5 يونيو: خمسون عاماً دروس الهزيمة وخبرات الانتصار !


أحمد بهاء الدين شعبان
الحوار المتمدن - العدد: 5540 - 2017 / 6 / 3 - 10:53
المحور: القضية الفلسطينية     

5 يونيو: خمسون عاماً
دروس الهزيمة وخبرات الانتصار !



خمسون عاماً، تحل اليوم، بالتمام والكمال، على ذكرى هزيمة، أو "نكسة" 6 يونيو1967.
أسئلة منطقية .. وإجابات حائرة!
وهى مناسبة ضرورية، لكى نُعمل التفكير فيها، بعمق وموضوعية، فى محاولة واجبة للحصول على إجابات صادقة على الأسئلة المنطقية، الضرورية، التى تطرح نفسها فى هذا السياق: لماذا حدث ماحدث؟ّ، وكيف وقعت الواقعة؟!، ومن المسئول الفعلى عن حدوثها؟!، وماهو نصيب كلُ من التآمر الخارجى، والتهافت الداخلى فى تسهيل ماوقع؟! وكيف جرى التصدى لزلزالها؟!، ثم كيف نمنع حدوثها ثانيةً، أو نتجنب تكرارها؟!،... وهلمجرّا !.
والهدف الأساسى من هذه العملية المستحقة، ليس جلد الذات، أو الشماتة فى النظام الحاكم آنذاك ورئيسه الزعيم "جمال عبد الناصر"، أو تصفية الحسابات مع فترة مهمة من فترات تاريخنا !.
حاشا لله، فنحن، كمصريين: شعباً وحكماً ووطناً ودولةً، من هُزم، ثم أننا أيضاً من رفض الهزيمة، وانتفض، على الفور، فى مواجهتها، ثم استجمع قواه، وخاض "حرب الاستنزاف"، ثم حارب بعد ستة أعوام وحسب، فاجتاز الهزيمة.. وعبر !.
الدروس الغائبة !
إن دافع البحث عن الدروس المستخلصة، والخبرات المستفادة، مرجعه سببٌ واحدٌ بسيط: هو أننا، فى مصر والمنطقة، لم نستخلص هذه الدروس بعد، ولا استفدنا من خبرات هذه "الموقعة" حتى الآن، ولذا كررنا أخطاءها الكارثية التى أدت إلى حالنا البائس الراهن، على نحو مافعل الرئيس العراقى "صدّام حسين"، فى أوائل تسعينيات القرن الماضى، باحتلاله الكويت، وما ترتب عليه بعد ذلك من نتائج وتوابع بالغة الخطورة، وصولاً إلى الاحتلال الأمريكى للعراق ذاته، وسقوط عاصمته وعاصمة العرب: بغداد !.
ولو كنا فعلنا ماننادى بفعله الآن بعد نصف قرن من الواقعة، لما أصبح حالنا على ماهو عليه اليوم، حيارى مستضعفين، تحيط بنا المؤامرات من كل جانب، وتتهدد مصالحنا الأطماع من مختلف الجبهات، وتتناهش الضباع مواردنا وأرضنا، ونحن لا قوةً لنا ولا حول، "من المحيط إلى الخليج"، ضعافُ يُعبث بمصائرنا، ويبدو وضعنا المأساوى، كحظ الأيتام على موائد اللئام!.
واجب الدولة !
وبالطبع فإن التصدى لهذه المهمة الكبيرة، هو واجب الدولة بمؤسساتها وهيئاتها، وبمراكز أبحاثها ووزاراتها، بما تملكه من إمكانات ومعلومات ووثائق، غير أن مرور ذكرى هذا اليوم، بأحماله الثقيلة، دون أدنى انتباه يليق بخطورة الحدث، أو اهتمام يشى بإدراك استمرار حضور آثاره فى واقعنا المُعاش، لمما يثير المخاوف، ويؤكد ما سبق وأشرنا إليه، من غياب الحرص على التعلم من الماضى، والتاريخ يُعلمنا أن إهمال استيعاب دروس الأمس، يُجبرنا على تجرع مرارتها، مراراً وتكراراً فى المستقبل !.
استيعاب خبرة التاريخ!
وفى محاولة أوليّة لتلمُّس بعض دروس هذه "القارعة"، فالدرس الأول الذى يجب فهمه جيداً هو: الانتباه إلى وجوب استيعاب خبرة التاريخ!.
فماذا يقول لنا تاريخ مصر الحديث، على الأقل منذ صعود "محمد على" إلى سُدة الحكم، منذ أكثر من مائتى عام، وشروعه فى بناء دولة متقدمة، عمادها احتكار مصادر الثروة وأدوات الإنتاج، والسعى إلى بناء جيش قوى، واقتصاد متين، وتأمين حدود الدولة، والطموح إلى تأسيس "إمبراطورية" كبرى يحكمها، ومن بعده أنجاله وأحفاده!.
الدرس الأول !
التاريخ يقول لنا أن مصر القوية، المحكومة بشروط البيئة والجغرافيا، لابد من أن تنفتح على المنطقة، وأن تلعب دوراً قيادياُ فى تسيير أمورها، لأن انعزالها داخل حدودها يعنى الاختناق والانطفاء.
وفى ظل هذا التوجُّه، فمن المحتم الاصطدام بمصالح الدول الاستعمارية والإمبريالية الكبرى، التى لن تتأخر فى الضرب بقوة لكسر إرادة مصر وشعبها، وهو ما يستوجب أعلى درجات الانتباه والاستعداد، حتى لا نؤخذ على غرّة، مثلما حدث فى موقعة "نفارين"، منذ أكثر من مائة وخمسين عاماً، حين اجتمعت إرادة دول العالم الكبرى آنذاك: انجلترا، فرنسا، بروسيا، روسيا، أسبانيا، على تدمير قدرة الأسطول البحرى المصرى الضاربة، أو بعد ذلك بنحو القرن، فى عام 1956، حينما تآمرت إمبراطوريتان: البريطانية والفرنسية، مع ربيبتهما "إسرائيل"، ضد مصر وجيشها، بعد تأميم قناة السويس، أو فى 5 يونيو 1967، حينما ضُرب الطيران المصرى على أرض المطارات، ما سمح للعربدة الإسرائيلية أن تعيث خراباً فى البلاد!.
.. والدرس الثانى !
ويأتى فى مرتبة متقدمة من دروس 5 يونيو، درس يتعلمه دارسو الاستراجيات فى المحافل الأكاديمية والعسكرية، وهو ضرورة تحديد "معسكر الأعداء" و"معسكر الأصدقاء"، بدقّة ووضوح قاطعين، لأن الخلط بين المعسكرين يؤدى إلى كوارث، ويقتضى فهم هذا الأمر تحديداً صارماً للمصالح الوطنية العليا للبلاد، ولدوائر الأمن القومي للدولة، ولمصادر التهديدات والمخاطر، ثم بعد ذلك تُرسم خطط التعامل مع كل هذه المدخلات، لحماية هذه المصالح، ومواجهة مايحيق بها من تحديات!.
ومن الأسئلة التى يجب أن تطرح فى هذا السياق: تلك التى تتعلق بدور إسرائيل فى منطقتنا ؟!، ومن الذى زرعها فى بلادنا؟!، وماهى مستهدفاته؟!، وهل يمكن الوثوق بهما؟!، أو التحالف معهما؟!، وضد أى عدو ؟!، ومن أجل أية غايات؟!، وهى أسئلة مهمة، خاصةً فى هذه الفترة التى يكونون فيها "حلف "ناتو" عربى"، أو "حلف سنّى ـ أمريكى ـ صهيونى"، فى مواجهة الشيعة!.
ومن الأسئلة المهمة كذلك، فى هذا المجال، تلك المتعلقة بمكونات "الجبهة الوطنية" التى ينبغى الاعتماد عليها فى البناء والدفاع عن الدولة.
ففى الوقت الذى كان النظام يُعلن، على سبيل المثال، تبنيه "المنهج الاشتراكى"، ويتخذ إجراءات غير مسبوقة فى هذا التوجُّه، كانت السجون والمعتقلات تضم اليساريين والاشتراكيين، وتعرَّض البعض منهم للاستشهاد تحت وطأة التعذيب، ويتم شن حملان إعلامية ودعائية بالغة الشراسة، بهدف تشويههم، وعزلهم عن أبناء شعبهم، وهو ما أوهن الجبهة الداخلية، ومزّق بنيانها العضوى، وسمح للقوى المضادة بالتسرب إلى أجهزة الحكم ومؤسساتها السياسية، وقد بدا هذا الأمر ونتائجه، على درجة بالغة من الوضوح، بمجرد رحيل "القائد" و"الزعيم"، بالانقلاب على مبادئه، وسير أعداء الثورة، فى قمة السلطة وأجهزة النظام، كما كان يقال آنذاك، على طريق "عبد الناصر"... بأستيكه!.
.. والدرس الثالث !
أما الدرس الثالث، فهو الحاجة إلى تغليب شروط الموضوعية والكفاءة، على الاعتبارات العاطفية والذاتية، لدى اختيار قيادات الدولة، وبالذات فى المراكز الرئيسية على قمة النظام.
ولعل فى الدور السلبى، إن لم نقل الكارثى، الذى لعبه "عبد الحكيم عامر"، القائد العام للقوات المسلحة، آنذاك، والصديق الصدوق للرئيس "عبد الناصر"، أكبر دليل على النتائج المدمرة لهذه الخطيئة!
فـ"عامر"، الذى تسبب بكارثة عسكرية عام 1956،، بإصداره أوامر الانسحاب العشوائى من سيناء، الأمر الذى كبّد القوات المصرية خسائر فادحة، غطى عليها الصمود الشعبى، والانتصارات السياسية المبهرة على العدوان، لم يُحاسب أو يُقيّم أداءه. وإنما ظل، بحكم العلاقة الشخصية الوطيدة مع "عبد الناصر"، فى مأمن من المساءلة، بل واستمر على قمة الجيش المصرى، ملتهياً فى أنشطة ثانوية أخرى، عن دوره الرئيسى فى تطوير أداء وقدرات القوات المسلحة، وتهيئته لحماية أمن البلاد، إلى أن فاجأتنا الكارثة، فتحطم طيراننا على الأرض، واحتلت قوات العدو الصهيونى كامل سيناء، حتى وقفت على بُعد مائة كيلومتر، من العاصمة، على ضفة القناة!.
الدرس الرابع !
ثم يأتى الدرس الرابع، وهو درس مهم للغاية من دروس تلك الحقبة، والخاص بكيفية تسلل عناصر الوهن والتفكك والهشاشة فى بنية النظم السياسية المعاصرة!.
لقد تمتع الرئيس عبد الناصر بـ"كاريزما" زعامية عزَّ مثيلها. كانت الجماهير المصرية تهتف له، وتتغنى بإسمه، وتأتمر بأمره، كما كانت الجماهير العربية ترفعه بالسيارات فوق الأعناق أينما حلَّ، كما احتل موقعاً سامياً فى مشارق الأرض ومغاربها!.
ومع هذا فلقد وقف عاجزاً أمام سطوة البيروقراطية، وجماعات المصالح، و"حزب الثورة المضادة" كما كان يصفه، حتى انقلب على نظامه وتوجهاته، فور وفاته، وكان بطل الانقلاب "أنور السادات"، نائب الرئيس، الذى اختاره "الزعيم" بنفسه، وبناء على اعتبارات ذاتية وعاطفية، أشرنا إلى خطورتها فى "الدرس الثالث"، عاليه!.
إن شيوع الجمود، وتحكّم "مراكز القوى"، وتغليب "أهل الثقة" على "أهل الخبرة"، وغياب تقاليد "النقد" و"النقد الذاتى"، وتأليه السلطة وتنزيه الحكّام، أمر خطير فى مسارات الأمم، لأنه يشيع روح التواكل، والسلبية، واللامبالاه، وينشر المحسوبية والرشوة والفساد، ويُعطّل حركة التقدم، ويهدد مناعة الدولة وقدرتها على القيام بدورها، ويقلل من قدرتها على مواجهة التحديات التى تُحيط بها، والتعامل معها بلياقة ومرونة ومبدأية ونجاح!.
ويبقى الدرس الخامس !
الشعب هو المتراس الحقيقى للوطن والدولة!. هذا هو فحوى الدرس الأخير، من تلك الدروس المستفادة من حرب 5 يونيو 1967 !.
إذ لولا الشعب المصرى، صانع البطولات وخالق الأسطورة، الذى صمد لحظة ارتباك القيادة، حتى لا نقول انهيارها، وخروجه المُباغت ليلة 8 و9 يونيو، رافضاً الهزيمة، ومعترضاً على قرار تنحى الرئيس "عبد الناصر"، الذى اعتبره خطوة تراجع وانكسار أمام العدوان، ومطالباً بالصمود فى مواجهة الخسارة الفادحة، وبإعداد العُدّة للثأر وتطهير الأرض المحتلة!.
... لولا هذا الموقف العظيم من بسطاء المصريين: من فلاحيهم وعمالهم، ومثقفيهم وطلابهم (الذين كان لهم دوراً بارزاً فى الضغط من أجل إعداد البلاد للحرب، وشن معركة التحرير والكرامة)، لما أمكن تصليب الجبهة الداخلية، والعمل بإصرار على إعادة بناء القوات المسلحة، والتصدى البطولى لعربدة الطيران الإسرائيلى، وبناء حائط الصواريخ العظيم، وسط العدوان الإجرامى المستمر من العدو الصهيونى، وهو ما شكّلَ التمهيد الحقيقى لعبور أكتوبر 1973 المجيد.
غنى ياسمسمية!
ولعلى فى هذا السياق، لأتذكر بوضوح الدور العظيم للفن والمعرفة والثقافة والإبداع، فى دعم وتعميق الصمود البطولى، والمقاومة المستمرة، لشعبنا وجيشنا، فى تلك الآونة الصعبة، حتى تحقق العبور.
فالشعر والأغنية، والمسرحية واللوحة، والتمثال والقصيدة، والمقال والدراسة، وبرامج الإذاعة والتلفزيون، وخطبة الجامع وموعظة الكنيسة، كلها كانت أسلحة فعّالة من أسلحة النصر، ولا زالت تدوى فى مسامعى، أصوات "الكابتن غزالى"، وفرقة "أولاد الأرض"، وهم يرددون بحماسة فائقة، على أنغام السمسمية، أغنيتهم الشهيرة: "وعضم اخواتنا نلمُّه نلمُّه، ونعمل منه، مدافع.. وندافع، ونجيب النصر، هدية لمصر"!.

ما أشبه الليلة بالبارحة، فمصر الآن تخوض معركة لا تقل ضراوة عن معركتها ضد العدو الإسرائيلى، فى مواجهة الإرهاب، وشبكاته، فى الداخل والخارج!.
ولذلك فإن إعادة قراءة دروس 5 يونيو، فى الذكرى الخمسين لكارثتها، واستيعاب خبراتها: لماذا هُزمنا ؟!، وكيف تغلبنا على الهزيمة، وعبرنا المحنة؟!، أمرٌ على درجةٍ عاليةٍ من الأهمية، عسانا نستفيد منها، ونتعلم من جراحها، ونقفز على آلامها... ونحقق، مرةً أخرى، العبور والانتصار!.