أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - سعد محمد رحيم - السردية التأسيسية للدولة وموقع المثقف















المزيد.....

السردية التأسيسية للدولة وموقع المثقف


سعد محمد رحيم

الحوار المتمدن-العدد: 4655 - 2014 / 12 / 7 - 11:01
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


حين نتحدث عن سردية تأسيسية للدولة فنحن لا نعني، قطعاً، إنشاء نص موحّد يتضمنها. إنما هي، في تجلياتها، حزمة من المفاهيم الأولية والرموز الواقعية والحضارية، والقيم الاجتماعية، والتصورات ـ وهنا وجهها الثقافي ـ فضلا عن أحداث تاريخية ـ ذاكرة تاريخية ـ يجري الاتفاق عليها بين شرائح المجتمع وقواه ونخبه السياسية والثقافية. وهذه السردية التأسيسية تنعكس بمحتواها ودلالاتها في دستور الدولة الدائم وفي قوانينها النافذة.. في فلسفتها وخطابها كما في هويتها السياسية.. في علاقاتها مع غيرها وشكل إدارتها كما في إجراءاتها التنفيذية. لتقترح بعدئذ نمط المجتمع السياسي الملائم. ولا شك أن هذه كلها تصبح عملية غاية في التعقيد لا سيما في إطار جيوسياسي شديد التنوع إثنياً، ومستند إلى مرتكزات تاريخية لها حقائقها الراسخة والملتبسة، وأساطيرها، مثلما هو الحال في العراق. وعلى مر العقود سعت السلطات القائمة ( عراقياً ) على الاستحواذ على الذاكرة التاريخية وتوظيفها واستثمارها، لصالحها، سياسياً.
يستدعي الكلام عن سردية تأسيسية لدولة حديثة صياغة مصفوفة يكون فيها للنخب الثقافية موقع ودور ووظيفة.. ومن نافل القول التأكيد بأن تلك النخب ليست متجانسة في موجِّهاتها الإيديولوجية، وتكاد تكون متنافرة في مواقفها السياسية وفي رؤاها عن الإشكاليات المجتمعية القائمة، وكذلك عن صورة المستقبل التي تحلم بها.. أما موقعاً فإن النخب الثقافية في العراق كانت على الدوام، ومنذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة 1921 في الهامش، باستثناء المدمجين عضوياً بخط السلطة. وعلى الرغم من تهميشها، ومحاولات إسكات صوتها، فإنها أدت أدواراً مهمة نسبياً في تكريس وعي سياسي وثقافي حاد وناقد، وفي الغالب، ذي طابع تنويري مدني.
السردية التأسيسية ليست كتاباً مقدساً مغلقاً، محتكراً لجماعة دون غيرها. وإنما هي نص افتراضي مفتوح قابل للاغتناء والتقويم. ووفرة النتاج الإبداعي والمعرفي للمثقفين والمفكرين تمد تلك السردية بالطاقة العقلانية والوجدانية وبأسباب الحياة. وإذا استعرنا أحد المفاهيم التي صاغها غرامشي في تحليله لأدوار المثقفين وهو أن يتخذوا ( حرب مواقف/ مواقع ) في دفاعهم عن مشروعية النظام السياسي المقترح، فإن المثقفين العراقيين العضويين ـ وهذا مفهوم آخر لغرامشي ـ خاضوا مثل تلك الحرب، ولكن بدرجات متفاوتة من النجاح.. والآن تجري حرب موقف/ موقع ذات صبغة وطنية خالصة، في محاولة ربما لا تبدو واضحة تماماً، لبلورة سردية تأسيسية للدولة الوطنية العراقية عبر نتاجات المثقفين الفكرية والإبداعية، وفي وسائل الإعلام المختلفة ومواقع التواصل الاجتماعي على شبكة الإنترنت. وبجهود آلاف المثقفين العراقيين الذين يمنحون الأولوية لانتمائهم الوطني على انتماءاتهم الفرعية..
يحضر المثقف المنغمس بحرب موقف/ موقع على تخوم المجتمع السياسي، لا في داخله، كائناً مقلقاً، مربكاً متسائلاً وضرورياً جداً. وموقعه يرسم درجة ضرورته لأنه من خلال ذلك الموقع يتحدد دوره ووظيفته في بث أفكار حجاجية معارضة وسجالية. في الوقت الذي يسوِّق فيه، ويشيع، مفاهيم التمدن والحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان والتنمية في مقابل تفكيك العقائد التي تعيق نمو المجتمع المدني وتعترض إقامة الدولة المدنية العصرية. وحيث يشكِّل النتاج الإبداعي والفكري لنخبة المثقفين في حقول الآداب والفنون والفلسفة والعلوم الإنسانية منابع طاقة روحية وفكرية بهذا الاتجاه.
من مؤشرات تخلف المجتمع السياسي عدم اهتمامه بوجود نخبة ثقافية مفكرة ومبدعة، وتجاهله للثقافة المنتجة، وازدرائه للأفكار والرؤى والأعمال الإبداعية.. يرى أريك دايفس في كتابه اللافت ( مذكرات دولة: السياسة والتاريخ والهوية الجماعية في العراق الحديث ): "إن الخطوات الهائلة التي حققها الإنتاج الثقافي الإبداعي الذي حض، في أغلب الأحوال، على التسامح والتنوع الثقافي والقيم الإنسانية لم تورث في المقابل سياسات ديمقراطية ذات طابع تشاركي وتسامحي قبل 1958. ومع ذلك، وفر هذا الإنتاج الثقافي ذاكرة ثقافية يمكن للقوى الديمقراطية الاتكال عليها في سعيها لتغيير مجرى السياسة العراقية مستقبلاً". وما يصدق على المرحلة ما قبل العام 1958 لا يختلف كثيراً عمّا جرى بعدها. وأعتقد أن إشارة دايفس هذه تعكس جانباً من إشكالية العلاقة بين المجتمع السياسي والنخب الثقافية، وسوء تقدير ذلك المجتمع لقيمة الإنتاج الإبداعي والمعرفي في رفد الذاكرة التاريخية ومن ثم السردية التأسيسية للدولة/ الأمة بعناصر القوة والتماسك والنماء.
تراوح الصراع في إطار السردية التأسيسية ومحاولة فرض نمطها واحتكارها ـ عراقياً ـ بين توجّه عراقوي صميم، وآخر قوموي عروبي، وثالث إسلاموي بصبغة طائفية في معظم الأحيان. وكان لكل من هذه التوجّهات أطروحته الإيديولوجية، وخطابه السياسي، وجسده التنظيمي وتقاليده وطبيعة سلوكه في الساحة السياسية، وفي العلاقة مع المجتمع المدني والمجتمع الأهلي.
يلاحظ أريك دافيس، أيضاً، بأنه "على الرغم من حداثة نشوء الدولة والافتقار إلى تراث من الوعي الوطني العراقي، غير أن ذاكرة تاريخية مرتبطة بالحضارات العراقية القديمة وبدور العراق المركزي في بروز الإسلام والثقافة العربية، وبالجهود العراقية لمواجهة الإمبريالية البريطانية إبان ثورة العشرين، وفّرت كلها مجموعة هامة من القيم والمعايير التي تحرّك العراقيون في ظلها سياسياً وشكّلوا روابطهم التضامنية". غير أن هذا بقي موضع سجال طويل وصل في مناسبات كثيرة إلى درجة ممارسة العنف.
* * *
تتصل الهوية بمفصل الثقافة.. الهوية بعدِّها معضلة ثقافية قبل أي شيء آخر. فهي متجذرة في أرض الثقافة.. الثقافة التي هي قيم وتقاليد ومعتقدات وخُيلات وأساطير وسرديات وفنون فضلاً عن كونها أنماط علاقات وأشكال مؤسسية.. على تلك الخريطة المتشعبة المتضمنة لعلاقة الهوية بالثقافة، وتماهيهما أحياناً، يُفرز موقع المثقف عبر تجربته ومغامرته الوجودية وإنتاجه الإبداعي والمعرفي، ويتحدد دوره ووظيفته.
تتجلى هوية الدولة في صيغة المجتمع السياسي الناشئ فيما إذا كان معززاً بمجتمع مدني أو مجتمع أهلي، وفيما إذا كان يستمد نسغه من ثقافة ذات محمولات وطنية واسعة أو من ثقافة إثنية ضيقة. وفي ضمن هذه الخطاطة يتموقع المثقف في قلب المجتمع المدني، وهذا شرط فاعليته، ويغطي مدى رؤيته الوطن كله. وهو بقدر ما يفكِّر المجتمع والدولة وهويتهما يواجه، بوصفه مراقباً نقدياً يمتلك حق النظر والتحليل والتقويم، أطروحات المجتمع السياسي وسلوكه. وهو عموماً لا يسعى لتقويض كل سلطة وأية سلطة مثلما يدّعي بعضهم، بل أن يجعلها ترى نفسها وحدودها بالحجم الحقيقي، وكذلك عثراتها وأخطاءها، للحد من إمكانية تغوّلها.
في مراحل بروز التناقضات الاجتماعية والسياسية واحتدام النزاعات الأهلية تُطرح معضلة الهوية بعدِّها موضوعة في الفكر وقضية على الإنسان ( كما على الجماعات ) أن يقرر ويختار بشأنها.. وهي وإن كانت تبدو منطلقة من أرضية خلاف ذي طابع ثقافي إلا أنها في جوهرها تدور في إطار تأكيد الذات، والصراع على السلطة والثروة والنفوذ.. ذلك أن قضية الاختلاف الثقافي، دائماً ما تبرز، مثلما يقول هومي بابا في كتابه ( موقع الثقافة ): "على نحو متزايد في لحظات الأزمات الاجتماعية. ومسائل الهوية التي تطرحها، هي مسائل متوترة، حيث تُدّعى الهوية إما من موقع الهامشية، أو في محاولة للاستيلاء على المركز".
إن جزءاً من أزمة إقامة الدولة العراقية في الحاضر، إذا ما دققنا النظر عميقاً، هو الصراع على هوية هذه الدولة ونوعية السردية التأسيسية التي تقوم عليها. وإذن هل تستطيع النخب الثقافية المساهمة في إنضاج مثل هذه السردية المشتركة بعد تنقية السرديات المتداولة من أوهامها؟ أليست شرائح معينة من النخب متورطة هي الأخرى ـ وهذه طامة كبرى ـ في تأجيج صراع السرديات، ومن ثم صراع الهويات، التي تمهد الأرضية لممارسة العنف؟.
لا يمكن بناء فلسفة دولة على سرديات يصل الاختلاف حولها إلى درجة التناقض والعداء. بالمقابل تفضي السرديات التأسيسية الملفقة إلى حدوث تصدّعات بين هوية الدولة القائمة وهويات جماعات معينة تجد نفسها مهمشة ومبعدة عن المساهمة في إدارة الشأن العام.. أما تغذية سرديات يُلعن فيها الآخر أو يُزدرى أو يُقصى، أو الثلاثة معاً فتظل واحدة من أهم التحديات التي تقض مضاجع المثقفين اليوم.
لا تلتئم الهوية الوطنية حول سردية تأسيسية متفق عليها إلا في ظل دولة مدنية عمادها مبادئ المواطنة والحريات العامة وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية ونبذ التمييز بين الأفراد والجماعات على أسس الجنس والعرق والدين والطائفة والعشيرة والجنس.
كلما أفرطنا بالتوغل إلى عمق الماضي المختلف عليه للبحث عن ركائز لسردية تأسيسية للدولة كلما أدَمْنا عوامل استمرار الهشاشة والاضطراب والصراعات بين الجماعات الأهلية والسياسية المتخندقة في شروخ هوياتها الفرعية الضيقة. لنخسر بالمقابل فرص تعزيز بناء الدولة المدنية العراقية على أسس حداثية متقدمة.
تُحل مسألة هوية الدولة والمجتمع السياسي والمكونات الإثنية والجماعات المختلفة بقدر ما ننجح في نقل اتجاه نظرنا من الماضي المؤشكل إلى الحاضر والمستقبل. وبقدر ما نفكر بلغة المصالح لا بإثارة العُقد القديمة الموهومة منها والحقيقية. وبقدر ما نركِّز، ونحن بصدد إنشاء سردية تأسيسية للدولة، لا على تاريخ الحكم والصراع على السلطة، بل على تاريخ المنجز الثقافي والعلمي والحضاري للأجداد. وبقدر ما نبحث عن تلك التي يسميها هومي بابا بالفضاءات البينية، المشتركة، وهذه المرة بين المكوِّنات والجماعات والقوى.. وهنا على وجه التحديد نجد الفراغ الذي يُفترض بالمثقف إشغاله؛ الموقع الذي يحاور المثقف من خلاله الآخرين، ويضيء المشكلات المتعلقة بالهوية وسرديات المجتمع والدولة، بوصفه صمّام أمان معرفي، وراءٍ يثير الأسئلة المُخصبة، ويشيع مفاهيم التمدّن والتنوير، ويقترح ممكنات الخروج من الأزمة.



#سعد_محمد_رحيم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أيمكن ممارسة الديمقراطية من غير مبدأ التسامح؟
- ثلاث قصص قصيرة جداً
- باتريك موديانو هل يستحق نوبل الآداب؟
- الاقتصاد السياسي للعنف
- موقع الهوية
- الهجرات الداخلية وهوية الأمكنة ( 2 2 )
- الهجرات الداخلية وهوية الأمكنة ( 1 2 )
- المكان العراقي: السلطة والثقافة والهوية ( 3 3 )
- المكان العراقي: السلطة والثقافة والهوية ( 2 3 )
- المكان العراقي: السلطة والثقافة والهوية ( 1 3 )
- الجسد العراقي: التاريخ، الهوية، والعنف
- لماذا يرتد بعضهم إلى الطائفية؟
- الجسد العراقي: السلطة، الثقافة، الهوية
- المثقفون: الحلم العراقي وهوية الدولة
- السلطة، الجسد المعولم، والمجتمع الاستهلاكي
- الهوية وغربة الإنسان في عالم معولم
- الكتاب الإلكتروني والمكتبة الإلكترونية ومجتمع المعرفة: تحديا ...
- السلطة، هوية الجسد، والاغتراب 3 جنسنة الشرق
- السلطة، هوية الجسد، والاغتراب 2 الاستعمار والجسد
- السلطة، هوية الجسد، والاغتراب 1 الفاشية والجسد


المزيد.....




- موسكو تؤكد استعدادها مع بكين للمساعدة في تحقيق الوحدة الفلسط ...
- هنية يهاتف وزير المخابرات المصرية بشأن مفاوضات وقف إطلاق الن ...
- مجموعة ملثمة مؤيدة لإسرائيل تهاجم مؤيدين للفلسطينيين في جامع ...
- شاهد: انهيار طريق سريع جنوبي الصين يودي بحياة 48 شخصاً
- واشنطن تعتبر تصريحات قيادة جورجيا حول تهديدات الغرب تقويضا ل ...
- عالم أحياء يكشف الخصائص المفيدة لزهور الزيزفون
- الشمس تومض باللون الأخضر لبضع ثوان في ظاهرة نادرة للغاية
- تحذيرات من علامات في كتبك القديمة قد تعني أنها -سامة عند الل ...
- الإعلام العبري يكشف عن انتشار غير عادي للجيش المصري على حدود ...
- دراسة تونسية تجد طريقة بسيطة لتعزيز فقدان الوزن


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - سعد محمد رحيم - السردية التأسيسية للدولة وموقع المثقف