للمجتمع المدني في السودان (أو المدنية السودانية)، دون النقل الاعمي للمصطلحات الوافدة من أوروبا والتي نبعت من ظروف مختلفة، ومن خلال ديالكتيك التفاعل بين الخصوصية والعالمية.
- دراسة الاستمرارية في الثقافة السودانية وأثرها وتفاعلاتها وتشابكها مع التطور الاقتصادي والاجتماعي.
- دراسة تجربة الدولة الدينية في السودان الحديث: دولة المهدية، دولة نميري بعد قوانين سبتمبر 1983م، وتجربة الدولة الدينية في نظام الإنقاذ الحالي.
- دراسة سمات وخصائص التنظيم السياسي والنقابي في السودان( احزاب، نقابات، اتحادات، ...الخ).
- دراسة سمات وخصائص الطبقة العاملة السودانية.
- الثورة السودانية: ميدان خصب للدراسة من خلال تراكم المقاومة البطيئة عبر السنين الي الانتفاضة الشاملة، كما حدث في الثورة المهدية، و ثورة اكتوبر 1964م ، وانتفاضة مارس- ابريل 1985م، وثورة ديسمبر 2018، لمعرفة سمات وقوانين تطور الثورة السودانية، باعتبار تلك التجارب تعتبر رصيدا وارثا هاما في مقاومة الأنظمة الدكتاتورية والاستبدادية.
- المؤسسة الدينية في السودان: صوفية، طائفية، وثنية، ودورها في مسيرة تطور المجتمع السوداني، ودراسة وظائفها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
وغير ذلك من المحاور التي تتطلب الدراسة بذهن مفتوح.
وخلاصة الأمر، كما كان يقول انجلز: ان المفهوم المادي للتاريخ ليس بديلا للدراسة المستقلة لواقع وتاريخ كل مجتمع، وهذا هو جوهر المفهوم المادي للتاريخ.