استقالة غاي ومقابلة البرغوثي!


توما حميد
الحوار المتمدن - العدد: 7854 - 2024 / 1 / 12 - 14:13
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

استقالت رئيسة جامعة هارفارد، كلودين غاي يوم الثلاثاء المصادف الثاني من كانون الثاني 2024 من منصبها بعد حملة شرسة اتهمتها بعدم التصدي لمعاداة السامية في الحرم الجامعي واثارت مزاعم بانها قامت بالسرقة الأدبية في اطروحة الدكتوراه. لقد اشتدت الحملة بعد الشهادة التي ادلت بها غاي في الكونغرس الأمريكي حول معاداة السامية.



كانت غاي من بين ثلاثة رؤساء جامعات أمريكية كبرى، الى جانب رئيسة جامعة بنسلفانيا اليزابيث ماجيا ورئيسة معهد ماساتشوستس للتكنلوجيا سالي كورنبلوث تمثلن يوم الثلاثاء في 5 كانون الأول 2023، امام لجنة في مجلس النواب الأمريكي لمناقشة الاحتجاجات "المعادية للسامية" في حرمهن الجامعي.



واستقالت رئيسة جامعة بنسلفانيا اليزابيث ماجيا بعد أيام من الشهادة بعد حملة عنيفة ضدها أيضا شملت سحب احدى الجهات المانحة منحة بقيمة 100 مليون دولار لجامعتها. وهناك حملة قوية لإجبار رئيسة معد ماساتشوستس سالي كورنبلوث على الاستقالة.

جاءت هذه الاستقالات بعد حملة من المحافظين بما فيهم أعضاء كونغرس وغيرهم من السياسيين وفي مقدمتهم عضوة الكونجرس إليز ستيفانيك، والجهات المانحة ورأسماليين كبار ووسائل الإعلام والناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي.



يذكر ان غاي كانت أول رئيس أسود للجامعة وثاني امرأة تتولى هذا الدور في تاريخ هارفارد البالغ 388 عاما وكانت فترة ولايتها هي الأقصر في تاريخ الجامعة. وعينت جامعة هارفارد الاقتصادي من اصل يهودي، ألان غاربر كرئيس مؤقت خلفا لغاي.

ان جامعات مثل هارفارد رغم كونها مؤسسات مرموقة الا انها مؤسسات تعاني من كل اشكال الفساد. اذ تبلغ قيمة اموال هارفارد مثلا حوالي 51 مليار دولار وهي تستلم مئات الملايين من التبرعات من كبار الرأسماليين الذين يتحكمون بالكثير من القرارات بشكل غير مباشر والكثير من الطلاب يصلون الى هذه الجامعات ليس بسبب مؤهلاتهم العلمية وشغفهم بالدارسة بل لامتلاكهم الأموال الازمة وعشرات المسائل الأخرى.

يجب ان يكون واضحا ان كلودين غاي واليزابيث ماجيا هما ضحايا حرب مستعرة بين اليمين واليسار البرجوازي في الغرب وخاصة في امريكا.

ان الازمة التي تمر بها أمريكا وصعوبة وضع الطبقة العاملة بشكل عام وتراجع وضع العمال البيض من الذكور بشكل خاص قد جعل الطبقة العاملة وخاصة العامل الأبيض مستاء من المنحى الذي يسير عليه البلد. لقد جعل هذا الوضع الطبقة العاملة تتأثر بالخطاب المعادي للوضع الحالي والمؤسسة الحاكمة وما يسمى ب" الدولة العميقة". في مواجهة هذا الوضع يركز اليسار البرجوازي على سياسة الهوية. وتدخل حملة " التنوع، والانصاف والشمولية" التي يبذلها قادة الشركات والمؤسسات بما فيها التربوية ل"خلق بيئة عمل وتعلم للجميع بغض النظر عن اختلافاتهم" ضمن محاولات الدفع بسياسات الهوية.

في حين يقوم اليمين بتحميل شرائح من المجتمع مسؤولية الوضع وجعله كبش الفداء من المهاجرين، او السود او الشرائح من الأصول الاسبانية او المسلمين الخ او القاء اللوم على قوى خارجية مثل الصين وروسيا.

يقول هذا اليمين بان المجتمع الأمريكي أصبح عنصريا ويقوم بالتمييز، ولكن ضد البيض، اذ يحرم البيض من الحقوق التي تمنح للأقليات الأخرى. وقد جعل اليمين الغاء ما يسميها بأيدولوجية " التنوع والانصاف والشمولية" هدفا له.

ومن الأمور الأخرى التي يركز عليها اليمين، نظام التعليم حيث يعتقد بان المؤسسات بما فيها الجامعات هي ليبرالية للغاية. ويسعى الى منع محاولات جعل الجامعات أكثر ترحيبا بالطلاب من لون جلد مختلف، والنساء وأصحاب الاحتياجات الخاصة و المثليين وغيرهم.

ويشن اليمين حملة لإعادة صياغة التعليم العالي بما يخدم ايدولوجيته التي تتمثل الدفاع عن " الله والوطن والعائلة" وتغير الطريقة التي تناقش بها الجندر والعرق والطبقة الخ.

لقد سعى اليمين الى الإطاحة بغاي جزئيا بسبب كونها امرأة وسوداء البشرة ومشاركتها في محاولات تحقيق " العدالة العرقية" في الجامعات. ولكن الذي شدد من حملة اليمين هو موقفها المتعاطف من القضية الفلسطينية. لقد شهدت الجامعات الامريكية مظاهرات قوية في الغالبية العظمى منها مؤيدة للقضية الفلسطينية ومنددة بالجرائم التي ترتكبها إسرائيل. لقد لعب اللوبي الصهيوني دورا محوريا في استقالة غاي وماجيا من المنصب. ان موقف إسرائيل وموقف الغرب المؤيد لها ضعيف جدا وفرض عليهم العزلة عالميا. لم تعد حملات التضليل والتحميق قادرة على طمس الحقائق وهم يحسون بضغط قوي، لذا أصبحت القوة السافرة والتهديد والابتزاز والتشهير والرقابة الإعلامية الوسيلة التي يلتجأ اليها. ويأتي الطرد من المنصب الذي شمل غاي و ماجيا جزء من هذه الحملة.

من جهة أخرى جاءت مقابلة جوليا هارتلي- بريور من قناة "تولك تيفي" البريطانية مع السياسي الفلسطيني والأمين العام للمبادرة الوطنية الفلسطينية، مصطفى البرغوثي، في نفس السياق. لقد اثارت هذه المقابلة ضجة عالمية وكان سلوك المذيعة موضع اشمئزاز منقطع النظير.

سوف تدرس هذه المقابلة كنموذج للمقابلات السيئة. اذ قامت هذه المذيعة بالحديث وابداء الآراء اكثر من ضيفها، ودأبت على مقاطعته، وفقدت اعصابها وصرخت بشكل هستيري في وجهه والتجأت الى استخدام سلاح الجندر دون وجه حق وعبرت عن كره و استعلاء و تحيز ضد ضيفيها وعن اراء عنصرية ونمطية تجاهه لكونه من خلفية فلسطينية.

هذا في وقت ان مصطفى البرغوثي هو نموذج للضيف الذي يمكن محاورته بغض النظر فيما اذا اتفقنا او لم نتفق مع الخط السياسي الذي يمثله. فالبرغوثي يتحدث بلغة راقية جدا وهو يعرف ما يريد قوله وهو يصل الى النقطة دون لف ودوران. ورغم كل الذي قامت به جوليا حافظ البرغوثي على هدوءه وكان راقيا للغاية.

ان هذه المقابلة وكل المقابلات التي تجريها جوليا وقناتها، التي توظف بيريس مورغان ايضا، كانت جزء من حملة الاعلام الغربي المنحاز لإسرائيل. هذه الحملة الايدولوجية والفكرية والسياسية يغيب عنها الفهم والتعمق والحديث عن الخلفية التاريخية للقضية الفلسطينية، وتتحكم بها عنصرية ونظرة استعلاء متأصلة. فبالرغم من كل الذي يجري يسعى هذا الاعلام الى تبرير بربرية إسرائيل والتقليل من قيمة الضحايا من الجانب الفلسطيني، ولفت الانتباه بعيدا عن الأسباب الاصلية للازمة والتركيز على الجزئيات. فمثلا في الوقت التي قتلت إسرائيل أكثر من 25 الف وجرحت اكثر من 75 الف فلسطيني تبدا المقابلات مع الضيوف بالسؤال فيما اذا كانوا ينددون بحماس وبسرعة تتحول المقابلات الى عملية تشبه استجواب المجرمين.

كشفت جوليا هارتلي بريور في هذه المقابلة اكثر من أي مقابلة أخرى عن سطحية وعدم مهنية ملفت للنظر وعبرت بشكل جيد عن ازدراء الاعلام الغربي للفلسطينيين ولكل ما هو غير غربي وعن نظرة كاريكاتورية عنصرية لهم. لكن هستيريا جوليا في هذه المقابلة جاءت نتيجة عجزها في مواجهة الحقائق التي ذكرها البرغوثي والتناقض بين تحيزها الاعمى للرواية الإسرائيلية والحقائق التي عرضت ووقوعها تحت ضغط كبير نتيجة لذلك. في هذا الوضع التجأت الى هذا الأسلوب من اجل اسكات البرغوثي. ان اجبار غاي على الاستقالة والفظاظة تجاه البرغوثي جاءت نتيجة ضعف وانزواء وانفضاح إسرائيل وداعميها الغربيين عالميا. ان شراسة الحملة ضد غاي وهستيريا جوليا هي نتيجة ضعف وليس قوة اليمين المدافع عن اسرائيل فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية.