أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - خليل كلفت - من سؤال الأسباب إلى سؤال النتائج (كلمة للإلقاء فى مؤتمر الثورة والثقافة بالمجلس الأعلى للثقافة، مصر)















المزيد.....


من سؤال الأسباب إلى سؤال النتائج (كلمة للإلقاء فى مؤتمر الثورة والثقافة بالمجلس الأعلى للثقافة، مصر)


خليل كلفت

الحوار المتمدن-العدد: 3698 - 2012 / 4 / 14 - 11:41
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
    


من سؤال الأسباب إلى سؤال النتائج
(كلمة للإلقاء فى مؤتمر الثورة والثقافة بالمجلس الأعلى للثقافة، مصر)
بقلم: خليل كلفت
1: كان حدث 25 يناير 2011 ثورة سياسية شعبية كبرى، وما تزال الثورة مستمرة. غير أن كثيرين يترددون، لأسباب متنوعة، فى اعتبار هذا الحدث التاريخى ثورة. ورغم أن الثوار اعتبروا حركتهم ثورة وسموها الثورة، بألف لام التعريف، فإن مراقبين كثيرين منحوها ألقابا أخرى أقلّ شأنا مثل الانتفاضة والهوجة وما أشبه. لقد ثار الشعب المصرى بكامله، بعشرات الملايين من بناته وأبنائه، فى طول البلاد وعرضها، ولفترة ممتدة، واضعا على عاتقه مهمة كبرى لا تقل عن "إرادة" إسقاط النظام (الشعب يريد إسقاط النظام)، واستطاع هذا الانفجار الشعبى التاريخى فى أيامه الأولى أن يُحْدِث بالضربة القاضية تغييرا كبيرا؛ وكان تغييرا شاملا حقا. وكان التغيير الأهم هو تغيير الشعب المصرى لنفسه، فقد تغيَّر الشعب حقا وفعلا: كسر حاجز الخوف، وافتتح زمن الثورة، وبعد أن كان مقهورا صار قاهرا لقاهريه، وبعد أن كان مهمَّشا منزويا تقدَّم بجرأة وبطولة إلى مقدمة المسرح السياسى، وبعد أن كان حبيس حالة المفعولية انتقل إلى حالة الفاعلية، وبعد أن كان تحت سيطرة دولة الفساد والاستبداد على وجوده ومصيره صار يسيطر بنفسه على قدره ومصيره، وباختصار خرج جنى الثورة من القمقم. وكان التغيير الثانى كما أراد هو تغيير النظام، ففى الأيام الأولى لثورته "السلمية" سحق بالضربة القاضية (فى حالة دفاع مشروع عن النفس) الأداة المباشرة الكبرى للحكم الديكتاتورى ورمزه الأكبر وأسطورته المسيطرة، أعنى وزارة الداخلية المصرية بكل أجهزتها وقواتها، وفى الأيام الأولى (فى منتصف الأسبوع الثالث للثورة) أسقط رأس النظام حيث كان لا مناص من أن يقوم المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية تحت ضغط الثورة بانقلاب عسكرى (وهو انقلاب قصر أىْ من داخل النظام ولمصلحته) أطاح برئيس الجمهورية ومعه أسرته وحلقة ضيقة من رجاله، ومعه التمديد والتوريث، ومعه ما يسمى بحكم الشخص. فعندما غيَّر الشعب المصرى نفسه استطاع أن يغيِّر النظام الاستبدادى الفاسد. وبعد أن جرى إخضاع الشعب للَّاتسييس المنهجى اكتسب تسييسه الجذرى بنفسه، بفعله الثورى الكبير، وكان لهذا التسييس شقَّاه المتكاملان: من ناحية، انكشاف الفساد بكل حجمه الهائل للشعب فى مجرى تعرية شاملة للنظام، ومن ناحية أخرى، اكتشاف الشعب لطاقته وقوته، لقدرته على التغيُّر والتغيير، هذه القدرة التى صارت بعد ذلك خبز يومه وأساس استمرار ثورته إلى الآن.
2: وقد قيل إن هذه الأحداث ليست ثورة لأنها تلقائية وعفوية مع أن الثورة الشعبية لا تكون إلا كذلك. وقيل إنها ليست ثورة لأنها تفتقر إلى قيادة ثورية منظمة ومع أن وجود مثل هذه القيادة يمكن أن يكون شيئا إيجابيا لصالح الثورة إلا أن غيابها (مع أنه يحرم الثورة من عنصر إيجابى مهم للغاية) لا يعنى أننا لسنا إزاء ثورة. وقيل إن الثورة الناجحة هى، وحدها ودون غيرها، الثورة، مع أن الثورة قد تنجح وقد تفشل فتظل مع هذا ثورة؛ ثم ما هى معايير النجاح والفشل؟ وهل يجوز أن نفترض لثورة أهدافا تتجاوز الأهداف الكامنة فيها موضوعيا لنستنتج من عدم تحقيق هذه الأهداف المفترضة دون مبرر حقيقى فشل الثورة، وبالتالى اعتبار أنها ليست ثورة أصلا؟ بل هناك من استنتج من استمرار الفقر أنها ليست ثورة وكأنها ثورة اشتراكية، أو كأن الثورة الاشتراكية تلغى الفقر فى غمضة عين، أو كأن المعركة ضد الفقر والإفقار قد انتهت مع أنها مستمرة ومرشحة للاستمرار فترة طويلة.
3: ومهما يكن من شيء فإن السؤال يبقى: كيف تغير الشعب بين عشية وضحاها، وكيف نجح فى التغيير، وكيف صار من المأمول أن يحقق المزيد من التغيير فى نفس الاتجاه؟ كيف إذن حدثت معجزة أن يتغير الشعب ويغيِّر؟ إنه سؤال السبب؛ وكما يقال فإنه إذا عُرِف السبب بطل العجب!
4: وإذا قلنا إن السبب ماثل فى صميم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية المتردية، أوضاع المستويات البالغة التفاقم من الاستغلال والفساد والاستبداد نتيجة للرأسمالية التى تقودها شراهتها بالضرورة إلى تجريف كل أساس اقتصادى لحياة وحتى بقاء الشعوب، فإننا نقدم بذلك وصفا عاما لأوضاع يمكن أن تستمر معها استكانة شعبٍ أعواما وحتى عقودا دون أن تصل مقاوماته واحتجاجاته إلى مستوى الثورة مع أن مثل هذه الأوضاع هى الخلفية الاجتماعية السياسية التى لا يمكن بدونها أن تتفجر ثورة شعبية تستحق هذا الاسم.
5: ولا مناص بالتالى من الانتقال من هذه الخلفية الإستراتيچية العامة إلى الأسباب والعوامل الظرفية التى تشعل النار فى وقود جاهز للاشتعال. وفى حالتنا الخاصة كان هناك بالتأكيد تأثير الدومينو القادم من الثورة التونسية التى فجرها بدورها عامل ظرفى يتمثل فى انتحار مواطن تونسى فقير بإحراق نفسه ولم تتحرك مصر إلا بعد أن حققت الثورة التونسية بالفعل المعجزة المذهلة المتمثلة فى إجبار الديكتاتور على الرحيل.
6: على أن الثورات لا تنفجر عند توفُّر كل عامل ظرفى أو تأثير دومينو رغم تردى الأوضاع. وقد شهدنا فى المنطقة العربية رغم التناظر العام فيها من حيث تردى الأوضاع الاجتماعية السياسية مستويات متفاوتة من الاستجابة من جانب الشعوب. وهناك بالطبع جزء لا يتجزأ من هذه الأوضاع يتمثل فى تطور الاحتجاجات والتطورات فى بلد دون آخر فى الأعوام السابقة للثورة. ودون أن نأخذ فى اعتبارنا هذه الخلفية الاجتماعية العامة، وتأثير الدومينو، وكذلك الاحتجاجات والتطورات فى الأعوام القليلة السابقة للثورة المصرية السياسية الشعبية الكبرى (وكذلك باقى ثورات ما يسمى بالربيع العربى) فإن سؤال السبب وراء الثورة سيغدو لغزا بالغ الإبهام. على أن حقائق ومعادلات تنطوى عليها مجموعة الأسباب البالغة التعقيد الماثلة وراء تفجر الثورة تطرح مباشرة قضية جدل السبب والنتيجة أىْ طبيعة الثورة وآفاقها بحكم إطارها التاريخى وخصائص قواها الفاعلة.
7: على أنه ينبغى، قبل أن ننتقل إلى جدل السبب والنتيجة، أن نركز أولا على سؤال السبب، أو بالأحرى مجموعة الأسباب البالغة التعقيد الماثلة وراء تفجر الثورة. وإذا كان من المنطقى أن نركز الآن ما دامت الثورة قد تفجرت، بالفعل، على نتائج الثورة وليس على أسبابها، فإن الأسباب هى أم النتائج، والقاعدة هى أن ما سبق الثورة هو الذى يتحقق من خلالها، وأن ماضى الثورة هو مستقبلها بأشكال جديدة هى ثمرة انصهار الماضى بأسبابه وعوامله ودوافعه وكل عناصره فى بوتقة الثورة صانعةً مساراتها المحتملة ونتائجها المتوقعة ومستقبلها المفترض.
8: والحقيقة أن الأسباب الكبيرة والصغيرة التى تضافرت فى لحظة الثورة إنما هى أسباب تراكمية وبالتالى نتائج تراكمية لأسباب سابقة. ولا تتضح حقيقة هذه الأسباب ولا نفهم مغزاها الحقيقى إلا عندما نفهم طبيعتها ومداها وعمقها ويحدث هذا عندما نربطها بنتائجها فى هذه اللحظة أو تلك، ولا نفهم طبيعتها إلا بربطها بعمق بطبيعة نتيجتها الأساسية الجوهرية؛ أعنى طبيعة الثورة وهذه الأخيرة، طبيعة الثورة، هى التى توضح لنا المسار العام لجدل الأسباب والنتائج، وللمسار العام والإطار العام للثورة، وتجعل بمستطاعنا بالتالى التحديد الدقيق للأهداف الكبرى للثورة دون تهويل أو تهوين. وقد عملت دوائر بعينها فى أعقاب الثورة على إغراق أىّ محاولة اجتماعية أو تاريخية لفهم هذه الثورات فى بحر من النظريات الفيزيائية التى تبرز اللايقين، والعشوائية، وصعوبة وحتى استحالة التنبؤ، وتعلن موت كل تفسير تاريخى للتاريخ، وكانت النتيجة المنطقية هى إعلان تفسير اللاتفسير فى فهم أسباب الثورة وبالتالى استحالة أىّ توقع للتطورات والآفاق والنتائج!
9: والنتيجة الأساسية الجوهرية للثورة، أىْ طبيعة الثورة، ليست شيئا، إنها بالأحرى علاقة؛ علاقة إيجابية من جانب وسلبية من جانب آخر بين قوى اجتماعية فى مصر تعبِّر عنها قوى سياسية بعينها، فهى علاقة بين الثورة وبين النظام الذى يتحول على الفور إلى ثورة مضادة، فالثورة المضادة ليست سوى النظام وقد امتشق السلاح لمواجهة الثورة، وهى علاقة بين وسائل وأدوات فعلية متغيرة مع أهداف وغايات تنتظم فى هدف كبير تستكشفه قوى الثورة شيئا فشيئا ويتعمق نضج فهمها شيئا فشيئا والابتعاد بالتدريج عن تخبطات وارتباكات الفترات الأولى للثورة. وبالطبع فإن الثورة السياسية، وكل ثورة، تُشعل لدى قواها ثورة تطلعات وتوقعات وأحلام وأوهام لا تتضح طبيعتها الحقيقية إلا بالتدريج، ومع الزمن، أثناء وبعد الثورة وفى الأجل الطويل. وهكذا تبدو الثورة عند مجرد حدوثها والتحقق من أنها ثورة بفضل حجم الحدث وامتداده الزمنى ثورة سياسية ينبغى أن ينتزع الشعب الثائر وقوى الثورة فى سياقها سلطة الدولة، وتبدو ثورة اجتماعية تحرر الشعب من الاستغلال والاستبداد والقهر والفقر والجهل والمرض والمهانة فى مجتمع جديد مختلف. وطبيعة الثورة التى تحددها أسبابها ودوافعها وعواملها هى التى توضح نصيب هذه التوقعات من الحقيقة والوهم، وعند أىّ اعتراض بأن نتائج الثورة ينبغى تحديدها على أساس معايير محددة دقيقة تُمْليها طبيعتها المحددة بدقة سرعان ما يجرى تفنيد ودحض الاعتراض بحجة أن ثورتنا نسيج وحدِها فى كل تاريخ العالم كله وبالتالى فإنها ستحقق لمصر والعالم المجتمع الذى حلمت به البشرية طوال تاريخها. غير أن السلوك السياسى الفعلى يتعارض مع كل هذا التفاؤل فى كثير من الأحيان لأن التاريخ يحقق ما ينطوى عليه وليس بالضرورة ما يتصوره البشر بعيدا عن منطقه. وهنا تحل الإحباطات والسوداوية محل فيض التفاؤل دون مبرر حقيقى أيضا لكل هذا التشاؤم فى مجرى ثورة مستمرة لا تزال.
10: على أن التحليل السياسى لا ينبغى أن يحصر كل رؤيته ومعاييره فى أحداث فترة راهنة محلية أو إقليمية أو عالمية، انطلاقا من شوڤينية وطنية سافرة؛ بل عليه أن يجمع بصرامة بين وقائع وقوى الحاضر ودروس التاريخ الحديث والمعاصر ومفاهيم ومعايير العلم السياسى والاجتماعى. وقد تعلم العلم السياسى من أحداث التاريخ فى القرون الأخيرة أن تاريخ أىّ بلد أو مجتمع مهما كانت خصوصياته وثيق الارتباط بقوانين التطور الاجتماعى دون حتمية جبرية بطبيعة الحال بحكم التفاعل المعقد مع عوامل داخلية وخارجية لا حصر لها. وينبغى بادئ ذى بدء التمييز من ناحية بين الثورة الاجتماعية والثورة السياسية، ومن ناحية أخرى بين الثورة فى البلدان التى صارت بلدانا صناعية والثورة فى بلدان العالم الثالث أو بدقة أكثر فى المستعمرات وأشباه المستعمرات سابقا. وكانت سمة ثورة البلدان الصناعية أنها كانت ثورة سياسية تستغرق سنوات تأتى فى سياق الثورة الاجتماعية التدريجية التى تستغرق عقودا أو قرنا أو أكثر قبل الثورة السياسية وزمنا طويلا آخر بعدها. وكانت الثورة الاجتماعية تعنى التحول الرأسمالى التدريجى الطويل مصنعا مصنعا واختراعا اختراعا ونظرية نظرية ومزرعة مزرعة وسوقا سوقا فى فترة سابقة على الثورة السياسية وكانت سمتها المميزة أنها لم تكن نظاما إقطاعيا بل كانت نظاما انتقاليا وكانت الثورة السياسية تقوم بوظيفة تاريخية هى إزالة العقبات والعراقيل من طريق الثورة الاجتماعية، من طريق التحول الرأسمالى الجارى، ومن هنا فإن الثورة السياسية تقوم بتحقيق ما سبقها لأن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة. وما سبق الثورة يمثل مستقبلها. ولأن النظام الرأسمالى قام واستقر فى الغرب أو فيما نسميه حاليا بالشمال مسيطرا على العالم وعلى بلدان العالم الثالث الحالى، بحيث تحول العالم إلى عالميْن يخضع أحدهما لسيطرة الآخر، فإن المستعمرات وأشباه المستعمرات السابقة التى تتطور منذ ذلك الحين تحت السيطرة الاستعمارية لم تشهد، وما كان يمكن أن تشهد والحالة هذه، ثورة اجتماعية أىْ تحوُّلا رأسماليا تلحق بفضله بالغرب الرأسمالى. ورغم أن شعار اللحاق بالغرب صار شعار التنوير فى كل البلدان التى تأخرت عن الرأسمالية، فقد لحقت بأوروپا الغربية بلدان مثل ألمانيا وروسيا وإيطاليا والياپان فى أوقات مختلفة وعلى دروب شتى متحولة إلى بلدان رأسمالية صناعية، فيما تحولت معظم بلدان القارات الثلاث إلى بلدان تابعة للرأسمالية العالمية، الاستعمارية. ولم تحدث فى هذه البلدان ثورات اجتماعية، أىْ تحول جذرى شامل إلى الصناعة والحداثة والرأسمالية بالمعنى الحقيقى. وعلى حين شهدت البلدان التى صارت بلدانا رأسمالية صناعية فى الغرب أو الشمال ثورات سياسية فى سياق ثورات اجتماعية كأدوات لهذه الأخيرة، عرفت المستعمرات وأشباه المستعمرات التى صارت بلدانا تابعة للرأسمالية العالمية ثورات سياسية فى السياق التاريخى للتبعية الاستعمارية وليس فى السياق التاريخى للثورة الاجتماعية. وهى بالتالى ثورات لا تؤدى، إلا فى حالات استثنائية مثل حالات الصين والنمور الآسيوية الأصلية فى ظروف تاريخية خاصة، إلى الرأسمالية المتقدمة والصناعة والتحديث والاستقلال الحقيقى، ولهذا تبقى هذه البلدان رغم الثورات رأسمالية متخلفة تابعة وبالتالى غير مستقلة إلا بمعنى الاستقلال فى القانون الدولى. وهذا ما ظل يحدث فى مصر منذ ثورة 1919 عبْر الانقلاب العسكرى المسمى بثورة 1952 وحتى ثورة 25 يناير 2011 الراهنة.
11: ومن البديهى أن بلادنا لا تشهد ثورة اجتماعية تنقل من الرأسمالية إلى الاشتراكية، ولا تشهد ثورة اجتماعية تنقل من الإقطاع أو من الرأسمالية التابعة إلى الرأسمالية بالمعنى الحقيقى؛ فما الذى يمكن أن تحققه الثورة فى بلادنا وفى الثورات العربية الراهنة وفى ثورات العالم الثالث بوجه عام ما دامت التبعية للرأسمالية الاستعمارية ستبقى وتبقى طبقتها المحلية الحاكمة بالذات أو بالواسطة، كما سيبقى الاستغلال والاستبداد والفساد والديكتاتورية من أعلى؟ أعتقد أن الثورة يمكن أن تحقق وضعا تاريخيا بالغ التقدم والأهمية، أىْ ما أسميه بين آخرين: الديمقراطية الشعبية من أسفل، أىْ الشكل الحقيقى الوحيد للديمقراطية فى مجتمع رأسمالى متقدم أو تابع، ذلك أن الديمقراطية كسمة مميزة لبلد لم تحدث فى أىّ مكان فى العالم منذ مولد هذه الكلمة الحالمة المضللة فى أثينا إلى يومنا هذا. أما الديمقراطية الشعبية من أسفل فقد كانت الثمرة الحلوة الوحيدة ولكنْ الكبرى لثورات البلدان الصناعية المتقدمة. وهى تعنى أدوات الشعب النضالية من أحزاب ونقابات وروابط واتحادات وحقوق تظاهر واعتصام وإضراب وأجور عادلة ورعاية صحية وتعليم جيد وصحافة حرة واستقلال القضاء وغير ذلك؛ ومن شأن هذه الأشياء أن تغير حالة الشعب. غير أن هذه الديمقراطية الشعبية من أسفل ذاتها ستغدو موضوع صراع بين الشعب والديكتاتورية من أعلى وإن كان من الممكن أن تفتح الباب أمام تطورات تاريخية مهمة لاحقة نحو آفاق لا يمكن القول بإغلاقها.
12: وتعود بنا هذه النتيجة الأساسية للثورة أىْ تحقيق الديمقراطية من أسفل فى بلد سيظل تابعا للإمپريالية إلى الأسباب، فالأسباب لم تتمثل فى نضال تاريخى طويل فى سبيل الثورة الاشتراكية كما أنها لم تتمثل فى ثورة اجتماعية تدريجية تتجسد فى تحوُّل رأسمالى جذرى شامل، ويبرز هنا سؤال لا يمكن تفاديه: كيف نرى ثورة سياسية فى ثورة لا تنتقل فيها سلطة الدولة من طبقة إلى طبقة وفقا لمفهوم وتاريخ الثورة السياسية؟ والحقيقة أن الثورة السياسية الشعبية فى مصر وبلدان ثورات ما يسمى بالربيع العربى وبلدان العالم الثالث بوجه عام إنما هى ثورات سياسية لأنها تهدف إلى إعادة بناء علاقات المجتمع السياسى غير أنها سياسية بمعنى أكثر تواضعا لأنها لا تنقل السلطة من طبقة أو طبقات إلى طبقة أو طبقات. وهكذا فإن حضور أسباب دفعت إلى الثورة الشعبية كما أن غياب أسباب أخرى (غياب الثورة الاجتماعية فى المحل الأول) حكم على هذه الثورة بحدود لا تتخطاها. وهناك سبب بالغ الأهمية يتمثل فى ضعف وتشرذم قوى اليسار والديمقراطية والوطنية والليبرالية اليسارية التى مثلت شرارة الثورة التى نجحت فى اجتذاب عشرات الملايين فصارت ثورة شعبية كبرى، بفضل حزمة أخرى من الأسباب منها الضربات الپوليسية المتواصلة لليسار والقوى الديمقراطية فى عهود الرؤساء الثلاثة السابقين، ومنها انهيار قلعة اليسار الماركسى من داخلها بحكم الذيلية إزاء الرأسمالية الروسية التى ادعت الاشتراكية والسوڤييتية، ومنها قيام وانهيار الكتلة الشرقية المسماة بالاشتراكية بكل تأثيرها المدمر على الحركة الماركسية والاشتراكية والثورية فى العالم من أقصاه إلى أقصاه. كل هذا فى سياق اعتمدت فيه عهود عبد الناصر و السادات و مبارك الحل الأمنى ضد الإخوان المسلمين والإسلام السياسى والشيوعيين وكل حركة معارضة وكان هذا يصبّ فى ظروف تخلف البلاد والمجتمع والأرضية التراثية العامة إلى قوة الإسلام السياسى وضعف اليسار بالمعنى الواسع للكلمة.
13: وفى سياق كل هذا تميزت سيرورة الثورة وصيرورتها بازدواج حالة القوى الحقيقية للثورة: الضعف العددى النسبى، وغياب الرؤية الواضحة، مع الميزة الكبرى المتمثلة فى واقع أنها هى التى قامت بالإعداد للثورة وقيادتها والاستمرار بها إلى الآن بعناد وتفان وفدائية وبسالة فاستطاعت اجتذاب عشرات الملايين من بنات وأبناء الشعب المصرى إلى الثورة وكسبت بنضالاتها من أجل الشعب قلب الشعب، فيما خسر الإسلام السياسى الذى اتضح لكل ذى عينين أنه جزء لا يتجزأ من الثورة المضادة، بحكم انتمائه الطبقى والأيديولوچيا الدينية السياسية التى يتبناها، قلب الشعب نتيجة معاداته للثورة وخيانتها وذيليته إزاء المجلس العسكرى ووقوفه ضد نضالات الثورة على طول الخط.
14: والنتيجة الراهنة (ولا أقول أبدا: النتيجة النهائية) هى هذا الصراع الذى نشهده الآن بين دولة المخابرات بقيادة المجلس العسكرى والدولة الدينية بقيادة الإخوان المسلمين وبقية قوى الإسلام السياسى. وهذه النتيجة وثيقة الصلة بالأسباب التى يمكن إيجازها فى: تغيير الأوضاع الاجتماعية الاقتصادية المتردية للشعب وبالتبعية ضرورة امتلاك أدوات مستقلة للنضال الآن وفى المستقبل ضد هذه الأوضاع، وبعبارة أخرى: تفجرت الثورة لتحقيق الديمقراطية الشعبية من أسفل. والحقيقة أن الثورة لم تتفجر فى سبيل عدد من شعاراتها الأكثر إلحاحا فى الوقت الحالى؛ لم تتفجر لإنصاف أُسَر الشهداء والمصابين والمعتقلين الذين لم يكونوا من أسباب الثورة بل كانوا من نتائجها، ولم تتفجر لمنع الدولة الدينية التى كانت قواها المتجبرة حاليا منكمشة خوفا رغم التنكيل بها، ولم تقم لمنع عمر سليمان أو أحمد شفيق من الترشح لأن هذا لم يكن مطروحا أصلا فى سياق التمديد والتوريث لرأس النظام. بل قامت الثورة لإسقاط النظام. وضلل التحالف العسكرى الإخوانى الثورة وأغرقها فى طوفان من الاستفتاءات والانتخابات الپرلمانية والرئاسية بكل فيض إجراءاتها وقوانينها بمراسيم، كما أغرقها ذلك التحالف فى مذابح القمع العسكرى والأيديولوچى. وكان لانجرار قوى الثورة وراء إستراتيچيا الاستفتاءات والانتخابات الپرلمانية والرئاسية بدلا من الاعتماد على الفعل الثورى فى زمن الثورة عواقب وخيمة. والثورة جديرة الآن بأن تقاطع الانتخابات الرئاسية التى ستأتى على كل حال برئيس "أراجوز" وألعوبة فى يد المجلس العسكرى، غير أن المقاطعة لحساب الفعل الثورى بكل أشكاله وليس فقط بأشكاله المشهدية الدراماتيكية بحشود المليونيات لا تعنى اللامبالاة إزاء أخطار تنطوى عليها هذه الانتخابات. وبالتالى فإن من الواجب العمل على أساس لا للمجلس العسكرى ودولة المخابرات، ولا للدولة الدينية والجمهورية الإسلامية، من خلال الفعل الثورى وليس من خلال صناديق الانتخابات، والعودة إلى التركيز على الديمقراطية الشعبية من أسفل بكل أهدافها الأساسية بوصفها العبارة التى تلخص الأهداف الحقيقية للثورة السياسية الشعبية الكبرى الراهنة. وبهذا فقط يمكن أن تتوقع الثورة النتائج المنطقية لأسبابها ودواعيها، فى سبيل حياة حرة كريمة للشعب.
10 أپريل 2012






#خليل_كلفت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الانتخابات الرئاسية واحتمالات الصراع بين المجلس العسكرى والإ ...
- -الجحيم، 1، 32- ، لويس بورخيس ت: خليل كلفت
- توفيت ابنتى السيدة هند خليل كلفت
- النسوية - أندرو ڤنسنت
- ثورة 25 يناير: سؤال السبب (ملخص حديث سوف يُلقَى فى مؤتمر بوز ...
- سباق رئاسى محموم فى مصر بين مرشحين محتملين على رئيس محتمل لج ...
- ندوة لخليل كلفت عن الحوار المفتوح
- النساء يحركن العالم - فيديريكو مايور و چيروم بانديه
- خليل كلفت - مفكر وسياسي ماركسي- في حوار مفتوح حول: طبيعة الث ...
- معادلات سياسية تحكم الثورة المصرية الراهنة
- إشكالية مدرسة فرانكفورت (بين النظريتين النقديتين: الأصلية وا ...
- كتابى -من أجل نحو عربىّ جديد- فى نقاط أساسية بقلم: خليل كلفت
- من أجل نحو عربى جديد (الجزء الثانى)
- من أجل نحو عربى جديد - الجزء الأول
- آدم وحواء وقصص أخرى من أمريكا اللاتينية
- حكاية سَكَنْدَرِيَّة - ما شادو ده أسيس
- العاصفة تهب (حول انهيار النموذج السوڤييتي) - كريس هارم ...
- محاضرات سياسية عن أوروپا وتركيا وأفريقيا والهند
- العقائد الدينية والمعتقدات السياسية
- إلى أين يقود علم الوراثة؟ - چان ڤايسينباخ


المزيد.....




- حلم كل مسافر.. هذا المطار لم يفقد قطعة واحدة من الأمتعة منذ ...
- الإعلام الإسرائيلي يفضح نتنياهو ويقلب الطاولة عليه: لن نلعب ...
- عنف المستوطنين يضيق الخناق على الفلسطينيين في الضفة الغربية، ...
- نتنياهو يريد بقاء حماس في السلطة، -ودوافعه الخفية كُشفت- - ج ...
- الاعتداء على ساسة ألمان ـ شولتس يندد وفيزر تبحث تشديد إجراءا ...
- مصرع سائق بعد اصطدام سيارته بإحدى بوابات البيت الأبيض (صور) ...
- كل مرة بمليون..الحظ يحالف أمريكية مرتين في أقل من 3 أشهر (ص ...
- عبد اللهيان: احتمالات توقف الحرب في غزة باتت أكثر من السابق ...
- صفقة التبادل تعمّق أزمة نتنياهو وتبدد شعار -النصر المطلق-
- ترقب لمباحثات القاهرة وحماس تتمسك بدور تركي روسي ضامن


المزيد.....

- كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل ... / حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
- ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان / سيد صديق
- تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ ... / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- المثقف العضوي و الثورة / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- الناصرية فى الثورة المضادة / عادل العمري
- العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967 / عادل العمري
- المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال ... / منى أباظة
- لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية / مزن النّيل
- عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر / مجموعة النداء بالتغيير
- قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال ... / إلهامي الميرغني


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - خليل كلفت - من سؤال الأسباب إلى سؤال النتائج (كلمة للإلقاء فى مؤتمر الثورة والثقافة بالمجلس الأعلى للثقافة، مصر)