طوبى للهجين-عربي المستقبل- والتحرر من سطوة الصورة النمطية


ناهد بدوي
الحوار المتمدن - العدد: 4860 - 2015 / 7 / 8 - 18:23
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي     

غضبت عندما قرأت قصة رياض صطوف المصورة "عربي المستقبل". كان الكتاب مشوقا جدا وهذا ما أغضبني أكثر لأني كنت أتصور أن الفرنسيين سيتمتعون به و سيشعرون بالاطمئنان والسعادة عن استمرار قناعتهم بالصورة النمطية المتخلفة التي يحملونها عن العرب. ولكني عندما رأيت مقابلة مع رياض صطوف على أحد الأقنية التلفزيونية الفرنسية، وكانت مثالاً صارخا عن اللعبة الاعلامية التي تعطل العقل والتفكير والتحليل، تريثت قليلا. فقد كانت المذيعة تقول ما اعتادت أن تقوله دائماً بغض النظر عما يقوله الضيف. وبمتابعة هذه الحلقة تابعت عملية تسطيح الوعي والاصرار على تكرار الصورة النمطية بطريقة ببغائية رغم أن كلام الضيف يدعو إلى التحليل والتفكير على نحو أعمق. كان الحوار من طرف واحد فهم لم يسمعوا رياض صطوف لذلك بدا وكأنه يتكلم مثلهم. لذلك أعدت قراءة الرواية كي أسمع رياض صطوف جيدا.

رياض صطوف، كاتب قصص مصورة فرنسي ينحدر من أب سوري وأم فرنسية. كتب قصة مصورة (صدرت 2014 في فرنسا) عن ذكريات طفولته المبكرة في ليبيا وفي بلد أبيه سورية في زمن القذافي وحافظ الأسد. فلماذا الغضب؟ يبدو أني كنت في غضبي تحت سطوة الصورة النمطية، مثل تلك المذيعة الفرنسية تماما، لقد تعودنا على الغضب ممن يحاول انتقاد قبيلتنا التي نعتبر أنفسنا أننا نمثلها بداهة. ولطالما اعتبرنا أنه يفعل ذلك لأهداف مغرضة مرتكزين على صورتنا النمطية عنه. لكن رياض صطوف كان ببساطة يحكي ذكرياته في قرية أبيه، تير معلة، قرية في ريف حمص الشرقي كما هي في ذلك الوقت بين عام 78 و84. صحيح أنه لو كانت ذكريات طفولته في دمشق أو حلب كانت ستختلف اختلافا كبيراً سواء بالاتجاه السلبي أم الايجابي. لا بل حتى في دمشق ذاتها، لو كانت طفولته في حي أبو رمانة فلن تشبه طفولة أخرى في الميدان مثلا. و حتى في ذات الحي وفي ذات المنزل سوف لن تتشابه ذكريات الطفولة. ولكن هذا لا يغير من أنه كان يحكي ذكرياته هو. وقد كان مبدعا في روايتها واستطاع في كثير من الأحيان أن يجعلنا نرى بعين الطفل، ووصلتنا مشاعر الطفل بكل قدرتها على توصيل المشهد بعيدا عن الأفكار المسبقة. صحيح أني أيضاً لم أصدق أن طفلاً لم يكن له ذكريات جميلة أبدا وهو في بيت العائلة الكبير في سورية، ولكن ربما يكون ذلك قد حصل فعلاً. ولكن الأهم من هذا كله، وهنا يكمن ابداع الرواية، أن كل سوري سوف يرى شيئاً من نفسه فيها لأن الكاتب استطاع نقل المناخ المشترك الذي كان يعيش في ظله كل السوريين آنذاك.

ربما غضب الكثير من الفرنسيين أيضا من رياض صطوف من الصورة السلبية للمرأة الفرنسية، تلك المرأة التابعة المستسلمة لإرادة الرجل. وكذلك من صورة الرجل الفرنسي الذي يطلق زوجته من أجل أن يكون حرا ويغازل بخفة أي صبية في الطريق، تاركاً شريكة عمره تجلس كل وقتها وحيدة ومكتئبة طوال النهار أمام التلفزيون، كما يصفها حفيدها في قصته وذكرياته. بينما جدته السورية تبدو سعيدة وفي حضنها أولادها واحفادها.

عندما سألته المذيعة لماذا تكره أصلك السوري؟ أجابها رياض صطوف: "أكره كل أصولي". ولكن هذا الجواب تم تجاهله، فهو لايتطابق مع المزاج العام للقناة والبرنامج، لذلك لم يتم التعليق عليه فكانت النتيجة أن هذا الجواب لم يلحظه كل الجمهور. وربما نسيه حتى رياض صطوف الذي قاله بعفوية شديدة. رياض صطوف بدا أحيانا وكأنه منساق للعبة الإعلامية وربما بدا أن هذه اللعبة لا تهمه كثيرا، ولكنه كان واضحاً في تحديد هويته التي اختارها لنفسه عندما سألته المذيعة من أنت سوري أم فرنسي؟ فقال لها "أنا مؤلف قصص مصورة".

في تلك المقابلة سأله المذيع مندهشاً: أمك فرنسية، ومع ذلك رأيناها امرأة تابعة لزوجها وتتبعه أينما ذهب بدون أي اعتراض. يجيب الكاتب "ربما لأنها كانت تتأمل بأن يصبح أبي شيئا عظيما في بلده". بينما في مقابلة تلفزيونية أخرى على قناة فرنسية أخرى، لم تعترض المذيعة على شخصية الأم التابعة بل اعتبرتها أمر طبيعي لأنها أمرأة من بريتونيا! وعبرت بذلك عن حقيقة انه يوجد صورة نمطية أيضا داخل البلد الواحد. وفي سوريا خبرناها جميعا لدى الكثيرين عندنا كأن يحمل السني صورة نمطية عن العلوي لا تتزحزح وكذلك العلوي الذي يحمل صورة نمطية عن السني، صورة قد لا يغيرها معرفته اللاحقة بمئات الأفراد المتنوعين والمختلفين من الطرفين.

يطرح كتاب وشخصية الكاتب رياض صطوف أسئلة كثيرة حول الصورة النمطية. تلك الأسئلة نصطدم بها دائماً عندما نتعامل مع الآخر المختلف. ورغم أن الفلاسفة قالوا منذ زمن بعيد أن التعميم لغة الحمقى، إلا أننا نقع دائما كلنا بمطب ارتكاب أسوأ وأغبى فعل يرتكبه البشر على الإطلاق، هو الاعتماد على الصورة النمطية في السلوك وفي التقييم وفي التحليل.
رغم غباء الصورة النمطية إلا أنها ذات سطوة كبيرة وثقيلة وراسخة في الأذهان، مع أنه لا يوجد أحد في الدنيا يمثلها: فمن هو السوري مثلاً؟ هل هو ابن تير معلة أم ابن دمشق أم ابن اللاذقية؟ هل هو المتدين أم المتطرف أم العلماني أم اليساري؟ هل هو السني أم العلوي أم المسيحي أم الدرزي؟ حتى في تير معله هل هو ابن المدرس الذي درس في الجامعة أم ابن راعي الغنم؟ وحتى أولاد راعي الغنم أو استاذ الجامعة يختلفون فيما بينهم.
ومن هو الفرنسي؟ هل هو ابن بريتونيا أم ابن مارسيليا أم ابن جبال الألب ؟ هل هو اليميني الفاشي أم اليساري. أم الوسط أم.....؟ هل هو ابن الضواحي أم ابن باريس؟
من هو رياض صطوف؟ هل هو فرنسي؟ أم سوري؟
رياض صطوف أجاب أنا كاتب قصص مصورة. لم يأت جوابه من تير معلة ولا من بريتونيا، جاء جوابه ناصعاً وجميلا ونابعاً من كونه هجين. العلم يقول طوبى للهجين فالسلالات الصافية تراكم الأمراض والعاهات. والثقافة تقول طوبى للهجين لاتوجد ثقافة متطورة بدون تلاقح متعدد، ولم ينجب الانغلاق على ثقافة واحدة سوى التطرف الديني والنازي والفاشي. رياض صطوف لايقع تحت ثقل الصورة النمطية لأنه مكون من الطرفين ولا يخجل ولايفتخر بأحد أصليه لذلك يعتقد أن عمله هو مصدر فخره.
ورغم أننا من الممكن أن لا نرتاح كثيرا من صدور الكتاب في هذا الوقت بالذات، وأن نرتاب بأن يكون دافعه فقط الحصول على ثروة كبيرة من وراء الكتاب لأنه يتبع الرائج ويتناول منطقة ساخنة حالياً، ورغم أنه لا يتطرق إلى السياسية إلا على نحو عابر، ورغم أنه يتكلم عن زمن سابق للثورة السورية ولكني أعتقد أنه لولاها لما تذكر أصله السوري في سياق فنه، رغم كل ذلك يمكن لرياض صطوف أن يكون مرآتنا التي نرى فيها نحن والفرنسيين الحقيقة، ويمكن أن تكون الانتاجات الثقافية والفكرية لأمثاله دواء من مرض سطوة الصورة النمطية مما قد يساعد البشرية على التغلب على مرض الخوف من الآخر المختلف والمنتشر الآن في العالم كالوباء.
الهجين والخليط والمتعدد والمختلف هو حال العالم الراهن، وما ذلك الوباء الذي نشهده سواء من قبل المتشددين الدينيين أم المتشددين اليمينيين الفاشستيين، سوى ردة فعل رافضة لهذه الحقيقة التي ستفرض نفسها عاجلا أم آجلا على الجميع. وربما قد يساعدنا رياض صطوف وأمثاله على ابتلاع هذه الحقيقة الرائعة.
ومن أجل تلك الحقيقة نعود ونقول طوبى للمختلط الهجين فمعه يمكن أن تتحرر عقولنا، ومعه تتجدد مورثاتنا وثقافتنا وننقذ سلالتنا البشرية من الانقراض.