ظاهرة الوفيات الزائدة وانخفاض متوسط العمر تستدعي تغير النظام الرأسمالي!


توما حميد
الحوار المتمدن - العدد: 7405 - 2022 / 10 / 18 - 03:29
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

يصعب على نظام اجتماعي-اقتصادي وسياسي الاستمرار إذا بدا وضع البشرية يتراجع في ظله وهذا ما نشهده اليوم. اذ ليس هناك أي شك باننا نشهد ظاهرة جديدة، وهي زيادة في الوفيات الزائدة او الإضافية، وهي الوفيات في أي فترة معينة من السنة (أسبوع، شهر، فصل او حتى السنة كلها) أكبر من الوفيات المتوقعة في تلك الفترة على أساس بيانات متوسط الوفيات للسنوات السابقة لنقول خمس سنوات سابقة. بمعنى اخر ان الوفيات الزائدة هي الوفيات المسجلة ناقصا الوفيات المتوقعة. هذا يعني ببساطة ان الناس تموت بمعدلات عالية مقارنة مع متوسط السنوات الماضية. والمهم هنا اننا لا نتحدث عن الوفيات التي يمكن نسبها الى كوفيد-19.



في معظم الأحيان يحسب هذا المعدل حاليا على أساس متوسط الوفيات بين 2016-2019 أي الفترة التي سبقت الجائحة.



ان هذه الظاهرة هي ليست مقتصرة على بلد واحد، بل هي ظاهرة عالمية، والوضع يمضي نحو الأسوأ. بالطبع كانت هناك وفيات زائدة منذ بداية 2020 بسبب كورونا. اذ حسب منظمة الصحة العالمية، بنهاية 2021 كان هناك 14.9 مليون وفاة عالميا بسبب وباء كوفيد-19 بشكل مباشر او غير مباشر. إن الدول الخمس الأولى، أي اسوا الدول التي لديها وفيات زائدة تراكمية من يناير 2020 الى أوائل شهر تموز 2022 هي روسيا والولايات المتحدة والبرازيل والمكسيك ومصر والهند. حدثت معظم الوفيات الزائدة بنسبة 84% في جنوب شرق اسيا واروبا والامريكيتين. وشكل الرجال 57% من الوفيات الزائدة والنساء 43%.



بالطبع كانت هناك وفيات اقل اثناء الوباء نتيجة الأنفلونزا وذات الرئة وحوادث السيارات وحواد العمل والتلوث، ولكن في المحصلة النهائية، الوباء تسبب في عدد هائل من الوفيات الزائدة.



لكن المثير للقلق هو ارتفاع ملحوظ في الوفيات الزائدة في 2022 والتي لا يمكن نسبها الى كوفيد -19 أي وفيات حدثت لأسباب أخرى غير كوفيد 19. كان من المفترض ان نشهد انخفاض في الوفيات لان كوفيد عجل وفاة الكثير من الناس وخاصة من المسنين بأسابيع او اشهر وحتى سنوات، لذا فان الوفيات يجب ان تكون اقل هذه السنة ولكن نشهد ارتفاع في الوفيات الزائدة.



تشير إحصاءات الاتحاد الأوربي مثلا لشهر تموز بان الوفيات الزائدة وصلت 16% وفي والولايات المتحدة هي 12% علما ان اغلب الوفيات في الولايات المتحدة حدثت خلال 2020 و2022 وفي استراليا بلغت حوالي 17% وفي بريطانيا 15.9%. كل دول الاتحاد الأوربي شهدت زيادة في الوفيات الزائدة عدا دولة لاتفيا. وكان المعدل في بعض الدول مرتفع جدا فمثلا شهدت اسبانيا 37% واليونان 31% والبرتغال 28% وسويسرا %25.9، وايطاليا 24.9% ونمسا 17.5% وايرلندا 16.3% وألمانيا 15.2% وفرنسا 14.1%



معظم الزيادات حدثت في الفئات العمرية الأكبر من 65 سنة ولكن الزيادة حدثت في الفئات العمرية بين 0-24 و25-49 ايضا.



بخلاف ما يشاع في الاعلام بان هذه الوفيات تحدث لأسباب غامضة او مجهولة السبب الا ان الدول التي نشرت الأسباب تؤكد ان الوفيات تحدث بسبب امراض قاتلة معروفة. فمثلا في بريطانيا اهم الأسباب كانت امراض القلب الإقفارية، وامراض الاوعية الدموية الدماغية، عجز القلب، والسرطان، التهابات المجاري التنفسية الحادة وامراض المجاري التنفسية المزمنة والمجارية البولية تليف الكبد والسكري والباركنسون. وفي استراليا مثلا هناك انخفاض في عدد الوفيات بسبب المجاري التنفسية والوفيات نتيجة السرطان كانت ثابتة ولكن هناك زيادة في الوفيات من امراض القلب والاوعية الدموية الدماغية والخرف.











11% فقط من الوفيات الزائدة كانت لأسباب غير معروفة او لم يتم تحديد السبب. حتى هذه الحالات لا تعني بان الوفيات حدثت لأسباب غامضة بل تعني ان الكادر الصحي لم يتمكن من تحديد السبب لحدوث الوفاة في البيت مثلا او سبب اخر.



لا يبدوا ان العلماء يعرفون بشكل دقيق سبب هذه الزيادة في الوفيات الزائدة التي لا يمكن نسبها الى كوفيد-19 ولهذا هناك دعوات قوية للتحقق من هذه الظاهرة.



ويحاول العلماء والمختصون تقديم نظريات حول هذه الظاهرة مثل عودة الإصابات الفيروسية مثل الأنفلونزا، عواقب كوفيد بعيدة الأمد مثل زيادة التخثر والامراض القلبية، اذ الكثير من الدراسات تشير الى ان خطر المشاكل القلبية يبقى عالي لعدة اشهر بعد الإصابة بكوفيد ، التأثيرات الاجتماعية والنفسية للأغلاق التي قد تؤدي الى مشاكل مثل الاكتئاب والقلق وتعاطي المخدرات، عدم الحصول على الرعاية الصحية في الوقت المناسب اثناء الوباء بسبب الضغوطات على النظام الصحي او الخوف من الاصابة والذي أدى الى تأخير التشخيص وتأخير علاج مرضى السرطان والدورة الدموية وتأجيل عمليات جراحية ضرورية، زيادة في احتساء الكحول وقلة النشاط البدني.



ولكن عدا وجود ادلة واضحة تفند كون الوفيات الزائدة ناتجة عن التطعيم ضد كوفيد -19 على عكس المعادين للتلقيح ووجود ادلة واضحة ان الإجراءات التي اتخذت في الكثير من الدول كانت فعالة لتقليل الوفيات الزائدة نتيجة الوباء، لا يمكن لحد الان اثبات او نفي ان أي من الأسباب المذكورة هي سبب زيادة الوفيات التي لا يمكن نسبها الى كوفيد -19 لذا نحتاج الى المزيد من الدراسات.



كما هو متوقع من المختصين المهنيين مثل الأطباء وعلماء الأوبئة وعلماء الاحصائيات فهم يركزون على الجانب الصحي وعن أسباب صحية محددة.



لذا يؤكدون على بناء أنظمة صحية مقاومة ومرنة يمكنها تلبي الحاجة في وقت الازمات مثل الوباء. يدعون الى الاستثمار في الرعاية الصحية من حيث عدد الموظفين والمعدات والتكنلوجيا ونوعية الخدمات من اجل تحسين الوقاية والتشخيص والعلاج من اجل تقليل مخاطر الإصابة و منع تفاقم الامراض. ولكن رغم أهمية التركيز على هذا الميدان ألا انه يكشف عن محدوديته وعدم القدرة على رؤية الصورة الأكبر.



ان الصورة هي اكبر وان الذي يقف وراء الوفيات الزائدة هي ليست أسباب طبية بحتة بل تعود الى طريقة عمل النظام في كل جانب من جوانب الحياة. اذ ان الزيادة في الوفيات هي بسبب ضعف الأنظمة الصحية، التغير المناخي وما يسببه من موجات حرارة وبرد، وما يسمى بأزمة تكلفة المعيشة والاجهاد النفسي وعدم اليقين من المستقبل وفقدان الامل الذي يفرضه النظام على البشرية. ان التقهقر في المستوى المعيشي وخاصة في الدول المتقدمة هو عامل مهم جدا.



ان اكبر سبب لخفض معدل الوفيات الذي بدأ في نهاية القرن التاسع عشر كان بسبب التحسن في السكن والتغذية في حين جاءت الأدوية بدأ من المضادات الحيوية وكل التطور الطبي في وقت لاحق وكان تأثيرها اقل بكثير. من المهم جدا ان تشهد البشرية تطور مستمر في وضعها وهذا بشكل عام لم يعد يحدث في ظل النظام الرأسمالي والدليل هو الوفيات الزائدة وتناقص متوسط العمر في الكثير من الدول وفي مقدمتها أمريكا وحتى احيانا تراجع في معدل الانجاب. ان الركود والتراجع في وضع البشرية يجعل مسالة تغير النظام والانتقال الى النظام الاشتراكي مسالة حيوية وليس مسالة أيديولوجية. ان الاشتراكية التي تبغيها البشرية هي ليست الاشتراكية البرجوازية للقرن العشرين بنموذجها الروسي او الصيني، بل نظام مبني على أساس الإنتاج من اجل تلبية حاجات الانسان وليس لخلق فائض قيمة لفئة صغيرة في المجتمع وعلى التدخل المباشر للإنسان في إدارة حياته.



ان مشكلة النظام الصيني هو ليس مدى رجعية او قمعية هذا النظام فحسب، بل ان هذا النموذج الاقتصادي لايزال يخلق تحسن في الوضع المعيشي للبشر. لهذا فانه سينفخ روح في جسد النظام الرأسمالي لفترة أخرى. ولكن بشكل عام النظام الذي يشهد وضع البشرية في ظله الركود او التقهقر يفقد القدرة والحق في الحكم والنظام الرأسمالي يقترب من هذه النقطة بسرعة فائقة. ومن هنا تصبح مسالة تغير هذا النظام مسالة حيوية.