ذكرياتي في سجون العراق السياسية- الجزء الثاني


حسقيل قوجمان
الحوار المتمدن - العدد: 6036 - 2018 / 10 / 27 - 14:28
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق     

صوت السجين الثوري
  في منظمتنا المكونة من عشرين شخصا او ما يقرب من ذلك كانت لنا حياتنا المستقلة عن باقي الجماعات. ولكن الحياة في هذه الفترة كانت روتينية ليس لدينا ما يمكن ان يفيدنا في تحاشي التدهور الفكري المفروض علينا. ولكننا بعد مدة نجحنا في الحصول على بعض الكتب العامة المنتشرة في السوق اذ سمحت ادارة السجن في ادخالها الى السجن عندما جلبها اهالي السجناء الذين جاؤوا لزيارة ابنائهم. اغلب هذه الكتب كانت قصصا مثل البؤساء والاخوة كرامازوف وغيرها من القصص المنتشرة في السوق. ولكننا كنا بحاجة الى تثقيف سياسي يساعد على صمودنا امام هذا التدهور المستمر. كنت ارتب جلسات تثقيفية في مواضيع مختلفة من الذاكرة لعدم وجود وثائق نظرية او سياسية نتخذها اساسا لدراسة موضوع معين. ومما يجدر ذكره انني كنت اثقف السجناء بميثاق فهد ومرحلتي الثورة وغير ذلك بحضور بهاء ولم يكن يتفوه بكلمة واحدة اعتراضا ودفاعا عن برنامجه الذي الغى به الميثاق الوطني وجعله برنامج الحزب. 
ولكنني فكرت في وسيلة فعالة في تثقيف السجناء بصورة مستمرة ناجعة. فكرت في تحرير مجلة سجنية أسميتها "صوت السجين الثوري" وأصبحت رئيس تحريرها وكتبت اكثر مقالاتها. صدرت المجلة كل اسبوع وكان لهذه المجلة تأثير رائع على السجناء. واضافة الى قراءتها أخذ بعض السجناء يشتركون في كتابة مواضيع حسب مستواهم كنت انقحها وانشرها في المجلة. كتب بهاء مقالة وموشي اخي مقالة ويعقوب منشي مقالة. ولكن المقالات المهمة كانت مقالاتي لانها الوحيدة التي تناولت مواضيع نظرية هامة. وكانت المقالة الافتتاحية مقالا متسلسلا عن الحرب والسلام ناقشت فيه مواضيع هامة كطبيعة الحرب والحرب العادلة والحرب العدوانية ومواضيع الحرب بين الحربين العالميتين ونشوء ظروف جديدة بعد الحرب العالمية الثانية ونشوء المعسكر الاشتراكي. ولكن هذا المقال المتسلسل لم يكتمل لظروف نتحدث عنها في مكان اخر. كان لنشر جريدة صوت السجين الثوري تأثير على جو الحياة في السجن إذ أخذت تنشأ بين السجناء نقاشات حول المواضيع التي عالجتها المجلة.
بهاء والاضرابات عن الطعام
كان بهاء يكره وجوده في منظمة اغلبها من اليهود فكان يريد بأي ثمن ان ينتقل الى السجون الاخرى للعيش مع السجناء الاخرين. وكانت وسيلته الوحيدة في هذا الاتجاه اعلان الاضرابات عن الطعام. كان يعتبر الاضرابات غاية بحد ذاتها لا وسيلة مرتبطة ومساندة للحركة السياسية في الخارج. ولكن الحقيقة ان الاضراب هو وسيلة لمساندة الحركة السياسية في الخارج. فاذا كانت الظروف السياسية ملائمة يكون الاضراب وسيلة تنشط الناس والصحافة وتدفعها الى مساندة الاضراب ووسيلة لانجاح الاضراب في الحصول على بعض المطاليب السجنية. ولكن بهاء كان يريد الاضراب بدون مراعاة الظروف السياسية وظروف الحزب في الخارج. فكنت اصطدم معه في هذا المجال واقنعه بأن الاضراب لابد ان يكون فاشلا اذا لم يكن منظما من الخارج استنادا الى ظروف الحزب الملائمة. وقد أبطلت ستة اضرابات اعلنها لتكون اضرابات طويلة الامد احدها في اليوم الثالث من الاضراب.
في تلك الفترة حدث اضراب عمال النفط في البصرة فحطمته الحكومة وارسلت الفاعلين في الاضراب الى سجن النقرة القديم ولم يسمحوا لهم بالاتصال بنا او العيش معنا في السجن الجديد. وكان مجيء عمال النفط فرصة هامة لبهاء ففكر في وسيلة يجبرني فيها على الموافقة على اضراب طويل الامد رغم علمي بخطئه. ففكر في وسيلة خسيسة لتحقيق غرضه هي انه أخبرنا مرة ان الحزب قد اصدر اوامره لاضراب جميع السجون عن الطعام في موعد محدد. فلم يكن في مستطاعي ان اعارض هذا الاضراب لانه جاء بأوامر من الحزب، والحزب ادرى بظروفه منا ونحن في السجن. ثم ان امتناع احد السجون عن الاضراب يضعفه ويساعد على فشله. لم اكن مقتنعا بهذا الاضراب وكنت اشك منذ البداية في صدق بهاء بأن الاضراب جاء بأمر من الحزب وبأنه يشمل كافة السجون السياسية. وبدأ الاضراب وطبيعي ان عمال النفط الموجودين في السجن القديم انضموا الينا في هذا الاضراب. استمر الاضراب سبعة وعشرين يوما بدون ان تجري ادارة السجن اية مفاوضات معنا لانهائه.
في اليوم الحادي والعشرين من الاضراب طرأت علي حالة من القيء المتكرر والاسهال المتواصل فكان من المتوقع ان اكون اول ضحية في الاضراب. وفي اجتماع عقده بهاء مع ثلاثة سجناء هم صادق جعفر وكامل ممثلنا لدى الادارة وموشي اخي صرح بهاء بمقولته الرائعة "مع الاسف ان اول جنازة ستكون جنازة يهودي ردناها من عمال النفط". وهذا القول يعبر عن امرين هامين اولهما ان بهاء كان يعتبر اليهودي الشيوعي من درجة اوطأ من السجناء الاخرين وثانيا ان وفاة عامل من عمال النفط كان غاية لديه لانه تصور ان موت عامل النفط سيحقق هدفه الوحيد من الاضراب وهو نقله الى السجون الاخرى.
واستمر الخدع الى اللحظة الاخيرة من الاضراب. ففي اليوم السادس والعشرين من الاضراب جاء بعض الزوار لزيارتنا. ولدى عودة كامل ممثلنا من المواجهة سألته وأنا طريح الفراش ان كان الاضراب مستمرا في السجون الاخرى فقال نعم. ولكن يبدو ان الزوار كان لديهم امر من الحزب بانهاء الاضراب اذ قرر بهاء انهاء الاضراب في اليوم التالي بدون قيد او شرط وبدون ان تتنازل الادارة حتي باجراء مفاوضات من اجل انهاء الاضراب. وتبين ان ادعاء بهاء بأن الاضراب كان بأمر من الحزب وأن الاضراب شمل جميع السجون السياسية كان مجرد كذبة ابتدعها للتخلص من معارضتي.
بعد انتهاء الاضراب قررت الادارة ارسالي الى المستشفى بناء على طلب كان ممثلنا قد قدمه الى الادارة حين كنت موشكا على الموت اثناء الاضراب. ارسلوني الى مستشفى الديوانية حيث فحصوني فلم يجدوا شيئا يستحق بقائي في المستشفى فأعادوني في نفس اليوم الى السماوة. وفي مركز شرطة السماوة قضيت ليلة. في المساء جاؤا لنا بالحساء فأكلنا وبعد الأكل ادخلوا الى المركز شخصا سكيرا يكاد يكون فاقد الوعي من شدة سكره. وبعد نصف ساعة استيقظ هذا السكير قليلا وأخذ يغني وينقر على قدر الحساء اثناء غنائه. كان هذا الشخص ضابط ايقاع بارعا الى درجة اطربنا نحن الموقوفين ورجال الشرطة الذين كانوا يصغون الى غنائه. كانت تلك الليلة بالنسبة لي ليلة ممتعة لأني طربت على حسن ايقاع هذا السكير. ويبدو لي ان الشرطة كانوا تعرفون هذا الشخص ويجيؤون به الى المركز خصوصا للاستماع الى غنائه وعزفه على القدر. كان معنا في تلك الليلة شخص ثالث تقرب الي وأخذ يتجاذب اطراف الحديث معي وعاملني برقة واحترام. ولكن هذا الشخص اخرج من جيبه قطعة مربعة قدمها لي وقال ان هذا افيون وعرض على قبولها كهدية. رفضت قبولها طبعا وقلت له اننا السجناء السياسيين لا نستعمل مثل هذه الأشياء. ولست ادري ان كان هذا الشخص قد قدم لي ذلك حبا بي ام كان في الحقيقة مدسوسا للايقاع بي.      
لعبة المحيبس في السجن
كوسيلة للتسلية لجأ بهاء وصادق الى توزيع السجناء الى فريقين يترأس كل منهما فريقا ليلعبوا لعبة المحيبس. كانوا يلعبون عدة ساعات مع الصرخات والهتافات التي كانت تنتشر في السجن حتى منتصف الليل الى درجة قد لا تسمح للسجناء في الغرف المجاورة بالنوم. لم اشترك في هذه اللعبة أبدا لأني اعتبرتها نوعا من التدهور في المستوى السياسي لسجناء شيوعيين. كذلك لم يشترك في اللعبة رجل مسن كان سجينا مع ولديه بتهمة الصهيونية وفضلوا العيش معنا. ولكني مع ذلك كنت اعد لهم وجبة طعام خفيفة كالشوربة او الرز بالحليب ليتناولوها لدى الانتهاء من اللعبة.                 
بهاء والانتقاد الذاتي
بعد الحاح شديد على بهاء ودفعه الى انتقاد ذاته على مستوى سلوك المنظمة الذي بلغناه عقد اجتماعا للانتقاد الذاتي. في اجتماعات كهذه كان احد السجناء يكلف بالوقوف في الشباك المشرف على باب السجن احتياطا من دخول الادارة فجأة. فكلفني بهاء بهذا الدور اثناء الاجتماع. كنت وأنا في موقفي في الحراسة اسمع كل كلمة تقال في الاجتماع ولكني لم استطع المشاركة في النقاشات الجارية فيه. انتقد بهاء نفسه على النقاط الكثيرة التي انتقدته عليها والتي حطت من مستوى المنظمة السياسي. ولكنه بعد هذا انتقد جميع السجناء لأن ايا منهم  حسب قوله لم ينتقده. كان هذا بيت قصيده من تكليفي بالحراسة في ذلك الاجتماع. وبعد انتهاء انتقاده للسجناء على عدم انتقادهم له قرر دعوتي الى المشاركة في الاجتماع وكلف سجينا اخر بالحراسة. فحضرت الاجتماع وأخذت اشرح وضع المنظمة والمستوى السياسي الذي انحدرت اليه والنقاط الهامة في ذلك التي لم يشأ بهاء التطرق اليها بدون ان اشير الى انتقاده السجناء لعدم انتقادهم اياه. وبعد هذه الجلسة الانتقادية توقفت لعبة المحيبس.
محاولة تحسين اللغة الروسية
كان احد السجينين الروسيين يتصل بنا احيانا وكان يحضر بعض حفلاتنا ويغني بعض الاناشيد باللغة الروسية. وكان لديه نسخة من الكتاب المقدس باللغة الروسية. ولدينا كانت نسخة من الكتاب المقدس باللغة العربية. كنت قبل سجني قد تعلمت شيئا من اللغة الروسية فانتهزت فرصة وجود الكتاب المقدس والفراغ الذي كنا نعاني منه لقراءة فصول من الكتاب باللغتين رغبة في تحسين معرفتي للغة الروسية وقد تعلمت الكثير من الكلمات رغم ان الكتاب كان باللغة الروسية القديمة قبل اصلاحها. 
     
ارسال وجبة جديدة من السجناء الى نقرة السلمان
ذات يوم في سنة ١٩٥٤ فوجئنا بمجيء وجبة كبيرة من سجناء بعقوبة السياسيين الى السجن. كان ذلك طبعا مفاجأة سارة لنا لأننا التقينا ثانية مع العديد من رفاقنا القدامى ولأننا انتهينا من فترة العزلة الطويلة التي عانينا منها وكذلك لانتهاء عزلة السجناء اليهود عن غير اليهود. وبعد الحفلات المألوفة في مثل هذه الحالات أخذت الحياة تنتظم حسب الوضع الجديد. فوزعت الاعمال والمسؤوليات من جديد. وتشكلت اللجنة المسؤولة الجديدة أو ربما كانت مقررة قبل ذلك اذ ان اللجنة المسؤولة لم تشمل ايا من الموجودين بمن فيهم بهاء وكان بين السجناء القادمين زكي خيري وعزيز الحاج، اي الكادر الثقافي المعروف طيلة فترة السجون. وكان بين السجناء الجدد عدد جديد لم نكن نعرفهم من قبل. واستمر نقل السجناء الى نقرة السلمان فكانت تردنا وجبات من السجناء المحكومين مؤخرا فعادت حياة السجن كما كانت في سجن نقرة السلمان في ١٩٤٩ – ١٩٥١ أو في سجن الكوت بجميع فتراته.
كان اول انطباع سمعناه عبارة عزيز الحاج بعد قراءة اعداد صوت السجين الثوري اذ قال "انكم اقرب منا الى الحزب رغم انكم في نقرة السلمان ونحن في بعقوبة".
ومرت ايام قليلة وفجأة رأينا اعلانا الصق على باب احدى الغرف السجنية بتوقيع زكي خيري يحذر السجناء من اراء غريبة منتشرة عند بعض السجناء من ان الاتحاد السوفييتي كان يريد الحرب. ولم يسبق ان صدر مثل هذا الاعلان بتوقيع شخصي في المنظمة طيلة مدة الحياة السجنية. فالمألوف ان تجري مثل هذه التحذيرات في اجتماع يدعى اليه جميع السجناء ويكون التحذير أو القرارات المتعلقة به باسم المنظمة وليس باسم شخص معين. كان واضحا ان الانذار كان ضدي نتيجة لقراءته المقالات الافتتاحية من صوت السجين الثوري ولكن الانذار لم يوجه الي صراحة ولم يوجه الي في انذار زكي خيري.
بعد ايام اخبرونا ان اللجنة المسؤولة قررت محاسبتنا على اخطائنا في تسيير المنظمة في الفترة السابقة التي كنا فيها منعزلين. وبدأت المحاكمة يوما وكانت هيئة المحكمة من اربعة اشخاص برآسة مهدي حميد وعضوية زكي خيري وعزيز الحاج وصاحب حمادي. ودعوا منا خمسة هم بهاء وصادق جعفر وكامل وموشي وأنا. وطبيعي انه في محاكمة من هذا النوع او محاسبة كما تسمى عادة يكون الموقف مختلفا عن المحاكم التي نقدم اليها في المحاكم العادية. ففي المحاكم العادية علينا ان ننكر كل شيء يمكن ان يسيء لنا او للحزب. أما في محاكمة حزبية كهذه فيجب ان يكون موقفنا المصارحة بكل شيء مهما كان لأن المفروض ان المحاسبة او المحاكمة هي لتصحيح الاخطاء وهي لمصلحة الحزب. ولكن الغريب ان بهاء وصادق جعفر كانا يكذبان وينكران جميع الاشياء التي قاما بها كما لو كانا في محكمة عرفية. وكان موقفي مختلفا لاني كنت صريحا وصفت الامور التي حدثت والتي جاءت في المحاكمة كما وقعت سواء أكانت لصالحي أو ضدي لأن المحاكمة هي محاكمة حزبية.
الغريب ان المحاكمة ركزت بالدرجة الأولى علي رغم انني لم اكن مسؤولا عن اتخاذ القرارات في المنظمة وانني كنت الوحيد الذي انتقد سلوك بهاء والمنظمة طيلة تلك المدة. وقد ركزوا الهجوم علي في نقطتين رئيسيتين. الاولى هي موافقتي على الاضراب. فقد حاسبوني واعتبروني المسؤول عن الاضراب الخاطئ. وحين ناقشتهم بأن بهاء هو الذي كذب وادعى ان الاضراب جاء تلبية لاوامر الحزب قالوا ولكنك الشخص المثقف وكان عليك ان تدرك ان الاضراب خاطئ. فقلت لهم ان المثقف يجب ان تكون لديه المعلومات الحقيقية الصحيحة لكي يتوصل الى الحلول الصحيحة. وواضح انني قد ابطلت ستة اضرابات اعلنها بهاء احدها في اليوم الثالث من الاضراب. وبينت لهم انني كنت فعلا اشعر بأن الاضراب خاطئ بحيث كنت اسأل ممثلنا كامل عند مجيء بعض العوائل لزيارتنا اذا كانت السجون الاخرى مضربة فعلا وان اضرابها مستمر فكان يجيبني حتى في اليوم السادس والعشرين من الاضراب ان الاضراب قائم ومستمر في جسيع السجون. فلو اني عارضت الاضراب أفلا كنتم تعتبرونني مخالفا لاوامر الحزب؟ فكان الجواب "مع ذلك انت المثقف وكان عليك ان توقف الاضراب لانه خاطئ".
والقضية الثانية التي ركزوا عليها ضدي كانت قضية التثقيف. فزعموا اني كنت اثقف السجناء ثقافة خاطئة. وطبيعي ان هذا التثقيف يشمل صوت السجين الثوري. وحين تطرقت الى انذار زكي خيري وطلبت احضار المجلة لكي نرى ان كان فيها ما يحذر منه زكي خيري ومحاسبتي على ما كتبت لا على ما يدعون اني كتبته قالوا انهم قد احرقوا الاعداد الموجودة من المجلة. وقد ظهر مؤخرا ان قولهم هذا كان كذبا لأنه ظهر من الأدبيات الأخيرة المكتوبة عن الحزب سلبا ام ايجابا ان اعداد جريدة صوت السجين الثوري ما زالت موجودة في أرشيف التحقيقات الجنائية وقد ذكرها بعض من كتب عن الحزب الشيوعي. وقد قاموا منذ اليوم الأول لمجيئهم باخفاء المجلة وايقاف اصدارها. ولو اعتبرنا فعلا ان المجلة كانت ذات اتجاه خاطئ ألم يكن بامكانهم ان يواصلوا اصدارها بصورة صحيحة كوسيلة فاعلة لتثقيف السجناء؟ ولكنهم أوقفوا اصدارها. واعتقد ان ايقاف اصدارها كان لأنهم لم يجدوا بينهم من يستطيع ان يصدرها حتى في المستوى الذي كانت عليه ناهيكم عن تحسينها. واليوم يحلو لبعض المتحدثين باسم الحزب الشيوعي العراقي التبجح بجريدة صوت السجين الثوري التي استعملوا قانون المطبوعات لايقاف صدورها وعاقبوني على اصدارها.
كان قرار المحكمة حرمان جميع الأربعة من مسؤولياتهم الحزبية. وبما انني كنت طيلة حياتي السجنية عضوا بسيطا لا مسؤولية حزبية له فلم يجدوا ما يعاقبونني به سوى منعي من التثقيف لأن تثقيفي مضر للمنظمة. وكانت نتائج المحاكمة غريبة بالنسبة لبعض السجناء القريبين من القيادة والذين علموا بالاحكام الصادرة عن المحكمة. وقد سأل آرا خاجادور زكي خيري عن سبب معاملة اليهود في المحاكمة وقراراتها معاملة اقسى من السجناء الاخرين فأجابه زكي خيري "على الأقل هؤلاء أبناء الحزب" اي اننا أنا وموشي اخي لم نكن ابناء الحزب.
بعد أيام من انتهاء المحكمة كنت بالصدفة جالسا بجانب عزيز الحاج فأخذ يتحدث الي ولكنه فجأة قال بأي حق انت تكتب باسم الحزب؟ فأغضبني ذلك اشد الغضب وأجبته بشدة ان الحزب ليس ملكا لأحد ومن حق كل شخص ان يكتب ثم ان ما كتبته كان اما بطلب من المسؤولين أو بمعرفتهم. وما يمكن انتقادي عليه هو ان كان ما كتبته صحيحا ام خاطئا وتركته وانا غاضب اشد الغضب. وبعد يومين دعوني الى اجتماع حضره كافة اعضاء اللجنة العليا الستة للمنظمة عدا عزيز الحاج واعتذروا بصورة رسمية عما قاله عزيز الحاج. ولكني اجبتهم ان هذا الاعتذار لا قيمة له ولا اعتبره اعتذارا لأن عزيز الحاج نفسه لم يعتذر عما قاله هو والاعتذار لا يتم بالنيابة.
بعد اسبوعين او ثلاثة جاءني المسؤول الأول مهدي حميد وقال لي توجد في المنظة موجة واسعة من الانتقادات لذلك نريدك ان تدرسهم موضوع الاقتصاد السياسي لاشغالهم. فالمنظمة اذن لم تكن تريد ان يتعلم السجناء الاقتصاد السياسي لرفع مستواهم الثقافي انما من أجل اسكاتهم عن الانتقاد. فكانت هذه فرصة للتنديد بمحكمتهم وقراراتها. فقلت ولكنكم قررتم ان تثقيفي مضر بالمنظمة ولديكم مثقفون اخرون ليس تثقيفهم مضر بالمنظمة فلماذا لا يقومون هم بالتدريس؟ وسألته ان كان قرار منعي عن التثقيف قد الغي فأجاب بالنفي. وهذا يعني ان ادرس وانا ممنوع من حق التدريس. فقلت له انا لا ادرس الا بعد ان تعترفوا بان قرار المحكمة كان خاطئا بحقي وبعد ان تلغوا القرار علنا. فرفضت اللجنة شروطي للتدريس. وقد تناوب اعضاء اللجنة عدا عزيز الحاج وزكي خيري في محاولة اقناعي بأن مصلحة السجناء تتطلب موافقتي على تدريسهم. وكان بين اعضاء اللجنة شخص لا أعرفه لأنه قدم الى السجن مؤخرا وضم الى اللجنة فور قدومه. فأرسلوه لكي يقنعني بقبول التدريس لعلي اخجل منه واوافق. ولما فاتحني بالموضوع قلت له هل تعلم انني محكوم علي بأني لا أصلح لتثقيف المنظمة لأن تثقيفي خاطئ ومضر؟ فقال ولكننا نحن نراقبك. فأثارني جوابه وغضبت وقلت له ان كنت تستطيع مراقبتي حين اثقف تثقيفا خاطئا فلماذا لا تقوم انت بتثقيفهم. ارجو ان تعلم انك لا أنت ولا جميع المسؤولين يستطيعون مراقبتي حين القي محاضراتي لأنهم لا يعرفون شيئا من موضوع الدراسة. وذهب فاشلا مما قاله. وقد دام هذا النقاش اكثر من اسبوعين وأنا ارفض ان ادرس اي موضوع قبل أن يلغوا الحكم علي. ولكني فكرت ان السجناء هم الخاسرون لأنهم محرومون من التثقيف وأن واجبي على كل حال ان اثقفهم اذ ليس في المنظمة من يستطيع تدريسهم. فبدأت اول دورة بعد الحكم علي فدرست موضوع الاقتصاد السياسي لجميع السجناء بمن فيهم كل اعضاء القيادة وحتي عزيز الحاج وزكي خيري.
ولم يقتصر دوري على تدريس هذه الدورة فقط فقد نشأت دورات اخرى منها دورات خاصة لبعض اعضاء القيادة وحدهم واخرى لنخبة من السجناء يختارونها لأسباب معينة. فكنت ألقي ثلاث محاضرات في اليوم ستة ايام في الأسبوع في مواضيع مختلفة. وكان لي امتياز لم يحصل عليه اي سجين اخر في تاريخ السجون العراقية. سمح لي بأن أحتفظ بفانوس قرب رأسي وبالكتب المتوفرة تحت وسادتي ويحق لي ان انير الفانوس متى ما أشاء اثناء الليل لكي تتاح لي فرصة تحضير المحاضرات. وهكذا بقي موقفي شاذا طوال مدة السجن حتى ثورة ١٤ تموز ١٩٥٨. فأنا المثقف النظري الأول المعترف به وأنا في الوقت ذاته محكوم بأن تثقيفي مضر للمنظمة لذا لا يحق لي ان أثقف.
التمييز الديني ضد اليهود في الحزب وفي السجن
كان فهد ماركسيا حقيقيا ولذلك لم يكن يحكم على الشخص وفقا لديانته بل وفقا لسلوكه ولاخلاصه للحزب وللطبقة العاملة. لذلك لم يكن يميز بين الشيوعي اليهودي والشيوعي غير اليهودي. واستمرت سياسة فهد هذه في الحزب وداخل السجن حتى مجزرة الكوت سنة ١٩٥٣. وبعد المجزرة قامت الحكومة بفصل اليهود عن غير اليهود فارسلت جميع اليهود الى نقرة السلمان. ولم نشعر بأي تفريق بين اليهودي وغير اليهودي في السجن سوى ما كنت اشعر به من رغبة بهاء العارمة في تحقيق نقله الى السجون الاخرى للاندماج بالسجناء الاخرين.
ولكننا نحن السجناء اليهود بدأنا نشعر بالتمييز واضحا في ١٩٥٤ حين جاءت وجبات السجناء الجديدة من بعقوبة وما تلاها من وجبات. فقد شعرنا ان فرق الطعام كانت مفصولة. فاليهود يأكلون في فرق كلها من اليهود. ولكن التمييز كان خفيا ولم يكن واضحا كل الوضوح خصوصا لأن اغلبية اعضاء اللجنة المسؤولة كانوا اعضاء في الحزب من ايام فهد وتعودوا على رؤية السجناء اليهود متساوين مع غيرهم. ومع ذلك شعرنا بهذا التمييز كما كان واضحا مثلا في جواب زكي خيري حول قرارات المحكمة.
ان الخلاف حول قبول اليهود او عدم قبولهم في الاحزاب الشيوعية كان موضع نقاش منذ الثلاثينات بين فهد وخالد بكداش قائد الحزب الشيوعي السوري. لم يكن فهد ينظر الى اليهود نظرة مختلفة عن سائر العراقيين فكان يقبلهم في الحزب ويمنحهم المراكز الحزبية حسب كفاءاتهم بنفس الطريقة التي يعامل بها غير اليهود من مسلمين ونصارى، عرب وأكراد، اثوريين وأرمن. المقياس هو الاخلاص للمبادئ الشيوعية.
وكان خالد بكداش يعتبر ان اليهودي خائن بطبعه ولذلك لا يمكن ان يكون شيوعيا. وبلغ في هذا التفكير حد اتهام ماركس بأنه هو صاحب النظرية التي تقول ان اليهودي خائن بطبعه ولا يمكن ان يكون شيوعيا. كتب ماركس سنة ١٨٤٣ اي قبل أن يصبح هو نفسه ماركسيا بالمعنى العلمي للكلمة مقالين حول القضية اليهودية. مقالين لم يكن فيهما شيء غير عادي. كانا يحللان المشكلة اليهودية حسب نظره في تلك الفترة. فقام خالد بكداش بترجمة هذين المقالين الى العربية واصبحت كراسا يدرس في صفوف الحزب كبرهان على ان ماركس هو الذي قال بأن اليهودي لا يمكن ان يكون شيوعيا.
اعتقد ان الشيوعيين العراقيين الذين لجأوا الى سورية هربا من اضطهاد  النظام العراقي تأثروا بسياسة الحزب الشيوعي السوري فأصابتهم عدوى هذا المرض الخطير. وحين عادوا الى العراق، وخصوصا القادة منهم، قرروا ان يمارسوا نفس السياسة نحو اليهود. ولكن اليهود كما نعلم هاجروا العراق الى اسرائيل سنة ١٩٥٠ فلم يبق في الحزب خارج السجون اي عضو يهودي. فكانت المشكلة مقصورة على اليهود الموجودين في السجون. ولم يكن عددهم يتجاوز ١٥ أو ٢٠ في سنة ١٩٥٤. وقد جاءت الحكومة العراقية لنجدة الحزب الشيوعي في هذا المجال ولانقاذه من المشكلة اذ كلما انهى سجين يهودي محكوميته بصرف النظر عن نوع تهمته كانوا يرسلونه من السجن الى اسرائيل قسرا. لذلك لم تنشأ مشكلة قبول السجين الشيوعي اليهودي في الحزب بعد اطلاق سراحه الا بعد ثورة ١٤ تموز. ولنا عودة الى هذا الموضوع.
خلال فترة وجودنا مع السجناء غير اليهود وبعد محاكمتي وحرماني من حق التدريس، لم أكلف ولو مرة واحدة بالقاء كلمة في المناسبات كما كان الوضع قبل ذلك. اعتقد انهم تحاشوا تكليفي بالقاء كلمات لعلمهم ان خطاباتي لابد ان تتضمن انتقادات هم في غنى عنها. ولكنهم أخطأوا فكلفوني احيانا بالاشراف على كلمات طلبوا من أشخاص بسطاء ان يعدوها لالقائها في بعض المناسبات اورد مثلا واحدا منها. كان بين السجناء فلاح شاب من الزبير كان يقص لي انهم الأولاد في عائلته كانوا يتمنون ان يأتيهم ضيوف لأنهم في هذه الحالة يقدمون الدجاج للضيف ويكون لهم حق اكل رقبة الدجاجة. فكرت اللجنة بتكليف هذا الشاب بالقاء خطاب في احدى المناسبات. وقد اختاروا له موضوعا لا يستطيع حتى خيرة المثقفين الخروج منه. طلبوا منه ان يناقش موضوع ماو تسي تونغ حول التوزيع الطبقي في الصين وطلبوا مني ان اساعده على اعداد خطابه لأني الوحيد الذي يستطيع ان يساعده في كتابة هذا الموضوع المعقد او بالأحرى يكتبه له. فالتقيت به وكنا صديقين وسألته ان كان يعرف شيئا عن التوزيع الطبقي في العراق او في الصين. فقال لا. فقلت له كيف اذن تريد ان تكتب خطابا في هذا الموضوع وتلقيه على المنظمة كلها؟ فأجاب لا أعرف. فقلت له ما رأيك في أن نختار موضوعا اخر للحديث؟ اعجبته الفكرة وطلب مني ان اساعده على اختيار موضوع يستطيع ان يكتب فيه. فقلت له الامر بسيط، تحدث عن الانطباع الذي نشأ عندك عندما دخلت السجن فهذا قد يكون موضوعا شيقا نعلم منه كيف يشعر السجين الجديد عندما يدخل السجن لاول مرة. وكتب هذا الشاب البسيط موضوعا شيقا انتقد فيه اشياء لم اكن انا نفسي اشعر بها. وقد تركته على سجيته ولم اساعده الا في الصياغة العربية الصحيحة لافكاره. وجاء موعد القاء كلمته وقرأ المقال فكان مفاجئا للجميع. فالاغلبية من السجناء الذين كانوا ينامون اثناء القاء الكلمات المملة التي يلقيها بعض السجناء من المسؤولين او غير المسؤولين انتبهوا من نعاسهم واصغوا بانتباه كبير الى خطاب هدا الفلاح البسيط. اما اعضاء القيادة فقد تميزوا غضبا لان بعض الانتقادات التي اوردها كانت تمسهم. فلم يتمالك عزيز الحاج نفسه الا أن صاح مخاطبا اللجنة المسؤولة بحضور جميع السجناء الذين كانوا يصفقون بحرارة بعد نهاية الخطبة "أهذا الذي اردتموه؟"
 
زيارة خروشوف الى يوغوسلافيا
كانت اول بوادر التغير في سياسة الحزب الشيوعي السوفييتي والحكومة السوفييتية التي شعرنا بها زيارة خروشوف الى يوغوسلافيا. وحين سمعنا بالزيارة قررت اللجنة عقد اجتماع عام للمنظمة لاطلاعهم على اهمية هذه الزيارة. وقد اختاروا زكي خيري للتحدث في هذا الاجتماع. وتحدث زكي خيري مبالغا في اهمية هذه الزيارة وبسياسة الحكومة السوفييتية المتطورة. ولكني تصديت لزكي خيري في هذا الموضوع وفي النتيجة اجبرته على ان يعلن ان زيارة خروشوف الى يوغوسلافيا لا تعني ان تيتو شيوعي وأن يوغوسلافيا التي تتعاون مع الدول الامبريالية وتتلقى منها المساعدات وتسمح باستثمار رؤوس الأموال الامبريالية في يوغوسلافيا دولة اشتراكية. وبعد نقاش طويل حول يوغوسلافيا وحول تيتو اضطر زكي خيري الى التصريح بذلك. ولم أكن آنذاك قد ادركت ان الزيارة في الواقع كانت بداية سير القيادة السوفييتية في أعقاب تيتو في الارتماء في احضان الامبريالية والقضاء على الاشتراكية.
جلسة الانتقاد والانتقاد الذاتي
حدثت بعد جلسة زيارة خروشوف الى يوغوسلافيا جلسة اخرى لمناقشة اهمية الانتقاد والانتقاد الذاتي في الاحزاب الشيوعية. وهذا موضوع كثرت مناقشته في الادبيات الماركسية. وقد اختارت اللجنة لهذا الموضوع عزيز الحاج. لابد ان اذكر القارئ هنا ان اللجنة المسؤولة كانت محرجة من كثرة الانتقادات بين السجناء وانها طلبت مني تدريس الاقتصاد السياسي لا من اجل رفع مستوى السجناء بل من اجل اشغالهم عن الانتقاد. وطبيعي جدا ان يحاول عزيز الحاج معالجة هذه المشكلة في حديثه عن الانتقاد والانتقاد الذاتي. ولكن يبدو انهم كانوا منذ البداية على علم بأن العقبة هي حسقيل قوجمان ولذلك تهيأوا سلفا لتلافي ذلك. بعد ان تحدث عزيز الحاج حوالى نصف ساعة عن اهمية الانتقاد وضرورته في الأحزاب الشيوعية وصل الى النتيجة الاولى التي كان يريد التوصل اليها. فأعلن انه مع اهمية الانتقاد ثمة احزاب وأشخاص لا يجوز انتقادهم. وهذا بيت القصيد. فجاء بمثل على من لا يجوز انتقادهم ستالين والحزب الشيوعي البولشفي. وأعتقد ان ذكر ستالين في هذه المناسبة كان مقصودا لمعرفته بحبي وتقديري لستالين باعتباره معلم من معلمي الماركسية. ولكن خاب ظنه. فقد طلبت الكلام وبينت أن الانتقاد هو وسيلة فاعلة لرفع مستوى المنتقِد والمنتقَد على حد سواء وليس في الانتقاد اية اهانة لأحد بصرف النظر عن كون الانتقاد صحيحا ام لا وان ستالين شيوعي كغيره من الشيوعيين وانه معرض للخطا لانه بشر وانه معرض للانتقاد شأنه شأن اي انسان اخر. فتناوب ١٤ شخصا على مهاجمتي لاني احث على انتقاد ستالين وانشر اللبرالية بين السجناء وغير دلك من الاتهامات. هؤلاء الأشخاص هم اعضاء اللجنتين المسؤولتين في المنظمة؛ اللجنة العليا واللجنة السفلى. ويبدو انهم استعدوا قبل المحاضرة الى هذا الوضع الذي سينشأ عند اعتراضي على عصمة ستالين وعدم جواز انتقاده. وانتهى الاجتماع عند هذا الحد. ولكني على كل حال نجحت في ايقافهم عن التقدم الى المرحلة الثانية الطبيعية بعد المرحلة الاولى. فقد كان من الطبيعي بعد امرار موضوع عدم جواز انتقاد ستالين والحزب الشيوعي السوفييتي على النطاق العالمي الى الامر الحيوي الذي كان يقلق القيادة وهو انتقاد قيادة الحزب العراقي الحالية. فاذا كان من غير الجائز انتقاد ستالين على النطاق العالمي فلابد ان هناك في النطاق المحلي أيضا من لا يجوز انتقادهم كالسكرتير العام واللجنة المركزية للحزب. ولكني سددت أمامهم طريق التحول الى هذه المرحلة من النقاش. وأغرب شيء هو ما حدث بعد اسبوعين او ثلاثة من هذا الاجتماع. فعندما وصلتنا اخبار مهاجمة خروشوف لستالين في المؤتمر العشرين اعلن كل هؤلاء الذين هاجموني في ذلك الاجتماع انهم كانوا يعلمون ان ستالين كان مخطئا منذ القدم ولم يدافع عن ستالين بعد المؤتمر العشرين باعتباره الماركسي اللينيني الحقيقي غير حسقيل قوجمان. بل ان قسما من السجناء شكلوا كتلة بزعامة يعقوب منشي وآرا خاجادور تعتبر ان لينين هو مصدر الخطأ الحقيقي وليس ستالين وحده. وحين شكا لي يعقوب منشي بأنه يشعر بالمضايقات لآنه يحمل هذه الآراء قلت له انني اناقضه في كل آرائه كل المناقضة ولكني سأدافع عنه في حالة اضطهاده حتى النهاية لأن من حقه ان يبدي رأيه بالشكل الذي يفهمه.
 
الموسيقى في هذه الفترة من سجن نقرة السلمان

في هذه الفترة بنينا العود الثالث في تأريخ السجون وكان انجح من سابقيه كثيرا إذ كان اقرب الأعواد الثلاثة التي بنيناها في السجون الى عود حقيقي لا من حيث الشكل انما من حيث الصوت وامكانية العزف. وكنت انا عازف العود فرافقت المغنين الشعبيين الذين كانوا يجيدون الغناء الريفي وفي مقدمتهم الشاعر زاهد محمد والسجين كاظم فرهود. كان هذان السجينان يجيدان غناء الابوذية بشتى انغامها واطوارها وكنت ارافقهم اثناء غنائهم في الحفلات. وكان الأكراد يحبون رقصتهم المفضلة، سي بيي، وكنت اعزف لهم لمرافقتهم في هذه الرقصة التي كان يشترك فيها بعض العرب ايضا. وكان قسم من السجناء من جنوب العراق يحبون رقصة الدبجة فكنت ارافقهم في ذلك ولكن ذلك كان يحصل ايام العيد في الساحة الكبيرة للسجن ولم يحصل اثناء الحفلات الليلية. كنت كذلك امرن السجناء على الاغاني والأناشيد السجنية التي نقرأها بشكل جماعي. واضافة الى كل ذلك نجحت في تلحين قصيدتين احداهما من نظم احد قادة الحزب الشيوعي اللبناني عن لينين لحنت منها ثمانية ابيات واخرى من نظم الشاعر صالح بحر العلوم الذي كان سجينا معنا حول فهد وزكي بسيم وحسين الشبيبي لحنت منها تسعة ابيات وكنت اغني القصيدتين في جميع الحفلات غناء منفردا مع العود. كنت احفظ ايضا اغنية عن سواستوبول من شعر الجواهري لحنها داود أكرم وسليم زبلي وكنت اغنيها في الحفلات
وفيما يتعلق بالعود حدث مرة حادث عجيب لابد ان اذكره في هذه المناسبة. كنت مرة اناقش بهاء في موضوع سياسي لم يرق في عينيه وفجأة انفجر قائلا "شنو انت غير ﭼـلاغـﭼـي". قالها لاهانتي وكأن عملي على تغيير جو السجن الى جو من الفرح والبهجة كان دليلا على انحطاط مستواي لانني فنان. كان هذا دليلا على مفهوم بهاء للفن والموسيقى وهذا شأنه. ولكني لا اعلم لماذا شعرت بالغضب من هذا رغم انه لا يدل الا على هبوط مستواه. امتنعت لعدة اسابيع عن العزف في المناسبات ولكني شعرت بأن غضبي ليس في محله وانني لا يجب ان امتنع عن تسلية المنظمة كلها بسبب سخافة شخص واحد فبدأت من جديد اعزف واغني في الحفلات والمناسبات كما كنت افعل طيلة مدة السجن حين كانت الظروف السياسية مناسبة تسمح بذلك. ومن الجدير بالذكر ان بهاء زار لندن قبل بضع سنوات فخابرني تلفونيا طالبا مني رقم تلفون اخي يعقوب وسألني عن اوضاعي فقلت له "انا ما زلت ﭼـلاغـﭼـي" لاني فعلا كتبت رسالة الماجستير عن الموسيقى العراقية.
دورة المادية الديالكتيكية في نقرة السلمان
في سنة ١٩٥٦ كلفت المنظمة سجينا كان قبل سجنه مدرس الفيزياء في كلية الهندسة اسمه محمد عبد اللطيف بتدريس المادية الديالكتيكية. وفعلا قام بمساعدة يعقوب منشي الذي ترجم له كراس ماو تسي تونغ "حول التناقض" الى العربية اتخذه محمد عبد اللطيف اساسا لتدريس المادية الديالكتيكية. وقد دامت الدورة عدة اسابيع. وعند انتهاء الدورة قررت المنظمة الاحتفال بانتهاء دورة المادية الديالكتيكية وتقديم جائزة لمدرسها وليعقوب منشي اعترافا بفضلهما. انا انهيت العشرات من الدورات ولم تفكر المنظمة مرة واحدة باقامة حفلة ختام او حتى بالاشادة بالدورة او بكلمة شكر. وفي تلك الحفلة القيت كلمات كثيرة حول اهمية هذه الدورة الثقافية. انا لم احضر اية محاضرة من هذه الدورة ولم يدعني احد الى الحضور. ومع ذلك طلبت الكلام وبينت ان هذه الدورة برهان على ان الحزب بأشد الحاجة الى المزيد من المثقفين القادرين على رفع مستوى الاعضاء وحبذا لو سلك عدد اخر من السجناء في هذا الاتجاه. وبعد مدة قصيرة لا تتجاوز اسبوعين أو ثلاثة سافر محمد عبد اللطيف الى مشتشفى الديوانية للمعالجة وهناك نبذ الشيوعية واطلق سراحه ولم نره بعد ذلك في السجن.
علاقاتنا مع سائر السجناء
حين كنا وحدنا نحن اليهود مع الأربعة لم تكن لنا اية علاقات مع اية جماعة اخرى من السجناء فيما عدا بعض الاحيان حين يكون بعضهم مريضا وكان يأتي الي ويجلب معه ابرة بنسيلين او ستريبتومايسين ويرجوني ان أحقنها له. ولكن حين قدم سجناء اخرون واصبحنا منظمة كبيرة اصبح بامكاننا ان نقدم بعض المساعدات للسجناء الاخرين. وقد اختارتني المنظمة كي أكون ممثلها للاتصال بهم ولدراسة مشاكلهم. كانوا مثلا يحتاجون الى تكملة فريق كرة الطائرة اذ لم يكن لهم العدد الكافي فنطلب من بعضنا ان يكمل لهم الفريق لكي يستطيعوا ان يلعبوا مرة او مرتين في الاسبوع. ولكن مشاكلهم الداخلية كانت اكثر. فرغم ان اغلبهم كانوا محكومين بتهمة الصهيونية لم يستطيعوا ان يعيشوا معا بل كانوا يعيشون افرادا او كل اثنين أو ثلاثة معا. وكانت تنشأ بينهم نزاعات على قضايا تافهة فكان علي ان اعالج قضاياهم هذه وكانوا عموما يحترمونني ويقبلون نصائحي.
وفي هذه الأثناء تكونت بيني وبين السجين الاسرائيلي علاقات وثيقة لانه كان اكثرهم رزانة وثقافة ولم يبدِ عداء لنا بعد اطلاق سراح رودني. وبلغت علاقاتنا الى حد انه طلب مني ان اساعده على تعلم العربية وفي مقابل ذلك علمني شيئا من العبرية. وحتي دعته المنظمة مرة او مرتين لحضور حفلاتنا الغنائية. ولكني استفدت فائدة كبيرة من علاقتي بهذا الشخص. فقد دبروا له ترتيبا خاصا من خارج العراق بحيث ادخلوا له مجلتين امريكيتين هما نيوزويك وتايمز فكانت المجلتان تصلانه بانتظام. وكانت تلك الفترة فترة الاعداد لما سموه السنة الجيئوفيزيكية فكان القسم العلمي من هاتين المجلتين زاخرا بالمقالات عن الصواريخ والأقمار الصناعية وكأن اميركا كانت تنتظر حلول السنة الجيئوفيزيكية لاطلاق اقمارها الصناعية. وافق صالحون واسمه الحقيقي يهودا تاجر على أن يعيرني المجلتين لمدة قصيرة فكنت أقرأ جميع المقالات العلمية في المجلتين وتعلمت الكثير عن الأقمار الصناعية وغير ذلك من المواضيع. وعموما كانت علاقاتنا مع سائر السجناء علاقات ودية لم تتخللها اية نزاعات او اضطرابات كما كان الحال في ايام وجود رودني في السجن.
في مذكراتي المكتوبة باللغة الانجليزية كتبت عن عدد من السجناء العاديين وغير العاديين ولكني هنا اقتصر على ذكر شيء عن سجينين لهما علاقة تستحق الذكر هنا. كان في السجن شخص اسمه ابراهام قطان كان موظفا في ميناء البصرة وكان خلال الحرب العالمية وثيق الصلة بالانجليز العاملين في الميناء. كان يتكلم الانجليزية بطلاقة ولكنه لم يكن يعرف قراءة او كتابة كلمة واحدة. كان هذا الشخص يعاني من ارتفاع هائل في السكر ولم يكن لديه في السجن ما يساعده على تخفيف ذلك. القي القبض على هذا الشخص لأن شخصا اخبر الشرطة انه رآه يبتسم في المقهى عند سماع اخبار اسرائيل من الاذاعة. وفتشوا بيته فوجدوا وثيقة جرمية كبيرة. كان هذا الشخص مولعا برسم شجرة عائلة قطان ووجدت الشرطة الشجرة في بيته قبل اكتمالها فحكم على ابراهام قطان بالسجن سبع سنوات. كان لابراهام ابنتا اخ متزوجتان من رجلين من اغنياء اميركا. وكان طيلة مدة سجنه يتأمل وينتظر ان تثيرا قضيته في الامم المتحدة لكي يطلق سراحه. قبل حلول موعد اطلاق سراحه بعدة اشهر فكر في الكتابة لابنتي اخيه لكي يرجوهما بأن ترسلا له بذلة وحذاء ليبلبس عند خروجه من السجن. جاءني ابراهام يوما وطلب مني ان اكتب رسالتين لابنتي اخيه بهذا الصدد. اخذته عند احد عمال الخياطة الموجودين في منظمتنا لكي يأخذ له مقاييس البذلة حسب الأصول وكذلك دبرت له مقياس حذائه. وكتبت رسالتين باللغة الانجليزية أرسلهما اليهما. وبعد حوالى شهرين جاءني فرحا برسالة وصلته وطلب مني قراءتها. كان الجواب يقول ان المقاييس كانت بالسنتيمترات وفي اميركا يستخدمون الانشات للقياس ولذلك لم تستطع ان تلبي طلبه. وبعد فترة وصلت الرسالة الثانية فجاءني وقراتها له وهي تقول ان كلبها كان مريضا في الأسبوع الماضي فأنفقت كل النقود التي كانت متوفرة لديها عليه ولذلك لم تكن لها النقود اللازمة لكي تلبي طلبه. خرج هذا الشخص وجهزناه بما توفر لدينا من ملابس وسفروه عند خروجه الى اسرائيل. وعند وصولي الى اسرائيل سألت عنه فقالوا ان المسكين توفي في المخيم قبل ان تتاح له فرصة رؤية اسرائيل او الاتصال بأقاربه.
الشخصية الثانية التي اود الحديث عنها هي شلومو كرادي. شلومو كرادي كان ابنا لعائلة غنية انهى الدراسة الثانوية بتفوق فأرسلته عائلته الى الهند للدراسة الجامعية. يبدو انه هناك عاني من قصة حب فاشلة ففقد عقله وعاد الى بغداد فتخلت عنه عائلته وأخذ يتسكع في الدرابين. كنا ونحن في المدارس الابتدائية نراه عند ذهابنا الى المدرسة وعودتنا منها. وكنا نصرخ وراءه "كررّ" أو نصيح "بالصحن" أو نؤشر بأيدينا اشارة كالصحن فيسبنا ويشتمنا ويرمي علينا الحجارة. حكم النعساني هذا الشخص بالأشغال الشاقة المؤبدة  بتهمة محاولة نسف الجسر الحديدي في بغداد ولم يكن في حوزته سوى سدارته. كان شلومو كرادي بارعا في الحساب فكان يحسب عدد الأيام التي بقيت لاطلاق سراحه وعدد الصمون الذي سيأكله خلال تلك المدة وغير ذلك. وبقي هذا المسكين في السجن حتى ثورة ١٤ تموز حيث اطلق سراحه مع سائر السجناء. وفي اسرائيل صادفت شلومو في الشارع وكان يبدو كأنه انسان طبيعي فسلمت عليه وطبعا طلب مني بعض النقود فأعطيته ما توفر لدي.
 

ترييض كافة السجناء ثم نقل غير اليهود الى سجن بعقوبة
 
معنى الرياضة في السجون وضع السجين في سجن انفرادي للتعذيب. بعد حرب السويس سنة ١٩٥٦ شنت ادارة السجن هجوما عاما علينا نحن المنظمة الشيوعية. فريضتنا كلنا عدا العدد اللازم لاعداد الطعام والخبز. وبما انه لا توجد غرف كافية لترييض جميع السجناء كل واحد في غرفة فقد وجدت ادارة السجن وسيلة اخرى فوزعت السجناء في السجن الجديد والسجن القديم ووضعت في كل غرفة من غرف السجن الجديد الواسعة ثلاثة او أربعة وربطتهم بالسلاسل الى الشبابيك. ولم يكونوا يحررونهم من السلاسل سوى ساعة واحدة صباحا لقضاء حاجاتهم وغسل وجوههم.
كان موقع رياضتي في القلعة المركزية في السجن القديم وهي قلعة صغيرة في وسط السجن كنا فيها اربعة سجناء فكان معي صاحب حمادي وهو مسؤول الجماعة ونافع يونس وأكرم حسين وتركونا مطلقين في هذه القلعة. ونظرا لضيق المكان كنا نستطيع ان نتجاذب اطراف الحديث ونتناقش في مواضيع مختلفة اثناء النهار. وكانوا يسمحون لنا كل صباح بالخروج ساعة واحدة لقضاء حاجاتنا. دام ذلك حوالى شهر لم يسمحوا لنا خلاله حتى بتغيير ملابسنا الداخلية. وفيما عدا حالات قليلة لم يستعملوا الضرب والتعذيب واكتفوا بوضعنا في الرياضة.
انعقد في تلك الفترة الكونفرنس الثاني للحزب بعد ان جرى ما سمي بالقضاء على الانتهازية بضم منظمة راية الشغيلة ومنظمة وحدة الشيوعيين لعزيز شريف الى الحزب. وكان هذا الكونفرنس متأثرا بقرارات المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي. جاءني صباح احد الايام صاحب حمادي اثناء خروجنا الصباحي وأخبرني بأن جميع المنظمات الانتهازية السابقة انضمت الى الحزب. فقلت له رأسا من السهل اكل وجبة ضخمة كهذه ولكن المشكلة كيف يمكن هضمها. فثار ثائره وأخذ يرغي ويزبد ويهذي من الغضب. فقال "اذا تريد ان تعرف ان اللجنة المركزية لحزبنا حاليا هي اقوى حتى من اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي" فضحكت ساخرا وسالته كيف توصلت الى هذا القرار الرائع؟ ولكنه لم يكن يسمع مني كلمة بل يتفوه بكلام لا يفقهه هو نفسه. ومما قاله "ليكن معلوما لديك ان دورة المادية الديالكتيكية لم يكن مثلها من قبل ولن يكون مثلها في المستقبل". وكان بذلك يقصد ازعاجي لاني كنت انا الوحيد الذي درس المادية الديالكتيكية سابقا قبل الدورة التي اجراها محمد عبد اللطيف. فقلت له ببرود  فهمنا ان دورة  محمد عبد اللطيف لم يكن لها مثيل. ولكن محمد عبد اللطيف نبذ الشيوعية واطلق سراحه نتيجة لذلك فكيف علمت انه لن يكون في الحزب من يستطيع ان يدرس المادية الديالكتيكية في المستقبل؟ الا يمكن ان يأتي في الحزب من يعرف المادية الديالكتيكية ويدرسها. وبقي صاحب حمادي يثرثر بمثل هذه العبارات الى ان انتهت الساعة ودخلنا الى القلعة ولم نناقش الموضوع مرة اخرى.
تسفير السجناء كلهم عدا اليهود الى سجن بعقوبة
انتهت فترة الرياضة هذه بتسفير كافة السجناء غير اليهود الى سجن بعقوبة. ونقلونا نحن اليهود المتبقين الى السجن القديم فاحتللنا نحن الشيوعيين غرفة من غرفتي السجن العاديتين. وفي صباح يوم جلسنا نحن ثلاثة يعقوب مصري ومئير كوهين وأنا وبحثنا باقتراح يعقوب مصري اذا كنا سنقوم واقفين عند حضور المدير اذ لم نكن سابقا نقوم عند دخول المدير الى السجن. وباقتراح يعقوب مصري ايضا قررنا اننا لا نقف. كان لدي ذلك اليوم نسخة من القرآن وكنت أقرا فيها فلم الاحظ ان السجناء كلهم كانوا ذلك اليوم من هواة التمشي. لم يجلس منهم احد طيلة ذلك اليوم سواي. وقد اخذت القرار بصورة طبيعية واعتبرت ان الجميع ينفذونه. وعند دخول معاون المدير كنت انا الوحيد الجالس فجاء وامرني بالوقوف فلم اطعه استنادا الى القرار. وفي عصر ذلك اليوم دعاني المدير الى زنزانة موجودة خارج السجن وانقض على كالوحش ركلا ولكما بكل ما كان لديه من قوى وتركني في هذه الزنزانة لمدة اسبوع وظهر ان احد اضلاعي كان مكسورا من شدة الضرب. وقد أصدر علي حكما بالجلد علنا عشرين جلدة. الا ان المدير نقل الى سجن آخر قبل تنفيذ حكم الجلد ولم ينفذه المعاون.
لم يدم بقاؤنا في هذا الوضع اكثر من اسبوعين او ثلاثة حتى قرروا نقلنا نحن ايضا الى سجن بعقوبة. وقبل نقلنا الى بعقوبة كبلونا بالسلاسل ونزعوا عنا ملابسنا المدنية واجبرونا على ارتداء الملابس السجنية الخشنة وصادروا جميع أفرشتنا. وجاء موعد نقلنا وسفرونا الى السماوة وفي اليوم التالي سفرونا الى بغداد بالقطار ثم في نفس اليوم بالسيارات الى سجن بعقوبة فوصلناه في المغرب. وتلقانا المدير ومعاونه والسجانة واخذوا يضربون البعض ويتركون الاخرين حسب اختيارهم. وفي الغرفة التي كنت فيها مع ثلاثة سجناء كان معنا شلومو كرادي الذي سبق الكلام عنه. وعند دخول المدير الى غرفتنا سارعت الى اخباره بأن هذا الشخص معتوه خوفا من ان يشمله بالضرب. ويبدو ان المدير اعجب بمبادرتي الى الدفاع عن هذا السجين المسكين قبل الدفاع عن نفسي فتخلى عن ضربنا جميعا.
سجن بعقوبة
يتألف سجن بعقوبة من قسمين السجن القديم والسجن الجديد. فالسجن القديم هو سجن عادي كغيره من السجون العراقية وكسجن الكوت يحتوي على غرف واسعة عديدة تتوسطها ساحة كبيرة.
ولكن السجن الجديد سجن مبني على اسس علمية حديثة بالمفهوم الاميركي. بنت الحكومة الاميركية هذا السجن كمساعدة للشعب العراقي بموجب النقطة الرابعة لترومان لمساعدة الشعوب الفقيرة. وصمموا هذا السجن بحيث يمكن ان يبقى فيه السجين وحده سنوات بدون ان يرى بشرا او سماء او شمسا.
يتكون هذا السجن الامريكي من عمارتين متشابهتين تتألف كل واحدة منهما من صفين من الغرف تبلغ مساحة كل غرفة منها حسب تقديري مترين عرضا وربما ثلاثة امتار عمقا او اقل من ذلك. وفي كل غرفة مرحاض فيه دش ماء بارد وخارج المرحاض حوض لغسل اليد والوجه. وهكذا تكون كل حاجات السجين في الغرفة متوفرة من المرحاض، والدش للاغتسال والحوض الذي يستعمل ايضا لغسيل الملابس. وثمة كوة في الباب الحديدي للغرفة يمكن ادخال الطعام منها للسجين. يتوسط صفي الغرف ممر ضيق يبلغ عرضه حوالى متر يكون فيه حارس ليلا ونهارا. وطبيعي نظرا لحرص الامريكيين على ان يكون مفعول مساعدتهم للشعوب الفقيرة على اكمل وجه كانوا يرسلون وفدا من اميركا الى السجن مرة كل سنة للتأكد من نجاعة مساعداتهم. في سنة ١٩٥٧ كنت في السجن عند زيارة المفتشين الاميركيين. جاؤوا من اميركا لهذا الغرض وحضروا الى السجن يرافقهم مدير السجون العام. دخلوا في كل غرفة ورأوا الحالة المزرية التي نحن فيها. وبعد هذه الزيارة علمنا عن نتائجها. فقد رأوا ان شبابيك الغرف المطلة على ساحة السجن كانت عادية فاعتبروا ذلك خطرا لان السجين يستطيع ان يكسر الشباك للهرب الى ساحة السجن فقرروا وضع شبابيك فولاية اضافة الى الشبابيك العادية. ونفذت ادارة السجن هذا المطلب فور سفر الوفد. ولاحظوا وجود مرازيب للمطر تنقل مياه المطر من السقف الى ساحة السجن فقرروا ان هذه المرازيب يمكن ان تساعد السجناء على الهرب ويجب ازالتها. ولاحظوا ان السجناء يقومون بحلاقة اذقانهم بأدوات حلاقة عادية فقرروا ان وجود امواس الحلاقة لدى السجين تحرضه على الانتحار فطلبوا من الادارة ان تعين احد السجناء لحلاقة اذقان السجناء مرة في الاسبوع وأن تصادر ادوات الحلاقة منهم. الا ان الادارة لم تنفذ الاقتراحين الأخيرين. هذه هي مقررات المفتشين الاميركيين سنة ١٩٥٧ لزيادة مساعداتهم للشعب العراقي الفقير.
قدم هذا السجن الحديث خدمة كبرى للحكومة باتجاه اخضاع السجناء السياسيين للظروف القاسية التي تريد فرضها عليهم. اذ ان وجود السجين في غرفة انفرادية كهذه مع الضرب والتعذيب يقلل من قدرته على المقاومة بخلاف الوضع حين يكون السجناء مجتمعين معا يشجع ويساند بعضهم بعضا.
في الفترة الاولى من وجودنا نحن اليهود في سجن بعقوبة وضعونا لمدة قصيرة في السجن العتيق مع السجناء العاديين الذين كانوا في السجن. فكنا كلنا في غرفة واحدة وكان يزورنا من حين لاخر مدير السجن او معاونه لاعطائنا وجبة من الضرب والاهانة حسب الاصول. في هذه المدة رأينا سجينا عاديا محكوما بالأشغال الشاقة المؤبدة على جريمة قتل. كان هذا السجين الذي يدعى وعد الله النجار يعطف على الشيوعيين صراحة. وكانت ادارة السجن تعذبه وتجلده يوميا طالبة منه سب الشيوعية وفهد ولكنه كان يتحمل التعذيب والضرب والجلد بشجاعة نادرة دون ان يخضع لرغبات ادارة السجن. وقد اثبت هذا السجين اخلاصه في حبه للشيوعية بعد اطلاق سراحه في ثورة تموز اذ اصبح عضوا نشيطا في الشبيبة. التقيت وعدالله النجار صدفة في شارع الرشيد سنة ١٩٥٩ فقص لي كل ما حدث فيما يدعى محكمة الشعب في الموصل التي شكلها الحزب بعد فشل اتقلاب الشواف. وقال لي متبجحا لقد عينوني مأمورا في سجن الموصل ومهمتي تعذيب السجناء. وبعد الانقلاب البعثي ضد قاسم في ١٩٦٣ كان القتل من نصيب وعدالله.
 بعد مدة قصيرة نقلونا الى السجن الحديث ووزعونا اربعة سجناء في كل غرفة بحيث اننا حين كنا ننام على ارض الغرفة ليلا كنا نشغل عمق الغرفة كاملا من الباب الى المرحاض ولا يبقى من عرض الغرفة سوى فراغ ضيق يستطيع السجين ان يسلكه للذهاب لقضاء حاجته عند الحاجة. وفي هذه الغرفة قضينا طيلة مدة وجودنا في سجن بعقوبة من أواخر ١٩٥٦ الى ثورة ١٤ تموز ١٩٥٨.
كانت ادارة السجن تفتح الاذاعة العراقية من الساعة ٤ بعد الظهر الى نهاية اذاعة اخبار الساعة العاشرة مساء وكانت هناك سماعة في الممر بحيث يستطيع السجناء الاصغاء لها. كان ذلك وسيلة لنا لقضاء ست ساعات في اليوم بالاصغاء لمختلف برامج الاذاعة العراقية بما فيها الاخبار. كان القسم الذي وضعونا فيه من السجن الحديث كله معدا للحجز التام للسجناء مثلنا. فقد احتللنا نحن اليهود اربعة من هذه الغرف. وكانت كل الغرف الباقية غرف حجز لسجناء اخرين تعتبرهم الادارة خطرين.
كان مدير السجن يزورنا مرة او مرتين في الاسبوع بعد منتصف الليل فترن اصوات فتح الأبواب الحديدية ونعلم منها ان المدير قادم. كان يأتي في اكثر الأحيان وهو منتش بالخمر فيمر في جميع الغرف الواحدة تلو الأخرى ويسب ويشتم ويضرب كيفما شاء. لم يكن بحاجة الى اسباب للضرب اذ كان يضرب السجين للتسلي. كان مثلا يقول لاحد السجناء لماذا رأسك كبير؟ ويضربه لهذا السبب او لأن شاربيه اكير من اللازم.
أما العمارة الثانية من هذا السجن فكانت ابواب الغرف فيها تفتح من الصباح الى المساء وتغلق اثناء الليل. كان السجناء فيها يستطيعون الاجتماع والحديث وحتى القيام ببعض التثقيف. وكان المسؤول عن تنظيم وتثقيف هذا القسم عزيز الحاج الذي لم يحجزوه في غرف العزل في قسمنا. وطبيعي أن يقوم بعض السجناء في هذا القسم باعداد الطعام وخبز الخبز وتوزيعه وكذلك يقومون بالغسيل الجماعي ونشر الغسيل على الحبال الموجودة في ساحة السجن.كنا نستطيع مشاهدة السجناء وهم يقومون بنشر الغسيل في الساحة من شباكنا المطل عليها.
لم يكن يسمح في سجن بعقوبة باي شيء له علاقة بالثقافة. فحتى الورق ممنوع واذا وجدت قصاصة ورق لدى احد السجناء فالادارة تعاقب كل السجناء. كان يسمح مرة في الشهر أو كل اسبوعين لمن يريد كتابة رسالة لاهله. ففي اليوم المحدد لكتابة الرسائل يأتي احد السجانة ومعه عدد من اوراق الرسائل واقلام الرصاص. كل من يريد ان يكتب رسالة يأخذ ورقة وقلم رصاص ويكتب الرسالة ويعيد الورقة والقلم الى السجان. وبذلك كانوا يضمنون عدم فقدان اية ورقة او اي قلم رصاص. اما الكتب او الصحف فلا وجود لها اطلاقا. حتى المجلات التي سمح مدير السجون العام باعطائها الى صالحون منع مدير السجن دخولها اليه.
وأسوأ ما كان في هذا السجن الأميركي هو عدم وجود منظمة تعترف بها ادارة السجن كما كان الوضع في جميع السجون السابقة. فقد اصبحت كل غرفة من غرف هذا السجن وحدة مستقلة ترتبط مباشرة بالادارة ولو كان فيها سجين واحد. فلم يعد المدير يطلب ممثل السجناء لبحث الاجراءات المطلوبة معه والتفاوض من اجلها. وبهذا تحطم مفهوم المنظمة بالنسبة للمدير وبالنسبة للسجناء ايضا.
بعد فترة من اغلاق الغرف في قسمنا ليلا ونهارا قررت الادارة السماح للسجناء بالتمشي في الممر بين صفي الغرف ساعة كل يوم بعد وجبة الظهر. كانوا يفتحون غرف السجناء اليهود ويسمحون لنا بالتمشي ساعة ثم يغلقون علينا الغرف ويفتحون غرف السجناء غير اليهود ليسمحوا لهم ايضا بالتمشي ساعة أو بالعكس يفتحون الغرف الاخرى اولا ثم يفتحون غرفنا. ولكن المهم ان لا نلتقي كلنا سوية في الممر. كانت هذه الساعة من التمشي توفر لنا فرصة الالتقاء ببعضنا والتحدث الى احدى الغرف من كوة الباب التي يدخلون منها الطعام اذا تغاضى الحارس الموجود في الممر عن ذلك.
كان وجود اربعة سجناء معا في زنزانة لا مجال فيها سوى ثلاثة او اربعة امتار مربعة صعبا وكانت تنشأ بين السجناء بعض المشاكل والنزاعات. وكنا نسمع عن مثل هذه النزاعات في غرف اليهود الاخرى حين نخرج للتمشي. كانوا يعجبون من ان غرفتنا هي الوحيدة التي لم تنشأ فيها نزاعات. في غرفتنا كان معي ثلاثة هم مئير كوهين وحسقيل درويش ومنشي عبد الله. ولتحاشي الضجر والمشاكل اقترحت عليهم ان نشغل انفسنا بأحاديث سياسية ونظرية. فكان كل منهم يثير موضوعا يريد ان يعرفه وكنا نسجل اسئلتهم على الجدار بملعقة الطعام فاناقش الاسئلة حسب الترتيب وبذلك كان يومنا يمضي سريعا بدون اية مشاكل وبدون الضجر الذي كان يشكو منه جميع السجناء في الغرف الاخرى.
كان عزيز الحاج كما اسلفنا مسؤولا عن القسم الثاني من السجن ومسؤولا عن التثقيف الضئيل الممكن بدون مراجع. كانت تثار اثناء ذلك اسئلة يعجز عزيز الحاج عن الاجابة عليها فكان ينقلها الى غرفة القيادة في قسمنا التي كانت تضم هادي هاشم مسؤول منظمة السجن ومهدي حميد وزكي خيري وبهاء. وكانوا بدورهم ينقلون الاسئلة الي للاجابة عليها. ثم يرسلون اجوبتي الى عزيز. استمر ذلك طوال مدة بقائنا في سجن بعقوبة. وقد سألت هادي هاشم مرة عما اذا لم يحن وقت الغاء قرار منعي من التثقيف، لان هادي هاشم لم يكن في نقرة السلمان لدى اتخاذ القرار، فتحاشى الجواب.
حدث في حوالي نيسان ١٩٥٨ حادث بيننا وبين ادارة السجن جدير بالذكر. في احد الايام جاءنا عريف من حراس السجن واخبرنا ان الادارة قررت ان يقوم السجناء اليهود بتنظيف قاعات السجن يوميا وهو عمل لم يحدث مثله من قبل لاننا كنا دائما نقوم بتنظيف القسم الذي نسكن فيه بأنفسنا ولم نقم ابدا باي عمل او اي تنظيف تأمر به الادارة. ولما استشرنا قيادة المنظمة في ذلك نصحونا بقبول اوامر الادارة. وفي صباح اليوم التالي اخرجوا ثلاثة سجناء يهود كنت احدهم وكان معي يهودا تاجر وابراهام ناجي فقمنا بكنس وتنظيف القاعة التي امرونا بتنظيفها مما استغرق حوالى ساعة ثم عدنا الى غرفنا. ولم يتكرر ذلك ابدا اذ لم تدع ادارة السجن احدا من اليهود للقيام بالتنظيف مرة اخرى. يبدو لي ان الادارة كانت تريد جر السجناء الى معركة بهذا الطلب الغريب. فلو رفضنا القيام بهذا العمل لكان ذلك حجة تستغلها الادارة للهجوم على السجن السياسي كله وليس على السجناء اليهود وحدهم.وجاء قبولنا بذلك احباطا لخططها فأبطلت قرارها. واعتقد ان قيادة السجناء كانت حكيمة في الايعاز لنا بقبول امر الادارة لتحاشي الدخول في معركة لم يكن السجناء قادرين على خوضها او مستعدين لها.
اطلاق سبوتنيك
حدثت جملة احداث أثناء وجودنا في هذا الوضع اود ان اشير الى عدد منها لاهميتها. كان احد هذه الاحداث اطلاق القمر الصناعي السوفييتي الاول سبوتنيك الى الفضاء الخارجي سنة ١٩٥٧. كان ذلك مفاجأة لنا جميعا. لم يكن بين السجناء من سمع شيئا عن الاقمار الصناعية أو فهم شيئا عنها. ولكني كما ذكرت قرأت كافة المقالات العلمية في مجلتي تايمز ونيوزويك الاميركيتين حين كانت تصل الى صالحون في نقرة السلمان. فلم يكن لدى السجناء من يسألونه عن هذا الموضوع سواي. فتناوب الاربعة الموجودون في غرفة القيادة اثناء ساعة تمشيهم في الممر ليقفوا عند فتحة الباب الحديدي في غرفتنا ليستوضحوا عن سبوتنيك. وقد حاولت ان اشرح لكل منهم ما استطيع شرحه حول الاقمار الصناعية. لم يحدث مع الثلاثة الاول ما يستحق الذكر فقد بقي كل منهم ساعة يستمع الي ليفهم ما يستطيع فهمه عن الأقمار الصناعية.  وفي اليوم الرابع جاء بهاء بدوره لنفس الغاية وبدأت اشرح له ما استطيع شرحه حول الموضوع. وحين وصلت الى الحديث عن ظاهرة فقدان الوزن اعترض وقال هذا غير ممكن. فقلت لــه ولكن العلماء في الاتحاد السوفييتي وفي الولايات المتحدة اختبروا ذلك وطبقوه بصورة اصطناعية على الأرض لتدريب رواد الفضاء على كيفية السلوك لدى فقدان الوزن. فقال ان هذا غير ممكن. فسألته "هل تستطيع انت من السجن ان تنقض كل ما قام به العلماء من بحوث وتجارب؟" فأجاب "نعم الشيوعي يستطيع." وتوقف عن النقاش وتركني بدون ان يحاول ان يفهم شيئا ولو ضئيلا عن الاقمار الصناعية.
رغبة عزيز الحاج في تدريس المادية الديالكتيكية
في سنة ١٩٥٨ أي قبل ثورة ١٤ تموز بأسابيع قليلة، طرأت بخاطر عزيز الحاج فكرة تدريس المادية الديالكتيكية في القسم الثاني من السجن. فأعرب عن رغبته هذه لغرفة القادة وكما هو الحال دائما طلب مني هادي هاشم ان اقوم باعداد مادة تساعد عزيز الحاج على تدريس هذا الموضوع. انا اعلم ان عزيز الحاج لم يكن يعرف شيئا عن المادية الديالكتيكية ولابد ان القارئ يتذكر حادث الطحين في سجن الكوت. ربما يكون عزيز الحاج قد حضر الدورة التي درس فيها محمد عبد اللطيف هذه المادة في نقرة السلمان ولكني كنت على ثقة من ان عزيز لا يستطيع انجاز موضوع خطير وعلمي دقيق كهذا. رفضت ان اكتب موضوعا دقيفا ومعقدا كهذا وقلت لهادي هاشم هذا موضوع دقيق ولا اسمح لنفسي بالكتابة عنه بدون مراجع. ولم يفلح في اقناعي بالكتابة. وفي اليوم التالي جاء زكي لمحاولة اقناعي بكتابة الموضوع فرفضت ايضا فقال لي نحن نكتبه. كنت اعلم انهم لا يستطيعون انجاز شيء من هذا القبيل لانهم لم يكلفوا انفسهم طوال مدة السجن عناء قراءة اي كتاب نظري ماركسي. ولذلك قضيت في ذلك اليوم ساعة التمشي عند بابهم لكي اشرح لهم ما ينبغي لمن يريد أن يكتب  موضوعا كهذا ان يكتب. وفي اليوم التالي جاءني هادي هاشم وقدم لي ما كتبوه. قراته ليلا تحت حراسة اثنين من سجناء الغرفة احدهما يراقب من الشباك والاخر يراقب الحارس الموجود في الممر. وفي اليوم التالي جاءني هادي هاشم فاعطيته الورق بدون ان اقول لـه شيئا. فسألني ما رأيك؟ فقلت احرقوه. فعجب لجوابي وقال لماذا؟ فقلت لـه ليس فيما كتبتم جملة واحدة تتعلق بالمادية الديالكتيكية. فقال اذن ابحث ذلك مع زكي لانه هو الذي كتبه. وفي اليوم التالي جاء زكي ليستفسر عن سبب قراري باحراق المادة. فقلت لـه انا اعلم انك لا تعرف شيئا عن الاقتصاد السياسي ولكني كنت احسب انك تعرف شيئا عن المادية الديالكتيكية. فسألني ماهو الخطأ فيما كتبت؟ فقلت له ان ما كتبته هو ملخص مشوه لفصول تأريخ الحزب الثلاثة التي ترجمتموها ودرستموها في نقرة السلمان وسجن الكوت. فهي عبارة عن سرد تأريخي وليس فيها شيء عن المادية الديالكتيكية وقوانينها. فقال مقولته العبقرية "خلدنعلمهم غلط ويسبونا بعدين". فأجبته "متروح تعلمهم غلط. هل أنا طلبت منكم ان تعرضوا علي ما كتبتم؟ وهل انا طلبت منكم ان تستشيروني في الموضوع؟ أما وقد استشرتموني فواجبي كشيوعي هو أن اقول رأيي بصراحة".
يبدو لي انهم احرقوا المقال رغم انهم لم يقولوا لي ذلك. كان ذلك واضحا مما وقع بعد ذلك. خرج عزيز الحاج لأول مرة مع السجناء الذين ينشرون الغسيل في الساحة وهذا شيء استثنائي لأن عزيز هو المسؤول عن القسم وهو لا يساهم في مثل هذا العمل. ولكنه خرج لغرض واحد هو ان يقف تحت شباكي طوال الساعتين أو الثلاث ساعات التي يقضيها السجناء في نشر الغسيل على الحبال ثم جمعها يابسة ليستمع مني ما يجب ان يقوله في تدريس المادية الديالكتيكية. وبهذا دفع ثمن عدم تواضعه في الكوت وعدم رغبته في فهم الديالكتيك انذاك غاليا. ولا اعتقد انه نجح في تحقيق ما كان يريده خصوصا لان ثورة ١٤ تموز حدثت بعد مدة وجيزة فأوقفت الدراسات والنقاشات لأنها اصبحت هي موضوع الساعة.
كنت احد الايام عند باب غرفة القادة أتجاذب أطراف الحديث مع زكي فدخلنا في مواضيع عديدة وتطرقنا الى فترة قيادة حميد عثمان للمنظمة. كان حميد عثمان بعد هروبه الثاني من السجن قد أصبح المسؤول الأول في الحزب ولكنه طرد من الحزب بتهمة الانحراف اليساري. فأحب زكي ان يتبجح قليلا فقال "انا كنت اعرف ان حميد كان منحرفا منذ البداية" فسألته "هل انتقدته؟" فأجاب "من يستطيع أن يقول للأسد فمك نتن؟" وطبعا قالها باللغة العامية. فقلت له ببرود "الشيوعي". كان زكي خيري حتى قبل انقسام المنظمة في نقرة السلمان مقربا من القيادة ومرجعا لسالم عبيد النعمان في القضايا النظرية. وجرى الانقسام كما ذكرنا بصورة سلمية لم يكن فيها اي نوع من القسر او التأثير فاختار زكي خيري منظمة حميد عثمان الذي يقول انه كان يعرف بانحرافه منذ البداية. فمن اضطره الى الانضمام الى منظمة يعرف من البداية ان قائدها منحرف يساري؟ ثم ان زكي خيري كان طيلة فترة قيادة حميد عثمان الشخصية الثانية بعده وكان حميد عثمان يستشيره هو وأبراهام شاؤول في كل القضايا كما صرح لي حميد عثمان نفسه في حادث انتقاد مقالة ع.ع. ولكنه حسب ادعائه كان يخشى ان يقول للاسد فمك نتن. وهذا يعني ان حميد عثمان لم يكن يقبل النقد حتى من اقرب المقربين اليه ومرجعه النظري. وهذا غير صحيح بالمرة. فأنا كنت عضوا بسيطا في المنظمة ولا ادري ان كانوا يعتبرونني شيوعيا ام لا. وانتقدت ع.ع. بشدة وحميد عثمان كان يعرف انه عامر عبدالله عضو المكتب السياسي للحزب. وانتقدت حميد عثمان وابراهام شاؤول وأصريت على الانتقاد حتى حين اعتذر حميد عثمان عن سلوكه معي. فماذا كانت النتيجة؟ لم يطردني حميد عثمان من المنظمة بل رفعني الى مستوى زكي خيري وعزيز الحاج كمثقف للمنظمة كلها. فهل يمكن بعد هذا اتهام حميد بأنه الأسد الذي لا يمكن انتقاده؟ ان هذه الظاهرة، ظاهرة الادعاء بمعرفة الانحراف والخوف من الانتقاد ليست مقصورة على العراق. فالمثل العالمي كان خروشوف، وهو اكبر الذين روجوا وخلقوا عبادة ستالين الشخصية، إذ ادعى انه كان يعرف انحراف وجهل ستالين ولكنه كان يخشى انتقاده خوفا على حياته. واذا تتبعنا حياة ستالين الحزبية من تأريخ الحزب والنقاشات التي كانت تجري في اللجنة المركزية للحزب وفي مؤتمراته نجد ان ستالين تعرض خلال حياته اكثر من اي من المعلمين الأربعة للانتقاد المباشر فكان يدرس الانتقاد ويفنده امام اعضاء اللجنة المركزية ومؤتمر الحزب والشعب السوفييتي وفي كتاباته لاقناع المنتقدين وغيرهم بصحة آرائه. يبدو لي ان هناك اناس لا يستطيعون انتقاد الأسود الا بعد ان يصبحوا جثثا هامدة.
في احد الأيام سمعنا من الاذاعة العراقية قصة طريفة. كان احد الفلاسفة العرب (لا اتذكر اسمه) مسافرا في قافلة من العراق الى الشام فهاجمت القافلة عصابة لصوص واستولت على جميع ممتلكات القافلة ومن جملتها حمار الفيلسوف. ولاحظ رئيس عصابة اللصوص ان الفيلسوف يتبع الحمار فسأله لماذا تتبع هذا الحمار؟ فأجابه لأنه حماري. فسأله وماذا على ظهر الحمار؟ قال كتبي. فأشفق الرئيس على الفيلسوف وأخذه مع العصابة الى الشام وأعاد به حماره. وعندذاك قال اللص للفيلسوف "في المرة القادمة احفظ كتبك في رأسك وليس على ظهر الحمار". في اليوم التالي ذهبت الى غرفة القادة وخاطبتهم جميعا. سألتهم ان كانوا قد سمعوا قصة الفيلسوف. فقالوا لا. حكيت لهم القصة وبعد ذلك قلت لهم "حبذا لو قبلتم نصيحة اللص للفيلسوف. ففي السنوات الماضية ابقيتم الكتب على ظهر الحمار واذا سنحت لكم فرصة ثانبة تجدون فيها بعض الكتب فليتكم تضعوها في رأسكم وليس على ظهر الحمار.
في سجن بعقوبة التقيت بالشاب الذي كانت لـه الاكزيما الغريبة في سجن الكوت وفرحت اذ رأيت ان يده بقيت سليمة من تلك الاكزيما. ودار الحديث بيننا فقال لي "في الحقيقة ان كنت فعلا تحب الحزب وتحرص على سلامته يجب ان تبتهج لأنه لا يقبلك عضوا فيه". فتركته دون ان ارد عليه.
في سجن بعقوبة كان شاعر شاب اسمه عدنان كان صديقي في نقرة السلمان فطلبت منه بالمراسلة أن يعلمني عروض الشعر. وفعل ذلك وبعد أن علمني ما كان يعرفه من العروض اقترح امتحاني بأن انظم شيئا فنظمت قصيدة من عشرة ابيات حين قرأها كتب لي "أنت شاعر".
أشعر ان القارئ يتساءل الآن اذا كانت وسائل الكتابة ممنوعة بتاتا فكيف جرت كل هذه المراسلات؟ في سجن بعقوبة سجلت نفسي مدخنا رغم اني لم أكن مدخنا في حياتي. والمدخنون نوعان؛ قسم يفضل السجاير والقسم الآخر يفضل لف السجاير وكنت أنا ممن يفضلون لف السجاير مع انه لو طلب مني أحد أن الف سيجارة لما استطعت ذلك. كنت استعمل ورق اللف للمراسلات. كانت لدي قطعة من رصاص قلم الرصاص أدحسها في يدة أداة الحلاقة واثبتها بورقة واستخدمها بدل القلم وبهذه الطريقة استطعت ان انجز كافة المراسلات خلال وجودي في سجن بعقوبة.
ثورة ١٤ تموز
في يوم ١٣ تموز سمعنا في اخبار الساعة العاشرة عن سفر الملك ونوري السعيد صباح اليوم التالي الى أنقرة لحضور مؤتمر حلف بغداد الذي ينعقد هناك في ١٤ تموز وعن تعيين عبد الاله نائبا للملك اثناء غيابه. كانت هذه الحالة نادرة الحدوث إذ لم يكن هؤلاء الثلاثة يجتمعون كلهم في بغداد معا. كان لابد أن يكون واحد منهم على الأقل في الخارج احتياطا للطوارئ. كانت هذه الاخبار محزنة بالنسبة لنا. وفي الصباح الباكر سمعنا اصوات جمهور كانها مظاهرة تجري وراء السجن. فكان هذا لنا مفاجأة اذ ان الظروف السياسية كانت قاسية ولم يكن بالامكان ان تجري مظاهرة واسعة حتى في بغداد فهل يعقل ان تحدث مظاهرة بهذه الضخامة في مدينة صغيرة مثل بعقوبة؟ ولكن الاصوات بدأت تتصاعد اكثر فأكثر واخذنا نسمع اصوات خطابات وأناشيد كانها تصدر من الاذاعة. وأخيرا تسربت الاخبار من السجانين بحدوث ثورة وبتشكيل حكومة ثورة. كان ذلك خبرا صاعقا بالنسبة لنا اذ شعرنا في هذه اللحظة بأن هذه الثورة حققت كلما ناضلنا وضحينا من اجله. في الصباح طلب السجناء ارسال وفد للتفاوض مع الادارة فسمح المدير بمقابلة الوفد. طلب الوفد منه فتح الراديو طوال النهار وفتح ابواب السجن وازالة السلاسل من ارجلنا. وحقق المدير كل ذلك على مضض. فاجتمعنا كلنا مرة اخرى وأخذنا نستمع الى جميع البيانات والاخبار من الراديو. ليس بامكاني وصف مشاعرنا في هذه الايام لان ذلك يحتاج الى شاعر أو أديب.
حدث لي فور فتح الأبواب حادث طريف. كان السجناء في القسم الثاني يسمعون كلما كانت لديهم مشكلة لا يعرف عزيز الجواب عليها "نسأل حسقيل" وكان بين السجناء العديد من الشباب الذين لم يعرفوني ولم يروا صورتي فجاء عدد منهم لرؤيتي والتعرف علي. جاءني شاب لا يتجاوز عمره ١٨ عاما وما أن رآني الا وصرخ "أين شاربيك؟" فقد كنت دائما حليق الشاربين. فقلت لـه "انني ماركسي في دماغي وليس في شاربي" فلم يعجبه جوابي وتركني متعجبا.
بعد الثورة مباشرة اخذت الاحداث تتتالى بجيدها وسيئها. فبدأ اطلاق سراح السجناء بالجملة اذ اعلنت حكومة الثورة تخفيض مدد محكوميات جميع السجناء بدون استثناء الى النصف فخرج من السجن جميع السجناء ذوي المحكوميات التي تقل عن عشر سنوات. وكان بين من اطلق سراحهم عدد من اليهود الذين سفروا كالعادة الى اسرائيل. وقد قامت قيادة السجن بتوصيتهم بأن لا يبدوا مقاومة لتسفيرهم بغية عدم احراج الحكومة الثورية.
لدى فتح ابواب السجن واجتماعنا ثانية شعرنا بصورة فظيعة بالتمييز ضد السجناء اليهود. لاحظنا اولا ان بعض السجناء الذين عشنا معهم حوالى عشر سنوات كانوا يقومون حين يجدون أحدنا في فرقة الطعام اذ لا يستسيغون الأكل بصحبة يهودي. ولاحظنا مواقف عداء صريحة من بعض السجناء تجاهنا. وارسلنا بعد الثورة برقية تهنئة لقادة الثورة والحكومة الجديدة وقعها جميع السجناء ونحن من ضمنهم ولكن علمنا فيما بعد ان القيادة حذفت اسماء اليهود وتواقيعهم من البرقية رغم ادخال اسماء سجناء ساهموا مع الشرطة في تعذيبهم واهانتهم.
بقي من اليهود الشيوعيين واصدقائهم اربعة فقط يعقوب مصري ومئير كوهين وأنا وشخص اخر اسمه يوسف زلوف لم يكن يعتبر شيوعيا بل صديقا كما بقي من الصهاينة صالحون واثنان او ثلاثة ممن كانت محكومياتهم تزيد على عشر سنوات وكذلك شلومو كرادي. كان شعورنا سيئا من هذه المعاملة فطلبنا نحن الثلاثة الاجتماع مع لجنة القيادة لبحث هذا الموضوع. حضر الاجتماع هادي هاشم الرئيس وزكي خيري ومهدي حميد وعزيز الحاج. اعترفوا جميعا بأن سياسة الحزب حاليا تتحاشى اليهود وانهم كلهم لا يؤيدون سياسة الحزب. وخلال النقاش قلت لهم ساخرا اذا كنتم تريدون فنحن مستعدون ان نعلن اسلامنا ونتعمم ونذهب الى النجف لكي نبقى في الحزب. فأجابني هادي هاشم اذذاك لا نقبلكم في الحزب. وأثرت المشكلة التي سنعاني منها عند خروجنا وهي اننا سنحاول الاتصال بالحزب فلا تتاح لنا فرصة هذا الاتصال فوعدني هادي هاشم بأنه يعدنا وعدا قاطعا بانه يوصل لنا كل ما نريده الى الحزب مهما كانت الظروف. وانتهى الاجتماع بهذه الصورة.
ان هذا الموقف من اليهود لم يمنع عددا من السجناء ان يأتوا لاستشارتي يوم اطلاق سراحهم. اذكر منهم اثنين هما عزيز الحاج وهادي هاشم. بالنسبة لعزيز الحاج كنت اعلم ان دوره سيكون في القرارات السياسية والكتابة في الصحافة. وكانت المشكلة الملحة وقتذاك قضية الوحدة مع الجمهورية العربية الموحدة بين مصر وسوريا ولبنان. فقلت لـه ان الوحدة بين بلدين غير متكافئين من الناحية الاقتصادية تؤدي الى استغلال الدولة المتقدمة للدولة المتاخرة ولذلك يجب أن يعارض الحزب قضية الوحدة حاليا الى ان تتهيأ الظروف المناسبة للوحدة من الناحية الاقتصادية خصوصا. وحين جاء هادي هاشم لاستشارتي يوم اطلاق سراحه حدثته حول الحركة النقابية. كنت اعلم ان المجال الذي يمكن لهادي ان يعمل فيه هو الحركة النقابية. فنصحته بأن يتحاشى الحزب احتكار الحركة النقابية لان احتكار هذه الحركة من قبل الحزب الشيوعي ليس من شأنه ان يحطم الحركة النقابية فحسب بل يضر بالحزب نفسه ضررا بالغا. وحصل فعلا ان هادي هاشم كان عضو المكتب السياسي المسؤول عن الحركة النقابية فكانت سياسة الحزب ابشع احتكار لهذه الحركة.
بعد فترة قصيرة لم يبق في السجن من الشيوعيين سوانا نحن اليهود الأربعة وعدد من السجناء الصهاينة لان محكومياتنا طويلة واطلاق سراحنا تأخر عن سائر السجناء.
قضية التحول الى الاسلام
صباح يوم جاءت حماتي لزيارتي في السجن وكانت الزيارات مسموحة ولمدة طويلة بدون مراقبة. خرجت لمواجهتها وجاء معي يعقوب مصري. اخبرتني حماتي ان السجينات في سجن بغداد اعلن اسلامهن وهن يطلبن منا ان نفعل ذلك ايضا. فأجبتها ان هذا خطأ واننا لا نفعل ذلك. ولكن يعقوب مصري الذي كان بجانبي اعترض وقال ليس من حقك ان تأخذ قرارك لوحدك ودعاني الى اجتماع نبحث فيه هذه القضية. عجبت من ذلك وقلت له انا لست على استعداد ان ابحث موضوعا كهذا. فذهب واجتمع مع السجينين الاخرين وبقيت انا مع حماتي. وحدث في ذلك اليوم امر يدعو الى الدهشة. فقد حضر عضو المكتب السياسي للحزب هادي هاشم لزيارتنا نحن السجناء اليهود رغم ان كوادر الحزب القيادية كانت في تلك الايام تعمل ليل نهار ولا يستطيع الكادر منهم حتى ان يزور عائلته. والغريب ان هادي هاشم اشترك في اجتماع الثلاثة داخل السجن. وبعد نصف ساعة او اكثر عاد يعقوب مصري وقال لي اننا قررنا بالاجماع ان نعلن اسلامنا وعليك ان تخضع لقرار الاغلبية. فقلت له ان هذا الموضوع مبدئي ولا تنطبق عليه قاعدة خضوع الاقلية للاغلبية. انا اعتبر هذا خطأ مبدئيا لذلك لا اسمح لنفسي ان اقوم بعمل كهذا. والاغرب من ذلك ان هادي هاشم الذي أجاب على قولي في الاجتماع "اذا شئتم فاننا نعلن اسلامنا ونسافر الى النجف لكي نبقى في الحزب" اننا لا نقبلكم في الحزب في هذه الحالة، جاءني ذلك اليوم وحاول اقناعي بذلك ونسي ما قاله في الاجتماع السابق. قلت لـه "هادي انا درستكم الماركسية والمادية الديالكتيكية الا تبصق في وجهي اذا وقعت وثيقة اقول فيها لقد امنت بان الدين الاسلامي خير الاديان واشهد الا اله الا الله وان محمدا رسوله واوقع مثل هذه الوثيقة؟" فخجل من نفسه وعاد خائبا فاشلا في تحقيق المهمة التي كلفه بها الحزب وهي اقناعي بهذه الخطوة عالمين مقدما بأني لن اوافق على خطوة مهينة كهذه.
بعد ايام صدر امر اطلاق سراحنا يعقوب مصري وأنا بعد ان اعادوا النظر في دعوتنا، وبقي مئير كوهين ويوسف زلوف في السجن لان فضيتهما لم يعيدوا النظر فيها بعد. لدى صدور امر اطلاق سارحنا لم يطلقوا سراحنا مباشرة من بعقوبة كما فعلوا مع سائر السجناء بل ارسلونا الى سجن بغداد. هناك سنحت لنا اول فرصة لمقابلة السجينات ومنهن اخت زوجتي واخت يعقوب اذ سمحوا لنا بزيارتهما في سجن النساء. واثناء المقابلة حاولتا اقناعي بأن المسألة ليست جدية وليس هناك سبب للامتناع عنها وطبيعي انني اصريت على موقفي. بعد ايام ذهب يعقوب مصري عصرا الى الجامع لانهاء عملية اسلامه وعاد في حوالى الساعة الثالثة والنصف وقال لي "هاي هم خلصنا منها". كان يعقوب مصري قبل سجنه سكرتير عصبة مكافحة الصهيونية. والمفروض انه من اشد الناس حماسا لحل المشكلة اليهودية في العراق حلا صحيحا. فكانت النتيجة انه تخلص من يهوديته.
بعد ساعتين اي في حوالى الساعة الخامسة مساء نقلونا الى مركز شرطة في البتاويين لاطلاق سراحنا من هناك لقرب المركز من المناطق السكنية. فرغم صدور الامر باطلاق سراحنا كان على اليهودي ان يحصل على من يكفله لكي يحررونه. ورغم ان يعقوب مصري اصبح مسلما منذ اكثر من ساعتين فقد عومل كيهودي من قبل الشرطة وكان عليه ايضا ان يحصل على كفيل مثلي. وفعلا ارسل الحزب من يكفل يعقوب مصري فخرج ولم يرسل الحزب لي كفيلا. من هنا بدأت صعوبات حياتي خارج السجن. يبدو ان كل تضحياتي انا وعائلتي وكل خدماتي للحزب لم تؤهلني لارسال من يكفلني فبقيت في مركز الشرطة بدون ان يطلقوا سراحي. واستطاعت حماتي بعد عدة ساعات ان تقنع شخصا يهوديا بأن يكفلني. وقد وافق هذا الشخص على ان يكفلني اعترافا بفضلي على ابن عمه مئير كوهين في الغاء قرار اعتناقه الدين الاسلامي.
حياتي خارج السجن
كانت حياتي خارج السجن امتدادا لحياة السجن وأقسى منها. بدأت كما اشرت بعدم ارسال من يكفلني. والحزب يعلم ان جميع افراد عائلتي الذين اطلق سراحهم من السجن قد سفروا قسرا الى اسرائيل ولم يبق لي من ألجأ اليه. ويعلم الحزب اني منذ دخولي السجن الى لحظة اطلاق سراحي لم أر شكل النقود وليس لي ملابس ارتديها خارج السجن وليس لي مسكن الجأ اليه عند اطلاق سراحي. ولكن الحزب لم يأبه بكل هذا اطلاقا.
كانت حماتي التي حرمها الحزب من رؤية ابنتها التي اطلق سراحها في نفس اليوم لأن الأم ما زالت يهودية، تسكن في شقة صغيرة مؤجرة فتفضلت علي بقبولي للسكنى معها مع اني لم أكن في وضع يسمح لي بالمشاركة في دفع ايجارها. وكنت في الايام الاولى عالة عليها رغم انفي. ولكنها كانت في منتهى اللطف والكرم وتحملتني لانها قدرت الوضع الذي انا فيه.
لا اعرف كيف حصلت على سروال وقميص ارتديتهما وأخذت اتلمس الحياة خارج السجن. كانت الامور صعبة جدا بالنسبة لي. لم استطع ان اجد عملا لمدة شهر تقريبا اذ ان غير اليهود كانوا يمتنعون عن استخدامي لاني يهودي واليهود لا يوافقون على استخدامي لاني شيوعي. واخيرا سمعت عن وظيفة شاغرة في شركة لاستيراد السيارات فقدمت طلبا لها. وصادف ان المحاسب الذي قابلني كان سجينا أرمنيا سابقا وصديقي في السجن فقرر قبولي في وظيفة كاتب أرقام من القوائم الحسابية. لم أكن اعرف شيئا عن مسك الدفاتر او المحاسبة ولذلك اضطررت الى ترك الوظيفة حين ترك صديقي المحاسب العمل في الشركة. وقد اشتغلت حوالى شهرين بمرتب لم يسمح لي حتى بالحد الادنى من العيش. كان الطلب في تلك الفترة على الادبيات الماركسية والسياسية عموما رائجا فوجدت عددا من الناشرين الذين وافقوا على اعطائي الادبيات التي ارادوا ترجمتها لقاء اجور بسيطة ساعدتني على العيش في المدة التي قضيتها خارج السجن اي حوالى ١٤ شهرا. ترجمت في هذه المدة ثلاثين كتابا او كراسا طبع منها حتي دخولي السجن ثانية ٢٢ كتابا او كراسا. وطبيعي ان التراجم صدرت بدون ذكر اسم المترجم نظرا للموقف السلبي تجاه اليهود، بل أن قسما من الناشرين لم يدفعوا لي أجرا بالمرة.
بعد الثورة اسس الحزب مكتبا للترجمة كان يديره عزيز سباهي وكان المسؤول المشرف عليه هادي هاشم. زرت هذا المكتب مرة فاستقبلني عزيز سباهي استقبالا حارا لذا تجرأت فزرته مرة ثانية. في المرة الثانية اخبرني عزيز بأن الحزب منع دخولي الى المكتب خشية ان يراني بعثي وأنا ادخله فانقطعت عن زيارته.
ولكن وضعي الصعب في الحياة الجديدة لم يمنعني او يوقفني عن تتبع سياسة الحزب ومحاولة الاتصال به. بعد ٤٨ ساعة من اطلاق سراحي في أوائل شهر آب ١٩٥٨ كتبت اول تقرير الى اللجنة المركزية. كان هذا التقرير طويلا ومؤلفا من قسمين. الاول رأيي في السياسة التي يجب ان يتبعها الحزب والثاني حول قضيتي وعلاقتي بالحزب.
وملخص القسم الاول من التقرير هو ان الثورة خلقت ظروفا جديدة ومرحلة جديدة في النضال الثوري. فقد انهت الثورة المرحلة الاولى من مرحلتي الثورة العراقية كما حددها الميثاق الوطني للحزب، مرحلة الثورة البرجوازية، وبدأت مرحلة جديدة هي مرحلة الثورة الاشتراكية. واقترحت على الحزب ان يستفيد من الظروف شبه العلنية والحريات الواسعة نسبيا التي نشأت بعد الثورة لعقد مؤتمر للحزب. واقترحت ان يكون للمؤتمر موضوعان هامان لبحثهما هما تحديد ظروف المرحلة الجديدة بعد الثورة وتحديد الشعار الاستراتيجي للمرحلة وفقا للمصالح الطبقية الناشئة بعد الثورة لأن ذلك ضروري كي يستطيع الحزب وضع سياسته التكتيكية اليومية. وثانيا دراسة الاخطاء التي وقع فيها الحزب منذ اعتقال فهد واعدامه حتى الثورة ومحاسبة المسؤولين عنها والعمل على تصحيحها. وقد بينت ان هذا الموضوع حيوي لان عدم دراسة الاخطاء وتصحيحها يوقع الحزب في اخطاء اسوأ منها.
اما الجزء الثاني من التقرير فقد ناقشت به قضيتي. وباختصار قلت للحزب انه حاكمني على جريمة اقترفها احد اجدادي قبل خمسة آلاف سنة وحكم علي بالاعدام لإن ابعاد الشيوعي عن حزبه هو كالاعدام ونفذ الحكم بدون ان يمنحني حق الدفاع عن نفسي. وكتبت بأني ولدت في عائلة يهودية فاصبحت يهوديا بصورة لا ارادية ولكن تغيير الدين يعني اني اعتنق دينا جديدا بارادتي وهذا نبذ للمبدأ الذي اومن به وهو الماركسية ولذلك لن انفذ شيئا كهذا طالما بقيت مؤمنا بالماركسية ولو على المشنقة. وقلت ان معاقبتي على عدم تغيير ديني هو شوفينية من قبل الحزب رغم انها في هذه الحالة موجهة ضد شخص واحد وهي لابد ان تظهر بصور اخرى وضد اناس اخرين في المستقبل.
لم يجبني الحزب على هذه الرسالة ولم ينفذ ما اقترحته من عقد مؤتمر للحزب. كذلك لم يجبني الحزب على ثلاثة تقارير اخرى ارسلتها في اوقات متقاربة كلها توجه انتقادات الى سياسة الحزب في مجالات عديدة تحدثت عنها بالتفصيل في كتابي "ثورة ١٤ تموز ١٩٥٨ في العراق وسياسة الحزب الشيوعي". ولكن الحزب اجاب على التقرير الخامس والأخير الذي احتوى اضافة الى الانتقادات قضية جديدة. حين وجدت وظيفة استطيع العيش منها كتبت للحزب في التقرير الخامس عن اهماله لي وسألت هل فكر الحزب كيف ساعيش وماذا سألبس وماذا سآكل بعد خروجي من السجن بعد ان سفروا كل أفراد عائلتي لدى انتهاء مدد محكومياتهم. فظن الحزب اني اطلب منه نقودا وأرسل عضو المكتب السياسي جورج تلو لمقابلتي في الشقة التي سكنت فيها مع حماتي. جاء جورج تلو في الموعد المحدد وقال لي مباشرة ان الحزب يعطيك نقودا. فضحكت وقلت له انا لم اكتب للحزب في التقارير السابقة عن هذه القضية لاني كنت فعلا محتاجا الى النقود وخشيت ان اضعف واقبل نقودا من الحزب. ولكني كتبت للحزب عن هذا الموضوع بعد ان وجدت عملا اعيش منه. فأنا لا أقبل نقودا من الحزب انما اردت ان اريكم الى اي درجة من الانحطاط بلغتم. وبهذا انتهى امر النقود ولكن الجلسة استمرت حوالى ثلاث ساعات انتقدت فيها الحزب وسياسته من جميع الجوانب. والغريب انني حين قلت لـه ان الحزب يكذب على البرجوازية وان البرجوازية ليست بالجهالة التي تجعلها تصدق كذب الحزب وان من يريد ان يخدع البرجوازية لا يخدع سوى الطبقة العاملة أجاب "ان لينين علمنا ان نكذب على البرجوازية". فقلت لـه لم اعلم ان لينين علمنا الكذب في السياسة ولم اعلم ان الماركسية يمكن ان تتقدم عن طريق الكذب. ففشل وانهى الموضوع وذهب خائبا في مهمته.
من الناحية الاجتماعية كانت حياتي في الخارج قاسية. في اليومين الاولين بعد اطلاق سراحي ذهبت مساء الى مقهى كان يجلس فيه بعض اصدقاء السجن ليلعبوا الدومنة وجلست معهم وبينهم يعقوب مصري الذي اصبح اسمه عادل مصري ولكني شعرت في اليوم الثاني انهم متضايقون من وجودي معهم ومن التحدث معي واسمعوني كلمات مؤلمة فلم اعد الى هذا المقهى وانتهى لقائي معهم اطلاقا. والعوائل اليهودية الوحيدة التي استقبلتنا بحفاوة واحترام كانت عائلتان كان لهما اولاد معنا في السجن سفروا عند اطلاق سراحهم الى اسرائيل. كنت ازورهم مرة في الاسبوع ونجلس لنتجاذب اطراف الحديث مدة وحتي كنا نذهب للسباحة معا بعض الاحيان. كان ضمن إحدى هاتين العائلتين زوجان شابان كلاهما اطباء ولهما طفل رضيع فكان مما يسرني الجلوس مع هذين الطبيبين وهما من سني لنسهر ونتجاذب أطراف الحديث لأنهما مثقفان ويمكن الحديث معهما بشتى المواضيع. وقد حدث لي حادث أوشك أن يقضي على حياتي لولا هذين الطبيبين. فقد حدث لي أثناء طبخ وجبة في بيتي جرح تحت اظافري ادى الى تقيح وحمى عالية فذهبت الى الطبيب وأعطاني حقنة بنسيلين. وبعد الحقنة كان من المفروض أن اترك العيادة فسألني الطبيب ان كان لي موعد مهم فقلت لـه كلا فاقترح ان انتقل الى البيت والاعب الطفل الذي كنت احبه حتى ينتهي من المرضى ليلحق بي ونسهر سوية. ذهبت الى العائلة التي كانت تسكن في نفس البناية وبعد عشر دقائق شعرت بأن البنسيلين سبب لي شبه اغماء وقشعريرة في جسدي فقلت للزوجة الطبيبة ان البنسيلين أثر بي. وبسرعة البرق قام الطبيبان بمعالجتي وحقني بدواء مضاد وأبقياني ممددا في الفراش حوالى ساعتين الى أن اجتزت الخطر. ولو كنت قد تركت العيادة بعد ابرة البنسيلين لحصل الأمر في الشارع مما كان سيودي بحياتي. وقد حصل لأحد الأصدقاء الذين كانوا معنا في السجن انه مات بنفس الطريقة بعد حقنه بالبنسيلين في مدينة السليمانية.  وكان صديق لأخي تعرفت عليه قبل سجني عندما كانوا يتقدمون الى الامتحانات الثانوية وساعدتهم في الرياضيات واللغة العربية. كنت التقي مع هذا الصديق مرارا وكان يعاملني بكل احترام. ولم يكن لي فيما عدا ذلك اية حياة اجتماعية.
التقيت بالصدفة مع موظف في السفارة السودانية فنشأت بيننا صداقة لانه كان مثقفا وكنا نستطيع ان نتحدث في مواضيع مختلفة وشيقة. تطورت صداقتي مع هذا الشخص الى درجة انه حاول مع اصدقائه من الدبلوماسيين ان يرتب لي حق اللجوء السياسي الى احدى البلدان الاوروبية. وفي اليوم الذي تواعدنا على اللقاء ليخبرني بنتائج محاولاته اعتقلوني فقضيت اكثر من سنتين اخريين في السجن.
لم امارس نشاطا سياسيا في فترة حياتي خارج السجن لان الحزب لم يسمح لي بذلك. ولكني كتبت موضوعين فقط خلال تلك الفترة. كان احد المواضيع التي ترجمتها مقالا لانجلز حول القضية الفلاحية كتبه قبل وفاته. ونظرا لاهمية هذا الموضوع في ظروف العراق بعد الثورة كتبت لـه مقدمة. وفي ذات يوم جاءني شخص قدم نفسه لي كرئيس تحرير جريدة اسبوعية يسارية تصدر كل سبت وسألني ان كنت مستعدا لان اكتب مقالا لجريدته. فقلت له انا اكتب بشرط واحد هو ان تنشر مقالتي كما هي بدون تغيير كلمة واحدة منها زيادة او نقصان. وقلت لـه انا اتقبل اي انتقاد او مناقشة لمقالتي بكل سرور وعلى صفحات الجريدة ولكني لا اسمح بتغيير ما اكتب. وافق على هذا الشرط وكتبت مقالا متسلسلا حول القضية الزراعية في العراق تناولت به ظروف العراق وطبيعة القضية الزراعية بعد الثورة تحت اسم مستعار "أبو قيس" لانه لا يستطيع ان ينشر المقال باسمي الصريح. كان هذا المقال يملأ صفحة كاملة من الجريدة كل اسبوع استمر الى عشرة اعداد منها ولم استطع اتمامه لدخولي السجن للمرة الثانية.
طيلة مدة بقائي خارج السجن تجاهلني الحزب وحتى اغلب اصدقائي في السجن كانوا يتحاشون الكلام معي. كان عزيز الحاج مثلا حين يراني يتحاشى حتى من رد التحية علي. الا انني استغربت في شباط ١٩٥٩حين دعاني عزيز الحاج لزيارته في مساء يوم الى بيته الكائن في الكرخ. ذهبت لزيارته في الموعد المحدد وهناك رأيت اثنين آخرين من السجناء السابقين هما عدنان البراك وشامل النهر وهما شابان مثقفان كانا نشطين في النطاق الادبي للحزب بعد الثورة. وهناك التقيت ايضا للمرة الاولى مع الفنان العراقي الكبير سلمان شكر وهو ابن عم عزيز الحاج. وقد توثقت بيني وبينه صداقة وثيقة في لندن في السبعينات من القرن الماضي. وبعد العشاء عرفت عن سبب الدعوة. فقد كانوا يريدون كتابة مقال طويل بمناسبة ذكرى اعدام قادة الحزب في ١٤ شباط ولذلك ارادوا ان يستفيدوا من معلوماتي بهذا الشأن. بقينا سهرانين حتى الصباح تقريبا فأخذوا يسألونني عما يريدون الكتابة عنه وأنا اجيبهم على اسئلتهم ليدونوها. وهذه كانت المرة الوحيدة التي تنازل فيها عزيز الحاج وتحدث الي وحتى دعاني للعشاء في بيته. ولكني التقيت عدة مرات مع عدنان البراك وكان يرتاح الى الانتقادات التي كنت اوجهها الى سياسة الحزب.
في شباط ١٩٥٩التقيت بأحد قادة الحزب، حسين ابو العيس، وسنحت لي فرصة مناقشته. سألته أولا لماذا لا يحاول الحزب الاستفادة من خدماتي فأجاب اننا نبحث عن الموقع المناسب لكفاءاتك. فقلت ان كفاءاتي معروفة فأنا أكتب واثقف وليس لي دور اخر فلم يجب. ولكني انتهزت هذه الفرصة لمناقشته حول شعار الحزب الاستراتيجي وقلت لـه كيف يمكن ان يناضل حزب شيوعي بدون ان يكون له شعار استراتيجي يوجهه في النضال؟ لو فرضنا ان انقلابا بعثيا يحدث اليوم فكيف سيناضل الحزب ان لم يكن لـه شعار استراتيجي؟ فأجابني بالحرف الواحد "أنت مجنون؟ اتشعر الآن ان بالامكان ان يحدث انقلاب بعثي؟ ثم ان العمل اليومي يشغل الحزب عن كل عمل اخر" وبهذا انتهى لقاؤنا. ولم تمض سوى فترة قصيرة حتى حدث انقلاب الموصل.
في ١٤ شباط ١٩٥٩ صدر عدد خاض من جريدة الحزب بمناسبة ذكرى اعدام فهد وكان فيه مقال كبير خلو من الاسم عن سجون العراق السياسية. لا أريد أن استعرض المقال وليس بامكاني ان أفعل ذلك من الذاكرة. ولكن كان في هذا المقال عرض مفصل لكافة فئات الشعب العراقي التي مرت في سجون العراق. فكان الصابئة اذ كان صابئي واحد في نقرة السلمان، وكان الأثوريون اذ كان منهم اثنان وكان الأرمن اذ كان منهم اربعة وكان العرب والكرد الخ. ولكن كاتب المقال نسي بالصدفة اليهود الذين لم يكن منهم سوى ٦٠ بالمائة من سجناء النقرة في ١٩٤٩.
بمناسبة أول أيار عيد العمال العالمي قاد الحزب الشيوعي مظاهرة أو مهرجانا باسم اتحاد النقابات. لم تكن هذه المظاهرة مظاهرة عادية بل قدمت فيها كل نقابة عرضا مهرجانيا خاصا بها. بدأت المظاهرة في مساء ليلة الأول من أيار يتقدمها صف من قادة الحزب الشيوعي واستمرت حتى الصباح تقريبا. والذي ميز تلك المظاهرة صدور شعار يطالب باشتراك الحزب الشيوعي في الحكم. وبما أن تأليه عبد الكريم قاسم كان ما يزال في أوجه فقد كان شعار المطالبة بالاشتراك في الحكم ايضا مقرونا باسمه ككل الشعارات في المظاهرات في تلك الفترة. كان الشعار "عاش زعيمي عبد الكريمي، حزب الشيوعي في الحكم مطلب عظيمي". والمعروف ان الحزب الشيوعي تخلى عن الاشتراك في حكومة ثورية طوعا منذ الكونفرنس الثاني واعلن انه يساند الحكومة الوطنية حتى لو لم يشترك فيها أي انه تنازل للبرجوازية عن حقوق العمال الناشئة عن اشتراكهم ونضالهم  في الثورة وقيام حكومة ثورية. ومنذ الكونفرنس لم يعد الحزب الشيوعي يتحدث عن هدف الاستيلاء على السلطة. فالشعار الذي اثير في المظاهرة هو مطلب وليس عمل الحزب على اخذ السلطة وتكوين حكومة بقيادته. وقد استجاب عبد الكريم قاسم للمطلب بأن أدخل الدكتورة الشيوعية نزيهة الدليمي وزيرة للصحة. أشرت الى هذه المظاهرة لأني التقيت أثناءها بصديق قريب من اللجنة المركزية فأخذ يتبجح بقوله أن عبد الكريم يجب أن يستجيب لهذا المطلب والا فاننا سنسقطه. فقلت لـه سلم لي على الجماعة وقل لهم "ان من ينطح رأسه بصخرة يطير قرناه". لأن الحزب الشيوعي هو الذي جعل من عبد الكريم قاسم هذه الصخرة العتيدة.
في ليلة ١٢ تموز ١٩٥٩ جرى استعراض عسكري تجريبي للاستعراض الذي سيجري يوم ١٤ تموز، يوم الدكرى الاولى للثورة. وكانت لدى الحزب شكوك بأن هذا الاستعراض التجريبي سيتحول الى انقلاب ضد حكومة الثورة. لذا وضع الحزب الشيوعي اعضاءه في حالة استنفار قصوى استعدادا لمجابهة مثل هذا الانقلاب. وقرب بيتي التقيت بعدد من الاصدقاء متمددين طوال الليل في الحديقة الممتدة في وسط شارع البتاويين. فدعوت عددا منهم الى تناول القهوة في شقتي القريبة وقبلوا الدعوة. قدمت لهم القهوة وما توفر لدي مما يمكن اكله. وخلال وجودهم في شقتي تبادلنا اطراف الحديث وسألتهم عن سبب وجودهم متمددين في الحديقة فأوضحوا لي ذلك. فسألتهم وماذا سيكون دوركم اذا حدث الانقلاب؟ هل تستطيعون مقاومة الانقلاب المسلح بالدبابات والمصفحات بأيديكم المجردة؟ هل لديكم سلاح تستطيعون به مقاومة الانقلاب المسلح؟ عجبوا من السؤال ولم يستطيعوا الاجابة عليه.
في شهر أب ١٩٥٩ (لا أتذكر التأريخ المضبوط) كنت عائدا مساء احد الأيام الى شقتي فالتقيت صدفة بأربعة من قادة الحزب الشيوعي المعروفين لدي هم مهدي حميد, عمر على الشيخ, عزيز محمد ونافع يونس. من المعروف انهم كانوا مسؤولين حزبيين في اربعة الألوية الشمالية. عجبت من وجودهم معا في بغداد. سلمت عليهم وسألتهم ما الذي جاء بكم جميعا الى بغداد؟ هل جئتم لدراسة الأخطاء؟ فلم يجيبوا طبعا. ودعوتهم الى شرب القهوة في شقتي التي لم تبعد سوى عدة خطوات من المكان فرفضوا. وفي اليوم التالي ظهر فعلا في جريدة الحزب الانتقاد الذاتي الشهير باسم اللجنة المركزية للحزب. وجاءني عدنان البراك في حينه وبيده نسخة من الجريدة يكاد يطير من الفرح لأن الحزب انتقد نفسه عن الأخطاء. ولكني كنت قد قرأت الانتقاد قبل مجيء عدنان فقلت له ان هذه الانتقادات ليست الاخطاء الحقيقية للحزب انما هي تهدف فقط الى ستر الاخطاء الحقيقية عن الناس.
عودة الى السجن
مساء احد الايام جاءني شرطيان بملابس مدنية وقالا لي انني مطلوب في مركز الشرطة لتوضيح بعض الاسئلة. ولدى وصولنا الى مركز الشرطة القوا بي في التوقيف بدون ان يقابلني او يسألني احد. وفي اليوم التالي أخذوني الى محطة القطار وسافرنا الى البصرة ثم بالسيارات الى سجن مدينة العمارة. كان ذلك في تشرين الاول سنة ١٩٥٩ . بقيت في سجن العمارة بما يسمونه الحجز. والحجز حالة يوضع بها الشخص في السجن بدون تهمة أو محاكمة او تحقيق ولمدة غير محددة لانه خطر على الامن الى ان يطلق سراحه.
كانت حياتي في سجن العمارة قاسية جدا. في البداية وضعوني مع السجناء العاديين في جناح صغير من السجن منفصل عن السجن الكبير. ثم بعد فترة جاء الى هذا الجناح عدد من السجناء السياسيين فقبلوني للعيش معهم لفترة قصيرة ثم صباح احد الايام اخبروني بأنهم لا يريدونني ان ابقى معهم فانفصلت عنهم وعدت للعيش بين السجناء العاديين. وكانت علاقتي مع هؤلاء السجناء العاديين علاقة ودية لم يحاول احد منهم ان يؤذيني. كان اغلبهم من الفلاحين المسجونين عن قضايا بينهم وبين ملاكي الاراضي الزراعية فكانوا يطمئنون الي ويقصون علي ظروف حياتهم الشاقة وظروف عوائلهم ويستعينون بي في كتابة الرسائل الى عوائلهم فكنت سعيدا بهذه العلاقات.
في يوم من الايام أخذوني الى الجناح الخارجي من السجن مع سائر المحجوزين حيث بقيت معهم عدة ايام ولكن الادارة قررت أخيرا نقلي الى غرفة انفرادية على ان تبقى اعاشتي مع المحجوزين الذين يتقاضون المخصصات المقررة لي  ويقدمون لي وجبات الطعام معهم. وفي هذا السجن الانفرادي بقيت حوالى ١٨ شهرا. كانت الادارة احيانا تضع عددا اخر من السجناء في نفس الغرفة الانفرادية معي لان الغرفة كانت واسعة تسع لعدة اشخاص. في هذا السجن الانفرادي كانوا يسمحون لنا ان نخرج حوالى ساعة كل صباح لقضاء حاجاتنا ويقفلون الباب علينا حتى اليوم التالي. 
كان بعض السجناء يستغلون هذه الساعة للاتصال بي. ففي مطبخ السجن كان شباك كبير يطل على السور حيث نقضي حاجاتنا صباح كل يوم فكانوا يأتون الى المطبخ ويسألون بعض الأسئلة التي كانوا يريدون الاجابة عليها  فاجيبهم على اسئلتهم من خلال هذا الشباك.
في هذا السجن الانفرادي الطويل التقيت بعدة اشخاص تجدر الاشارة اليهم. أحد هؤلاء الاشخاص كان رئيسا لجمعية فلاحية في العمارة احتجز بدون محاكمة وبقي في السجن عدة أشهر. كانت لعلاقتي بهذا الشخص اهمية خاصة لانه اوضح لي امورا كثيرة لم اكن اعرفها عن عمل الحزب الشيوعي في نطاق الاصلاح الزراعي. جعل الحزب مقراته دوائر مجانية للاصلاح الزراعي وجعل أعضاءه موظفين متبرعين لخدمة الاصلاح الزراعي. كان هذا الشخص ككل قادة الفلاحين في العمارة ينفذ دور موظف الاصلاح الزراعي في استلام الضريبة المترتبة على الفلاحين الذين اعطيت لهم قطع ارض لزراعتها ويجمعها لغرض تسليمها الى الدوائر المسؤولة مرة في الشهر. وهذا جعل الفلاحين ينظرون الى أعضاء الحزب كأنهم موظفو دائرة الاصلاح الزراعي وليسوا مناضلين من أجل مصالح الفلاحين. وطبيعي ان تكون لديهم دائما كمية من الضرائب التي استلموها خلال الشهر قبل تسليمها لهذه الدوائر. كانت الحكومة على علم بما يجري وشجعته لأن الحزب جهز الحكومة بهذه الطريقة  بموظفين متطوعين للاصلاح الزراعي بدون رواتب. ولكنها حين انقلبت على الحزب وعلى الاصلاح الزراعي القت القبض على هؤلاء الموظفين المتبرعين بتهمة حيازة وسرقة اموال الدولة.
والتقيت ايضا بشخصية اخرى كنت اعرفها من سجن نقرة السلمان. حين كنا في السجن لم يكن هذا الشخص يعتبر شيوعيا. وبعد الثورة عينه الحزب رئيسا لنقابة عمال الميناء في البصرة, وهي واحدة من النقابات المهمة. التقيت بهذا الشخص مرة في شارع الرشيد فتبادلنا التحية وأخذت اتجاذب معه اطراف الحديث فأخبرني انه جاء لاجتماع رؤساء النقابات. وأخبرني متبجحا بأنه جاء من البصرة الى بغداد بالطائرة ونزل في افخر فنادق بغداد. وسرد لي متفاخرا كيف يدعو له عمال الفندق سيارة تاكسي وكيف يفتحون له الباب ليدخلها حين يذهب الى الاجتماع. وسرد لي بعض الاصدقاء ان لهذا الشخص مكتب لا يضاهيه في فخامته مكتب وزير. وكان على من يريد مقابلته من عمال الميناء ان يقدم طلبا قبل الحصول على اذن بمقابلته وقد يستغرق انتظاره اسبوعين او اكثر من اجل المقابلة. التقيت بهذا الشخص ثانية في سجن العمارة في الغرفة الانفرادية. وكان كل يوم تقريبا يخلق صداما مع سجين عادي محكوم على جريمة قتل فيتبادلان الشتم والسباب وقد يبلغ ذلك حد استعمال الايدي. مع اني عشت مع هذا السجين مدة طويلة فلم يحدث ان تجرأ بأن يتفوه بكلمة قاسية أمامي بل كان يعاملني بمنتهى الاحترام.
مرة قرر المحجوزون اعلان الاضراب عن الطعام الى حين اطلاق سراحهم فأدخلوهم كلهم الى الرياضة. وفور ادخالهم كتبوا برقية الى الحكومة يعلنون فيها الاضراب عن الطعام حتى الموت او اطلاق سراحهم. دعوني بصفتي احد المحجوزين ان اوقع البرقية فوقعتها. ثم ناقشت المسؤول عنهم اذا كان يستطيع ان يثق بمحجوزين بالنوعية الموجودة بان يصمدوا في اضراب طويل الأمد. وأبديت رأيي له بأن الاضراب يجب ان يدرس دراسة عميقة وأن لا يعلن الا بعد استشارة الحزب الذي يعرف ظروفه السياسية اكثر من المحجوزين والى ان يعطيهم الحزب موافقته على اعلان الاضراب. وفي نهاية اليوم الأول قرروا جعله اضرابا ليوم واحد للاحتجاج على ترييضهم. ولم يدم بقاؤهم في الرياضة اكثر من يومين ثم اطلق سراح اغلبهم ونقل بعضهم الى سجون اخرى.
والتقيت كذلك بشاب سوري لجأ من سورية الى العراق هربا من الاضطهاد السياسي الذي تعرض لـه في سورية فارسل الى سجن العمارة محجوزا. ارتبطت مع هذا الشاب بصداقة وثيقة وبقينا عدة اشهر معا الى ان اعادوه الى سورية قسرا. كان هذا الشاب كادرا حزبيا في الحزب الشيوعي السوري وكان يحدثني كثيرا عن نضالاتهم في سورية. ومن جملة الاشياء التي حكاها لي هذا الشاب انه مرة كان مشتركا في قيادة مظاهرة حزبية في مدينته قامشلي. وعند تفريق المظاهرة بدأت الشرطة تبحث عنه. كانت لهذا الشاب علامة فارقة اذ كانت احدى كفيه بثلاث اصابع وكانت الشرطة تبحث عن ذي الثلاث اصابع. لجأ هذا الشاب الى صديق لـه يهودي وبقي في بيته عدة ايام الى أن هدأت الامور. وعند خروجه من بيت صديقه قدم تقريرا للحزب عن مكان وجوده في تلك الايام فما كان من الحزب الا ان جمد عضويته لمدة ثلاثة اشهر لانه لجأ الى يهودي. وقد حصل هذا الشاب من أحد المحجوزين على راديو صغير كنا نستمع بواسطته الى الاخبار. وعند خروجه من السجن ترك لي هذا الراديو. ولكن الشخص المحجوز الذي اعطاه الراديو ذهب الى ادارة السجن عند اطلاق سراحه وطلب استرجاع الراديو الموجود لدي. وفجأة هاجمني عدد من حراس السجن بحثا عن الراديو. ولكن بعض المحجوزين الذين كانوا معي شعروا بالحركة واخذوا الراديو مني قبل هجوم الحراس. وعندما لم يجدوا الراديو عندي دعاني مدير السجن وسألني عن الراديو. فقلت له ليس لدي علم بوجود راديو. فقال لي المدير هذا الشخص يدعي انه اعطاك راديو. فقلت لـه انا لم اعرف هذا الشخص سوى انسان لا يعرف الا السب والشتم ولم تكن لي علاقة به ابدا. واكتفى المدير بهذا ولم يشأ الضغط علي اكثر من ذلك.
مرة اخرجوني للعيش مع المحجوزين لمدة يومين فقط ثم أعادوني الى الغرفة الانفرادية. ولاحظت ان المسؤول عن المحجوزين الذي كان معنا سجينا في نقرة السلمان يقضي كل يومه يلعب القمار مع اثنين من اعضاء حزب البعث كانا بين المحجوزين. وطبيعي انه لا يستطيع لعب الورق مع المحجوزين المحسوبين على الشيوعية لان نقود مخصصاتهم كلها موجودة لديه باعتباره المسؤول عنهم. ولاحظت انه حتى حين كان احد المحجوزين يريد استشارته في امر ما كان يذهب اليه وهو يلعب القمار لهذا الغرض. فانتقدت هذا الشخص انتقادا شديدا وقلت لـه ان واجبه هو ان يبذل كل جهده باعتباره المسؤول لكي يرفع من مستوى هؤلاء المناضلين لكي يكونوا اكثر كفاءة عند خروجهم. فأجابني انه يعمل ذلك بأمر من اللجنة المركزية للحزب اخفاء لشخصيته الحزبية. فقلت له لم تخلق بعد مثل هذه اللجنة. ولكني علمت فيما بعد من مسؤول المنظمة السجنية انه كتب الى اللجنة المركزية عني يقول بانني احمل آراء صهيونية ولذلك أمر الحزب السجناء بعدم الاتصال بي او التحدث الي. وعندما اخبرني المسؤول عن هذا الشخص قال لي انه يعتبر نفسه اكبر خبير في الحزب في موضوع القضية الزراعية والاصلاح الزراعي وانه كتب موضوعا متسلسلا حول هذا الموضوع لم يظهر لـه مثيل في ادبيات الحزب. فضحكت. ولما سألني المسؤول عن سبب ضحكي قلت لـه اضحك لاني انا الذي كتبت هذا الموضوع. لقد استغل هذا الشخص كون له ولد اسمه قيس فادعى انه هو أبو قيس الذي كتب المقال.
كان يوم الجمعة من كل اسبوع اليوم الذي يسمحون لي به بالاستحمام. ولم يكن في الغرف الانفرادية وسيلة للاستحمام فكانوا يدخلونني الى السجن لهذا الغرض ويبقونني هناك ثلاث ساعات. لم يكن الاستحمام يستغرق سوى عدة دقائق بعدها كنت مطلقا في السجن. وكانت لدى رئيس المنظمة كما ذكرت اوامر من الحزب بعدم الاتصال بي والتحدث الي. ولكن ما كان يحدث كل جمعة كان خلاف ذلك. كان احد السجناء يدعوني الى شرب القهوة وكنت اقبل الدعوة وعند ذلك يسألني سؤالا سياسيا فأبدأ بشرحه له وكان هذا يتحول الى اجتماع سياسي يدوم حوالى ساعة يحضره اكبر عدد من السجناء طوعا. وبعد ذلك يحدث نفس الشيء في غرفة اخرى فينعقد اجتماع سياسي تثقيفي اخر. في كل جمعة كانت تعقد ثلاثة اجتماعات من هذا النوع اثناء دخولي الى السجن للاستحمام. كان هذا تعبير من السجناء عن رغبتهم في التعلم والتثقيف السياسي وحرمانهم منه فيما عدا هذه الاجتماعات. وقد كتبت للسجناء عدة مقالات في مواضيع شتي كانوا يدرسونها.
كان في جناح من السجن في الاشهر الاخيرة من سنة ١٩٦١ حوالى ثلاثين محجوزا من الأكراد فحولتني ادارة السجن للعيش معهم وربما اعتبروا ذلك عقابا لي للعيش بين الأكراد. بقيت مع الأكراد حوالى ثلاثة اشهر كانت من احسن الايام التي قضيتها في سجن العمارة. كونت قبل كل شيء حلقات ثقافية بمواضيع شتى من الذاكرة اذ لم تكن لدينا كتب نستعين بها لعدد منهم يفهمون اللغة العربية.
وقد تطوعوا لتعليمي اللغة الكردية فتعلمت الكردية كتابة وكلاما وحتى طلبوا من عوائلهم ان يجلبوا لهم كتب تعليم اللغة الكردية في المدارس لمساعدتي، ولدى اكتمال ثلاثة اشهر على تعلمي اللغة الكردية احتفلنا والقيت كلمة باللغة الكردية. كان عدد من هؤلاء الأكراد يحوكون محافظ من الخرز ويرسلونها الى ذويهم لبيعها والاستفادة من اثمانها للعيش. وقد تعلمت حياكة المحافظ منهم ونجحت في حياكة ثلاث محافظ من الخرز بقيت الثالثة وهي اكبرها غير مكتملة لأنهم اطلقوا سراحنا قبل اكمالها. وقد احتفظت بالمحافظ واستعملت زوجتي المحفظة الكبيرة في اسرائيل.
وفي حوالى العشرين من شهر كانون الاول سنة ١٩٦١ اطلق سراح كافة المحجوزين في العراق وكنت انا ايضا معهم. وبما ان اطلاق سراحنا جاء في الخامسة بعد الظهر ولم يكن مأمور الشرطة في المركز فقد اطلق سراحي ايضا من المركز وسافرنا في نفس اليوم الى بغداد. ولو كان المأمور موجودا لما اطلق سراحي اذ ان الاوامر كانت ان يرسلوا اليهودي مخفورا الى بغداد لتسفيره الى اسرئيل. هكذا فعلوا ليوسف زلوف الذي كان محجوزا في نقرة السلمان.
لم يكن لي في بغداد مكان الجأ اليه لأن حماتي حين يئست من رؤية ابنتها سافرت للعيش مع احد اقاربها في السليمانية. ولم يقبل اصدقائي من العوائل اليهودية استضافتي عندهم خوفا. ولكني التقيت بصديق من السجن كان هو واخوته شيوعيين فدعاني للبقاء في بيته واستقبلتني العائلة كلها استقبالا وديا وقالوا لي اعتبر البيت بيتك. وحتى النساء في العائلة اللواتي كن يتبرقعن امام الغرباء كشفن عن وجوههن امامي لانهن اعتبرنني كواحد من العائلة. انا لا انسى فضل هذه العائلة ما حييت.
بعد يومين جاءت حماتي من السليمانية وقررت مساعدتي على الهرب من العراق الى ايران فسافرنا في باص الى البصرة عن طريق العمارة لاني خفت ان اسافر بالقطار. وصلنا البصرة في صباح اليوم التالي ونزلنا في بيت شخص من اقرباء حماتي وهو رتب لي طريق الهرب الى ايران. وفعلا بدأت بعد يومين سفرتي الى ايران برفقة مهرب محترف اخذني في سيارة الى مكان ما ونقلني في قارب الى جزيرة وادخلني الى كوخ بقيت فيه يومين. وفي منتصف الليل اخذوني الى قارب صغير من الصفيح مربوط بحبل في الجهة الثانية من النهر وسحب شخص في الجهة الثانية القارب بالحبل وفي ثلاث دقائق اصبحت في ايران. قضيت تلك الليلة في بيت الشخص الذي سحب القارب. وفي الصباح اخذني في سيارته الى مدينة المحمرة وهناك قضيت عدة ايام في الكنيس ثم سافرت الى طهران وذهبت الى عنوان اعطته لي حماتي حيث يوجد شخص من اصدقاء العائلة وهناك لم يكن لي خيار الا السفر الى اسرائيل على حساب المنظمة الصهيونية اذ لم يكن لي جواز سفر او امكانية البقاء في ايران او السفر الى اي بلد اخر ولا النقود الكافية لبقائي في طهران اكثر من اسبوع. بقيت في طهران حوالي اسبوعين قضيتها في فندق بسيط توسط لي هذا الصديق فيه كي يقبلوني بدون جواز سفر.
وصلت اسرائيل في ١٢ كانون الثاني ١٩٦٢ فبدأت حياتي في اسرائيل حيث التقيت للمرة الاولى منذ اعتقالي مع زوجتي وسائر اعضاء عائلتي
بهذا تنتهي قصة حياتي في السجون العراقية.
 
الخاتمة
حين فكرت في كتابة ذكرياتي في سجون العراق السياسية منفصلة عن مذكراتي الكاملة غير المنشورة المكتوبة باللغة الانجليزية عاهدت قرائي وعاهدت نفسي ان اكتب بكل صراحة وبكل بساطة الحقائق التي واجهتها في حياتي السجنية بدون زيادة او نقصان لأن الكتابات السابقة عن هذه السجون كان يتخللها بعض المبالغات والعبارات الرنانة الخالية من كل معنى ولا تعطي القارئ صورة حقيقية عن وضع السجناء السياسيين في سجون العراق منذ ١٩٤٧ حتى ١٤ تموز ١٩٥٨ يوم الثورة الذي انهى فترة معينة من فترات السجون السياسية. فقد جرى بعد الثورة ما يسمى تبييض السجون اي اخلاء كافة السجون من جميع السجناء. وفي عهد حكومة الثورة بدأت فترة جديدة من السجون السياسية ليس بامكاني ان اتحدث عنها رغم اني قد قاسيت منها أكثر من سنتين. ولكن المعروف ان عدد السجناء السياسيين في تلك الفترة كان اضعاف ما كان عليه قبل الثورة. عاهدت نفسي ان اتخلى عن ترديد عبارات ثورية رنانة لا معنى لها سوى ان تشوه حقائق اوضاع السجون في تلك الفترة وتضلل القارئ في فهم ما كان يجري داخل هذه السجون. فأنا اؤكد للقراء الكرام على انني حاولت جهدي في هذه الذكريات ان اصف الاحداث والظروف كما وقعت رغبة مني في اعطائهم صورا حية للحياة السجنية نظرا لما لها من تأثير هام على الحياة السياسية في البلاد عموما. ولدى وصف الاحداث والمواجهات بيني وبين القادة الاخرين توخيت ان اسرد العبارات بنصها الحرفي عدا عن تحويل بعض العبارات من اللغة العامية التي قيلت بها الى نفس العبارات بلغة فصحى. كتبت كل ما استطعت تذكره بعد هذه السنوات الطويلة ولعلي نسيت بعض الأحداث ولكن ما كتبته كان حقائق دقيقة لا مبالغات فيها.
قد يكون سردي للحوادث كما هي مع ذكر الاسماء مغضبا لبعض الناس وانا اعتذر سلفا عن كل ازعاج قد يحدثه ذلك على بعض القراء. وعذري في ذلك ان الأحداث قد مر عليها حوالى نصف قرن ولم يعد لها تأثير على اي انسان وأن تأثيرها الوحيد هو رسم صورة حقيقية للحياة في تلك الفترة. وقد يلومني البعض على التركيز في الحديث على عزيز الحاج وزكي خيري. ان الوقائع هي التي حتمت هذا. فقد كان زكي خيري وعزيز الحاج بعد انفصال ابراهام شاؤول من المنظمة الشخصين الوحيدين اللذين يساهمان في النقاشات السياسية والنظرية. فلم يكن بين القادة الآخرين الذين مروا في السجون من يحاول أو يستطيع ان يساهم في هذه النقاشات. كان الآخرون مثل هادي هاشم ومهدي حميد وحميد عثمان وصاحب حمادي وعمر علي الشيخ ونافع يونس وغيرهم ولا اريد ان انزل الى المرتبة الثانية من السجناء حفاة في النظرية ولا دور لهم في النقاشات السياسية والنظرية. وكان دورهم يقتصر على الادارة اليومية لحياة للمنظمة واستشارة ما كنا نسميه اللحى المسرحة. واللحية المسرحة تعني شخصا يكون قوله في القضايا النظرية هو القول الفصل المعول عليه بدون نقاش. لذلك لم يكن لدي ما اناقشه مع هؤلاء القادة رغم انهم كلهم أشغلوا مناصب قيادية وقادوا الحزب عمليا وما زال بعضهم يساهمون في قيادة الحزب حتى يومنا هذا.
ركزت على النواحي النظرية أولا لأن أهم دور لي في الحياة السجنية كان التثقيف النظري في الماركسية اللينينية. وعليه لابد ان يحتل موضوع الثقافة النظرية الشطر الأكبر في سرد قصة حياتي وهذا الدور يختلف عن مساهمة اي سجين اخر في الحياة السجنية بعد اعدام فهد وزكي بسيم وحسين الشبيبي. اما الجوانب الاخرى التي تميزت حياتي بها مثل مساهمتي في تسلية السجناء موسيقيا ورعاية صحة السجناء فقد كانت ثانوية  رغم انها هي الاخرى كانت متميزة ومختلفة عن حياة السجناء الاخرين. ثانيا لأن موضوع الثقافة النظرية هو الذي كان لـه اشد الأثر على حياة الحزب الشيوعي نظرا لأن اكثر قادة الحزب مروا فترة من حياتهم في السجون ولم يكن بمستطاعهم ان يقودوا الحزب الا حسب مستواهم النظري. فليس في العلم او النظرية او السياسة ما يسمى بفتح صفحة جديدة. فحياة كل انسان هي عملية متواصلة لا يمكن فصل فترة السجن فيها عن فترة الحياة في قيادة الحزب ولا يمكن ان يعيش الانسان في السجن متجاهلا دراسة النظرية الماركسية ومستهينا بها فيتحول فجأة الى انسان حريص على دراستها وتطبيقها تطبيقا علميا صحيحا فور اطلاق سراحه وتسلم مركزه القيادي في الحزب.
نرى من قراءة هذه الذكريات ان الفترات التي كانت للسجناء فيها حرية القراءة والدراسة كانت فترات قصيرة. فترة فهد من اواسط ١٩٤٧ الى أواخر ١٩٤٨. وقد شاهدنا انه رغم جهود فهد العظيمة في تثقيف السجناء فان قادة الحزب القريبين منه لم يستفيدوا في استغلال تلك الفرصة لرفع مستواهم النظري. وكانت فترة سالم عبيد النعمان في نقرة السلمان من بداية ١٩٤٩ حتى منتصف ١٩٥١ فترة مناسبة من حيث الاوضاع السجنية كان يمكن للقادة ان يستغلوها لرفع مستواهم النظري وخصوصا لأن الكتب كانت متوفرة لتحقيق ذلك فلم يستغلوها. واختزنت الكتب الموجودة لدى المنظمة في المخازن وحرم السجناء من الاستفادة منها  حفظا على سلامتها. لم يظهر اي من هذه الكتب ولم يعلم بها أحد فيما عدا كتاب الاقتصاد السياسي الذي لم يجر استغلاله لأنه كان محجوزا لدى سالم عبيد النعمان ونافع يونس فقط. ففترة سالم عبيد النعمان كانت فترة عقيمة فيما يتعلق بالثقافة النظرية. وكانت فترة الثلاثة او أربعة اشهر من قيادة حميد عثمان بعد الانقسام فترة نشيطة كانت القيادة فيها مهتمة برفع المستوى النظري للسجناء فأخرجت الكتب المتوفرة من المخازن وترجم قسم من تأريخ الحزب البولشفي وجرى تدريسه ورأينا ان كتاب الراسمال والايديولوجية الالمانية اخرجا من المخزن فلم يحاول احد غيري ان يستفيد منهما. كانت هذه الفترة القصيرة فترة نشيطة من الناحية الثقافية في تأريخ السجون السياسية العراقية. والحقيقة ان قدرتي على التثقيف النظري نشأت من قراءتي لراس المال اذ لم تكن معلوماتي النظرية السابقة تزيد على معلومات المثقفين الاخرين. لقد اكتسبت الثقافة النظرية بمجهودي في السجن ولو لم تسنح لي فرصة قراءة الراسمال ودراسته دراسة جدية لما استطعت ان امارس الدور التثقيفي الذي مارسته بعد ذلك. فان قراءة الراسمال لم ترفع من مستواي الثقافي في الاقتصاد السياسي والمادية الديالكتيكية وحسب بل زودتني بالقدرة على فهم الادبيات النظرية الاخرى التي توفرت في السجن بعد ذلك فهما عميقا ايضا. وهذا يعني انه لو حاول المثقفون الاخرون ان يستغلوا تلك الفترة للدراسة النظرية لتوصلوا الى ما توصلت أنا اليه ان لم يكن اكثر مني ولتمكن عدد اخر من السجناء من القيام بما قمت به. ولكنهم تقاعسوا عن ذلك ولم يحاولوا رفع مستواهم النظري كما فعلت أنا. وكانت فترة السجن في المدة القصيرة منذ انتقالنا من نقرة السلمان الى سجن الكوت حتى هرب السجناء منه ايضا فترة فاعلة ولو ان الكتب المتوفرة انذاك كانت قليلة ولم تظهر الكتب التي كانت متوفرة في سجن نقرة السلمان. فقد طلبت من حميد عثمان اعطائي كتاب الراسمال ثانية فقال انه غير موجود. وبعد هروب السجناء بدأت فترة كنت فيها المثقف الوحيد في المنظمة وحاولت ان اتناول مواضيع متنوعة اعتقد انها كانت مفيدة في رفع مستوى السجناء جميعا وربما تكون هذه الفترة افضل فترة في تأريخ السجون من حيث تنوع المواضيع ومستوى التدريس فيها. وبعد مجزرة الكوت ونقلنا الى سجن نقرة السلمان جاءت فترة لم تتوفر فيها اية امكانيات للتثقيف سوى الحلقات الشفهية القليلة الفائدة وجريدة صوت السجين الثوري. فهذه ايضا كانت فترة ضئيلة الفائدة. ثم جاءت الفترة منذ نقل السجناء من بعقوبة الى نقرة السلمان حتىاعادة نقلهم الى بعقوبة. وفي هذه الفترة توفرت بعض الادبيات التي امكن تدريسها اضافة الى الاقتصاد السياسي ودورة المادية الديالكتيكية التي اعطاها محمد عبد اللطيف.
ليست لي اية معلومات عن النشاط الثقافي في بعقوبة منذ اصبح سجن بعقوبة سجنا سياسيا في ١٩٥٣ الى نقلنا الى بعقوبة سنة ١٩٥٦. هناك كراس يتناول تأريخ الحركة النقابية في العراق يقال انه كتب في تلك الفترة. نشر هذا الكراس في ١٩٥٩ باسم طالب عبد الجبار وتصر سعاد خيري انه من تأليف زكي خيري وحده ويدعي البعض ان آرا خاجادور هو كاتبه الحقيقي بينما يدعي حكمت كوتاني انه هو وغيره ساهموا في كتابة هذا الكراس. ولا استطيع ان ابدي رأيا فيما يخص الكراس لأني لم أحصل عليه ولم اقرأه. ولكني قرأت كراسا كتبه ونشره حكمت كوتاني في دمشق حول نفس الموضوع وهو كتاب لا يبحث شيئا عن النضالات الحقيقية في الواقع الميداني لا في العراق ولا في اي بلد اخر انما يقتصر على بحث المركز القانوني للنقابات  وعلى اراء عامة مجردة حول النقابات وفي رأيي انه موضوع مثالي لا علاقة لـه بالنضال النقابي. وعندما ارسله حكمت كوتاني الي من سورية وقرأته كتبت لـه رسالة انتقدت فيها الكتاب وأشرت الى النقاط الهامة في تأريخ الحركة النقابية العراقية وحتي بعض الحركات النقابية في دول اوروبا الشرقية التي لم يعالجها بتاتا في كراسه أو عالجها بصورة نظرية مجردة ووصفت الكتاب كله بأنه من كتب البروج العاجية. فهل كتب الكراس المذكور بنفس الطريقة؟ لا استطيع الحكم عليه قبل قراءته. وفي فترة وجودي في سجن بعقوبة من أواخر ١٩٥٦ حتى الثورة رأينا عدم وجود اية وسيلة مكتوبة او مطبوعة في السجن ولم يكن ثمة اي نشاط ثقافي سوى ما كان يستطيع عزيز الحاج تقديمه شفهيا وبعض الاستفادة مما استطعت تقديمه لمساعدته على ذلك وليست لهذا سوى فائدة طفيفة. نرى من هذا ان الفترات التي كان بالامكان استغلالها من قبل السجناء لرفع مستواهم النظري والثقافي قصيرة ونرى ايضا ان الاستفادة منها كانت معدومة احيانا.
ولكن ما هي اهمية هذه الثقافة النظرية؟ اليس اهم من ذلك الاخلاص للحزب والاستعداد للتضحية في سبيله كما يلاحظ واضحا من حياة العديد من القادة الاخرين؟ في الحقيقة أنا لا اريد ان استهين باخلاص العديد من القادة الذين اثبتوا تفانيهم في سبيل الحزب الى حد التضحية بحياتهم. ومع ذلك فان الاخلاص وحده غير كافٍ. فعيب هؤلاء القادة هو انهم لم يؤمنوا بأن الماركسية علم دقيق لا يقل في دقته عن سائر العلوم الطبيعية كالفيزياء والكيمياء والطب وغيرها. لم يؤمنوا بأنه علم امضى المعلمون الأربعة ماركس انجلز لينين وستالين حياتهم في صياغته وتطويره. ولذلك كان هؤلاء القادة يتخبطون في الظلام باسم الماركسية اللينينية. انهم مارسوا قيادة الحزب باسم الماركسية بدون ماركسية اعتمادا على سليقتهم الثورية فوجهوا الحزب بالضرورة الى اتجاهات بعيدة عن الاتجاه الماركسي. ان من يريد ان يقود حزبا باسم الماركسية بدون دراسة الماركسية وفهمها والبراعة في تطبيقها شأنه شأن السحرة الذين نراهم في افلام طرزان يعالجون المرضى بالتعاويذ والرقص. ففي حياة الحزب الشيوعي العراقي يمكننا ان نرى الانجازات الرائعة التي حققها الحزب تحت قيادة فهد الماركسي اللينيني ونرى التدهور الذي طرأ على الحزب الشيوعي بعد ذلك بحيث اصبح الحزب أداة لجعل الطبقة العاملة ذيلا للبرجوازية العراقية.
ولكن ذلك لم يقتصر على الحزب الشيوعي العراقي بل شمل جميع الاحزاب الشيوعية تقريبا وعلى رأسها الحزب الشيوعي السوفييتي. فقد انجز هذا الحزب انتصارات لم تشهد الانسانية لها مثيلا تحت قيادة لينين وستالين. انجز ثورة اكتوبر التي جاءت لأول مرة بدولة عمالية تبني الاشتراكية. واستطاعت هذه الدولة تحت قيادة لينين وستالين ان تنتصر على حرب التدخل والحرب الاهلية من ١٩١٨ حتى ١٩٢١. واستطاعت ان تحول الاتحاد السوفييتي من دولة زراعية متأخرة دمرتها الحرب العالمية الاولى وحرب التدخل الى ثاني دولة صناعية بعد الولايات المتحدة في فترة خمسة عشر عاما. واستطاعت ان تنقذ العالم من العبودية النازية وتعيد بناء ما دمرته الحرب العالمية الثانية في فترة قصيرة. وقاد الاتحاد السوفييتي  المعسكر الاشتراكي الذي نشأ بعد الحرب بمساعدته وقاد حركة السلام العالمي تحت قيادة ستالين. ونرى من الناحية الثانية ان التخلي عن النظرية الماركسية في مواصلة تقدم الاتحاد السوفييتي ادى الى القاء الاتحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي في احضان الدول الامبريالية والى اعادة الراسمالية بأبشع صورها الى الاتحاد السوفييتي وتمزيقه الى دويلات رأسمالية ترزح تحت وطأة الراسمال الامبريالي والى انحطاط وتفكك المعسكر الاشتراكي وعودته الى النظام الراسمالي.
فتقاعس القادة الحزبيين في السجون عن استغلال ظروف السجن القليلة المناسبة لرفع مستواهم النظري ادى الى خسائر فادحة في صفوف الطبقة العاملة العراقية والشعب العراقي عموما. ان الماركسية علم يختلف عن سائر العلوم الطبيعبة. ففي العلوم الطبيعية كلها تؤدي الاخطاء في التجارب العلمية الى اضرار مختبرية تقتصر الخسائر فيها على اجهزة مختبرية وفي الحالات القصوى الى التضحية ببعض الحيوانات التجريبية كالفئران والأرانب. ولكن مختبر علم الماركسية هو البشرية. والخطأ في التجربة فيه يؤدي الى ضحايا تتعاظم كلما كانت التجربة اعظم. فتجربة العراق الخاطئة كلفت الشعب العراقي العديد من التضحيات البشرية ولكنها لا تقاس بتجربة الاتحاد السوفييتي الخاطئة اذ ان الأخيرة نجمت ليس عن القضاء على اول دولة اشرتاكية تسير نحو الشيوعية في التاريخ وحسب بل هي مسؤؤلة بدرجة كبيرة عما نراه اليوم من الوضع العالمي المتدهور تحت سيطرة الدولة العظمى الوحيدة , الولايات المتحدة الاميركية, والحرب العالمية الثالثة التي تشنها حاليا.
ما تزال الماركسية هي النظرية الوحيدة التي بامكانها ان ترشد الطبقة العاملة والانسانية كلها الى الطريق الصحيح الوحيد للقضاء على الراسمالية وتحقيق المجتمع الاشتراكي والمجتمع الشيوعي. والتقاعس في دراسة الماركسية وتعلم تطبيقها يبقى سببا في المزيد من الكوارث والتضحيات البشرية والمادية. لذا اعتقد ان اية قوة سياسية تناضل من اجل تحرير الشعوب من العبودية التي تخضع لها حاليا ان تبذل كل الجهود خلال نضالاتها في دراسة علم الماركسية اللينينية دراسة عميقة وتعلم تطبيقه تطبيقا صحيحا وتطويره بما يتفق والظروف الجديدة التي تطرأ على المجتمع. يختلف القادة في براعتهم في تطبيق الماركسية بعد دراستها فينشأ قادة ابرع من غيرهم في تطبيقها وتطويرها مثل لينين وستالين ولكن من المستحيل أن ينشأ مثل هؤلاء القادة الا بعد دراستهم لهذا العلم الانساني الدقيق.
 
للمؤلف
١ الموسيقى الفنية المعاصرة في العراق
 نشر في المملكة المتحدة ١٩٧٨
٢ Marks and his Dialectical Materialism
 نشر في المملكة المتحدة ١٩٨١
٣ ثورة ١٤ تموز في العراق وسياسة الحزب الشيوعي
 نشر في المملكة المتحدة ١٩٨٥
٤ قاموس عبري عربي كامل (في ثلاثة مجلدات)
 نشر في اسرائيل ٢٠٠٠
٥ Stalin As I Understood Him
 نشر في المملكة المتحدة ٢٠٠٠
٦ The Maqam Music Tradition of Iraq
 نشر في المملكة المتحدة ٢٠٠١