يعقوب كرّو مرّة ثانية


اسحاق الشيخ يعقوب
الحوار المتمدن - العدد: 4507 - 2014 / 7 / 9 - 22:11
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     


و أرى ان الذاكرة هي محفظة الاشياء التاريخية التي وعاها الانسان و انصرف عنها ... انها الاشياء المهجورة في محفظة وعي الانسان ...

و الذاكرة لا مسافة لها كأنها خارج مدى المسافات و الاوقات و الازمنة .. الا انها تلقائية عفو خواطر المناسبات و المسافات و الاوقات و الازمنة .. و ان حضورها منسوب الى اشياء مضت و انقضت في حلوها و مرها كأنها من صفات الانسان المنسوجة في وعي حافظته ... و لكن من ينبش الذاكرة من يحرك ذات ذاكرتها المحفوظة في وعي الانسان ؟!

ان عفو الخاطر الموصول بخيوط محفظة الذاكرة يشكل مؤشر حركة الذاكرة و استوائها وعياً مؤجلاً و حاضراً في وعي الانسان !!

اني في وعي ذاكرتك فأعي جماليتها في وعي جمالية ذاكرتي ...

و كنا في جمالية وعي دربنا نمسك ولا نمسك بحقيقة البروليتاريا التي تكبدنا و كبدناها خسران فشلنا ... و ما زلنا نتفادى الاخطاء في ذاكرتنا و خارج ذاكرتنا و نحن قابضين على جمر وعينا في نيران حرائق الحرب الاهلية المتصاعدة على الاراضي السورية ...

و في عام 1957 كنت اساكنه الوعي الثوري و نحن في بيت ( ام طوني ) .. هو طالب في جامعة دمشق – قسم الحقوق و انا مُطارد فكر و تنظيم على ارض وطني النائية عني و انا في دمشق الحالمة بالوحدة العربية : في البيطار و الحوراني و عفلق ... و كانت ذاكرة البروليتاريا تشدنا في ذاكرتها حتى تكاد تختلط ذاكرة ثورة اكتوبر الروسية المجيدة في ذاكرتينا .. كأن التاريخ اصبح طي قبضتينا هنا في دمشق و هناك في الرياض ( !!! )

يعقوب كرو الطالب في جامعة دمشق يدلف الدار عندي احياناً و هو مضمد بلفائف الشاش الطبية اثر صدامات طلابية بين اليسار السوري و الاخوان المسلمين ..

انها ذاكرة التاريخ بعينها اقول بيني و بين نفسي في حياة الامم و الشعوب بين الظلام و النور ...

و على رنين الهاتف مساء يوم امس و بعد مضي اكثر من نصف قرن يأتيني صوته مطمئناً بعد ان سمع اني في علاج من مرض خبيث ... هو ذات الصوت في بحته الرجولية و دفء نبضه الانساني .. و كأن جرح سوريا النازف اتوجده في جرح صوته فأجسه مجروح النّفْس و النَفَس ... إلا اني اعرف انه قوي الشكيمة واثق العزيمة كما عهدته فهو مسكون بمجد سوريا الذي لم يغب لحظة واحدة في حقيقة اليسار السوري الذي يجسد وعي انتصار الشعب السوري .. في الحرب الاهلية الطائفية و انهزامية الحاكمية الطائفية فيها ...

عندما كانت الوحدة بين مصر و سوريا تنامت الافكار شمالاً و يميناً و قد حذّر اليسار السوري يومها بوحدة عربية مشحونة المشاعر و العواطف القومية و كان فشلها المحتوم وفق ما حذّر عنه اليسار السوري ... يومها دخل يعقوب كرو السجن مع ثلة من خيرة الوطنيين اليساريين ... و حملت رحالي خارج سوريا الى بيروت فقد كانت الجريمة شديدة البشاعة في حرق جسد الانسان الوطني الكبير فرج الله الحلو بنار الاسيد و اذابته ... و كانت جريمة شنعاء نكرة ارتبطت بوحدة البعث و الناصرية على الارض السورية ...

إني في رحلة ذاكرة تأخذني الى اعتاب اكثر من نصف قرن يوم ان سمعت صوت يعقوب كرو اهتزت خيوط ذاكرتي و انا اسمع صوته من بعيد بعد غياب طويل فتذكّرت هذا البيت الشعري لقيس ابن الملوح :

و اني لتعروني لذكراك هزّة
كما انتفض العصفور بلله القطرُ

و كنت اريد ان أسأله : أيطول ليل دمشق التي أحببناها بزنابق ورودها و هزيز ذهاب و اياب صباياها ...

يومها كانت الحياة زاهية باليسارية ... يومها كانت احلامنا تفيض وعياً انسانياً في وعيها ...

هي الذاكرة استعيدها مرّة ثانية على رنين هاتف يعقوب كرو في صوته الذي يتقطع سوريا محزوناً قطعة .. قطعة في دماء اطفال و نساء سوريا ...

أسأله عبر الهاتف كم عمرك ... يأتيني صوته واثقاً محباً للحياة و لذائذ فواكهها ... في السبعين ... و انت ؟ اقول: في الثمانين ... فأقول بيني و بين نفسي 70 + 80 = 150 عاماً أشهد أنا عشنا طول الحياة و عرضها .. و سوف نعيش ما تبقى منها على ذات الطريق ... سلاماً هي حتى مطلع الفجر !!