-معاً- العمالية البغدادية تحاور آرا خاجادور


ارا خاجادور
الحوار المتمدن - العدد: 2365 - 2008 / 8 / 6 - 10:59
المحور: مقابلات و حوارات     

معاً: لم يشهد تاريخ الحركة العمالية كثرة في أعداد الإتحادات والمنظمات العمالية مثلما يشهد في هذه الفترة التي أعقبت إحتلال العراق. هل تعتبرون كثرة الإتحادات العمالية، التي وصل عددها الى (9) إتحادات أو أكثر، مرتبطة بحرية التنظيم النقابي، التي كان يمنعها النظام السابق، أم إحدى "نعم الديمقراطية" التي جلبتها الإدارة الأمريكية وقواتها الغازية الى العراق؟.
آرا خاجادور: في البدء أقول لا يمكن أن يجلب الإحتلال أي نوع من الديمقراطية، لأن الإحتلال بحد ذاته يُعد أقسى مصادرة للحريات الديمقراطية، حيث يُصادر حرية البلد بأكمله، وإن كثرة الإتحادات بحد ذاتها لا تعني حالة صحية أو مرضية، فالأمر يقاس من خلال الخدمات التي تقدمها الإتحادات والنقابات للعمال مهنياً ووطنياً، بمعنى حرية الوطن وحرية الأفراد.
وكما لاحظت في السؤال هناك تركيز على وصف الحركة العمالية، فهذا الوصف ينطوي علي مفهوم أوسع من المعنى النقابي، وأعتقد بأنه يشمل العمل السياسي والعمل النقابي معاً. ولاحظت في الحياة النقابية والسياسية أن هناك بعض التداخل قد وقع بين المفهومين في الممارسة العملية، وهذا بدوره ترك إنطباعاً لدى المنظمات النقابية المناضلة لدى الدول الأخرى، وفي نطاق الحركة النقابية العالمية تجاه وضعنا العراقي، وطرح البعض منهم عليّ تساؤلات في هذا الجانب، تفيد بأن هنالك بعض التداخل الزائد بين النقابي والسياسي في العراق، وأنا لا أنفي الصلة بين الإثنين، ولكن ينبغي أن تكون حدود العلاقة بين الجانبين واضحة للغاية، من أجل حماية وتطوير الإثنين معاً.
نعم في العراق هناك عطش للحريات الديمقراطية وللعمل النقابي، ذلك العمل الذي لم يمر بفترات إيجابية من حيث المناخ السياسي الذي يحيط به إلاّ ما ندر، ولفترات قصيرة للغاية، وإن الظروف المأساوية الحالية التي تحيط بالعمال وعوائلهم قد فرضت تنوعاًً في أساليب إنتزاع الحقوق. إن كثرة المؤسسات العمالية والنقابية والسياسية في جزء منها تعود الى الظروف السلبية التي تحيط بالبلاد على مختلف الأصعدة، وإن فوضى الواقع تنعكس بمزيد من الفوضى على الحياة النقابية، حيث نرى في المهنة الواحدة وجود عدة إتحادات وعدة نقابات، وهذا ليس خطراً إذا لم يتحول الى منافسة سلبية يمكن إستغلالها لمعاداة للوطن والعمال.
كما إن خيانة الأحزاب التاريخية في العراق، وتبرير خيانتها تحت طائلة أو ذريعة الإستفادة من هامش الفوضى أو الديمقراطية، قد خلقت حالة من الإغتراب، الذي تعزز بدوره نتيجة لإنقطاع الخبرة، وهذا الأخير زاد من الإرتباك السائد حالياً، وكل هذه الأسباب دعت البعض من شغيلة اليد والفكر نتيجة للحرمان السابق والبؤس الحالي الى البحث عن طوق نجاة من خلال الإنزواء صوب العرق أو الدين أو الطائفة أو العشيرة أو حتى الأحزاب المصنعة على حساب الوطنية العامة.
ومن الجانب الأخر، وبعد مرور خمس سنوات على الإحتلال، لم تجد الفئات والنقابات والإتحادات والأحزاب والشخصيات الوطنية والكتل الثورية التي وقفت منذ البداية ضد الإحتلال سبيلاً للتعاون المشترك، فقد ظلت أسيرة المواقف الضيقة، وهذا يشمل الإتجاهات اليسارية والوطنية والقومية والدينية التقدمية وغيرها مجتمعة، ولم تحصل إنعطافة جديدة في الحركة الوطنية، ولكن وعلى الرغم من هذا الواقع المر لا يجب علينا التشاؤم، إن معرفة الواقع لا تندرج في كل الأحوال في لائحة التشاؤم، إنها حالة ضرورية وخطوة أولى على طريق إحتواء الظروف القاسية والمؤلمة من أجل الإنطلاق الى أمام.
وعلى الرغم من هذه الأوضاع السوداء لا يجوز نكران النجاحات التي حققتها الحركة النقابية بكل أطرافها في الدفاع الملموس عن مصالح العمال والوطن ككل مؤخراً، وللعمال الفضل الكبير في إبقاء راية الوحدة الوطنية مرفوعة، وأفشلت النقابات الكثير من المشاريع لسرقة الوطن وثرواته، إن مواصلة الجهود من أجل خلق حالة راسخة من الإحترام والتعاون بين نقابات العمال المختلفة تُعيد الأمل الى الشعب كله.
في كل الأحول ينبغي أن تظل قضية طرد الإحتلال هي النقطة الأولى والمركزية، وعلى القوى الوطنية التي وقفت ضد الإحتلال منذ البداية أن توحد صفوفها بأسرع وقت ممكن، وأن تستخدم كل وسائل النضال الممكنة من أبسطها الى أعلاها، وفق برنامج سياسي واضح ضد الإحتلال وعملاء الإحتلال، ولإسقاط المعاهدة الإسترقاقية الجديدة التي يُعد لها في الظلام ينبغي تحشيد كل الجهود حتى قبل أن ترى هذه المعاهدة النور، وليكون شعارنا جميعاً: "لن نقبل بـ ـ بورتسموث ـ جديدة، ولن تمر المعاهدات الإسترقاقية، والأيام بيننا".
وعلى النقابات والإتحادات الوطنية حقاً العمل من أجل التخلص من الأفكار الإنعزالية والذاتية، وأن تأخذ بمنتهى الحذر والجدية متطلبات التصرف السليم لعملها وسط الجماهير والفئات الإجتماعية المختلفة، فالنقابي في حالة كونه يعمل في حزب سياسي أم لا عليه ألاّ ينسى للحظة الفارق بين الدورين والمهمتين، وعليه أن يحتكم لقانون النقابة أو الإتحاد أولاً وآخراً، وليعلم الجميع بأن الكفاح من أجل خبزة الفقراء في جزء كبير منه كفاح ضد الإحتلال، ألم يستغل الإحتلال وعملاؤه جوع بعض الفقراء لوضعهم في زاوية حرجة، على العمال وهم طليعة الشعب، وهم قوة توحيده، أن يناضلوا من أجل الحقوق النقابية والوطنية خارج حدود التعصب وخارج كل المظاهر والظواهر التي أراد الإحتلال تركيزها ووضعها في المقام الأول.
مهما تعددت وكثرت النقابات والإتحادات، وتنافست فيما بينها، وحتى إذا تصارعت وإنشطرت ففي لحظة معينة ستجد المخلصة منها وغير المصنعة لأغراض معادية للعمال والوطن نفسها في وضع التفاهم والتنسيق المشترك، وكما يقول المثل: الغربال لا يحجب نور الشمس، أي إن مصالح العمال معروفة وواضحة، كما هي مصالح الوطن ككل.

معا: إن تاريخ العراق خلال عقود الثلاثينات والأربعينات والخمسينات والستينات هو تاريخ الحركة العمالية. بل ونستطيع أن نقول بأن الحركة العمالية ساهمت بشكل كبير في رسم الملامح السياسية في العراق. فعلى سبيل المثال فأن إضرابات رسوم البلدية ورفع سعر الوحدة الكهربائية التي قادتها جمعية أصحاب الصنائع شلت بغداد، وإضرابات كاورباغ في 1946 أسقطت الوزارة، وإضرابات الخمسينات والستينات للعمال في العديد من القطاعات الصناعية على مستوى العراق هي إحدى العوامل في دفع القوى القوى القومية، وبدعم من المخابرات المركزية الأمريكية في السيطرة على نظام الحكم وقمع الحركة العمالية، وكذلك إضراب عمال الزيوت النباتية في بغداد في 5 تشرين الثاني من عام 1968 هزت الحكومة أنذاك مما أدى الى قمعها بوحشية..الخ. هل نستطيع إن نقول أو نأمل بأن الحركة العمالية بمقدورها أن تنهض من جديد، وتلعب دوراً ريادياً في تغيير الأوضاع السياسية في العراق؟.
آرا خاجادور: لا شك في أن هنالك فروقاً موضوعية بين العقود التي أشرتم إليها وعما نواجهه اليوم، فقد كان الأمر مختلفاً محلياً وإقليمياً وعالمياً، حيث كان الصعود الثوري في أبهى صوره، والقيم التي تحكم الضمائر والسلوك وحتى الحياة نفسها أصدق وأوضح وأعمق. ففي فترة قصيرة إستطاعت النقابات الأهلية في العراق أن تنال إجازاتها، وفي العامين 1945 و1946 أجيزت 13 نقابة من 14 نقابة، وقد جرى إستثناء نقابة عمال النفط فقط لأسباب غير مجهولة على أحد، وقد تعرضت بتفصيل وافر لهذه الأمور في كتابات سابقة. حيث أشرت الى أن الشركات الإحتكارية وعلى الرغم من إضراب كي ثري وكاورباغي رفضت منح عمال النفط حقهم الطبيعي في تأسيس نقابة لهم، وكما هو معلوم فإن الشركات الإحتكارية هي الحكومة الفعلية في العراق. نعم كان تاريخاً مجيداً ناصعاً.
واليوم فإن الأبناء والأحفاد يخضعون لذات القيم، ولكن حجم القهر أثقل بفعل الإحتلال، وإن مطاليب اليوم التي يرفعها عمال النفط في البصرة وكركوك وكي ثري وغيرها تكاد تكون ذاتها في كاورباغي قبل أكثر من 60 عاماً، زيادة الاجور، توفير السكن، أو قطعة أرض، بعض العدل في مجال الخدمات، وتوزيع الحقوق وما الى ذلك، وفي ذات الوقت تطرح الهموم الكبرى للشعب وسيادته على نفسه.
إن الظروف الراهنة أكثر تعقيداً من أي وقت مضى، ولكن من حقنا أن نأمل بأن تنهض الحركة النقابية والعمالية من جديد، وتلعب دوراً ريادياً في تغيير الأوضاع السياسية في العراق، وهي على هذا الطريق تسير بثبات، ولكن الأنين أعلى، والجوع ينهش، والخوف من المستقبل يخيم على العوائل، والظلام دامساً، في هذه الظروف القاهرة ينظر الناس في العراق وخارجه بارتياح الى النضالات العمالية، لأن العمال قدموا أكثر من دليل يبرر الثقة في البصرة وبغداد والأنبار والسليمانية والناصرية وكل مدينة وقرية عراقية، ولكن ليس من مصلحة الإعلام المهيمن تعميم كل التجارب، وكل ما وقع، ولا تصل الى الناس إلاّ تلك الأحداث التي تعجز أجهزة الإحتلال عن إخفائها، إن ما عُرف من نضالات العمال دغدغ الأمل في النفوس بل قال البعض: هذا هو العراق.
وفي كل الأحوال نقول إن الإضراب تمرين على طريق توحيد القوى الشعبية والعمالية وإنتزاع الحقوق، وأدعو في هذا اليوم عمال التصفية في بيجي والدورة والبصرة وغيرها، وعمال وحدات النقل في كركوك وكي ثري وغيرهما الى إرسال مواقف التضامن لبعضهم، والى اخوانهم في أي موقع تنطلق فيه قولة "لا". لا للمعاهدة الجديدة، لا لقانون النفط اللصوصي، لا لسرقة خبز الناس وأمنهم وعزتهم الوطنية.
نعم يقع الدور ذاته على عمال الفيحاء كما عمال الحدباء، وبغداد وطاسلوجة وكي ثري. اليوم الكل مطالب باظهار صورة جديدة للوحدة النقابية والعمالية على طريق الوحدة الوطنية، ومن أجل إفشال عمليات تقنين السرقة من خلال قانون النفط سيء الصيت والهدف والنتيجة. نعم إن العمال في العراق حافظوا على العراق الواحد الموحد، الصلب والصبور على الرغم من قسوة ظروفهم الفردية الخاصة.
إن الطبقة العاملة العراقية تعلن وبصوت عال بأن معركة الحقوق المشروعة هي التي سوف تحسم مصير الإحتلال وأمراء الطائفية والعنصرية لصالح الوحدة الوطنية العراقية، تلك الوحدة التي هي مصدر رفاهية الشعب وأمنه وإستقراره في الغد القريب، إن النقابات تدافع عن العراق والعراقي بعيداً عن الأوصاف الضيقة. وإن جماهير العمال ومعهم شعب العراق والقوى التقدمية العربية والعالمية تؤكد على أن المعيار الذي يعكس طبيعة أية حكومة هو موقفها من العمال وحقوقهم وموقفها من دفاعهم عن تلك الحقوق.
وفي ذات الوقت نطالب بالإعتماد على القوى الذاتية أولا، وبالدرجة الأولى، وعلى الدوام، الى جانب الإهتمام بالحلفاء الطبيعيين، ونبذ الإعتماد على القوى الأجنبية، الإقليمية منها والعالمية، مع تحريم الإستقواء بالأجنبي على أبناء الوطن. إن الإنحدار الذي وصل الى درجات أسوء من الإحتمالات التي قد تخطر على البال، أو لا تخطر، أو يمكن تخيلها على الأقل، سوف يقوض كل آلات الكذب، وكل مشاريع الإحتلال وعملائه بكل أنواعهم ودرجاتهم.
نستذكر في هذه الأيام مآثر وبطولات وتضحيات طبقتنا العاملة العراقية التي إستلهمت وفهمت أهمية التنظيم من أجل إنتزاع الحقوق، فكانت إضرابات عمال الصنائع، والموانيء والسكك والسكاير والنفط ... كاورباغي ومسيرة"كي ثري" ... والنسيج والزيوت وغيرها. وكانت للطبقة العاملة إسهاماتها البارزة في ثورة الرابع عشر من تموز 1958، وبعد الإقرار الرسمي بشرعية العمل النقابي وإجازة الاتحاد العام ظهر دور العمال في حماية الثورة نفسها وبناء العراق.
إن النضال العمالي في العراق بدأ مبكرا مع النشأة الأولى للطبقة العاملة، وكانت في هذه المسيرة محطات مهمة مثل: أضراب عام 1936 لتأييد العمال الفلسطينيين المضربين في حيفا، وبهذه المناسبة نؤكد على الترابط العميق بين نضال الشعبين العراقي والفلسطيني، وبهذا النضال إرتبطت ايام خالدة مثل تأسيس اتحاد الطلبة العام عام 1948 في ساحة السباع في بغداد، ومن المحطات المهمة كان إضراب كاورباغي، ومسيرة عمال K3 كما أسلفنا.
إن النضال النقابي والطبقي العمالي قام ونهض ضمن النضال الوطني العراقي، وهذا أكسبه سمات خاصة مختلفة حتى عن دول الجوار القريبة، والسبب يعود الى أن الطبقة العاملة العراقية نشأت في المراكز التي أقامها المحتل الأجنبي لخدمة مصالحه في النفط والسكك والكهرباء وغيرها، لذلك كان الصراع مباشر مع القوى الإستعمارية من جانب العمال، ولأن الطبقة العاملة العراقية كانت على إحتكاك مباشر مع المحتل من خلال مؤسساته التي أقامها لخدمة أهدافه من مواصلات وسكك وموانئ وغيرها. ففي مصر مثلاً نشأت الطبقة العاملة في صناعة القطن الوطنية، وفي سوريا في صناعة النسيج والصابون وغيرهما مما يعتمد على الزراعة الوطنية.
تقول المصادر الغربية بأن الشيوعيين هم بناة النقابات، وهذا صحيح، وهذه حقيقة لا عيب فيها للشيوعيين أو للنقابات، في إضراب عمال كاورباغي كان الدرس الأول في وحدة العمال العراقيين من مختلف الأطياف، فقد كان الخطباء يلقون كلماتهم بالعربية والكردية والتركمانية والاشورية والارمنية، وكان الإنسجام رائعاً بين كل العمال الذين ينحدرون من كل العراق لأن الهدف كان واحداً، وسيبقى كذلك رغم كل ما نرى اليوم بفعل تاجيج المحتلين وعملائهم لكل النزعات البدائية الغريبة على العراق وأهله الحقيقيين.
في كاورباغي شُكلت لجنة لقيادة الاضراب من العمال الشيوعيين وأصدقائهم ضمت (جون ساهاكيان، وهو أول شيوعي في شمال العراق، حنا الياس، دنخايلدة، حكمان فارس، ورسول كريم) بدأ الاضراب في منطقة كاورباغي، وكانت مطاليب العمال تتلخص بتحسين ظروف العمل، وزيادة الأجور، وتوفير وسائط النقل المناسبة، والإعتراف بحق العمال في التنظيم النقابي، وتوفير ضمان الإجتماعي ضد المرض والعجز وإصابات العمل وإيقاف الطرد الكيفي.
وبعد 12 يوماً من الإضراب لم تحتمل الحكومة ولا أسيادها في شركات النفط تنامي الوعي العمالي، وبدأت الشرطة بإطلاق النار على العمال المضربين فاستشهد 16 عاملاًً وجرح 27 آخرين، وفي اليوم الثاني من الإضراب تجمع الناس في مظاهرة كبيرة لم تشهد مدينة كركوك من قبل مثيلاً لها، وذلك للتنديد بالإعتداء الإجرامي الذي قامت به الشرطة، وطالب المتظاهرون بإطلاق سراح 22 عاملاً معتقلا. وقد تطوع للدفاع عن العمال المعتقلين 54 محامياً وطنياً بالمجان، ومع الإستعداد لدفع ثمن الوقوف الى جانب المضربين.
وقدمت مسيرةK3 درساً رائعاً أيضاً حيث كان قائد المسيرة ووجهها العلني العامل المندائي العماري شنور عودة، وهو معلم مفصول جاء الى سوق العمل فيK3 من أجل لقمة العيش. وقد جسدت قيادته العلنية للاضراب، ومسيرة المضربين بإتجاه العاصمة بغداد الوحدة الرائعة بين شغيلة الفكر واليد، وبين العمال وكل أبناء الشعب. وفي الحالتين، كاورباغي وK3، ما كان للقادة النقابيين أن يلعبوا تلك الأدوار المشهودة ولو تعاون القادة النقابيين المحليين معهم في كركوك وحديثة، وما كان لمسيرة K3 أن تقطع مسافة تزيد عن 200 كيلومتر لولا دعم الأهالي للعمال في طريق مسيرتهم عبر مدن الفرات باتجاه العاصمة بغداد.
إن منظمات الحزب الشيوعي العراقي المقاتلة من أجل السيادة والاستقلال وحقوق العمال لعبت أدواراً مهمة في قيادة الإضرابات الكبيرة والصغيرة في تاريخ العراق، فقيادة إضراب كاورباغي كانت على صلة بالرفيق فهد مباشرة. وفي كي ثري سيطر العمال على مفاتيح ضخ النفط ومحطات توزيع البانزين بقيادة مباشرة من الشيوعيين حيث إضطر المسؤولون البريطانيون الى طلب حتى وقود سياراتهم من لجنة الإضراب التي عُرفت بـ ـ حكومة شنور عودة ـ. بموافقات مكتوبة، وهذه النقطة أي السيطرة على مفاتح ضخ النفط من قبل العمال تكتسب أهمية إستثنائية في هذه الأيام حيث تجري عمليات سرقة وتهريب النفط العراقي من قبل قوات الإحتلال وعملائهم والمليشيات بدون رقيب او حسيب، ومن المناسب التذكير بضرورة دراسة تجارب عمالنا البطولية والذكية السابقة.
وكانت ثورة تموز 1958 منعطفاً حاداً في تاريخ النضال العمالي العراقي، من حيث إتساع نطاق العمل النقابي، وإقرار بعض الحقوق، وكذلك إزدادت في الفترة ذاتها محاولات شركات النفظ لشق وحدة الحركة النقابية والعمالية العراقية من خلال مفاوضات النفط. نعم إن للحركة النقابية والعمالية تاريخ ناصع ينبغي أن نحافظ عليه اليوم وغداً أيضاً، وأن نستلهم تجاربه ودروسه، إنهم يخافون العمال خوفاً حقيقياً غير معلن، وقد لاحظ الجميع أن النضالات العمالية في كل أجزاء الوطن كانت عراقية الطابع والتوجه، والنزعة الوطنية العراقية هي السلاح الفعال بيد الشعب لا سيما فقراء منه على وجه الخصوص.
معا: لقد شغلتم مركز رئيس نقابة النفط في نهاية الخمسينات ثم شغلتم موقع رئيس اتحاد نقابات عمال العرق، وعليه لديكم تجربة نضالية في الحركة العمالية، وعلى أعلى هيئاتها القيادية، ماهي أوجه المقارنة بين أوضاع الحركة العمالية في مرحلة الخمسينات والستينات مع هذه المرحلة؟ ما هي أهم الشواخص للمرحلتيين؟.
آرا خاجادور: أن وجه الشبه في الفترتين هو أن العمال لا مصلحة لهم بالأوهام العرقية والطائفية، وبالتعصب بصفة عامة، وهم رأس الرمح في الدفاع ليس عن حقوقهم فقط بل وحقوق الوطن كله.
وإن النضال العمالي في العراق بدأ مبكراً مع النشأة الأولى للطبقة العاملة، وكانت في هذه المسيرة محطات مهمة أشرنا إليها قبل قليل. إن نضالات الطبقة العاملة العراقية لا تقف عن حدود أهميتها التاريخية، ولا عند اهدافها المرحلية، بل هي تخدم اليوم نضالنا الراهن ضد الاحتلال، خاصة اذا إستطعنا إستخلاص العبر من تلك التجارب الكبيرة والباهضة الثمن.
أن وعي القيادات العمالية ليس في كل الظروف يلتقط الفوارق بين خصائص كل حالة على حدة، فمثلاً طالب البعض منا برفع الإجور في الشركات الأهلية الصغيرة دون المقارنة بين إمكانيات الشركات الأجنبية مثل شركات النفط والشركات الوطنية في حين يتطلب هذا الموقف الوضوح في التعامل مع الجهتين، أي أن نعرف إمكانيات كل طرف حيث لا نستطيع أن نطالب الشركات الوطنية الضعيفة بنفس مستوى الأجور الذي تدفعه الشركات الأجنبية، أو أحياناً المستوى الذي نفرضه على تلك الشركات، وهذه النقطة كانت موضع مناقشة معي بمشاركة أربعة من أعضاء المكتب السياسي (سلام عادل، محمد حسين أبو العيس، محمد صالح العبلي وجورج تلو).
وكان من ميزات سلام عادل أنه يعتمد على أصحاب الإختصاص في كل موضوع، وبعد الاجتماع أرسلوا الصحفي إبراهيم الحريري لمقابلتي لإعداد مادة تعمم في الصحافة الحزبية، وصدر لاحقا كراس باسم الحزب حول سياسة النقابات، وبإختصار قلت في تلك المقابلة: لنا أكثر من سياسة؛ سياسة تجاه الشركات الأجنبية، وأخرى تجاه الشركات الوطنية، وثالثة تجاه المؤسسات الصغيرة التي تشغل أقل من خمسة عمال وغير مشمولة بقانون العمل.
أن الحزب العمالي الذي يقود نضال الطبقة العاملة عليه ألا يقع في وهم أن الطبقة من أملاكه الخاصة، وهذه الخلاصة الأخيرة واحدة من أهم خلاصات تجربة الطبقة العاملة عالمياً. بدون العمال لا توجد تنمية، بدون العمال لا يمكن تحقيق التحولات الإجتماعية الثورية، وإن الإنطلاق الكلي لقدرات العمال يتطلب وجود ديمقراطية نقابية ومدنية إضافة الى ديمقراطية العلاقات الصناعية، وقبل كل هذا وشرطاً له أن يكون البلد المعني حراً وسيداً على نفسه ومستقلاً إستقلالاً كاملاً.
يقول عمال العراق بلغة واحدة إن الإحتلال ينشر الرعب والقتل والدمار والمليشيات التي فرضت نفسها على المجتمع، وفرضت سلطتها وأعرافها في العديد من المناطق المبتلاة بهم. وشرعت هذه القوى في تقسيم المجتمع وتفتيته على أساس اللغة والدين والمذهب، وتقاسمت السلطة على أساس المحاصصة الطائفية والدينية والقومية، وأدخلت المجتمع في آتون صراع طائفي دموي راح ضحيته الآلاف، ومازال يفتك بالأبرياء يومياً. ويقول ممثلو العمال وفي أدبياتهم المختلفة، ويفخرون في الوقت ذاته بأنه في وسط المذابح الطائفية والاقتتال الدموي لم تسجل ولا حتى حالة شجار بين العمال في المصانع وأماكن العمل على أساس المذهب أو المعتقد.
ومن أقصى الشرق كتب: د. اناتولي اوتكين، الباحث الروسي مقالا موسوماً بـ (المغامرة في بلاد الرافدين.. نهاية التسلط الأمريكي) جاء فيه: إن ضفاف دجلة والفرات شهدت نهوض وسقوط حضارات كثيرة. والآن تشهد بلاد الرافدين محاولة للإتيان بحضارة جديدة على الدبابة، وهي محاولة مآلها الفشل لأن الحضارة أكثر تحصيناً من درع الدبابة ولا يقدر على إعادة بنائها إلا جبروت الزمن في ظل الظروف المناسبة."كراسنايا زفيزدا" 21/4/ 2006 – وكالة نوفوستي. ونذكر مجدداً، وللمرة الألف حتى بتصريح نوري السعيد بعد وثبة كانون : لا تهمنا الوثبة بقدر ما يهمنا التحرك الذي أعقبها من إضرابات وتنظيم.
إن عمال النفط العراقيين حرصوا على مدى تاريخهم كله على وحدة نقابتهم من بابا كركر الى البصرة، ومن عين زالة الى تي وان، وإن بقية الشرائح العمالية ليست أقل شأناً من عمال النفط، ولكن العدو يركز على عمال النفط بصفة خاصه، وأظن أن الكل يذكر كيف أباح الإحتلال نهب الدولة كلها مع الحفاظ على وزارة النفط فقط، إن رائحة النفط تثير أعصابهم ولعابهم، إن وعي عمال النفط العراقيين وعامة العمال إلتقى في المؤتمر الأول بعد ثورة 1958 وحضر مندوبو 52 نقابة مركزية من كل العراق ذلك المؤتمر ليمثلوا 375 ألف عامل حينذاك، وهذه قوة هائلة لا تقهر، ولن تموت في نفوس العراقيين تلك الذكرى، ولكن منطق الحياة فيه مد وجز، واليوم أقول إن كل مؤشرات المد بدأت تتململ في نفوس العمال من أجل ألاّ يضيع الوطن، وهذا الإستنتاج الأخير هو كل ما تعلمته وعرفته من العمال، إنهم براكين لا تستطيع حاسبات العدو إدراكها، وأحياناً تذهل حتى الأوساط الرخوة القريبة من العمال.
وقد يعتقد بعض العمال الثوريين أنهم ليسوا على صلة بماضي التجارب الثورية التي إجتاحت الوطن في فترات مختلفة، وهنا أستطيع أن أضيف بهذا الصدد، ومن خلال التجربة الماضية، أن هنالك حبلاً سرياً تنتقل من خلاله التجارب الثورية حتى وأن بدت لأصحابها وأعدائها بأنها غير متصلة على الإطلاق.

معا: تحاول الأحزاب الموالية للحكومة وأرباب العمل ورأس المال أن يفرضوا إنطباعاً وتصوراً بأن الإتحادات العمالية يجب أن تكون مستقلة في حين تسيس هي الإتحادات العمالية عن طريق فرض التصنيف الطائفي والديني على تلك الإتحادات. ما هي الخطط التي تضعونها لإفشال مخططات تلك القوى؟

آرا خاجادور: إن كل الحكومات الرجعية تقول بفكرة النقابات المستقلة، وهي تعني بذلك وجود نقابات لا تدافع عن العمال، ولا تهتم بمصيرهم، إنهم على طول الخط يريدون نقابات تعمل لصالحهم فقط، يريدون مؤسسات تابعة للحكومة من أجل ممارسة الخداع ضد العمال، وضد حقوقهم النقابية والوطنية، نحن أنصار إستقلال النقابات الحقيقيين، ولكن بمفهوم مختلف، مفهوم يدعو الى منع التدخلات الخارجية في إستقلال النقابات، ومنع الهيمنة عليها حتى من الأحزاب العمالية وغير العمالية، على العمالي أن يتعلم كيف يخدم العمال من خلال نقاباتهم، وكيف يخدم حركته التي تريد تغيير المجتمع كله.
كان "على شكر" رئيس نقابة السكك عضواً قيادياً على صعيد الحياة الحزبية أيام الرفيق فهد، ولكنه في إطار الحركة النقابية ينظر إليها بأنها مؤسسة ليست حزبية، وليس في مصلحتها أو مصلحة الحزب بأن تكون حزبية، وهكذا كان سلوك وموقف كل العماليين الثوريين.
يجب أن تبقى الإتحادات مستقلة، وهذا موضوع مهم للغاية لحركتنا النقابية اليوم وغداً، وليس من السهل الحفاظ على إستقلال الحركة النقابية، لأن مثل هذا الإستقلال يتطلب وعياً عميقاً عند كل الأطراف المعنية، وينبغي في الوقت ذاته الحذر أيضاً من الدعوات المبطنة التي تخفي وراء شعار إستقلالية النقابات محاولات لعزلها عن الدفاع عن حقوق الشعب، أن العمال لا يسبحون في فضاء فارغ، إنهم يعيشون وسط الحياة، بل هم الذين ينتجون معظم الخيرات من أجل إدامة الحياة نفسها، لهذا تقع عليهم وعلى الآخرين مسؤولية رسم العلاقات الناجحة والصحيحة بين كل الأطراف. إن الحركة النقابية تواجه التدخلات من أوساط عديدة من الحكومات والشركات والأحزاب بما فيها التقدمية، عن وعي وعن عدم وعي وقصد. إن نضال العمال لا يتجاهل أي قانون في صالحهم، وفي كل الظروف، سواء تلك التي تنص عليها إتفاقيات وتوصيات مكتب العمل الدولي، أو القوانين المحلية، والعراق من الدول الموقعة على إتفاقيات مكتب العمل الدولي.
بعد ثورة تموز 1958 زرت جنيف ممثلاً للعمال، ومثل الحكومة الأستاذ ناثر العمري، ونائب المدير العام لوزارة الشؤون الإجتماعية الأستاذ تقي عبد الهادي، وممثل إتحاد الصنات الأستاذ أديب الجادر والأستاذ ابراهيم حسن. وربما من المرات القلائل في تاريخ العراق تكون فيه العلاقة غير متوترة بين الحكومة والعمال، إنها ثورة تموز في بدايتها، ولكن حتى في ذروة التفاهم مع الثورة لم تكن النقابات تتفاوض أو تتعامل إلا مع وزارة العمل والشؤون الإجتماعية، ولكن الحكومة الحالية تدفع وزارة الداخلية الى التفاوض مع العمال، وليس وزارة الشؤون الاجتماعية، كما حصل في المفاوضات مع عمال نفط البصرة الأبطال، وعلى الرغم من أن نظرتي واحدة لكل وزارات الحكومة الحالية، ولكن على الأقل كان من المفترض مراعاة الجوانب الشكلية، ولكن كان الهدف كما يبدو إرهاب العمال من خلال إرسال ممثلاً لوزارة الداخلية للتفاوض مع عمال البصرة الذين يطالبون بحقوقهم العادلة، وهل العمال لا يعرفون بوجود وزارة الداخلية ووجود الاحتلال، إن العمال هم وفق موقعهم من الإنتاج وتاريخهم الأشد صلابة في المواجهات.

إن إفشال خطط الحكومة يتم من خلال التنظيم الجيد والتعبير الصادق عن حقوق العمال الطبقية والوطنية، ومن خلال خلق القائد النقابي الذي يحظى بثقة العمال، إن العمال لا يمنحون ثقتهم بسهولة، ولكنهم عند الإقناع بقادتهم يتحولون الى قوة صلبة لا تقهر، أن العمال هم يفهمون حقائق الحياة وصعوباتها، وعلى هذا الأساس هم الأجدر بتقدير من يدافع عنهم بحق وشجاعة العمال، يكرهون المنتفعين، ويحبون الأمانة، والتسلح بالشرف الشخصي والوطني، إنهم أكثر الناس واقعية في معرفة القوة الذاتية وقوة الخصم، ولكنهم عندما تقرع أجراس وطبول معركة ما فإن لهيبهم حارق ولا يقاوم.

معا: تحاول حكومة المالكي إجراء انتخابات وفرض اتحاد على العمال مع عدم السماح للإنتخابات في القطاع العمالي مستندة على قرار النظام السابق القاضي بتحويل العمال الى موظفين، وهو قرار 150 لعام 1987. ماهي رسالتك الى عمال العراق بهذا الخصوص.

آرا خاجادور:
إن الطبقة العاملة لا تلغى بقرار، ولا تغيّر من وضعها الإجتماعي وفي الإنتاج المراسيم، وإذا سمي العامل موظفاً هل ينعكس ذلك على وضعه الإقتصادي وموقعه من العملية الإنتاجية، إنها نظرة سطحية للغاية الى البنية الإجتماعية.

وإذا كان الهدف تحيد نضال العمال، نقول كما قلنا بالأمس، ونقول اليوم وغدا،ً إن أوضاع العمال تتغير بالقضاء على الإستغلال، وإيقاف عمليات سلب قوة عملهم، وإذا كان هدف الإصرار على تحويل العمال الى موظفين لحرمانهم من إتحاداتهم ونقاباتهم نقول إن التنظيم النقابي إمتد الى جميع الوظائف بما فيها أجهزة القمع الحكومية، وفي مجتمعات السلب والنهب والسرقة هل يكون النضال مقتصراً على العمال، لا الكل يناضل وإن كان العمال على الدوام في مقدمة الصفوف.
ينبغي صيانة استقلال الحركة النقابية وعدم التدخل في الشؤون النقابية ليس فقط من جانب الحكومات بل وحتى من جانب القوى التي تدعم النقابات عن قناعة وطيب خاطر وتؤمن بضرورة وجودها.
لقد كتبت مقالاً بتاريخ 22/11/2005 موسوماًً بـ " هل النقابات العراقية الأساسية تدعم الاحتلال؟!" جاء في جزء منه:
يرى كل نقابي حقيقي، أن هنالك محاولات جدية؛ لإقتلاع جذور الحركة النقابية في العراق المحتل؛ ولحد ما، ساهمت بعض الإتحادات المصنعة محلياً وفي الخارج بدور مشؤوم في هذا الصدد، ظناً منها، أن الحركة النقابية قد ماتت. والى جانب هذا، فان بعض (القادة النقابيين) ينفذون الدور المطلوب، الذي يندرج ضمن خطط قوات الإحتلال التي تدير أحزاباً ونقابات مقطوعة الصلة بمن يفترض إنها تمثلهم.
إن إنتزاع بعض الحقوق، أو تسجيل أي إنتصار للعمال، أو عامة الكادحين في معركة إنتزاع الحقوق النقابية، إو الوطنية العامة يعني- وكما هو معروف- تطوراً عظيماً في طاقات العمال النضالية من أجل تحرير الوطن المحتل، وإقرار حقوق الكادحين، وهذا أمر تحاول أطراف عديدة سد المنافذ إليه، ولكن هيهات.
قال أحد النقابيين الأجانب قولة حق بصدد تقويم الماضي، تفيد بأن الشيوعيين هم بناة الحركة النقابية العراقية وقادتها، وجاء ذلك في معرض تناوله لموضوع زيارة وفد قيادات الإتحادات النقابية العراقية الى أمريكا، بدعوة من قبل النقابات الأمريكية المعادية للحرب في العراق. نعم وكما قال الكاتب، أصبح الحزب الشيوعي العراقي أقوى حزب في الشرق الأوسط، أقول نعم بل أصبح أوسع من ذلك، وأصبحت له صفات مرافقة، وهي حزب الشهداء والمقاتلين، وحزب المليون متظاهر. نعم لقد تمتع حزبنا بهذا الوضع، وفي ذلك الوقت عندما كان حزب الوطنية الحقة، ونتساءل اليوم مع الكاتب: الى اين وصل الطرف المتعاون مع الاحتلال؟. أو نقول في تعبير شديد الديبلوماسية؛ الساكت عن الإحتلال.

إن شعبية أي حزب تأتي من وضوح خطه الوطني، ومن نزاهة أعضائه وصلابهم في الدفاع عن الحقوق، وإن البطش من قبل الأعداء لا يُضعف الحزب الثوري بل يقويه، ويشد من أزره في المواجهات، لقد حاول المحتل تدمير المفاهيم والقيم الثورية قبل تدمير الثوريين كأشخاض، لأن المحتل يدرك أنه في النوع الأول من الضربات يكون الشفاء منها عسيراً للغاية، وأما الضربات من النوع الآخر قد لا تعرقل المسيرة الثورية.

كانت نقطة البدء وما تزال في عملنا الراهن الدعوة الى تحقيق الترابط العضوي بين النضال الطبقي والنضال الوطني، بين النضال النقابي والوطني، وهذا هو سر نجاح حزب المليون متظاهر ـ مظاهرة الاول من ايار/مايو في بغداد عام 1959ـ. وكثير ما قلنا في الماضي وركيزنا على النضال الإقتصادي والطبقي في المؤسسات الأجنبية مثل: الحبانية والشعيبة ـ معسكرات قوات الإحتلال البريطاني ـ وشركات النفط والمؤسسات الحكومية، التي كان يقودها الجنرالات الانكليز، مثل: السكك الحديدية، وميناء البصرة، وشركة الكهرباء، وغيرها من المؤسسات، التي كانت هي نقطة البدء، وذلك من خلال دمج النضال الطبقي بالنضال الوطني التحرري، والذي فرض على القوى الوطنية حينذاك أن تتعاطف وتؤيد نضال العمال.
الرفيق فهد لم يكتفي بتبني هذا النهج بل مارسه بشكل عملي، حيث ربط النضال الاقتصادي بالنضال السياسي. ومنذ بداية الأربعينيات لم يمر إسبوع واحد دون إضراب عمالي أو إضراب طلابي ومن قبل فئات شعبية أخرى، فتراه يدعو بعد فترة العمل الى تجمع المضربين والجماهير الشعبية في باب المعظم، وفي أكثر الحالات كانت تنبثق من هذه التجمعات مظاهرات شعبية تتحول الى مظاهرات سياسية، وترفع الشعارات السياسية لدعم وتأييد المطالب العمالية والحريات العامة.
هذا الإسلوب يُشعر العمال بأنهم ليسوا وحدهم، وإن الشعب معهم، وعند ذلك يتملكهم الحماس والشعور بالقوة والقدرة على الإستمرار في الإضراب أو أشكال النضال الأخرى، ومن الناحية الأخرى تشعر الجماهير الطلابية والشعبية بأهمية دعم مطالب العمال، الذين ينزلون الى الشارع للدفاع عن مصالحهم ورزقهم. هذا في الواقع، هو التمرين الذي خلق الوعي السياسي، عند جميع الشغيلة والطلاب وغيرهم من القطاعات الشعبية الأخرى.
لا أتغنى هنا بأمجاد غابرة، ولكن اؤكد على ربط النضال الإقتصادي بالنضال السياسي من أجل خدمة كفاح اليوم والغد، إن فترات الإنحسار خادعة لمن لا يعرف سلوك الشعوب في المنعطفات الحادة، وهكذا لم يفهم الكثيرون العديد من الثورات الكبرى في التاريخ، وعدم الفهم هذا قد ينطبق في بعض الحالات حتى على بعض الثوريين الذي يروجون لإسلوب واحد في الكفاح، إن كفاح الشعوب يتكامل مع بعضه، ولا يجب الإنتقاص حتى من الكلمة الطيبة فقط، لأن تلك الكلمة الطيبة قد تجيش العشرات من الأشخاص الشرفاء والبواسل للقوة الثورية المقاتلة.
وأقول بفخر بأن عمال النفط حافظوا على التراث الثوري والطبقي والوطني لنقابة صناعة النفط التي نالت شرعيتها لإول مرة بعد ثورة تموز 1958. وكان لي شرف تأسيسها. فهذه النقابة وقفت بصلابة ضد محاولات المحتلين وخدمهم للاستيلاء قانونياً على النفط العراقي من خلال إدعاء الخصخصة والإستثمار. نعم، وفي قلب واشنطن صرح ممثلو النقابة العامة لعمال النفط، بأنهم سيركعون المحتلين، ويؤكدون بأن النقابة ليست حزباً سياسياً، وبأنها تضم في صفوفها جميع القوميات والأديان والطوائف... هذه هي صفة التنظيم العمالي الطبقي والوطني.
أجل، تحتل الحركة النقابية على النطاق العالمي دوراً هاماً، خاصة في هذه الأيام، التي يزداد فيها دور العولمة في العالم، وفي بلدنا أيضاً، وفي هذا الظرف الذي وقع العراق فيه تحت الإحتلال الأجنبي. وهنا نعطي أهمية إستثنائية لعمال النفط، خاصة في هذه الظروف الصعبة، حيث جاء الإحتلال ليفرض صيغ وشعارات وممارسات طائفية وعنصرية على العراق، وتعمد إحلال الأحزاب الطائفية محل الأحزاب الوطنية، وخاصة اليسارية منها.
إن النقابات توحد جميع القوميات والأديان والطوائف من أجل مصلحة طبقية إجتماعية واحدة، إنها منظمات إقتصادية إجتماعية وطنية عامة، هذا يعني إنها ضد المساس بالإستقلال والسيادة الوطنية للبلاد، وتؤيد أي موقف وطني تتخذه القوى الوطنية ضد المؤسسات الإستعمارية.
ونورد مثالاً بهذا الخصوص، عندما أممّ الراحل عبد الكريم قاسم قائد ثورة 14 تموز بموجب القانون رقم 80 آبار النفط غير المستثمرة من قبل شركات النفط، كنّا في نقابة عمال النفط أول من أبرق إليه تأييداً لهذه الخطوة الوطنية بإسم المكتب التنفيذي لنقابة صناعة النفط بعد سماعنا للخبر من إذاعة بغداد، ودون الرجوع الى القيادة السياسية (المكتب السياسي للحزب)، لأننا في المجال النقابي نخضع للنظام الداخلي للنقابة، وليس للنظام الداخلي للحزب.
ومن سجل التجارب السابقة لحزبنا: شبه الرفيق فهد إضراب كاور باغي في كركوك؛ باضراب عمال النفط في باكو، أيام روسيا القيصرية. وقال: إن كركوك هي باكو العراق حين أعلن العمال من جميع القوميات والأديان والمذاهب الإضراب بوحدة عمالية صلدة، وقدموا 22 شهيداً دون تمييز. هذه هي كركوك مرآة العراق ــ باكو العراق.. لقد جمع إضراب عمال باكو عمال جميع القوميات الروسية والأرمنية والتترية والآذرية، ومن جميع أطراف الإمبراطورية القيصرية، على الرغم من كل النزاعات التي كانت سائدة حينذاك، والتي تخلقها وتأججها القيصرية بين الأرمن والتتر وغيرهما، والتي تنتهي أحياناً بقتال دموي، لكن إضراب عمال باكو وحد جميع القوميات من أجل المصالح المشتركة لعمال باكو. وتعد باكو عصب إقتصاد روسيا القيصرية.
وفي النداء الذي وجهه لينين لعمال النفط المضربين (الترجمة عن الأرمنية) جاء فيه :" ان جميع عجلات الحياة ستتوقف إذا أرادت سواعدكم الفولاذية". يعني فقط وقف ضخ النفط.
أسوق هنا مثلاً بسيطاً للتثقيف الحزبي لعمال النفط عندما كنت أشتغل في شركة نفط الرافدين في سنة 1943 ، ذكرت هذا المثال في مرة سابقة.
جاءنا الرفيق الشهيد زكي بسيم بمهمة تثقيفية حول أهمية النفط. وفي سؤال وجهه اليّّ:
ماذا يشتغل والدك؟
قلت له: يشتغل نجاراً في الحبانية ويأتي للبيت إسبوعياً.
قال: اذا جاء والدك بعد إسبوع وأمك ما طابخه إشراح إيسوي؟
قلت لماذا؟
قال: لأنكم مضربون ولا يوجد نفط في البريمز حتى تستطيع أمك طبخ الطعام. إن هكذا إضراب لعمال النفط سيوقف كل مجالات الحياة المدنية والعسكرية.
وقال: علينا أن نتوجه الى كركوك لأنها عصب الإقتصاد العراقي (واليوم تلعب ذات الدور والأهمية جميع المناطق ذات الإنتاج النفطي المهم). كان هذا ببساطة التثقيف بأهمية النفط. فتصوروا الحال لو توحد جميع عمال النفط، وأعلنوا وقف تزويد محتلي العراق بالنفط، كما فعل عمال نفط البصرة ضد الخصخصة، ماذا سيكون مصيرالإحتلال؟.
ما المطلوب اليوم من الحركة النقابية العراقية؟ تقع على الحركة النقابية العراقية مهمة إستثنائية وشريفة، هي العمل على لمّ شمل وتقوية الحركة النقابية العراقية بغض النظر عن الميول والإتجاهات والإنتماءات. المهم أن تكون حركة ثورية ـ إجتماعية صادقة، وأن تقف ضد الاحتلال، ومن أجل مصالح العمال.
إن تحقيق هذه الوحدة لا يتم برغبة هذا القائد أو ذاك، أو هذا الحزب أو ذاك، بل الوحدة العمالية تأتي بإرادة العمال أنفسهم. ولا مساومات أو إتفاقيات من وراء الكواليس بل أمام العمال، وعن طريق المناقشات الحرة والعلنية، التي تعزز وتقوي وحدة ودور العمال في الدفاع عن مصالحهم، حركة عمالية ثورية تعمل من أجل حل مشكلة البطالة عن طريق ممارسة الضغوط على الحكومات، وعلى المؤسسات المعنية الأخرى، والدفاع عن مصالح الشغيلة، وأن تكون تلك الوحدة القاعدة المهمة للوحدة الوطنية، ومركزاً لجميع العمال من مختلف الأديان والطوائف والقوميات، والذين تجمعهم مصالح مشتركة وقوية وهامة. وعلى الحركة النقابية العراقية أن تمارس الديمقراطيات الثلاث:
1 ) الديمقراطية النقابية، التي تعني مشاركة الغالبية العظمى من العمال في إتخاذ القرارات بخصوص القضايا المهمة التي تخص أوضاعهم الأساسية مثل وضع الحركة النقابية العراقية، المفاوضات الجماعية، الإضرابات، قوانين العمل والإجور، والضمان الإجتماعي والضمان الصحي.....الخ.
2 ) الديمقراطية في العلاقات الصناعية، التي تعني فرض علاقات مقبولة بين أرباب العمل وبين العمال وممثليهم في الشركات الأجنبية وفي المؤسسات الوطنية، وفي هذه الأيام التي يجري فيها إستغلال بشع للعمال والعاملات مثل الطرد الكيفي للعمال وفرض الإجور الواطئة وغيرها من قبل أرباب العمل بسبب وجود الإحتلال والبطالة، ولأننا في ظرف إستثنائي ينبغي أن نهتم بشكل خاص بما تقدم، على الرغم من أن العلاقات الصناعية تعني أوسع مما تقدم حيث تشمل الإجور والأرباح وغير ذلك.
3 ) الديمقراطية المدنية، والتي تعني بأن نشاطات العمال الواعين نقابياً لا تنحصر فقط في أماكن عملهم، وإنما أيضاً في محلات سكنهم حيث يلعب هؤلاء العمال دوراً نشيطاً في توفير الحاجيات الحياتية اليومية لسكان المحلة من كهرباء وماء ورياض أطفال ومستوصفات والدفاع عن ممتلكاتهم، وذلك عن طريق تشكيل لجان مدنية محلية لتوفير الأمن وتمشية الشؤون المحلية، وهكذا يكسب هؤلاء العمال ثقة أبناء المحلة بدلاً عن ممثلي الإحتلال.
إن إندماج إتحادات العاطلين عن العمل مع مجالس ونقابات وإتحادات العمال تظل مهمة دائمة للقوى المعنية بحماية مصالح العمال على مستوى القرية والحي والمدينة والوطن كله، وهذا الإندماج موقف لا يحمي العمال فقط بل يساعدهم في إتخاذ سياسة حماية الذات بالمعنى الواسع للكلمة، ويعزز كلمتهم في إتجاه رفض الإحتلال، ووعدم التعاون مع مختلف الحكومات التي تُنصبت من قبل الولايات المتحدة الأمريكية. لا شك في أن البطالة قد إجتاحت ثلثي الطبقة العاملة العراقية، وإن هذا الوضع الكارثي فرض واقعاً مريراً على العمال، وحتى لحدود معينة على طاقاتهم الكفاحية من حيث حجم وثقل تأثيرها على المحتل وعملائه، علينا في الظرف الملموس إحترام جميع أساليب النضال، والسعي الى تحقيق تكاملها مع بعضها البعض، ومنها العمل النقابي فيما تبقى من المؤسسات الإنتاجية الوطنية، وفي أوساط العاطلين عن العمل.
إن وضوح البرامج المطروحة على العمال، وصدق القائمين عليها، يطوق حركة ومناورة الحكومة والإحتلال ضد العمال وضد شعبهم.

رسالتي الدائمة الى العمال تدعو الى المزيد من الوحدة فيما بينهم، لأن في هذه الوحدة تحمي بل توفر خبزة أطفالهم وكرامة شعبهم. وهي طريق الأمم المجرب نحو المجد الحقيقي والدائم.