مجاعة غزة، وصمة عار على جبين البشرية!


توما حميد
الحوار المتمدن - العدد: 7893 - 2024 / 2 / 20 - 11:48
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

قبل الحديث عن جريمة العصر في غزة التي تشمل استخدام التجويع كوسيلة حرب نتطرق باختصار الى اوضاع الجوع حول العالم.

يجب ان يكون واضحا بان كل المجاعات في العالم في العقود الاخيرة متعلقة بالنظام الرأسمالي نفسه وبتناقضاته. مع تطور القوى الانتاجية وخاصة القدرة على انتاج الغذاء يجب ان لا تحدث مجاعة او ما يسمى بانعدام الامن الغذائي في اي بقعة في العالم. فحسب مؤسسات الامم المتحدة تعتبر الصراعات العسكرية، والتغير المناخي والازمات الاقتصادية الاسباب الاساسية للمجاعات. وفي العقود الاخيرة كل المجاعات حول العالم حدثت واستمرت نتيجة قرارات سياسية من قبل تحالفات ودول وقوى معينة مثل شن الحروب وفرض الحصار او تدمير الزراعة المحلية او عدم تقديم المساعدة في وقت الحاجة الخ.

ان الارقام العالمية حول الجوع مرعبة. اعتماداً على تقرير منظمة الاغذية والزراعة للأمم المتحدة الذي صدر في اواسط 2022 لم يتمكن 3.1 مليار شخص من تحمل تكلفة نمط غذائي صحي في 2020 وعانى 2.3 مليار شخص في العالم ( 29.3%) من انعدام الامن الغذائي المعتدل او الشديد في 2021 وعانى 828 مليون شخص من الجوع في 2021. وعاني 149 مليون طفل دون الخامسة من العمر من ضعف النمو والتطور بسبب النقص المزمن للمغذيات الاساسية وعانى 45 مليون طفل دون سن الخامسة من العمر من مرض الهزال.
وقبل غزة كانت هناك اربع بؤر كبيرة للمجاعة في الشرق الاوسط والقرن الافريقي تحدث في ان واحد وهي السودان واثيوبيا والصومال واليمن وهو امر نادر. وتحدث كلها في وقت نواجه ارتفاع حاد في اسعار الغذاء و تقليص التمويل لمنظمات الاغاثة.
وهناك معدلات عالية من الجوع في العشرات من الدول مثل جمهورية كونغو الديمقراطية، سوريا، افغانستان، جنوب السودان، تيمور، هايتي، هندوراس، فنزويلا، ميانمار، سيراليون، زامبيا، نيجيريا، موزمبيق مدغشقر، تشاد، جمهورية افريقيا الوسطى وغيرها.

ولكن غزة هي حالة خاصة جدا، فكما يقول اليكس دي ووال، المدير التنفيذي لمؤسسة السلام العالمي في كلية فليتشر للقانون والدبلوماسية في جامعة تافتس، المجاعة في غزة تحدث بشكل سريع ومكثف وبتعمد واضح، اذ ليس للوضع في غزة مثيل منذ الحرب العالمية الثانية.
قالت "لجنة مراجعة المجاعة" التابعة للأمم المتحدة وهي لجنة مستقلة ومحايدة من الخبراء في اواسط ديسمبر 2023 بان غزة في وضع كارثي و سوف تواجه المجاعة مع بداية شباط بدون وقف اسرائيل لكل عملياتها العسكرية والسماح بعمليات اغاثة انسانية متكاملة دون اي عائق.



وفقا للتصنيف المرحلي للأمن الغذائي المقبول دوليا لتحديد مستوى الامان الغذائي للأفراد والمجتمعات هناك خمسة مراحل لانعدام الامن الغذائي اي الجوع وهي 1- الامان الغذائي حيث لا يوجد نقص غذاء 2- الامان الغذائي المهدد، اي وجود نقص غذاء خفيف 3- انعدام الامن الغذائي المعتدل- الازمة، هناك نقص في الطعام والتغذية4- انعدام الامن الغذائي الحاد -الطوارئ-نقص حاد في الطعام والتغذية ويحتاج الناس الى تدخل عاجل 5-الكارثة او المجاعة حسب نسبة السكان المتأثرين ونسبة الاطفال وعدد الوفيات الخ حيث يعانون من نقص حاد جدا في الطعام والتغذية ويواجهون خطر الوفاة.

حسب مؤسسات الامم المتحدة تعرف المجاعة بانها درجة من الجوع تواجه في ما لا يقل عن 20% من الاسر نقصا شديدا في الغذاء ويعاني 30% من الاطفال على الاقل سوء التغذية الحاد وتحدث اكثر من حالتي وفاة يوميا من بين كل 10 الاف شخص بسبب الجوع او نتيجة سوء التغذية والمرض.

حسب هذا التصنيف قالت " لجنة مراجعة المجاعة" إن كل سكان غزة وعددهم 2.3 مليون نسمة كانوا يواجهون في ديسمبر مستويات جوع في مرحلة الازمة، او الطوارئ او الكارثة وخطر المجاعة يتزايد كل يوم.

وأن هذه النسب كانت الأكبر المسجلة على الإطلاق على مستوى العالم. اذا يأكل آلاف من سكان غزة الحشائش ويشربون الماء الملوث للبقاء على قيد الحياة.
وتوقعت اللجنة بان بحلول بداية شباط 26 % من سكان غزة سيواجهون جوع شديد اي هم في مرحلة الكارثة او المجاعة و53% في الطوارئ اي ثلاثة ارباع السكان هم في وضع الطوارئ والكارثة. وهناك خطر حدوث مجاعة في غضون ستة اشهر من ديسمبر ويتوقع الخبراء بان اكثر من نصف مليون انسان قد يموت في غضون ستة اشهر اذا تم تقييد الغذاء والماء والرعاية الصحية والصرف الصحي بالطريقة التي تقوم به اسرائيل.
وهناك دلائل واضحة بان اسرائيل تستخدم التجويع كأسلوب من اساليب الحرب وهي جريمة حرب يعاقب عليها القانون الدولي.
واذا كان اثبات جريمة الابادة الجماعية يتطلب اثبات وجود النية هذا الامر ليس مهما في جريمة استخدام التجويع كأسلوب من اساليب الحرب.
حسب قانون جرائم الحرب تعرف جريمة تجويع السكان المدنيين عمدا كأسلوب من اساليب الحرب، “حرمانهم من الوصول الى الأشياء التي لا غنى عنها لبقائهم على قيد الحياة بما في ذلك اعاقة الاغاثة الانسانية”. اي تشمل حرمان السكان من الغذاء ومصادر الغذائية والدواء، والعناية الطبية والمأوى. ويقوم الجيش الاسرائيلي والمستوطنين بكل هذه الاعمال من حرمان السكان من الغذاء والمياه والوقود والدواء من خلال تدمير المناطق الزراعية، تدمير البنية التحتية الاساسية بما فيه تدمير المخابز، المستشفيات، العيادات والتصريف الصحي وفرض قيود صارمة على دخول المساعدات الانسانية الى غزة بما فيه الغذاء والماء والدواء والوقود للملايين من المحاصرين في غزة والذين يعانون تحت اشهر من القصف الهمجي.
اسرائيل تستمر في هذه الجرائم حتى بعد ان حذرت من قبل "لجنة مراجعة المجاعة" بان الاعمال التي تقوم بها سوف تودي الى المجاعة وحتى بعد ان امرتها محكمة العدل الدولية باتخاذ الاجراءات الموقتة الطارئة لحماية المدنيين.

وحتى ولو أوقفت اسرائيل عملياتها العسكرية والحصار اليوم سوف يموت الاف من سكان غزة بسبب اثار المجاعة ومستويات عالية من سوء التغذية والتعرض للأمراض بسبب الماء الملوث والاكتظاظ السكاني وقلة المأوى والتعرض الى الطقس القاسي.

كما قلنا، فيما يتعلق بجريمة استخدام التجويع كأسلوب من اساليب الحرب اثبات النية ليس مهما. اذ يمكن التسبب بالمجاعة بشكل متعمد او كنتيجة عرضية لعمل من اجل هدف اخر مثل قمع واخضاع المقاومة او "العدو" وتكون الجهة التي تسبب بالمجاعة مذنبة في كلتا الحالتين. ان استمرار إسرائيل بنفس الاعمال بالرغم من التحذير بان هذه الاعمال سوف تؤدي الى خلق ظروف الحياة التي سوف تؤدي الى قتل اقسام كبيرة من سكان غزة، يجعل اسرائيل مذنبة بغض النظر عن النية. فإسرائيل تخلق هذه الظروف عن علم، اذ لا يمكن التسبب بالمجاعة عن طريق الصدفة. اي بمعنى اخر، لايمكن لاسرائيل الادعاء بانها لم تستخدم المجاعة كأسلوب حرب لأنه لم يكن لها نية في خلق المجاعة والمجاعة حدثت بسبب الصراع.

كما ان امريكا واوربا متورطة ومذنبة في التسبب في المجاعة في غزة لانها لاتسعى بشكل جدي لوقف الاعمال العسكرية من قبل اسرائيل بل الاكثر من ذلك ساعدتها في خلق هذه الظروف.
والأسوأ من هذا لقد تخلى الغرب عن مبدأ "لا الندم" المتبع في مناطق اخرى تشهد المجاعة مثل الصومال مثلا، حيث تعمل الدول و مؤسسات الامم المتحدة على اساس اسوأ التقديرات التي قد تؤدي الى تبذير بعض الاموال او المساعدات من اجل درء الأسوأ وعلى اساس العمل مع او الى جانب سلطات لاتتفق معها اي مثل "حركة الشباب الصومالية" او حركة "حماس" في حال عزة. اذ قام الغرب بقطع التمويل عن "ألأونروا" بمجرد ان اسرائيل اتهمت 12 من اعضائها بالتورط في احداث 7 اكتوبر حتى قبل اجراء اي تحقيق.

هؤلاء الذين يدعمون اسرائيل ويسلحونها و يمنعون المساعدات الانسانية عن طريق وقف تمويل الاونروا هم مذنبون في هذه الجريمة بشكل واضح.
ان السبب الاساسي وراء موقف الغرب تجاه غزة ليس الاعتقاد الديني او تأثير اللوبي الصهيوني او الشعور بالذنب نتيجة الهولوكست وان كانت هذه عوامل، بل هو آليات عمل النظام الرأسمالي في مرحلة الامبريالية. انه بسبب نظام رأسمالي متأزم بحاجة الى اخضاع اجزاء واسعة من العالم والابقاء على ايدي عاملة رخيصة في وقت هناك صراع بين القوى الامبريالية على النفوذ والغرب في صراع مرير للمحافظة على موقعه مقابل الاقطاب الاخرى. تعتبر اسرائيل احدى القلاع التي تستخدم من قبل الغرب للمحافظة على نفوذه في صراعه ضد الاقطاب الاخرى. لقد كشفت مأساة غزة درجة تعفن كل النظام الرأسمالي ورياء وازدواجية وعدم اخلاقية الطبقة الحاكمة في الغرب. ان كارثة غزة ستكون محطة اخرى مهمة في مسيرة سقوط الغرب من الموقع الذي احتله في ظل النظام الرأسمالي على مدى القرون الاخيرة.