لماذا لم يجدي كذب النظام السوري هذه المرة؟


ناهد بدوي
الحوار المتمدن - العدد: 4214 - 2013 / 9 / 13 - 02:13
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

"المعارضة هي من استخدمت السلاح الكيميائي" بدأت هذه الجملة بالتداول من قبل سوريين وعرب وأجانب منذ الصباح الباكر من يوم ارتكاب المجزرة الكيميائية في الغوطة الشرقية. ولم ينتظر كل هؤلاء أي رأي أو تحقيق أو مؤشر يدل على الفاعل، فهم منحازون أصلا ضد المعارضة. وكذلك لم ينتظروا ظهرر الفيلم الكوميدي بامتياز على أقنية النظام، والذي يحمل عنوان "صنع في السعودية" الذي يصور اقتحام الجيش السوري البطل لوكر الجهاديين واكتشاف السلاح الكيميائي وتثبيت التهمة على المعارضة التي استخدمت السلاح الكيميائي لتقتل أولادها. لذلك لم تغير تلك الأطراف جميعها موقفها وموقعها الداعم للنظام السوري رغم تكشف الحقيقة فيما بعد. ورغم أن هذا النظام استغباهم وأهانهم للمرة الألف، بمسرحياته ورواياته الذكية والتي كان آخرها ماصرحت به بثينة كريستي في روايتها البوليسية الأخيرة عن نقل الرجال والنساء والاطفال العلويين الى الغوطة لقتلهم. فبثينة كريستي متخصصة بالروايات الطائفية المثيرة فقد كانت أول من لفظ كلمة فتنة في اعلام النظام منذ اليوم الأول من الثورة السورية. فمالذي تغير الآن؟ ولماذا اضطر النظام إلى الصفقة التي يعقدها لتسليم ذلك السلاح الكيمائي اليوم؟ ولماذا لم يجد كذب النظام هذه المرة كما في كل المرات السابقة؟
كلنا شهدنا كيف أطلق النظام ماكينة كذب جبارة منذ اليوم الأول من الثورة السورية، ولم يكن هدفها منذ اللحظة الأولى خلط الأوراق وإغراق كافة الأطراف في دوامة لاتنتهي من التكذيب والتصديق والفبركة فحسب، بل أيضا، لتوفير مادة دائمة للحديث يحتاجها أنصاره بمواجهة الحقيقة الجارفة والكاسحة والتي أدركوها منذ اللحظة الأولى، ألا وهي أن هذا الشعب لم يعد يستطيع السكوت بعد الآن، وأن هذا الشعب يريد إسقاط النظام.
لم يستخدم النظام هذه الماكينة الجبارة لاستخدام واستغباء أنصاره البسطاء في الداخل السوري بل عملت على نحو جبار في المحيط الاقليمي والدولي. ولكنها عملت على نحو أذكى وأكثر دهاء بمساعدة شبكات ومافيات اقليمية ودولية ذات أهداف متعددة ومتنوعة بعضها معلن والآخر تحت الطاولة، ولكنها تجتمع على الدفاع عن استمرار الأسد مهما كلف الأمر. لذلك بدا لنا دائما، وعلى نحو مدهش، أن كشف الوقائع والتحقيق والبحث عن الفاعل لم يجد أبدا ولم يساهم في تغير المواقع في ظل التخندق المحسوم سلفا. ومن سوء حظ الثورة السورية أن هذا التخندق كف عن أن يكون مع الثورة أو ضدها .. فالمسألة السورية كلها لم تعد هناك منذ أكثر من عام.
وأعتقد أنه من سوء حظنا أيضا أن العالم يشهد في الوقت الراهن تخندقا جديدا على المستوى العالمي لأول مرة منذ أوائل التسعينات من القرن العشرين، وهذا التخندق ليس سني شيعي ولا اسلامي مسيحي ولا روسي امريكي ولا عربي اسرائيلي ولا ايراني سعودي ولا اشتراكي رأسمالي ولا مركزي طرفي، بل هو تخندق جديد لم ترتسم ملامحه بعد وربما لن ترتسم، لذلك نستطيع أن نشهد في كلا الخندقين سمات متناقضة ومصالح متناقضة. ومن هنا يمكن أن نجد تفسيرا لظاهرة عدم مساهمة كشف الوقائع والحقائق في تغير الموقف، وكذلك كيف أن كشف الكذب والاستغباء لم يؤثر على الانحياز والاستقطاب الشديدين. وكل جيلنا يتذكر كيف كان الشيوعي إلى الاتحاد السوفييتي ويعود مبهورا من هذه التجربة الرائعة بينما يعود غير الشيوعي أو اليساري الناقد ناقما وقرفا.
وكما كنا نتلمس في المعسكرين السابقين تغيرا في المشهد عندما كان يتفق الفاعلون الأساسيون في الخندقين المختلفين على قضية (اتفاقيات الحد من التسلح النووي، مثالا) بناء على توازن قوى ما. كذلك نشهد الآن تغيرا ونستطيع أن نتوقع لماذا لم يعد يجد كذب النظام السوري، في اللحظة الراهنة، حول المجزرة الكيميائية. فعلى الأرجح أن الاتفاقات والمفاوضات بين الفاعلين الرئيسسين في كلا الخندقين تدور حاليا بعيدا عنه. والتفوق العسكري الأمريكي عاد ليحسم الصراع بعد مايقارب الثلاث سنوات من التخندق الكبير الذي بدأ عند اللجوء الى القانون الدولي ابن الحرب الباردة السابقة.
كان من المتوقع أن العالم بعد انتهاء الاستقطاب القديم منذ أواخر الثمانينات من القرن الماضي سوف يعود بالتشكل مرة أخرى وعلى نحو آخر، وأن قوانينه سوف تصاغ من جديد. ولكننا لم نكن نتوقع أن نقطة البدء في عملية الانتقال هذه سوف تكون في سوريا وعلى حساب دماء زهرات شبابنا وثورتهم الديمقراطية. وكذلك لم يكن من المتوقع أن تبدأ محاولة عملية الانتقال هذه في ظل انعدام مشروع عالمي جديد وخواء فكري منقطع النظير. لم يستطع اليسار القديم أن يلعب دورا سوى الدور المحافظ والرجعي بأن بقي يدافع عن كل ماهو قديم واستبدادي، رغم بعض الاستثناءات اليسارية الهامة، ولكن اليسار الجديد ابن القرن الواحد والعشرين لم يولد بعد. وكذلك لم يستطع الاسلاميون ولا المسيحيون ولاالقوميون ولا الليبراليون طرح مشروع جديد للعالم يتناسب مع حاجات أغلبية البشر في العصر الحالي. فجميعهم مازالوا سلفيون ولم ينتجوا أفكارا لهذا العصر الديناميكي بعد. ومصيبتنا أن الآلام التي نعيشها الآن ليست آلام ولادة الجديد كما تقول المقولة الشهيرة، بل ربما تكون آلام انعدام الأمل من الجديد.