المعرفة والوعي في معركة الوجود والمصير


أحمد بهاء الدين شعبان
الحوار المتمدن - العدد: 8346 - 2025 / 5 / 18 - 00:16
المحور: القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير     

للفيلسوف البريطاني المعروف "فرانسيس بيكون"، (22 يناير 1561 - 9 أبريل 1626)، مقولة أثبت الزمان صحتها: "المعرفة قوة"، وقد أخذ الغرب الرأسمالي بهذه المقولة، فارتقى علمياً وتكنولوجياً، وصنع أسلحة الدمار والهيمنة، واخترع أدوات التفوق والسيطرة، التي استنزف بواسطتها أوطاننا، ونهب خيراتنا وثرواتنا، وكانت أهم أدواته وأكثرها نفوذاً ونفاذاً لاختراق مناعة شعوبنا .."قوة المعرفة "!

ولعل أكثر شعوب العالم وبلادها احتياجاً لفهم هذه الحقيقة والوعي بأهميتها والانتباه إلى مضامينها، هي شعوبنا المنكوبة، وأوطاننا المُغَيّبة، فنحن الشعوب والبلدان المغلوبة على أمرها، والضحيّة المُستهدفة، التي تُحيط بها من كل جانب قوى شرهة مُتلمّظة، سنّت وتسن أنيابها للانقضاض على الفريسة في كل حين، (وانظروا بماذا عاد "ترامب" لبلاده في وقت يتضور الملايين من أبنائنا جوعاً وعطشاً !)... نحن الذين بحاجة ماسّة لمن يقول لنا ـ صباح مساء ـ "استيقظوا.. وتنبهوا للشراك الخادعة"!، ولمن ينشر بين ظهرانينا الوعي بمصالحنا، وإدراك الأبعاد المتعددة لمطالبنا وقضايانا، ويُنبهنا إلى الخطط والمؤامرات التي تُحاك من خلف ظهورنا..

أَوَلَمْ يكن "المؤتمر الصهيوني الأول" ـ (1897)، ومؤتمر "كامبل بنرمان" ـ (1907)، واتفاقية "سايكس بيكو" ـ (1916)، و"وعد بلفور" ـ (1917)، و"مؤامرة النكبة" ـ (1948)، و"العدوان الثلاثي" ـ (1956)، و"حرب 5 يونيو" ـ (1967)، و"احتلال بيروت" ـ (1982)، ومخططات "الاستيطان" المرسومة، و"الطرد ـ الترانسفير" المُمنهج للشعب الفلسطيني، وأخيراً حرب الإبادة الشاملة في غزة، وغيرها.. وغيرها.. من الخطط والمؤامرات، قائمةً على قدم وساق، ومنشورة ومُعلنة ببجاحة واستهتار كبيرين، وبلا خشية أو حرج ؟؟ لماذا: "لأنهم ـ أي نحن ـ لا يقرأون".. كما ذكر وكتب "موشيه دايان" ذات يوم ليس ببعيد؟!

مناسبة هذه المقدمة وإن طالت، هي الحديث عن أستاذ كبير من أساطين العلم والمعرفة المُعاصرين، من أبناء فلسطين الغالية، قدّم، ويُقدم لوطنه المُقاوم، ولوطنه العربي الأكبر، عطاءً فكرياً أصيلاً، وزاداً من العلم والمعرفة بأوطاننا وما يكتنفها من مُشكلات، وأرضنا وما يُحيط بها من أطماع، وقضايانا وما يتهدّدها من مخاطر، وعَاَلَمنا وما يموج به من متغيرات، هو الباحث والكاتب الأستاذ "غازي الصوراني"، الذي لم يقتصر دوره على العطاء الفكري والثقافي وحسب، وإنما أوفي بدوره أيضاً كمناضل في أرض الواقع، منح العمل الفلسطيني الوطني جانباً مُهماً من حياته، جنباً إلى جنب مع ما منحه للمكتبة العربية من عشرات الكتب الثمينة، في مناحي ثقافية سياسية وفكرية واقتصادية واجتماعية عديدة، بحيث يصعب تحديد مجال واحد أو مجالين ينحصر جهده فيها، في استعادة مُعاصرة للعصر الذهبي للحضارة العربية الدارسة حين كان "العالِم" يجمع في معارفه بين الأدب والسياسة، والفقه والرياضيات، والطب والفلك، .. إلخ إلخ، إيماناً بـ "وحدة المعرفة"، وتقديراً لقيمة العلم وارتباطه بالكائن الأسمى.. الإنسان!

وقد قُيض لي أن تستنير مكتبتي بفيض من إبداعات الأستاذ "الصوراني"، الذي، رغم آلام فراق ترابه الوطني في غزة الصامدة، ومحنة استشهاد العشرات من أفراد العائلة والأقارب والأصدقاء والرفاق، وعذاب مُتابعة الفصول الدامية لعدوان الدمار الشامل وحرب الإبادة الصهيونية الإجرامية على أبناء شعبه الباسل، رغم هذا كله استطاع أن يتغلب على آلامه وعذاباته وهو يُعاين مُعاناة أهله وناسه في ظل الموقف العربي والعالمي، البائس، المُحيط، وأن يُهدي المكتبة العربية العشرات من كتاباته النافذة العميقة، التي لاغنى لمثقف أو سياسي أو دارس عنها، وعما تتضمنه دفتيها من رؤى وحقائق، وتحتوي فصولها من متعة وفائدة.

ويقع في مقدمة هذا العطاء الفيّاض سفره الكبير المُسمّى: "موجز الفلسفة والفلاسفة عبر العصور"، وهو كنز معرفي بالغ القيمة، تبلغ عدد صفحات جزئية أكثر من 1300 صفحة، اختصرت بين سطورها مسيرة الفلسفة الإنسانية، من حبوها الأول بدءاً بالفلسفة الهندية، والبوذية، والصينية، القديمة، والكونفوشية، وبدايات الفكر الفلسفي في بابل ومصر القديمة.. حتى فلسفة وفلاسفة القرن الواحد والعشرين، وفي مقدمتهم: "زيجمونت بومان"، و"نعوم تشومسكي"، و"يورجن هابرماس"، و"آلان باديو"، و"سلافوي جيجك" وغيرهم.

وقد اختص الأستاذ "الصوراني" أرضه المُغتصبة، فلسطين وقطاعها الصامد، بعدد وافر من البحوث والدراسات ومنها: "فلسطين وحق العودة"، و"قطاع غزة: 1984 ـ 1993"، و "اقتصاد قطاع غزة تحت الحصار والانقسام"، كما درس وقدّم طرحاً نقدياً عميقاً لـ "تطور مفهوم المجتمع المدني وأزمة المجتمع العربي"، وبحث، في دراسة مُهمة وواسعة قضية "العولمة وآثارها على الوضع الدولي والعربي"، "وتتبع ومن خلال "رؤية تحليلية نقدية"، في بحثٍ قيّمٍ مسار "حركات الإسلام السياسي وانتشار تنظيم داعش"، وكتب عن "حق العودة وخيار الدولة العربية الديمقراطية"، وقدّم لطلاب جامعة "بير زيت" برنامجاً لمحاضرات في "التنمية والمقاومة"، وبحث موضوع "فلسطين وحق العودة"، وغيرها من الدراسات العميقة والثمينة، وهي جميعها تصب في تأكيد المبدأ المعروف: "اعرف نفسك، واعرف عدوك.. تكسب نصف المعركة مُقَدَّماً"!

وما أحرانا ونحن نعيش هذه اللحظات الصعبة، بل والفاصلة، ونواجه حرب وجود ومعركة مصير، أن نقرأ عدونا، وأن نقرأ عنه، وأن نُدَرِّع وعينا بفهم موضوعي وعميق لغاياته ومراميه، وفي هذا السياق، لا غنى لسياسي عربي، أو لمثقفٍ واعٍ، أو لشخص مهموم بمستقبل وطنه وناسه، من أن يستند إلى دعامات راسخة من المعرفة والعلم، التي من أهم ركائزها العربية كتابات الأستاذ "غازي الصوراني" الرصينة الثمينة، فـ "المعرفة"، كما قال الاستراتيجي الصيني الأشهر، "صن تزو"، (551 ق. م. ـ 496 ق. م.): "هي القوة التي تُمكّن العاقل من أن يسود، والقائد الجيد من أن يُهاجم بلا مخاطر، وأن ينتصر بلا إراقة دماء، وأن يُنجز ما عجز عنه الآخرون".