افول الغرب هو افول نظام!


توما حميد
الحوار المتمدن - العدد: 7613 - 2023 / 5 / 16 - 06:58
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

قبل كل شيء ان الحديث عن افول وتراجع الغرب لا يعني تأييد للأنظمة الأخرى مثل الصين او روسيا او أي دولة أخرى. اذ كل هذه الدول هي دول رأسمالية وهي لا تختلف الا في درجة تدخل الدولة في الاقتصاد ومدى شكلية الانتخابات ضمن حدود حماية النظام والسياسات الخارجية. مع هذا كما قلت في مكان اخر باعتقادي ان بروز عالم متعدد الأقطاب هو ترتيب عالمي أفضل للبشرية من نظام عالمي احادي القطب يكون لأمريكا والغرب حرية شبه مطلقة في سياساتها الخارجية من تأجيج الصراعات والأزمات والتدخلات السياسية والعسكرية وتغير الأنظمة والانقلابات وفرض حصار اقتصادي همجي على جماهير أي دولة يكون لحكومتها خلاف مع الغرب من أي نوع ومحاربة القوى التقدمية.



ليس هناك شك بان العالم الرأسمالي اليوم منقسم الى القطب الغربي الذي يشمل إضافة الى الولايات المتحدة واوروبا وكندا أيضا اليابان وأستراليا ونيوزيلاندا والى حد ما كوريا الجنوبية والى بقية العالم الذي هو خارج القطب الغربي او لا يعتبر جزء منه.



ان ما ساعد بروز هذا الاستقطاب هو افول الغرب إضافة الى صعود دول خارج هذا القطب مثل الصين وروسيا، والهند والبرازيل وغيرها. ان توزيع القوة العالمية الاقتصادية والسياسية وحتى العسكرية يتحرك بعيدا عن الغرب والولايات المتحدة.



هناك الكثير من المؤشرات بان الغرب وخاصة مركزه اي الولايات المتحدة ونموذجه الاقتصادي في تراجع.



ان تراجع وافول مكانة أمريكا بالذات لا يقاس من خلال عدد المليارديرات او حجم رأسمال وارباح شركات مثل ابل وغوغل وتويتر وامزون وغيرها او وضع اغنى 1% او حتى 10% في المجتمع بل من خلال وضع افقر 90% من المجتمع.



ان المجتمع الأمريكي برمته بأزمة حقيقية متعددة الجوانب. ففي السنوات الأخيرة قل متوسط العمر في أمريكا بحيث لأول مرة يفوق متوسط العمر في الصين مثلا متوسطه في أمريكا. وتحتل الولايات المتحدة المرتبة 34 بين الدول في متوسط العمر للسكان.



وهناك نمو عدم المساواة في المجتمع بمعدلات خرافية. والاهم من هذا يعجز النظام من تحسين وضع الأغلبية في المجتمع، بل حتى تزداد نسبة السكان التي تعيش تحت خط الفقر. لقد كان النظام الرأسمالي يبرر زيادة عدم المساواة في المجتمع من خلال التحسن النسبي في وضع الأغلبية. فرغم زيادة ثروات الأغنياء بمعدل أكبر، كانت أجور والمستوى المعيشي للطبقة العاملة يتحسن وان كان بمعدلات اقل، الا ان هذا لم يعد هو الحال. ان نصف الطبقة العاملة الامريكية، أي 80 مليون عامل بالحال يعيش على اجرة ويتعذر عليه توفير 400 دولار لحالة طارئة. ويعيش 21 في المائة من الأطفال الأمريكيين في فقر. ويشهد المجتمع

معدلات عالية من التشرد. في وقت ان دولة مثل الصين احتفلت مؤخرا برفع اكثر من 800 مليون انسان من الفقر.



ان ما يضمن سوء الوضع هو شلل النظام السياسي والفساد الذي يخدم البرجوازية والازمات المتتالية التي يمر بها النظام وهو غير قادر على حلها. ففي اخر 15 سنة عبر المجتمع الأمريكي بثلاث أزمات كبيرة هي ازمة 2008 وأزمة كورونا وأزمة التضخم وتكاليف المعيشة.



ومن علامات افول النظام الرأسمالي الأمريكي هو تراجع النظام التعليمي، اذ ان 44 مليون امريكي عليه ديون دراسية والكثير من الفقراء يتفادون التعليم الجامعي بسبب التكاليف. وهناك تراجع في معدل تخريج الكثير من الاختصاصات. كما هناك تراجع في تحصيل الطلاب في المراحل الابتدائية والثانوية والجامعية و أداؤهم أقل من أقرانهم في البلدان ذات مستويات الدخل أو الإنفاق التعليمي الأقل بكثير.



وتتصدر الولايات المتحدة كل دول العالم من حيث العدد الكلي للمسجونين حيث فاق عددهم مليونين شخص وهو يشكل 25% من عدد السجناء في العالم. وتتصدر العالم من حيث معدل السجناء وهو 629 لكل 100 شخص في حين في الصين مثلا هناك 1.69 مليون سجين بمعدل 119 سجين لكل 100 الف شخص. وامريكا من الدول التي تشهد معدلات عالية من العنف والجريمة والامراض الاجتماعية الأخرى مثل الإدمان والانتحار وغيرها.



ورغم التطور الطبي من حيث التكنلوجيا والأدوية والبحث العلمي، الا ان النتائج الصحية سيئة وحسب مؤشرات الحالة الصحية للسكان فان الولايات المتحدة هي في ذيل قائمة الدول المتقدمة أي بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، على الرغم من وجود أعلى تكاليف رعاية صحية للفرد في العالم ورغم انها تصرف اعلى نسبة من اجمالي الناتج الوطني على الصحة أي حولي 18%.وينفق نظام الرعاية الصحية على الجوانب الإدارية اكثر من ضعف ما تصرفه اي دولة أخرى في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.



وفشلت الولايات المتحدة بشكل مخجل في التصدي لوباء كورونا لذا شهدت وفاة أكثر من مليون شخص بهذا الفيروس وهو اعلى معدل في العالم.



ويشهد المجتمع الأمريكي انقسامات خطيرة جدا على أساس الطبقة والعرق والأيديولوجيا والولاء السياسي وغيرها واستقطاب سياسي هائل.







ويعتبر التمثيل السياسي ضعيف جدا وتعجز الحكومات الفيدرالية والمحلية للاستجابة والاستماع الى مواطنيها. كما هناك شلل سياسي في مجال اتخاذ القرارات المهمة وتراجعت بشكل هائل قدرة الحكومات على تلبية حاجات المجتمع وتحسين سبل عيش الأمريكيين العاديين وإنجاز الأمور التي تخص المجتمع مثل الانفاق على البنية التحتية كالطرق والجسور وماء الشرب وانابيب المياه والصرف الصحي والسدود وشبكة القطارات وغيرها.



كما تشهد الولايات المتحدة نسبة عالية من الفساد رغم ان معظم هذا الفساد قانوني، لذا فإمكان الإدارة الامريكية ان تصرف مئات المليارات على الحرب في أوكرانيا في حين تعجز الطبقة السياسية من صرف مثل هذه الاموال على معالجة التشرد والادمان والانتحار وغيرها من المشاكل في المجتمع بحجة قلة الأموال او ان هذا الانفاق سوف يؤدي الى التضخم الخ. هذا عدا عجزها على توفير الرعاية الصحية للجميع او توفير التعليم الجامعي المجاني وغيرها.



ان هذا التراجع للقطب الغربي وامريكا تراجع نسبي ولا يعني بان أمريكا لن تبقى قوة عالمية. كما ان هذا التراجع هو تراجع نظام اقتصادي بالدرجة الأساسية. فبعد 3 عقود من انهيار قطب رأسمالية الدولة يدخل قطب رأسمالية السوق الحر والمستند على السياسات النيوليبرالية والعولمة الرأسمالية في ازمة عميقة. ان النموذج الاقتصادي الذي يمثل نموذج ناجح اليوم للنظام الرأسمالي ولو بشكل مؤقت هو النموذج الهجين مثل النموذج الصيني الذي هو مزيج بين رأسمالية الدولة والرأسمالية الخاصة او السوق الحر تديره حكومة هي ليست نتاج انتخابات برلمانية برجوازية. الى متى سيتمكن هذا النظام من إعادة انتاج نفسه هو امر غير معلوم، ولكن ما هو معلوم هو لابد انه سيدخل في طريق مسدود مثله مثل النماذج الرأسمالية الأخرى لان يعاني من نفس المشاكل والتناقضات الهيكلية للنظام الرأسمالي بشكل عام.



ان افول الغرب وخاصة أمريكا كأكبر قوة عسكرية في العالم وصعود اقطاب أخرى يخلق مرحلة انتقالية خطيرة ومخيفة يجب ان تتهيأ البشرية للتصدي للاحتمالات الخطيرة الذي يجلبه مثل احتمال حرب تدميرية.