أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - أحمد دلول - فلسفة الانحطاط















المزيد.....

فلسفة الانحطاط


أحمد دلول
كاتب وباحث فلسطيني مُقيم في الدنمارك.

(Ahmad Dalul)


الحوار المتمدن-العدد: 6282 - 2019 / 7 / 6 - 17:28
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


غالبا ما يكون لمرحلة الانحطاط ملامح ومعالم مشتركة، لدى الأمم التي تمرّ بتلك الحقبة. وللانحطاط أسبابه ومقدماته، وكذلك نتائجه وتداعياته، وذلك ما ينعكس بشكل جلي على العقلية الجمعية للأمة وعلى شفافية "المنظار" الذي يتم من خلاله رؤية الأشياء ومحاكمتها. ففي زمن الانحطاط غالبا ما تنحدر الأخلاق ويزدهر النفاق، تنحسر الوجدانية وتنشط الغرائز في مقابل اضمحلال الرقابة على الذات. ينشأ نوع من الازدواجية الأخلاقية، أو الفصام ما بين الظاهر والباطن، ما بين المُعلن والمَخفي، وتحديدا عندما يتعلق الأمربالوجدانيات؛ كالجنس والدين وعلاقة المرء بربه.

فالدين يميل لأن يكون منزوع الروحانية، يصبح فعلا ميكانيكيا أجوفا، مادة لاجترار الطقوس والشعائر. يصبح دينا ذرائعيا أو دين مصلحة؛ إذ تصبح علاقة العبد بربه علاقة مقايضة انتهازية محسوبة بالمكيال، فلا يعطي العبدُ لربِه، إلا مقابل أن يردّها الربُ لعبدهِ، وليس هناك سعي بدون مقابل، لوجه الله. فلكل خطوة ولكل حركة أو فعل، مُقابل وثمن، أو كم معين من "الحسنات" ستجنيه الـ (أنا) عاجلا أم آجلا، وكل عمل يجب أن يصبّ في مصلحة تلك الـ (أنا) وليس حبا بالله لذاته، حتى أن عبادة الله تكاد تمرّ عبر عبادة الـ (أنا) إلى أن تصبح الـ (أنا) بمثابة المركز الذي يدور حوله ومن أجله كل شيء، فيصبح لها دور محوري قابل للتضخم بلا نهاية، حتى يصبح الدين "الذرائعي" بمثابة زورق فردي للخلاص الشخصي الفردي، ولو على حساب هلاك الآخر/ الجماعة / الوطن.

يصبح الانغلاق على الذات أشبه بردة فعل دفاعية اتجاه خذلانٍ وتيهٍ وجودي عام. فينغلق المرء على ذاته، أيضا عبر تقوقعه على ما يخصه؛ من دِين أو مذهب أوعشيرة أوحزب أو أيديولوجية. يميل الناس إلى "اليقين الدوغمائي" وإلى التعصب والانغلاق على أنفسهم وعلى أسلوب حياتهم، يعملون على نفي الآخر والتعالي عليه وعلى معتقده وطريقة تفكيره. يلجأون إلى أسهل الطرق لتسكين مخاوفهم، فيخرجون إلى الملأ زاعمين بأنهم يمتلكون الحقيقة المطلقة التي لا تقبل المحاججة أو الحوار. تصبح الحقيقة النهائية (بشقَّيها اللاهوتي والناسوتي) ملكا خالصا لكل فردٍ تبعا لما تم تلقينه، يسود نوع من السفسطة. يضيق أو ينحسر هامش التسامح اتجاه الآخر، ويجنح الناس للعنف بدلا من الحوار. يحصل طلاق ما بين الفكرة والتفكير، ما بين الدين والأخلاق (دين ناقص "Minus" أخلاق) حتى أن الدين الذرائعي والأخلاق يصبحان أشبه بكفتي ميزان، فإذا ثقلت أحدهما خفّت الأخرى. وكذلك فإنه كلما ازداد الانحطاط، كلما تفشى الدين الذرائعي والعكس صحيح… دائرة مُغلقة.


في زمن الانحطاط يسود الإحباط اتجاه المستقبل الدنيوي، فيقفز الإنسان فوق الدنيا، نحو التفاؤل والرجاء بالآخرة. يتعفف عن مفاهيم الحياة الدنيا، لا عن ملذاتها ومصالحها. ثم يصبح الدين سياسيا، فينحَت مفاهيم الدنيا بأدوات الآخرة. الأدوات تعمل جيدا، ولكن المفاهيم تتعطل أو تتشوَّه؛ العملية نجحت ولكن المريض مات. لا بأس في ذلك، ما دام قتلانا في الجنة، حتى ولو قتلهم المؤمنون أنفسهم، فلنُعِد المحاولة إذن من جديد. تتسطح العقول، ويتعطل المنطق، في حين ينشط النبش في سراديب الماضي، لا لمحاولة فهمه وتفحص جوهره، وإنما لمجرد نسخه بحرفه. أما المنطق فهو مجرد ترف زائد لا يحتمله واقع الحال، ثم أنه ليس مما أنزل الله، وبالتالي فإن "علم قوانين التفكير" هو مجرد كفر… هكذا يفكّر المنحطّون، ضمن سقف زمن الانحطاط.


في زمن الانحطاط يعزف عامة الناس عن القراءة، ويفضلون الوجبات الثقافية الخفيفة والجاهزة. ينفرون من الفلسفة، يصعب عليهم تذوقها، أو ينظرون إليها كخلاعة فكرية. يميلون إلى الألوان الفاقعة البرّاقة وإلى خطاب الطبل والزمر. تعم التفاهة، تنحط الأذواق ويسود العبث. تنحط المفاهيم ويُصاب الفِكر بالرتابة والتشابه والخمول. يصبح المثقف مجرد مستهلِك للمفاهيم، لا مُنتج لها. ينحسر الإبداع، يصبح الإنتاج الفكري في معظمه أشبه بعملية "نسخ، لصق" لإبداع الثقافات الأخرى أو لنتاج الماضي. يزدهر غالبا الأدب الضحل والشعر الرخيص، يكثر الشعراء ويندُر الشعر، ينحدر الشعر أحيانا إلى مستوى الثرثرة التي يغلب عليها لغة الهذيان أو التخبط واللاإنضباض في فضاء المعنى، شعر بلا أحاسيس منهجية مضبوطة، وبلا معنى (المعنى يبقى في قلب الشاعر!) شعر لا يحرك شيئا من مشاعر المتلقي.


في زمن أمتنا المنحط، الذي تلازم وتساوق مع سلسلة طويلة من الهزائم المريرة التي ترسخت في واقعنا ووجداننا؛ تنهدر الكرامة القومية، ويتلاشى الفرح القومي. تصبح العقلية الجمعية غاضبة ساخطة، تُحبَط النفوس وتتضاءل البهجة الوجدانية، ليحلّ محلها بهجة الغرائز. ينتهج الناس نهجا تسويغيا براغماتيا لقضاء الحاجات، ولاسيما المتدينون منهم والمثقفون، يسهل تجنيد العملاء، يظهر فجأة جيشا من النخب الثقافية المرتزقة، ولاسيما في زمن الربيع العربي، الذي أصبح امتدادا مُمَنهجا لزمن الانحطاط، بدلا من أن يكون ثورة عليه. تضمحّل الثقة بين أبناء الوطن الواحد ويعمّ الاحتقار بينهم، يتعالى أبناء الوطن على بعضهم وعلى قوميتهم، متحصنين بانتمائهم الديني أو المذهبي. الوطن لم يعد بيتا كبيرا، ولا عائلة كبيرة، كل يبحث عن خلاصه الشخصي، وكل يبحث عن برج عاجي، لكي يقف فوقه ويشتُم ويسّب الأمة التي ينتمي إليها. يتم غالبا إلقاء اللوم على الآخر / أبناء الوطن / الحاكم، مع غياب الشعور بالمسؤولية الفردية، ولو بمبادرة رمزية لإشعال مجرد شمعة تضيء في الظلام. ينفر الناس من بعضهم وينجذبون إلى أسباب انحطاطهم؛ فيتزلفون إلى اعداء أمتهم وينبهرون بآدائهم، يثنون على جلادهم ويتماهون به، يميلون إلى احتقار ذاتهم. ينكصون إلى غياهب الماضي لاختلاس بعض النور، أو بعض المَدَد، فيقتبسون منه نارا، تُحرِق ولا تُضيء، ثم يهربون إلى الأمام.

غالبا عندما ينحط واقع الأمة، ينحدر معه كل ما عداه، بما في ذلك الدين. وما الدين سوى مُحتوى في واقع هو المُحتوي. وبذلك فإن انحطاط الدين غالبا ما يكون انعكاسا أو نتيجة لانحطاط واقع الأمة، وليس بالضرورة سببا له، فإذا ترسخ انحطاط الدين، أصبح بدوره سببا لترسيخ انحطاط الواقع. وكيف لأمة لم تعايش في تاريخها المعاصر سوى الغبن والنكبات والنكسات والهزائم، أن تتجرد من اضطراب واقعها، ثم تقوم بترتيب أبجدية دينها بصيغة متناغمة يملؤها السلام والتسامح والاعتدال! وكيف للمُحتوى أن يتجرد من شكل مُحتويه وهو مأسور داخل مساماته وتفاصيله! ومن ثم، ألم تكن الأمة الإسلامية تسير نحو الليبرالية والتحرر والانفتاح بشكل واضح وأكيد، منذ أفول الحكم العثماني وحتى نكسة حزيران، ثم اجتياح لبنان، ثم غزو العراق، مرورا باستباحة دماء وكرامة وممتلكات ومقدسات الفلسطينين على مرأى من مئات الملايين ممن يشاركونهم القومية أو الدين، والذين ظلوا يجترون عجزهم وخيباتهم وانفعالاتهم لعقود طويلة مع انتفاء الإمكانية الموضوعية لتحريك ساكن! ألم تكن تلك المحطات أشبه بالمفترقات المصيرية في وجدان الأمة وفي طريقة تأويلها لمفاهيم الدين والدنيا وكذلك في نشأة الإرهاب! أوهل كان هناك أصلا من يسمع عن إرهابٍ بمعناه الإسلامي قبل ثمانينيات أو تسعينيات القرن الماضي؟ ثم ألم تكن تلك الحقبة تحديدا، هي البداية لصحوة إسلامية مفاجأة، حيث تشاغل المؤمنون عن الروحانية، وانشغلوا بزي النساء ولحى الرجال وفلسفة دخول المرحاض وفتاوى التكفير، ثم تعففوا عن الدين نفسه! وهل الدين شيء آخر سوى الروحانية، كمرتكز وكأساس له! وللمزيد من "التفسير لا التبرير" أقول: كيف لأمة لا تمتلك القرار السيادي على ترابها وثرواتها ومقدساتها وقراراتها، أن يكون لمواطنيها القدرة على تأويل الماضي الموروث والنظر إلى القادم المجهول، بثقة وطمأنينة وعقلانية! ثم ما فائدة الإطاحة بديكتاتور، واستبداله بحاكم منتخب ديمقراطيا، ما دامت الإمكانات السيادية للأمة، الاقتصادية منها والعسكرية والبنيوية، ستجعل الحاكم محكوما لإملاءات الدول العظمى على أي حال! تلك المعادلة التي جعلها الربيع العربي أكثر وضوحا وجلاء ورسوخا، ولا سيما بعد محاولة "الامبراطوريات الإعلامية" لشيطنة أي زعيم عربي أو أي بلد إسلامي ما زال يمتلك أي شكل من أشكال القرار السيادي على بلده وعلى تراب وطنه.

في ظل غياب السيادة القومية، من العسير أن تنعم أي أمة بازدهار وتطور ورفاه حقيقين، ولذلك فإن أي مشروع نهضوي حقيقي للأمة العربية، لا بد له من أن يرتكز على تحقيق الحدود الدنيا من تلك السيادة أولا، كونها هي الصخرة الراسخة والأساس الأساسي، الذي يمكن البناء فوقه والتعويل عليه بغية أي سعي للترقي، وأكاد أقول، بأن كل ما عدا ذلك تحصيل حاصل. فإلى أن نتمكن من الظفر بالسيادة على أوطاننا وعلى ترابنا، تلك السيادة التي باتت تفلت من بين أصابعنا أكثر من أي وقت مضى. وإلى أن نستطيع أن نرفع غبن اللاعبين الكبار عن المغبونين منا، وأن نجد حلّا مُشّرِفا ما، لجرحنا المفتوح منذ "سبعة عقود" جرحنا القديم الجديد والمُسَبِب لجلّ عللنا وآلامنا. إلى ذلك الحين؛ فإن جميع جهودنا النهضوية والتنويرية والإصلاحية ستصب في خانة اللعب في الوقت الضائع.

ولكن لمَ لا؟ ما دامت جميع المؤشرات تشير إلى أن ذلك الوقت سيطول كثيرا، إن كان له نهاية أصلا. فلنجتهد في اللعب في ذلك الهامش كل حسب دوره، على الأقل لنثبت بأننا مازلنا أحياء.

كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدنمارك.



#أحمد_دلول (هاشتاغ)       Ahmad_Dalul#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- البحث عن هتلر
- بولتون يسقط قناع النفاق الأمريكي
- أردوغان يتابع صناعة خوازيقه
- هل أمريكا مؤهلة أخلاقيا لمحاسبة كوريا الشمالية؟
- جحش طروادة السوري
- الاستثمار في الجهل
- السوريون أيتام على موائد اللئام
- - ثورة سورية- لخدمة أردوغان وتركيا بعد إسرائيل
- مجموعة مهزومين وهزائم لا تصنع انتصارا
- أضغاث ثقافة مع جلال صادق العظم وآخرين
- المعارضة السورية والإنجاز الجديد
- المعارضة السورية ولولو اللبنانية
- فيصل القاسم والثورة الأمريكية في سورية
- الكفر بالمعرفة
- المعارضة السورية وجنيف
- عبد الرزاق عيد هل يحل لنا لغز داعش بعد جبهة النصرة؟
- هل على السوريين رؤية ما ليس موجودا؟
- من سيتبع الآخر: أمريكا أم السعودية؟
- هل تعب ثوار الفضائيات السوريون؟
- اهربوا: المسلمون قادمون


المزيد.....




- نزلها عندك.. نزل تردد قناة طيور الجنة الجديد 2024 على الأقما ...
- شاهد: طائفة السامريين اليهودية تقيم شعائر عيد الفصح على جبل ...
- سيدة بريطانية يهودية تفضح محاولات وسائل الإعلام والسياسيين ف ...
- تونس: قرض بقيمة 1.2 مليار دولار من المؤسسة الدولية الإسلامية ...
- تونس تقترض 1.2 مليار دولار من -المؤسسة الدولية الإسلامية-
- مسيحيو السودان.. فصول من انتهاكات الحرب المنسية
- -لم توفر بيئة آمنة للطلاب اليهود-.. دعوى قضائية على جامعة كو ...
- البنك الاسلامي للتنمية وافق على اقتراح ايران حول التمويلات ب ...
- استباحة كاملة دون مكاسب جوهرية.. هكذا مرّ عيد الفصح على المس ...
- قائد الثورة الاسلامية سيستقبل حشدا من المعلمين 


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - أحمد دلول - فلسفة الانحطاط