العدوان الأمريكي على فنزويلا: بين ذريعة مكافحة المخدرات وأجندة الهيمنة العالمية
توما حميد
الحوار المتمدن
-
العدد: 8468 - 2025 / 9 / 17 - 20:12
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
في مشهدٍ يستحضر أسوأ تقاليد الهيمنة الأمريكية في نصف الكرة الغربي، نشرت إدارة الرئيس دونالد ترامب أسطولاً حربياً مكوّناً من ثماني سفن، شملت طرّادات ومدمرات متطورة قادرة على إطلاق صواريخ "توماهوك"، بالإضافة إلى غواصة نووية وزوارق دورية وسفن خفر السواحل. حمل هذا الأسطول أكثر من 4500 جندي، وتمركز بالقرب من السواحل الفنزويلية. كانت الذريعة الرسمية التي أعلنها البنتاغون والإدارة الأمريكية "مكافحة تجارة المخدرات". لكن الوقائع والأحداث، مدعومةً بتاريخ طويل من التدخل، تكشف أن الهدف الحقيقي والأعمق هو محاولة قلب نظام الرئيس نيكولاس مادورو، وإسقاط أحد آخر المعاقل التي تدعي "الاشتراكية" و تتبنى نهجاً مناهضاً للهيمنة الأمريكية وموالياً لروسيا والصين وإيران في أمريكا اللاتينية، وإعادة فرض الهيمنة الأمريكية الإقليمية الكاملة.
الذريعة والجريمة: القتل تحت ستار مكافحة المخدرات
لم تتردد القوات الأمريكية في استخدام القوة المميتة. ففي هجوم على قاربين، قُتل 11 شخصاً في القارب الأول و3 في الثاني، كما تم توقيف سفينة صيد واعتقال طاقمها لثماني ساعات.
ورغم ادعاءات الحكومة الأمريكية، بما في ذلك الرئيس ترامب، بأن القاربين كانا يحملان مخدرات ويتجهان الى امريكا ، إلا أنها لم تقدم أي أدلة علنية تثبت تورط هؤلاء الأفراد في تجارة المخدرات، خاصة وأن القاربين كانا على بعد أكثر من ألف ميل من الولايات المتحدة ولا يمتلكان القدرة على إبحار هذه المسافة.
وحتى في حال التسليم جدلاً بصدق هذه الادعاءات، فإن قيام الولايات المتحدة بتنفيذ عمليات قتل خارج نطاق القضاء وخارج أراضيها أو مياهها الإقليمية، ودون إذن من دولة ذات سيادة، يعد انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي. إنه إما عمل حربي عدائي أو شكل من أشكال الإرهاب الدولي، حتى عندما يتم تغليفه بلغة قانونية زائفة. إن مجرد وصف الأفراد بـ"إرهابيي المخدرات" لا يمنح الحق بقتلهم في عرض البحر. كان بإمكان القوات الأمريكية توقيف من كان على متن القاربين وتقديمهم إلى العدالة.
أسطورة "كارتيل المخدرات الفنزويلي" والدور الحقيق للحلفاء
ان الادعاء الأمريكي بأن فنزويلا تمثل تهديداً مخدراتياً استثنائياً هو بناءٌ هشّ لا يقوم على أي وقائع موثوقة. فتقارير الأمم المتحدة نفسها تشير إلى أن دور فنزويلا في تجارة المخدرات العالمية هو دور هامشي وصغير. في المقابل، تُعد كولومبيا، الحليف الاستراتيجي الأقرب لواشنطن في المنطقة، المصدر الرئيسي للكوكايين في العالم، حيث يأتي منها ما يقارب ثلثي الإنتاج العالمي. ولطالما ارتبطت النخب الحاكمة في كولومبيا، مثل الرئيس الأسبق ألفارو أوريبي، وفي الإكوادور مثل الرئيس دانييل نوبوا، بفضائح تتعلق بعلاقات مع كارتيلات المخدرات وتهريبها. لقد كانت الإدارات الأمريكية المتعاقبة حليفةً لأنظمة هي من بين أسوأ المتاجرين بالمخدرات في العالم، مما يفقدها أي مصداقية أخلاقية في ادعاءاتها.
معظم التقارير تؤكد أن الادعاءات الأمريكية بأن فنزويلا تستضيف كارتيلاً لتهريب المخدرات تديره الدولة (كارتيل دي لوس سوليس) أو أن رئيس البلاد مرتبط بكارتيلات مثل "ترين دي أرجوا" – الذي صنفته الولايات المتحدة كمنظمة إرهابية – هي ادعاءات لا أساس لها من الصحة. كما يشكك الكثيرون بوجود "كارتيل دي لوس سوليس" أساساً ككيان حقيقي.
كما أن هناك خلطاً متعمداً في الخطاب الأمريكي بين الكوكايين ومخدر الفنتانيل المصنّع، الذي يتسبب في معظم الوفيات الناجمة عن الجرعات الزائدة في الولايات المتحدة. وتشير تقارير الحكومة الأمريكية نفسها إلى أن مصدر الفنتانيل هو بشكل أساسي المكسيك، وأن المواد الأولية لصناعته تأتي من الصين والهند، وليس من فنزويلا. والأكثر إثارة للصدمة، أن 80-90% من المحكوم عليهم بتهريب الفنتانيل إلى الولايات المتحدة هم من المواطنين الأمريكيين أنفسهم.
والسبب الأساسي لأزمة الإدمان في الولايات المتحدة هو صعوبة الأوضاع المعيشية للفرد الأمريكي وقرار شركات صناعة الأدوية تشجيع الإدمان من خلال الترويج لوصفات الأدوية المسكنة للألم القوية للمرضى دون مبرر طبي كافٍ.
الأسباب الجيوسياسية الحقيقية: مبدأ مونرو والهيمنة الإقليمية
السبب الجوهري للتوتر يعود إلى تطبيق "مبدأ مونرو" القديم، الذي يعتبر نصف الكرة الغربي "حديقة خلفية" للولايات المتحدة ويرفض تدخل القوى العظمى الأخرى فيه. لقد كان هذا المبدأ الأساس الذي تُبرر به واشنطن عدداً هائلاً من التدخلات الدموية والانقلابات، كما حدث في بنما وغرينادا وتشيلي سابقاً.
والآن، وبعد اعتراف أمريكا بانزياح عالم القطب الواحد وعدم قدرتها على الهيمنة المطلقة، تسعى إلى التركيز على مناطق نفوذها التقليدية مثل نصف الكرة الغربي، ومنع تحقيق الصين وروسيا موطئ قدم فيها.
تمثل فنزويلا، بخلاف موبا باحتياطياتها النفطية الهائلة (الأكبر في العالم)، وموقعها الاستراتيجي القريب من قناة بنما وخطوط الملاحة الحيوية، وسكانها البالغ عددهم 30 مليون نسمة، وجيشها القوي الذي يضم 500 ألف فرد، تحدياً لهذه الهيمنة. خاصة أن فنزويلا قامت بتأميم نفطها عام 1976، وسعت لبناء نموذج اقتصادي مستقل. إن استعادة السيطرة على النفط الفنزويلي سيمكن الشركات الأمريكية من التحكم في إمدادات النفط العالمية والتأثير في اقتصادات منافسيها مثل روسيا وإيران عند الحاجة.
لكن الخطر الأكبر في نظر واشنطن هو تحالف فنزويلا مع خصومها. إنها علاقة متعددة الأوجه:
1. التخلي عن الدولار: بدأت فنزويلا منذ 2017 ببيع النفط للصين باليوان الصيني، مما يهدد هيمنة الدولار في التجارة العالمية.
2. التعاون العسكري مع روسيا وإيران: هناك تعاون عسكري مع روسيا، بما في ذلك احتمال نشر صواريخ متطورة على الأراضي الفنزويلية. كما يوجد تعاون مع إيران على تطوير وتصنيع الطائرات المسيرة. الهدف الأمريكي هو إزالة هذا النفوذ من "حديقتها الخلفية".
3. إسقاط النموذج المناهض للهيمنة: تعتبر فنزويلا حجر الزاوية في المشروع القومي المناهض للهيمنة في أمريكا اللاتينية. إسقاط نظام مادورو سيرسل رسالة قوية لكل الأنظمة المماثلة في المنطقة، خاصة في خضم المنافسة الاستراتيجية مع الصين، ويهدف إلى عزل هذه الدول ومنعها من بناء تحالفات مع بكين وموسكو.
الفشل في تحقيق الأهداف واللجوء إلى التصعيد العسكري
حاولت الولايات المتحدة لعقود، منذ انتخاب هوغو شافيز في 1998، قلب النظام في فنزويلا عبر وسائل متعددة. في 2015، أعلن باراك أوباما أن فنزويلا تشكل "تهديداً غير عادي وغير مألوف" للأمن القومي الأمريكي، مهدداً الطريق لفرض عقوبات وحصار اقتصادي وحشي. وسع ترامب هذا الحصار في 2017، وكان له تأثير مدمر: وفقاً للمفوضية الأممية، فقدت فنزويلا 99% من إيراداتها الحكومية، مما تسبب في هجرة أكثر من 7 ملايين فنزويلي.
ولكن الحصار فشل في إسقاط النظام. لذلك، عادت واشنطن إلى استراتيجيتها القديمة: التهديد العسكري المباشر. إن نشر أسطول قادر على القصف الصاروخي (توماهوك) واستخدام قوات خاصة ليس أداة لمكافحة المخدرات؛ إنه أداة حرب. تصريحات مسؤولين مثل وزير الدفاع السابق مارك إسبر، الذي ذكر أن واشنطن تدرس "خيارات عسكرية مباشرة"، تؤكد هذه النية. إن حجم هذه القوة يجعل الغزو البري أمراً مستبعداً، لكنها قادرة على شن هجمات صاروخية ضد القيادة الفنزويلية والمراكز الحساسة، أو ممارسة ضغط عسكري مستمر لاستنزاف البلاد وتحريض المعارضة على قلب النظام وخاصة ان مادورو اعلن حشد 4.5 مليون شخص لمواجهة اي تدخل عسكري.
الخلاصة: الهيمنة فوق القانون
العدوان الأمريكي على فنزويلا هو فصل جديد في سردية الهيمنة الأمريكية الطويلة. إنه ليس دفاعاً عن الشعب الأمريكي من المخدرات، بل هو هجوم على سيادة دولة أخرى ومحاولة صريحة لقلب نظامها.
التناقض هنا صارخ: كيف تدعي الإدارة الأمريكية أنها أمنت حدودها بشكل محكم وأن الهجرة غير الشرعية انخفضت بنسبة 99.9%، بينما تتهم في نفس الوقت فنزويلا بإغراق أمريكا بالمخدرات؟
ان الهدف واضح: إسقاط نظام مادورو، وتمكين السيطرة على النفط الفنزويلي لتحقيق أهداف جيوسياسية واقتصادية، وإزالة النفوذ المنافس، وإعادة فنزويلا إلى الحظيرة الخاضعة. إنه صراع من أجل الهيمنة، حيث تكون حياة الأبرياء والقيم الإنسانية وحتى القانون الدولي البرجوازي مجرد خسائر جانبية مقبولة في طريق تحقيق "المصالح القومية" الأمريكية، كما تُعرّفها الطبقة الحاكمة في واشنطن.
إن تغيير اسم "وزارة الدفاع" إلى "وزارة الحرب" في مثل هذه السياقات ليس مجرد لعبة ، بل هو اعتراف ضمني بطبيعة هذه الأفعال التي يمكن تصنيفها كجرائم حرب. إن اتهام الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو بالارتباط بالعصابات وتوجيه اتهامات له بتهريب المخدرات ورصد مكافأة ضخمة مقابل رأسه، هو ليس إجراءً قضائياً، بل هو تكتيكٌ من تكتيكات المافيا السياسية.