تحرير القضية في تأسيس أصول -الشرعية-


أحمد بهاء الدين شعبان
الحوار المتمدن - العدد: 4256 - 2013 / 10 / 25 - 07:11
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

لبعض الكًتّاب والمبدعين والمفكرين، ديمومة خارج المكان والزمان. يرحلون لكن إبداعهم يبقى، ويغادروننا، لكن ألقهم يستمر، وحصاد عمرهم وفكرهم يدوم ولا يفنى، ويعيش لعقود وربما لقرون تالية.

من هؤلاء الكبار الكاتب والمفكر الراحل أحمد بهاء الدين، المولود عام 1927، والذي رحل عن دنيانا مأسوفًا عليه، دامي الفؤاد، مكلوم الروح، أسفًا على حالنا المتردي وكمدًا من واقع أمتنا البائس، عام 1996.

ورغم مرور سبعة عشر عامًا على رحيل بهاء، إلا أنه موجود بقوة في لحظتنا الراهنة، وآية ذلك أنك قادر على أن تكتشف في كتاباته حضوره المذهل الآني، وكأنه لا زال قائمًا يسعى بيننا، كدأبه آنذاك، ينظر من وراء زجاج نظارته السميكة بعمق، ويتأمل أوضاعنا بتأنٍ، ويدرس أحوالنا بتؤدة، ثم يخرج علينا برؤيته الثاقبة العميقة النافذة، التي تصل إلى لُب القضية من أقصر الطرق، وتشرح حقيقة ما جرى ببساطة وسلاسة، دون حذلقة أو استعراض، ولكنها بساطة آثرة، وسلاسة مؤثرة، لأنها صادرة عن عقل راشد، وضمير حي، ووجدان صافٍ، لا يستهدف سوى خدمة الوطن ومصالحه.

لقد كثر في الفترة الماضية، منذ وصلت جماعة الإخوان، إلى سدة الحكم، بالانتخابات البرلمانية والرئاسية عام 2011، وحتى الآن، وخصوصًا بعد خلع "محمد مرسى" بثورة 30 يونيو العظيمة، الحديث عن "الشرعية"، واتهام الشعب المصري، وجيشه بالخروج عليها، والإطاحة بها، رغم ماجرّته الجماعة وحزبها ورئيسها على البلاد من كوارث في فترة حكمهم المشؤومة.

ويتناول أحمد بهاء الدين، في دراسة له، دعمتها خلفيته القانونية كمتخرج من كلية الحقوق، هذه القضية بعمق مذهل، ولدرجة يظن القارئ الجديد لمقاله القديم، الذي تناول فيه هذه المسألة، أن بهاء، حي يسعى بيننا، ويكتب ردًا على الحدث المُعاش، ففي دراسة له تضمنها كتاب صدر بعد وفاته بعنوان: "المثقفون والسلطة في عالمنا العربي"، (كتاب العربي، العدد 38، 15 أكتوبر 1999)، يرى أن هناك ثلاثة تحديات داخلية تعترض سبيل الشعوب العربية، وتعوق تقدمها، هى:

أولًا: غياب "الديمقراطية وحرية الرأي".

وثانيًا: افتقاد "العقلانية".

وثاثًا: أزمة "الشرعية".

وفيما يخص "الشرعية" يرى الكاتب أنها ربما تكون أكثر الشروط الثلاثة حاجة إلى الإيضاح والتفسير، لأنها تختلط منذ الوهلة الأولى بمفهوم "القانونية"، وهو الجانب القانوني والشكلي للشرعية، "في حين أنها في مجال فلسفة السياسة والحكم، أوسع من ذلك، وأعمق في معناها ومغزاها"، (ص: 32).

فبدون "الشرعية"، كما يرى المفكر السياسي ماكس ويبر، فإن أي نظام حـــكم، يصعب عليه أن يملك القدوة الضرورية على "إدارة الصراع" بالدرجة اللازمة لأي حكم مستقر لفترة طويلة".

فالحكم، في إطار محاولته امتلاك عنان الأمور، والقدرة على مواجهة المشكلات والتحديات، تختلف قدرته وكفاءته اختلافًا كبيرًا، بين حالة يكون فيها الناس معه، وحالة يكون فيها الناس ضده، أو ليسوا معه، سواء كانوا ضده بالاعتراض والرفض والمقاومة، أو بالسلبية والإهمال وعدم التفاعل معه!.

فاقتناع الشعب بـأحقية السلطة وجدارتها، هو جوهر الشرعية، لا تغني عنه كل أشكال السطوة والرهبة والنفوذ، حتى لو أحاطت نفسها بعشرات الدساتير والقوانين!".

إن مجرد الوجود في السلطة (لمدة طويلة من الزمن)، لا يجعلها شرعية. إنه وجود بحم القوة لا بحكم الرضا. إنه استمرار، لا استقرار. اغتصاب للسلطة، وليس تفويضا بها"!.

أن القوانين- يقول أحمد بهاء الدين - "ليس أية ورقة عليها توقيع الحاكم، القوانين أحكام خارجة من ضمير الناس، مُعَبِّرةٌ عنهم في الأساس، وما عدا ذلك، فهي قوانين لا تساوي في ميزان الشرعية أكثر من ثمن الحبر الذي كتبت به"!.

أن الشرعية، هي معيار مستمر من نظرة الرعية إلى السلطة، وليست مستمدة من طريقة وجود السلطة، أو الأسلوب الذي سلكته للوصول إلى الحكم"!.

فـالثورة، والانقلاب، كلاهما يغتصب السلطة!. "لكن الثورة تُغير المجتمع، وتُقيم شرعية جديدة، تقوم بها مرحلة استقرار جديدة، أما الانقلاب، فهو يغتصب السلطة وحسب، وإذا بقيَ فيبقى باغتصاب السلطة المستمر، وليس بمنطق شرعي جديد مستقر".

أن السلطة- كما يقول بهاء- في كل زمان ومكان، تحتاج إلى القوة، لضبط حياة المجتمع، لكنها لا تكون شرعية، إذا اعتمدت على القوة فقط، إنما تكون شرعية، حينما يكون لها لدى الناس قوة النفوذ، لا نفوذ القوة. فمن غير هذه الرابطة المعنوية بين السلطة والرعيّة... لا تكون هناك شرعيّة"!.

فالشرعية، في النهاية هي الانسجام بين الحاكم والمحكوم، وبغير هذا الانسجام الداخلي لن ترقى لنا حياة في داخل بلادنا، ولن يقوى لنا عدد في خارج البلاد، ولن يكون في حياتنا وممارساتنا أي انسجام"!.

ومن هنا كما يرى أحمد بهاء الدين، فإن أكبر عقبة في طريق الشرعية، هو عدم توفر المساواة بدرجة كافية... فالناس في العصر الحديث ترى في الإحساس بـالمساواة، شرطًا أساسيًا لتقبّلها الاختياري لوضع ما. فالـمساواة، معناها العدالة، ومعناها روح الإنصاف، ومعناها الجديّة، في القوانين المنسجمة في نظر المواطن مع المنطق، وصدق الرغبة في تطبيق هذه القوانين، ومعناها "المعقولية" في التصرفات، و"عدم التحيِّز" لمذهب أو عقيدة أو فئة"!. وهى شروط، كما نعرف، كلها غابت طوال فترة حكم محمد مرسي، والإخوان، التي لم يعاصرها أحمد بهاء الدين، وإن كان كمن يتنبأ بمجريات الأمور فيها!.

وإذا كان الحال على هذا النحو الذي أبدع بهاء، في شرحه وتحليله: فكيف نتعرف على وجود هذه "الشرعية" المبتغاة من عدم وجودها، بعد توضيحه الإضافي أنها غير "القانونية" و"السطوة"، وغير "الأشكال الدستورية"؟!.

يقول "أحمد بهاء الدين" في معرض إجابته لهذا السؤال الحاكم:

"لنلجأ إلى حس الناس البسيط وفطرتهم السليمة: ما هو شعورهم العام تجاه الحكم القائم لديهم؟!. هل يشعرون أنه يُمثّلهم؟!. يناسبهم؟!. ينتمى إليهم؟!. إذن فالحكم "شرعي"، مرة أخرى بصرف النظر عن الموافقة أو المعرضة لبعض قرارات السلطة، فهذا أمرٌ عادى... هل يشعرون بغربة عن نظام حكمهم؟!. بعزلةٍ عنه؟!. بانقطاع الصلة بينه وبينهم؟!. إذن فهو حكم لا "شرعية" له"!.

وإذا طبقنا مقياس "حس الناس البسيط وفطرتهم السليمة"، الصارم، على ما أحدث في 30 يونيو، في مواجهة حكم الإرهاب الإخواني وحلفاؤه، فالمؤكد أن حس الناس وفطرتهم، أخبرتهم بأن هذا الحكم ضد كل أحلامهم في "العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية"، ومُعادٍ لكل ما ثارت من أجله الناس في 25 يناير، ولذا ثاروا مُجددًا، ودفعوا بحكم "العشيرة" العنصري الطائفي المتخلف البائد، إلى مزبلة التاريخ!.

هكذا تكلم "أحمد بهاء الدين"!.