مختصر تاريخ القبائل الامازيغية في المغرب وامتداداتها


عبد السلام أديب
الحوار المتمدن - العدد: 7908 - 2024 / 3 / 6 - 04:49
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

1 - شكل اعتراف الدولة المغربية سنة 2023 أخيرا بالتاريخ الأمازيغي واعتماد يوم 13 يناير من كل سنة يوم احتفال وعطلة بهذا التاريخ فرصة لتعميق النقاش حول تاريخ القبائل الامازيغية في شمال افريقيا ومآلاتها. وفيما يلي لمحة مختصرة حول هذا التاريخ.

2 - فمعلوم ان المجموعات القبلية الامازيغية القديمة التي تحدثت عنها كتب التاريخ خاصة مقدمة ابن خلدون هناك ثلاث مجموعات تفرعت عنها مختلف البطون والافخاد والقباءل المنتشرة بشمال افريقيا والتي تمتد نحو موريتانيا حتى نهر السنغال كما انتشرت في كامل الصحراء الكبرى بما في ذلك أجزاء من مالي والنيجر وهي على التوالي:

3 - أولا: قبائل مصمودة (وهو تحریف عربي لكلمة «إمزمودن» وتعني قصار القامة) ويوجدون بالكامل في المنطقة الغربية من شمال إفريقيا (المغرب) والمطلة على المحيط الأطلسي والممتدة بين منطقة سوس والأطلس الكبير وسهل تامسنا وصولا إلى شمال المغرب بجبال الريف. ويعتبر المصامدة تاريخيا مستوطنين مستقرين يمارسون الزراعة والصنائع. كما كان جزء منهم وخصوصا الجنوبيين يشتغلون في التجارة مع بلاد السودان الغربي، وكانت لهم دول عديدة بالمنطقة كان أهمها على الإطلاق دولة الموحدين التي استطاعت توحید کامل شمال إفريقيا.

4 - ويقسم المؤرخون قبائل مصمودة إلى ثلاث وحدات قبلية كبرى : القسم الأول وهم مجموعة شمالية تسكن منطقة جبال الريف شمال المغرب الحالي من حدوده مع الجزائر وصولا إلى المحيط الأطلسي. وتصل منازلهم جنوبا إلى حوض نهر سبو. ويطلق عليهم المؤرخون اسم «غمارة»، ويسميهم ابن خلدون أيضا بمصمودة الساحل. وتتداخل بلادهم جنوبا مع بلاد أحلافهم من أوربة سكان الأطلس المتوسط القدماء على ضفاف نهر سبو قبل الزحف الزناتي على المنطقة، وقد عرفت أوربة تاريخيا بأنها كانت من استقبلت ادريس الأول وجعلته اماما للصلاة بها ومانت وراء نشوء إمارة الأدارسة بالمغرب.

5 - القسم الثاني وهم مجموعة وسطی تسكن السهول الممتدة ما بين نهر سبو شمالا ونهر أم الربيع جنوبا وتسمى «برغواطة» وإليهم تنسب دولة برغواطة التي تعد من أقدم الدول المستقلة في المنطقة بعد مجيء الإسلام وأكثرها غموضا. وأهم فروعها دكالة (أصل الكلمة «إدو کالن» ومعناها سكان السهول أو الأراضي المنبسطة ) التي ما تزال تحمل هذا الاسم إلى اليوم.

6 - القسم الثالث وهم مجموعة جنوبية وهي المجوعة الأكبر وتسكن أساسا في جبال درن (معناها بالأمازيغية جبال السقوط جبال الأطلس الكبير) ومنطقة سوس، ما بين نهر أم الربيع شمالا ونهر درعة جنوبا. ويطلق عليهم ابن خلدون اسم مصمودة القبلة، وهم الذين كانوا وراء تأسيس دولة الموحدين، التي كانت أول دولة مستقلة في التاريخ استطاعت توحید منطقة شمال إفريقيا كلها تحت نفوذها. ويتحدث ابن خلدون عن موطن المصامدة في معرض حديثه عن غمارة فيقول بأنهم : «من بطون المصامدة وما كان فيهم من الدول وتصاريف أحوالهم هذا القبيل من بطون المصامدة... وهم شعوب وقبائل أكثر من أن تنحص.. والبطون المشهورة منهم بنو حمید ومتيوة و بنو نال وأغصاوة وبنو زروال ومجكسة وهم آخر مواطنهم، يعتمرون جبال الريف بساحل البحر الرومي من عن يمين بسائط المغرب من لدن غساسة في نکور فبادس في تيكساس في تيطاوين في سبتة في القصر إلى طنجة خمس مراحل أو أزيد أوطنوا منها جبالا شاهقة اتصل بعضها ببعض سياجا بعد سياج خمس مراحل أخرى في العرض إلى أن ينحط إلى بسائط قصر کتامة و وادي ورغة من بسائط المغرب ... ويتبين لك أنهم من المصامدة بقاء هذا النسب المحيط سمة فيهم لبعض شعوبهم يعرفون بمصمودة ساکنین ما بين سبتة وطنجة وإليهم ينسب قصر المجاز الذي يعبر منه الخليج البحري إلى بلد طريف ويعضده أيضا اتصال مواطنهم بموطن برغواطة من شعوب المصامدة بريف البحر الغربي وهو المحيط إذ كان بنو حسان منهم موطنين بذلك الساحل من لدن أزغار وأصيلا إلى أنفی ومن هنالك تتصل بهم مواطن برغواطة ودكالة إلى قبائل درن من المصامدة فما وراءها من بلاد القبلة. فالمصامدة هم أهل الجبال بالمغرب الأقصى إلا قليلا منها وغيرهم في البسائط . ولم تزل غمارة هؤلاء بمواطنهم هذه من لدن الفتح ولم يعلم ما قبل ذلك..»

7 - ثانيا: مجموعة زناتة (تحریف عربي لكلمة «إزناتن») : وهم في الغالب رعاة رحل ينتشرون في المنطقة الممتدة بين غرب ليبيا والمغرب الشرقي (بما في ذلك الجزائر وتونس). وقد هاجر جزء كبير منهم لاسيما من زناتة المغرب الأوسط (الجزائر الحالية) إلى أنحاء المغرب الأقصى (المغرب حاليا) ابتداء من زناتة الريف، وصولا إلى قبائل زیان» في الأطلس المتوسط، عبر مراحل تاريخية متعددة، وذلك تحت ضغط الزحف الفاطمي وهجرة عرب بني هلال، وقد لاحظ المؤرخون وجود شبه كبير بين زناتة والعرب سواء في نمط العيش أو في العادات والتقاليد، وكثيرا ما كان يستخدم ذلك كدليل على الادعاء بأن أصلوهم عربية، ويقول ابن خلدون في الخبر عن زناتة : «هذا الجيل في المغرب (شمال إفريقيا ) جيل قديم الدهر معروف العين والأثر وهم لهذا العهد آخذون من شعائر العرب في سكني الخيام واتخاذ الإبل وركوب الخيل ... وشعارهم بين البربر اللغة التي يتراطنون بها، وهي مشتهرة بنوعها عن سائر رطانة البربر. ومواطنه في سائر مواطن البربر بإفريقية والمغرب ، منهم ببلاد النخيل ما بين غدامس (ليبيا) والسوس الأقصى (المغرب)، حتى إن تلك القرى الجريدية بالصحراء (تونس) منهم. ومنهم قوم بالتلول بجبال طرابلس وضواحي إفريقية وبأوراس بقايا منهم سكنوا مع العرب الهلاليين لهذا العهد، والأكثر منهم بالمغرب الأوسط (الجزائر) حتى إنه ينسب إليهم ويعرف بهم فيقال له «وطن زناتة»، ومنهم بالمغرب الأقصى (المغرب) أم أخرى منهم لهذا العهد أهل دول وملك بالمغربيين (المرينيون وبنو عبد الواد) وكانت لهم دول أخرى في القديم ( الممالك الأمازيغية القديمة في العهد الروماني...)، ولم يزل الملك يتداول في شعوبهم...» ( ج 7 ص 3). و «... أما أولية هذا الجيل بإفريقية ( تونس وليبيا ) والمغرب ( الجزائر والمغرب )، فهى مساوية الأولية البربر منذ أحقاب متطاولة لا يعلم مبدأها إلا الله تعالى. ولهم شعوب أكثر من أن تحصى ... وكانت مواطن هذا الجيل من لدن جهات طرابلس إلى جبل الأوراس والزاب إلى قبيلة تلمسان ثم إلى وادي ملوية...

8 - عند دخول العرب إلى شمال إفريقيا، كان الزناتيون يسكنون شرقا بنواحي برقة وطرابلس بليبيا، وأهم قبائلهم هناك كانت لواتة ونفوسة وهوارة (يبقى الانتماء القبلي لهوارة محيرا، فموقف ابن خلدون منها يكتنفه غموض كبير فهو يضعها مرة ضمن زناتة ومرة أخرى ضمن صنهاجة، لكن أغلب المؤرخين ذهبوا إلى اعتبارها من زناتة)، وانتشر الزناتيون في بلاد الزاب والجزء الشرقي من جبال الأطلس الصحراوي المعروفة بجبال الأوراس وهناك كانت تسكن قبيلة جراوة، التي تذكر كتب التاريخ قصة تلك المرأة المشهورة باسم الكاهنة والتي كانت تقودهم في التصدي للعرب المتوغلين في المنطقة، وأيضا قبيلة نفزاوة التي سيكون لها دور تاريخي حاسم في ثورات الخوارج بعد ذلك بمدة قصيرة. أما غربا فيعد حوض نهر ملوية من أكبر مواطن زناتة حيث كانت تعيش قبيلة مكناسة الكبيرة ذات الفروع الكثيرة والتي امتدت مساكنها من مصب نهر ملوية على البحر المتوسط شمالا وصولا إلى الواحات الصحراوية الداخلية بمنطقة تافيلالت (شرق المغرب حاليا)، وكانت لها بدورها دور كبير في حركات الخوارج بالمنطقة وهم الذين أسسوا دولة بني مدرار الخارجية والتي كانت من بين أوائل الدول المستقلة بالمنطقة بعد الإسلام. وقد امتد نفوذ زناتة إلى داخل المغرب الأقصى خاصة بعد عبورهم لممر تازة وإنشائهم لدولة المرينيين (بني مرين) واستيطان جزء كبير منهم لمنطقة جبال الأطلس المتوسط بل ووصول جزء منهم إلى حدود ساحل المحيط الأطلسي في ريف تامسنا وهم المعروفون باسم «الشاوية». وهو ما يتفق مع ما أورده بعد عدة قرون الرحالة كربخال حين قال: «وما زالت لزناتة مساكنها القديمة في سهول تامسنا التي هي آخر أقاليم مملكة فاس وأوغلها إلى جهة الغرب ، وكانوا أكثر القبائل قوة إلا أنهم فقدوا هذه القوة، ويسمون الشاوية. وبقي بعضهم مقيمين بجبال الأطلس المحاذي لولايتي فاس وتلمسان (جبال الأطلس المتوسط ) وهم في حرب ضد الأتراك ( العثمانيون الذين استولوا على هذه المملكة الأخيرة (الجزائر حاليا)..." ويذكر ابن خلدون أن الزناتيين كانوا أول من تحالف مع العرب الهلاليين بعد اكتساحهم للمنطقة، ويعزو ذلك إلى التشابه الكبير بينهم في البنية القبلية وفي نمط العيش والترحال (نحلة المعاش كما يسميها ابن خلدون )، ما سهل كثيرا اندماجهم مع العرب.

9 - ويقسم ابن خلدون زناتة إلى طبقتين : الأولى تضم كلا من بني يفرن ومغراوة، والثانية يدخل فيها بنو مرین وبنو عبد الواد (بنو زیان). وهذين المجموعتين الأخيرتين من قبائل المغرب الأوسط (الجزائر حاليا). كان بنو مرین وبنو عبد الواد يسكنون المنطقة الواقعة بين الزاب شرقا إلى تلمسان غربا، وعندما بدأ الموحدون المصامدة يكتسحون المغرب الأوسط بقيادة عبد المؤمن الكومي استعان هذا الأخير ببني عبد الواد لمواجهة إخوانهم بني مرين سنة 540 ه/ 1146 م، مما اضطرهم إلى النزوح جنوبا والتوغل في عمق الصحراء (كما كانت عادتهم كلما واجهوا خطرا قادما من الشمال ) ليعودوا إلى حياة البداوة والترحال متنقلين خلال الربيع والصيف إلى أعالي ملوية حتى منطقة تازة وكرسيف (شرق المغرب حاليا)، للتزود بالمحاصيل الزراعية التي يقتاتون منها خلال فترة بقائهم شتاء في الصحراء. كان القسم الأكبر من بدو زناتة عبارة عن قبائل رحل يجوبون صحراء المغرب الأوسط بحثا عن المراعي بين سجلماسة ومنطقة الزاب بإفريقية، ولما قام عقبة بن نافع الفهري بحركته في بلاد المغرب فاتحا، ساندوه وشكلوا فرقة من جيشه تابعت معه فتوحاته غربا... ولما حل عرب بني هلال بالمغرب انزاح بنو عبد الواد أمامهم من التراب واستقروا في منطقة جنوب وهران، وفي عهد المرابطين حضروا مع يوسف بن تاشفين معركة الزلاقة... وعند انهيار الدولة الموحدية حلت الدولة المرينية محلها بالمغرب الأقصى وذلك بعد التضعضع الكبير الذي عرفته العصبية المصمودية - بلغة ابن خلدون - بعد هزيمة العقاب بالأندلس والوباء الكبير الذي أعقبها وأصاب مجمل أنحاء المغرب : «... لما كانت وقعة العقاب بالأندلس سنة تسع وستمائة وهزم الناصر وهلك الجمهور من حامية المغرب ورعاياه حتى خلت البلاد من أهلها، ثم حدث عقب ذلك الوباء العظيم الذي تحيف الناس إلا قليلا... فلما كانت سنة عشر وستمائة أقبل نجعهم ( القبائل الزناتية ) على عادته للارتفاق والميرة حتى إذا أطلوا على المغرب تبينوا من ثناياه أن ما ألفوه قد تبدلت أحواله، وبادت خيله ورجاله وفنت حاميته وأبطاله وعريت من أهله أوطانه وخف منها سكانه وقطانه ووجدوا البلاد مع ذلك طيبة المنبت وخصيبة المرعى، غزيرة الماء، واسعة الأكناف فسيحة المزار، متوفرة العشب لقلة راعيها... فأقاموا سكانهم وبعثوا إلى إخوانهم فأخبروهم بحال البلاد وما عليه من الخصب والأمن وعدم المحامي والمدافع . فاغتنموا الفرصة وأقبلوا مسرعين بنجعهم وحللهم وانتشروا في نواحي المغرب وأوجفوا عليه بخيلهم وركابهم واكتسحوا بالغارات والنهب بسيطها، ولجأت الرعايا إلى حصونها ومعاقلها، وتم لهم ما أرادوا من الاستيلاء على بسيط المغرب وسهله وانتجاع طله ووبله...» ابن خلدون ج 7). هذا في حين شغلت الدولة الزيانية (دولة بني عبد الواد ) إقليم المغرب الأوسط (إقليم دولة الجزائر حاليا)، وعمل حكامها بدء من مؤسس الدولة يغمراسن بن زيان على توسيع حدودها و تثبیت قواعدها و ضم القبائل إلى سلطتهم. وتمكن يغمراسن من التوسع غربا انطلاقا من عاصمته تلمسان، و صار الحد الفاصل بينه و بين دولة بني مرين بالمغرب الأقصى وادي ملوية، كما امتد نفوذه إلى مدينة وجدة وتاوريرت وإقليم فجيج في الجنوب الغربي. حدودها كانت تمتد من تخوم بجاية و بلاد الزاب شرقا إلى وادي ملوية غربا، و من ساحل البحر شمالا إلى إقليم توات جنوبا، وبقيت هذه الحدود في مد وجزر بسبب هجمات بني مرين غربا و بني حفص شرقا.

10 - هذا ما تورده المصادر العربية عن زناتة ومواطنهم بعد المرحلة الإسلامية والتي تتفق على أن استقرارهم في المنطقة كان حديثا مع غلبة ظاهرة الترحال عليهم. وإذا كان الأمر كذلك فمن أين جاء هؤلاء البدو في البداية ؟ أما في العصور القديمة فيرى بعض المؤرخين المعاصرين أنهم : «البدو الذين أقبلوا من داخل القارة واستقروا في برقة وطرابلس ثم انتشروا في أقاليم الجريد والقبلات والصحاري المحيطة بالمغرب من الجنوب ... وجدير بالذكر أن هؤلاء دخلوا المغرب (شمال إفريقيا) على موجتين، الأولى قديمة جدا، ربما قبل الميلاد بضعة قرون وأصحابها هم الذين أدخلوا الجمال إلى المنطقة، ولهذا يسمون البدو الجمالة | الكبار. وأما الموجة الثانية فيغلب على الظن أنها كانت خلال القرن الميلادي الأول وقد سجلت حوليات الرومان أنباء دخول هؤلاء المهاجرين الأخيرين بلاد المغرب، وربما كان دافعهم اشتداد الجفاف بالصحراء. وهؤلاء كانوا بقايا من في الليبين القدامى الذين سكنوا الصحراء وعمروها أيام كان أرض سهوب وهم في «التحنو» الذين صورهم المصريون القدامى على آثارهم..." .

11 - في حين ذهب الباحث الفرنسي جوته Gauthier إلى أن قبائل زناتة تشكلت من نواة المجموعات القبلية الصحراوية التي هاجرت إلى شمال إفريقيا واستقرت فيها خلال القرن الثاني ق.م، وهم الذين أدخلوا معهم الحصان إلى شمال إفريقيا، صغير الحجم وقوي البنية وعصبي المزاج الذي نتج عن تزاوج الحصان العربي وحصان الزبرا (حمار الوحش في الصومال). مما اعتبر في نظر غوته نوعا من الإثبات بأصول إفريقية شرقية لهؤلاء عند منابع وادي النيل التي ظلت تاريخيا خزانا للمهاجرين العابرين للصحراء نحو شمال إفريقيا، كما فعلت قبلهم مجموعات العصر الحجري الحديث. ومنذ وقت مبكر نحو منتصف القرن الخامس ق. م حصل المؤرخ اليوناني هيرودوت على معلومات في مصر عن وجود سكان الصحراء على الحدود الجنوبية من طرابلس وبرقة، وقد ذكر في كتاباته مجموعات الجرمانتيين الصيادين سكان الكهوف الذين يستخدمون العربات التي يجر كل منها أربعة جياد (التاریخ ج 4 ص 183)، كما ذكر الناسامونيين من سكان الصحراء الذين يصلون في رحلاتهم إلى أراضي الرجال الإثيوبيين ذوي البشرة السوداء (ج 4 ص 172). وفي الصحراء الشمالية في منطقة تاسيلي جنوب الجزائر) وأدرار إيفوراس (الحدود الجزائرية مع مالي)، أثبتت الأبحاث الأثرية أن السلطة العليا في العصر القديم كانت بلا نزاع في أيدي مجموعات من جنس أبيض (جنس البحر المتوسط ) أو شبه أبيض (خلاسیون) مسلحين بالرماح والخناجر والسيوف ويلبسون زيا عسكريا خاصا ويركبون العربات التي تجرها الخيول ويمارسون الصيد والقتال، مهددين بذلك أمن الجماعات الزنجية وشبه الزنجية التي غلبت على أمرها وتم إخضاعها... . إن منطقة توزيع الرسومات والصور المحفورة للمركبات ذات العجلات التي تجرها الخيول والتي تمتد على طول منطقة الصحراء الكبرى من ساحل البحر المتوسط عند طرابلس بليبيا مرورا بتاسيلي الهجار ومنطقة الحجار إلى النيل الأوسط ومن السحل المغربي حتى موريطانيا، يوضح وجود اتصال مؤكد ما بين شمال إفريقيا ومنطقة الصحراء في منتصف الألف الأولى ق. م ما يؤكد أن منطقة الصحراء لم تكن أبدا منطقة خالية من البشر، بل كانت منطقة لها تاريخها الخاص المفصل. وبطبيعتها كصحراء كان سكانها مبعثرين وبدوا رحلا، وفي تلك الفترة القديمة ربما كانوا في معظمهم رعاة يتحركون من الصحراء الداخلية إلى المناطق المرتفعة كالحجار وتاسيلي وتبستي، ومن الحزام الساحلي شمالا وجنوبا مع مرور فصول السنة.

12 - ونعلم أن الصحراء الكبرى غزاها الحصان قبل أن يغزوها الجمل، وكانت أولى نتائج عصر الحصان ظهور العربات ذات العجلات التي تظهر في عدد كبير من النقوش الصخرية في منطقة الصحراء وشمال إفريقيا. وطبقا للمؤرخ اليوناني هيرودوت فإن الجرمانتيين ظلوا يستخدمون الجياد إلى فترة متأخرة، وهو ما تؤكده الشواهد الأثرية العديدة التي عثر عليها في المنطقة التي كانت تسلكها العربات الجرمانتيين أما بالنسبة للجمل وبالضبط النوع السريع وحيد السنم، وأصله من منطقة الشرق الأدنى (شبه الجزيرة العربية )، فإنه لم يظهر في الصحراء الإفريقية الكبرى إلا بعد فترة طويلة من ظهور الحصان بها. ولم يوجد بمصر حتى العصرين الفارسي والهلنستي (القرنين الرابع والخامس ق.م)، وهناك احتمال كبير أنه انتشر في الصحراء من خلال وادي النيل الأدني (منطقة الدلتا العليا). ولم ينتشر في شمال إفريقيا قبل القرن الثاني میلادي، كما تؤكد ذلك الرسومات المنتشرة له في هذه المنطقة، إضافة إلى الكتابات الرومانية التي تتحدث عن دور الجمال في تعزيز قدرات القبائل البدوية على تجاوز خطوط الليميس الجنوبية الشرقية وشن الهجمات على الأراضي الخاضعة للسلطة الرومانية. ويمدنا التاريخ الروماني - عبر أزيد من أربعة قرون - بأمثلة كثيرة لسكان الصحراء هؤلاء الذين طالما أزعجوا الرومان بغاراتهم المفاجئة وقدرتهم الكبيرة على التحرك السريع عبر الصحراء، فقد تسبب البدو راکبو الجمال مثل المازيقيون Mazices والأوستوريون Austurians والمرماريديون Marmarides في إثارة القلق في كل الساحل الليبي والواحات المصرية . وقد ظل هؤلاء البدو مصدر إزعاج كبير للإمبراطورية الرومانية، وكانت هجراتهم الموسمية إلى أراضي شمال إفريقيا والتي الا مناص منها لأنها ضرورة لبقائهم حين تستحيل الحياة في الصحراء صيفا، كانت تنذر دائما بخطر نشوب الصراع بينها وبين القبائل المستقرة التي تشتغل بالزراعة، وبالتالي تفجر الوضع القبلي الذي كان هشا أصلا بعد الغزو الروماني للمنطقة .

13 - ثالثا: صنهاجة (تحریف عربي لكلمة «إزنان») : وكانوا ينتشرون بمنطقة الصحراء الكبرى وجزء من إفريقيا الغربية كما يتواجدون أيضا في مناطق متفرقة من جبال وسهول شمال إفريقيا ويعتبرون المجموعة الأكثر انتشارا وتوزيعا في المنطقة، وهم صنفان مزارعون مستقرون في المناطق الشمالية ورعاة رحل في المناطق الصحراوية الجنوبية. وكانت لهم دول كثيرة كان أهمها دولة المرابطين التي امتد نفوذها إلى الأندلس، كما أن دولة الفاطميين قامت على أكتافهم قبل انتقالها إلى مصر. وهم بناة القصور الصحراوية على النمط الحميري اليمني، ولذلك يجري عادة ربطهم هم الآخرين بأصول عربية يمنية كما هو الشأن بالنسبة لزناتة . ويضم المؤرخون - خاصة المتأخرون منهم - إلى صنهاجة مجموعات أخرى مثل هوارة والطوارق، في حين تفصل بعض المصادر التاريخية الأخرى بينهم وتعتبر هؤلاء مجموعات أخرى مستقلة. ويخبر ابن خلدون عنهم بقوله : «... هذا القبيل من أوفر قبائل البربر وهم أكثر أهل المغرب (شمال إفريقيا) لهذا العهد وما سبقه، لا يكاد قطر من أقطاره يخلو من بطن من بطونهم في جبل أو بسيط، حتى لقد زعم كثير من الناس أنهم الثلث من أم البربر ... وذكر ابن الكلبي والطبري أنهم وكتامة جميعا من حمير (ليمن)... وكان أعظم قبائل صنهاجة بلكانة وفيهم كان الملك الأول ( الممالك الأمازيغية القديمة ) وكانت مواطنهم ما بين المغرب الأوسط (الجزائر) وإفريقية (تونس)، وهم أهل مدر (مزارعون مستقرون )، ومواطن مسوفة ولمتونة وكدالة وشرطة بالصحراء وهم أهل وبر (رعاة رحل)... وكان الملك في صنهاجة في طبقتين الأولى لملكانة ملوك إفريقية والأندلس، والثانية مسوفة ولمتونة من الملثمين ملوك المغرب المسمون بالمرابطين ..." .

14 - وتعد كتامة من أشهر القبائل الصنهاجية في المرحلة الإسلامية، بسبب الدور الخطير الذي لعبته في الأحداث السياسية التي عرفتها المنطقة خاصة فيما يتعلق بدورهم الكبير في تأسيس الدولة الفاطمية التي قامت على أكتافهم في المغرب الأوسط قبل انتقالها إلى مصر. ويقول ابن خلدون عن كتامة : «هذا القبيل من قبائل البربر بالمغرب وأشدهم بأسا وقوة وأطولهم باعا في الملك، ونسابة العرب يقولون إنهم من حمير (اليمن) ذكر ذلك ابن الكلبي والطبري. جمهورهم كانوا أول الأمر موطنون بأرياف قسنطينة إلى تخوم بجاية غربا إلى جبل أوراس من ناحية القبلة... وعد ابن حزم منهم زواوة بجميع بطونهم وهو الحق على ما تقدم. وكان من هذه البطون بالمغرب الأقصى كثير منتبذون عن مواطنهم وهم بها إلى اليوم... ولم يزالوا بهذه المواطن وعلى هذه الحالة إلى أن كان قيامهم في دعوة الشيعة الفاطميين، ولما صار لهم الملك بالمغرب زحفوا إلى المشرق فملكوا الإسكندرية ومصر والشام واختطوا القاهرة أعظم الأمصار بمصر، وارتحل المعز رابع خلفائهم فنزلها وارتحل معه كتامة على قبائلهم واستفحلت الدولة هناك وهلكوا في ترفها وبذخها. وبقي في مواطنهم الأولى بجبل أوراس وجوانبه من البسائط بقايا من قبائلهم على أسماءها وألقابها، والآخرون بغير لقبهم وكلهم رعایا معبودون للمغارم إلا من اعتصم بقنة الجبل مثل بني زيدوي بجبلهم وأهل جبال جیجل وزواوة (منطقة القبائل ) في جبالهم...» .

15 - ويدرج المؤرخون عادة ضمن كتامة، قبائل «زواوة» التي تسكن المنطقة المعروفة اليوم بمنطقة القبائل شمال الجزائر، ويقول عنهم ابن خلدون : «... وأما زواوة فهم من بطون البربر البتر... ويقال إن زواوة من كتامة ذكر ذلك ابن حزم... والصحيح عندي ما ذكره ابن حزم، ويشهد له الموطن ونحلة الشيعة مع كتامة لعبد الله (الفاطمي)... ومواطن زواوة بنواحي بجاية ما بين مواطن كتامة وصنهاجة، أوطنوا منها جبالا شاهقة متوعرة تنذعر منها الأبصار ويضل في غمرها السالك... وكانت لهم في دولة صنهاجة مقامات مذكورة في السلم والحرب بما كانوا أولياء لكتامة ...» 41.

16 - كما تعتبر «هوارة» من أشهر القبائل الصنهاجية التي كان لها دور كبير في عصر الدولة الفاطمية وانتشارهم في مناطق عديدة من شمال إفريقيا ومصر والشام. ويبقى موضوع انتماء هوارة إلى صنهاجة موضوعا جدليا بين المؤرخين، بل حتى ابن خلدون نفسه ضاع في موضوع نسب هوراة، فهو يضعهم مرة مع صنهاجة ومرة أخرى مع زناتة. وهذا الخلط راجع لأسباب عديدة على رأسها تداخل مواطنهم وتشابه أنماط عيشهم، خاصة البدو منهم، ويقول في الخبر عن هوارة: «وهوارة هؤلاء من بطون البرانس باتفاق نسابة العرب والبربر. وأما بطون هوارة فكثير، ولكل واحد منهم بطون كثيرة. وكانت مواطن الجمهور من هوارة هؤلاء، ومن دخل في نسبهم، لأول الفتح بنواحي طرابلس وما يليها من برقة كما ذكره المسعودي والبكري. وكانوا ظواعن (رحل ) وآهلين ( مستقرون) ومنهم من قطع الرمل إلى بلاد القفر وجاوزوا لمطة من قبائل الملثمين فيما يلي بلاد کو کو من السودان تجاه إفريقية ... ثم جرت الدول عليهم أذيالها فمنهم لهذا العهد بمصر أوزاع متفرقون أوطنوها أكرة وعبارة والثاوية وآخرون موطنون ما بين برقة والإسكندرية يعرفون بالمثانية ... وبعضهم صاروا في عداد الناجعة من عرب بني سليم في اللغة والزي وسكني الخيام وركوب الخيل وكسب الإبل وممارسة الحرب وإيلاف الرحلتين في الشتاء والصيف في تلولهم قد نسوا رطانة البربر واستبدلوا منها بفصاحة العرب فلا يكاد يفرق بينهم...) .

17 - وعادة ما يجري ربط مجموعات التوارك (الطوارق) في منطقة الصحراء الكبرى بالبدو من صنهاجة ويقول عنهم ابن خلدون : «وهذه الطبقة من صنهاجة الملثمين الموطنون بالقفر وراء الرمال الصحراوية بالجنوب أبعدوا في المجالات هناك منذ دهور قبل الفتح لا يعرف لها أول (العصر الروماني)، فأصحروا إلى الأرياف ووجدوا بها المراد وهجروا التلول وجفوها واعتصموا منها بألبان الأنعام ولحومها انتباذا عن العمران واستئناسا بالانفراد وتوحشا بالقفر عن الغلبة والقهر، فنزلوا من ريف الحبشة جوارا وصاروا ما بين بلاد البربر (شمال إفريقيا) وبلاد السودان ( إفريقيا جنوب الصحراء ) حجزا واتخذوا اللثام خطاما تميزوا بشعاره بين الأم ..." . . وإذا كانت المصادر التاريخية العربية تربط الطوارق بالملثمين من بدو صنهاجة فإن الأبحاث الوراثية الحديثة تؤكد على أن الطوارق ليسوا مجموعة بشرية واحدة متجانسة، وإنما هم مجموعة بشرية جاءت نتيجة عملية انصهار طويلة المدى استغرقت أزيد من ألفي سنة بين مجموعات من السكان البيض التي كانت تسكن الصحراء الكبرى منذ العصور القديمة ومجموعات من السكان الزنوج لمناطق جنوب الصحراء. وقد ساد الاعتقاد لزمن طويل أن وجود سكان بيض في منطقة الصحراء كان أمرا حديثا فقط وغزوا منتظما نتيجة طرد الرومان السكان السهوب من شمال إفريقيا جنوبا نحو الصحراء خلف أسوار «الليمس» الروماني .44 لكن ومع تزايد التنقيب الأثرية في كل من منطقة فزان بليبيا والحجار في الصحراء الجزائرية اتضح أن الأمر ليس كذلك، حيث أثبتت الأبحاث الأركيولوجية أنه وخلال عصر ما قبل التاريخ والذي تعتبر العصور القديمة مجرد المرحلة النهائية منه، كان يسكن وسط وشمال الصحراء - أساسا - عناصر بيضاء يوصفون بأنهم طوال القامة، لهم ملامح شعب البحر الأبيض المتوسط، تتصف جمجمتهم بالضخامة، الوجه طويل نوعا ما وضيق، الأطراف نحيلة ... إلخ، وهي الصفات الموروفولوجية ذاتها لمجموعات التوارك (الطوارق) الحاليين الذين يسكنون هذه المنطقة. وبناء على هذه المعطيات يبدو أن أصل هؤلاء الطوارق) لن يبحث عنه في اتجاه شمال إفريقيا، بل في اتجاه الشمال الشرقي من القارة الإفريقية 45. وهناك قناعة متزايدة في أوساط الباحثين (تدفعها نتائج الأبحاث الوراثية الحديثة ) بأن الطوارق ليسوا شعبا واحدا له نفس الأصول الأنتروبولوجية والتاريخية كما ذهب إلى ذلك المؤرخون مثل ابن خلدون الذي يعتبرهم أحد فروع صنهاجة الذين دفعهم الرومان جنوبا، وإنما هم خليط من مجموعات مختلفة من بينها المجموعة الصنهاجية نفسها، والتي سكنت منطقة الصحراء الكبرى على امتداد عصور طويلة ممتزجة بذلك مع المجموعات الزنجية الأخرى لجنوب الصحراء.

18 - وإذا كان مصمودة وصنهاجة مشهود لهما بالقدم في المنطقة يدل على ذلك استقرارهم فيها منذ عهود غير معروفة وموغلة في القدم، وتأسيسهم لدول قديمة فيها منذ أواخر العصر القرطاجي... فإن الغموض يكتنف أصول زناتة، الذين ظلوا يعيشون حياة الترحال حتى بعد مجيء الإسلام وانتشاره بالمنطقة أواخر القرن السابع میلادي ثم بعد ذلك وصول الهجرات العربية الكبيرة (بنو هلال وبنو سلیم) إلى المنطقة. وهو ما دفع المؤرخين العرب إلى ربطهم بهجرات عربية قديمة بسبب التشابه الكبير بينهم وبين القبائل العربية الهلالية في نمط العيش والترحال . لكن عددا من المؤرخين من بينهم ابن خلدون وابن حزم رفضوا تلك المزاعم، واعتبروهم شعبا قديما في شمال إفريقيا رغم احتفاظه بنمط الترحال وتوغلهم الحديث نسبيا في المناطق الشمالية المعروفة تاريخيا خارج نطاق عتمة الصحراء. وهو ما ذهب إليه باحثون متأخرون في علم الآثار والذين ربطوهم بالبدو الجمالة الذين توغلوا شمالا قادمين من الصحراء أثناء العصر الروماني.