أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - أوراق كتبت في وعن السجن - آرام كربيت - الرحيل إلى المجهول التحقيق















المزيد.....


الرحيل إلى المجهول التحقيق


آرام كربيت

الحوار المتمدن-العدد: 1837 - 2007 / 2 / 25 - 12:38
المحور: أوراق كتبت في وعن السجن
    


سارت السيارة في طريقها إلى سجن الحسكة.. عبرنا الجسرالمائل.. ودعت نهر الخابوروالجسر.. صار بيتنا ورائي.. وصارالزمن الأخرمن الماضي.. ورحت أنتظرالمجهول والقاسي.. في درب سيرنا.. رأيت الفتيان والفتيات يخرجون من مدارسهم ومعاهدهم.. يمشون على الطريق الطويل القادم من حي النشوة إلى قلب المدينة ومن ثم إلى الأحياء الأخرى..
هكذا سارت السيارة تفترس الطريق الاسود الطويل.. الأفعى تلتف على بعضها.. بلونها المغبر..
هكذا بدأ الليل الطويل يفترسنا.. يملئنا بعناقيده الغامضة.. يطول ويتمدد.. يفرش نفسه على حقولنا.. على الصفصاف والزيزفون والنعنع البري.. وأصبح ذلك النهار.. زمناً كئيبا.. منحوساً.. وردة حزينة وجافة..
كانت سيارتهم.. البيجوستيشن متداخلة الالوان.. أبيض وأسود.. خمسة عناصرمن الامن السياسي يلفونا من الاطراف الاربع.. السائق والمساعد في المقدمة.. الثالث بجانبي من طرف الباب الايسروالرابع بجانب محمد خير من طرف الباب الايمن.. بينما الخامس كان في المؤخرة.. كانت بواريدهم الاوتوماتيكية المخنصرة في أيديهم.. لكن وجوههم لا تنم عن شيء محدد..
غبت عن نفسي , دخلت بعضي في بعضي , تكومت على نفسي , أصبحت كتلة من اللحم الممزوج بالحزن والخوف..
أنذاك.. أسرني الزمن.
كنت عاريا أمامهم.. لا حيلة لي.. كفراشة بيضاء.. تأهت في موكب البحث عن الضوء.
ومطاردا ...
تلاحقني أعينهم الذئبية الشرسة.
خفقانات غريبة.. ومتسارعة تقرع في صدري.. قلبي الصغير.. يرفرف ويرقص لوحده.. يريد الخروج
من زحمة الأوجاع.. كنت بين حدين متناقضين.. الماضي والمستقبل.. يأخذني إلى متاهات لا تقاطع بينها
ففي العودة للماضي..
ثلاثة سيارت مملؤوة برجال الشرطة السرية.. الأمن السياسي.. اقتحموا مكتبي في العمل وحاصروه.. فتشوا محتوياته.. دفاتري وبعض كتبي وأقلامي.. بعدها.. داهموا بيتنا.. بيت جاري أيوب.. حلواالخوف والرعب في قلوبهم وقلوب الناس القريبة منا.. زرعوا قرفهم في كل مكان.. اغلقوا المنافذ وسحبوا فيش التلفون وقطعوا الكهرباء.. صعدوا إلى السطح.. ثم طوقوا كل البناية ومداخلها.. بعدها فتشوا كل ركن من البيت..
وفي القامشلي.. في الزنزانة بقيت دون سؤال أو كلام.. منذ الساعة العاشرة والنصف صباحاً إلى الساعة السابعة مساءاً.. في تلك اللحظات كانت مشاعري متناقضة ومتيقضة.. حواسي كلها في حالة هياج.. مرهفة تلتقط أدق النبرات القادمة من الخارج..
الزنزانة محيط ضيق.. تحت الارض.. ما أن تدخلها حتى تتحسر.. تحس إنها تطوقك.. تطوق الروح من كل الجهات.. تترك النفس في حالة انقباض وانكماش وبداية أنكسار..
نزعت حذائي من قدمي ورميته جانباً.. جلست على الفرشة القذرة الممدودة على الارض وغبت عن المكان.. سافرت لمطارح بعيدة.. تمددت على الارض الصلبة وأخذت أحدق في السقف المنخفض والحيطان الرمادية العجوز..
أنظر الى الكوة الصغيرة المغلقة للباب حيث يقبع خلفها مباشرة عنصر من الامن.. يراقب ويصغي لكل ما يصدر عني.. كل خمسة دقائق يفتح الكوة.. ينظر إلي.. أرى بؤبؤة عينيه.. كيف تتقافزداخل محجريه.. يراقب دقات قلبي وسكناتي.. يرصد أنفاسي وما يجول في قلبي من مساحات.. من تطورات في نبضي وقلبي.. يكتب ويحسب المسافات البيضاء.. ألوان الدمع.. أمواج الليل.. أصوات الكوابيس التي تتسيد المصيدة المرمية داخل الازمنة المتحللة والفاسدة.. يعد خطوات شهيقي وزفيري.. يرفع تقاريره المرعبة الى سيده.. ليرفعها بدوره الى سيد أخر.. لتتوالى المتوالية الحسابية في الارتفاع والجنون.
تتقافز إلى ذهني في تلك اللحظات المأسورة.. صورالاحبة والاصدقاء.. صورة أختي صونيا وارشلوس وسيلفا وتالين.. جميعهم تقريباً كانوا في سن المراهقة.. كان بيني وبينهم آلفة وصداقة وأخوة.. كنت أخيهم الكبير.. أهتم في شؤونهم الخاصة والعامة.. دراستهم.. مصروفهم وعلاقاتهم الانسانية.. سواء مع اصدقائهم أو في علاقاتهم الأخرى كصبايا.. فتيات بعمر الورد وهن مقبلات على الحياة. تقترب مني صورة أمي المريضة.. لم تكن تفارقني ونظرات أبي الحزينة.. والحنونة..
كنت أعلم أن اهلي.. يعيشوا لحظات صعبة للغاية.. قلبي يرصد حزنهم وخوفهم واضطرابهم.. وأعرف إنهم يبكون من الحرقة والالم.. صوت نشيجهم معي في ذلك المكان الضيق.. يتعالى ويرتفع.. كنت أقول في سري.. سيكونون وحدهم في هكذا محنة..
طاحونة القلق تلفني.. تمزقني بمسنناتها الحادة..
رحت أمشي داخل الزنزانة.. بضعة خطوات إلى الامام وبضعة خطوات إلى الوراء.. أعيش داخل أسئلة متواترة ومندفعة.. ضمن معادلة الخوف من المجهول.. على نفسي وأهلي ورفاقي والمقربون مني.. مصيري بين أيدي بشر.. ذئاب جائعة.. لا هم لها إلا الأكل.
في البدء لم أضرب.. لم أمس.. كما لم يوجه لي أي سؤال.. لكني كنت خائفاً جداً.. أنتظر.. مصيري وما يقرروه.. حياتي ومستقبلي ومستقبل أهلي بين يديهم.. نعم.. في الايام الأولى لم أضرب.. لم أعذب.. إنما.. كانوا.. يجسون نبضي.. دقات قلبي.. يتوالدون حولي كالصراصير الليلية الملساء.. يقيسون رخاوة خصيتيي.. صلابتها.. شدتها.. قدرتها على البقاء والتحمل.. يدخلون الى جوفي عبر أحدث المناظير.. يعدون الأسنان والأضراس.. السليمات والمريضات.. يفتحون خلاياي واحدة أثرالاخرى عبر فجاج المسامات المتعبة.. يقيسون كل أمر.. أنفاسي.. ساعات نومي وأرقي.. حزني وفرحي.. تحملي على الجلد والجوع.. بولي وتبرزي.. ساعات عطشي وخوفي.. يرصدون حركة الشهيق والزفير وعدد ضربات القلب.. ثم يتركوني للهواجس والكوابيس.. فتتداخل الأشياء ببعضها.. الهواء الطلق بالزنزانة.. الحرمان والرغبة بالخلاص.. ويكبر الرهان ويطول.. وتتدفق التناقضات.. القبول بالرفض.. الجسد بالروح.. والآغراءات المريضة تنبع كالمستنقعات الآسنة من العمق وتخرج من عقالها.
في ذلك المساء التشريني البارد.. اقترب الشرطي بهدوء تام من الباب وفتحه.. لم يتكلم ولم يقل إلا كلمة واحدة.. تعال معي..
المعلم يريدك..
كان العقيد فؤاد بدرحسن وراء الطاولة في الغرفة.. متأنقاً.. يلبس طقم أسود وربطة عنق غالية الثمن.. يتنفس بصعوبة.. صوت أنفاسه وحشرجته يملئ جو الغرفة الخانق المفرغ من الهواء.. وإلى جانبه يجلس المساعد أبو يوسف.. كلاهما كانا ينتظراني.. كان نورغرفة التحقيق خافتاً.. لكنها تبعث على الانقباض.
قال لي: اجلس.
جلست..
كان بيده اربع صفحات يقرأ ما يدور بين الاسطر.. استطعت أن أرصد الخط.. علمت من خلال تقليبه للأوراق ما يدورفي ذهنهم..
رأيت توقيع المهندس جوزيف آحو.. خط المخبر.. علاء الدين أحمد.. والمخبر.. محمد الأحمد!
العيون الذئبية المتوهجة بالرغبة في الألتهام غرست حقدها في عيني..
الأيدي الخشنة تمتد إلي.. توقظني من غفوتي.. تحلحلها وتفكك تشابكها.
ساد هدوء كامل إلا صوت أنفاس فؤاد بدر حسن الكريهة.. وصوت الاوراق السوداء التي يقلبها.. قال:
ــ هل تحب أن تذهب إلى البيت.. قلت:
ــ بالطبع اتمنى أن أذهب إلى البيت..
ــ إذاً.. بيننا وبينك.. مسألة بسيطة.. قلت:
ــ ما هي..
ــ أنت تعرف.. إننا نعرف عنك كل شيء.. لقد انصتنا على مكالمتك الهاتفية وتقاريرنا.. تقول إنك في حزب معاد.. فقط أعترف وأخرج من هنا.. بشرفي.. أعدك.. بشرفي.. لن يمسك أحد بسوء.. فقط أن تعترف.. تعترف على هؤلاء المجرمون الذين يعملون ضد وطنهم.. ضدنا!.. سأعطيك فرصة.. تفكر.. خذ وقتك كما تريد.. لكن ليس إلى الأبد.. خذ ورقة وقلم.. أكتب عليها إن كنت تخجل من الحديث المباشر.. أكتب عليها ما تريد.. لن نضربك ولن نمسك بسوء.. بجب أن تعلم أن أبوك وأمك وأخوتك ينتظرانك.. بالمناسبة لقد جاء والدك وسأل عنك.. قلت له.. إننا نعاملك بشكل جيد.. لذلك لا تخيب أملنا بك ولا تضطرنا أن نستعمل معك مثلما استعملناه مع غيرك.. أنت تعرفنا وبالتأكيد سمعت عنا.. الكثير.. قلت له:
ــ لكن.. حقيقة.. لا علاقة لي مع أحد.. هناك سوء فهم.. قال:
ــ لا تجيب الأن.. سأمنحك الوقت لتفكر.. تعيد حساباتك..
أخذني الشرطي إلى الزنزانة.. ثم أغلق الكوة من الخارج وجلس إلى جانب الباب.. قال:
ــ إذا أحتجت لشيء دق على الباب..
كانت الزنازين فارغة تماماً.. لم أسمع صوت.. يشيء بوجود معتقل غيري.
قلت في نفسي.. لقد وقعت في مصيدتهم.. لن أخرج من هنا أبداً.. ورحت أحسب وأقدر.. ذهني يطير ويحلق إلى البعيد.. رفاقي وأصدقائي.. كيف احميهم.. كيف أستطيع الهروب من مواجهة المحقق.. ماذا علي فعله.. كيف ستسيرالامور.. ماذا سيفعلون بي.. كانت أول تجربة لي.. كما لم ألتق مع أحد من المعتقلين السابقين.. خبرتي كانت معدمة في هذا الأمر.. بأسثناء الروايات التي قرأتها.. شرق المتوسط لعبد الرحمن منيف.. والسجن.. لنبيل سليمان.. وأنا جريح للكاتب التركي إيردال أوز..
عدت إلى الزنزانة.. عدت إلى وحدتي الاجبارية.. منقبض النفس.. أنظر الى السماء المفتوحة من الكوة الصغيرة المطلة على الحياة.. أراقب ذرات المطر وهي تنقر على الزجاج المغبر.. أسمع أصوات محملة بالزخارف الملونة. كان المطر.. أنيسي.. صديقي.. بقايا ارتباطي بالمدى.. يسحبني الى بقاياي الوجدانية في الخارج.. يبعدني عن السديم المغلق.. للتخمرات المصنوعة من لدن الأستبداد..
كنت أراقب المطريا وهو ينقرزجاج النافذة.. كيف ينهمر بحرية.. دون قيود أوجدران مطبقة على أنفاسه.. يصفق بجناحيه في الفضاء الرحب.. يضاجع الهواء الطلق.. في الأعلى.. في وسط السماء.. دون حدود وهمية أو مصطنعة.. يقبل الارض وبذورالورد.. ينزل كما يشاء.. على السعداء والثكلى.. الجياع والعطشى.. هو حر.. وفضاءه لا متناهي.. يفرش نفسه على نفسه.. على الارض.. يخصبها.. يحرك بويضات الاعشاب والزهور والشجر.
وكان المطرأيضا عشقا وحنانا ورغبة متاججة ..
وكان المطر..
يتألق في الهواء الطلق.. يمرح.. يغني وينتشي .. وعندما يتسلل الى شعر الصبايا يزداد أختزانا للعذوبة ..
وكان صديقا لي.. يلوح لي.. للاعاصير والعواصف المندفعة.. يسبح في المراسي البعيدة والأمنة
ويفرض صوته الشهواني على أنسجتي المرتعشة .. صوته.. وذاكرة رائحته.. الممزجة بالتراب والهواء أشعلت في داخلي رائحة جسد حبيبتي العطرة.. رائحة البراري العذبة.. الاعشاب النائمة في الفلا.. النعنع البري.. والخبيز.. رائحتها الندية أشعلت المكامن الغافية فيّي.. الرغبات الغافية في وهاد الجسد.. تلاحقني.. كسباق الوعول البرية.. المطاردة والفارة من ديارها الى الأماكن المجهولة..
نزعة الحنين الى التلاحم والاندغام بها يرتقي الى حدود الوشم..
وكان ..
المطرينهمر خارج الاسلاك المزروعة في وجه الريح..
أخاديد الارض تبلل بالسحر والارتعاش...
وتتعرش الذكريات وتتدفق من بواطنها.. لترسم على الكوة الصغيرة خارطة.. وشريط من الاقاصيص الحزينة.. تضطجع قليلا ثم تسافرالى الغسق.. والمدى البعيد...
وجه حبيبتي.. أنيسي ..حلمي .. كياني ووجودي . يطل علي.. يخرج من الممرات السرية مني.. ليستوطن ذاتي الدائمة..
إطلالتها البهية.. جسدها المبلل بالمطر.. كان مرسوماً على الضفة الاخرى من الكوة.. يغتسل بالعذوبة أمام بصري كصور دافقة.. هالة من الضوء الابيض الصافي ينبهق على شكل أهليلج.. يرفعها وينير بسمات ثغرها العذب.
حبيبتي.. أنثاي وبقايا روحي.. كانت.. نزوعي الى البرية المفتوحة..
مددت يدي.. إليها من خلال المطر والضباب.. من خلال الزجاج المغبر.. أصابعي المرتعشة تمسك أصابعها.. فيهتزجسدي بموجة موجعة من الرعشة اللذيذة.. تموج في جسدي كله.. يصهل الصوت في عراء الليل.. ويصرخ الوجع للوجع.. والآهة للآهة.. ويركض الحنين الى الحنين.. وتصبح حبيبتي.. وردة مزروعة في قلب الفؤاد والشمس.. يعانق وجهها وجهي.. امتص من رحيقها.. دروب الحياة.. أقبلها.. ألثم خدها بفمي.. أمرر شفتي على عنقها وأذنيها وشعرها.. تخرج الآهات من صدرها وصدري.. أليمة.. لذيذة.. متفتحة.. فتنساب قشعريرة حلوة ودافئ من اوصالنا . فنشعر بالخدر يجتاح كل الجسد.
أمد يدي إلى الفضاء الفارغ.. أهرب.. فأعود الى وجهي عاريا من كل شيء.. أعود إلى خوفي.. ألملم عناقيدي.. دروبي.. الدروب الخجولة.. أختزنها في كياني.. وفي ذاتي.
الكوة اليتيمة تنقلني الى بشرتها ووجهها.. وقامتها الممشوقة.
الى الماضي والحاضر.. البقاء والديمومة.. لم يكن في الدنيا شيء يهزي أو يقهري إلا بعدها عني.. وأحس ان قلبي بين يديي يعتصر..
الذاكرة.. تلال وروابي خضراء.. ألوان متداخلة.. ضوء خجول يتلمس خطواته البطيئة.. يعري.. برعشة باردة.. أمواج من الطيور المهاجرة.. المودعة لحكايات أندثرت ونامت في سديم الزمن.. دموع متساقطة على شكل زخات ندى ممتزجة.. بحنجري المبحوحة الصوت.. تحمل ولائم الألم ونبضات القهر.
اسمريديي وعقلي وحواسي الى الروائح والاطياف المنبعثة من خلف السراب.. من خلف القضبان.. استحضر خلاصة القهرالمرسومة على الجدران الرمادية في بقعة مظلمة.. ملفوفة بصرخة الحنين الى الحياة.. الى الأيام الغافية في وديان القلب.. كنت في وحدتي.. في الزنزانة.
كان رهاناً على الزمن.. بين جلاد وضحاياه..
بهذه الافكارغرقت.. بهذه الأفكار كنت احاول الهرب.. من القلق والخوف.
بقيت هكذا.. ما بين الغافي والنائم.. موجة موجعة تأخذني.. وموجة حزينة تحرك شراييني.. إلى أطل ضوء النهار من الكوة الصغيرة.. رابطي الجديد بالعالم الخارجي..
في الساعة التاسعة.. فتح الشرطي الكوة الصغيرة المطلة على الممر والزنازين وقال لي.. ماذا تريد أن تأكل.. قلت.. لم أفهم سؤالك.. قال.. أعطني نقوداً.. وسأذهب إلى السوق وأجلب لك طعاماً.. قلت له أريد صحن فول.. قال حسناً.. كما تريد.. واستمر هذا الأمرطوال فترة التحقيق.. أعطيهم نقوداً من أجل الأفطاروأخرى من أجل الغذاء.. ربما لأني كنت المعتقل الوحيد في تلك الفترة في محافظتي.. في فرع الأمن السياسي.. في مدينة القامشلي.. ربما لم يكن لديهم مطبخ أوشيء من هذا القبيل.. لهذا كنت أدفع من حسابي الخاص ثمن طعامي في ذلك المكان المذكور..
بعد الأفطار.. أقتربت من الباب.. حاولت أن أدق.. تراجعت الى الوراء خطوتين.. عدت مرة ثانية للمحاولة.. ترددت.. الخوف والحاجة كانا.. يضغطان علي.. لم يكن لدي خيارأخر..
دققت الباب بكفي وصحت من وراء الباب..
ـ هل تأذن.. كان الشرطي وراء الباب يصغي السمع لتقلبات هواجسي.. فتح الكوة الصغيرة وأطل برأسه.. قال: ماذا تريد.. قلت
ــ أريد الذهاب الى الحمام. أغلق الكوة ولم يجب.
طرقت الباب مرة.. ثم مرات أخرى.. عدت للقول أريد الذهاب إلى الحمام.. أنا بأمس الحاجة للذهاب الى الحمام.. وأضفت: أكاد اتمزق.. أنا محتاج لقضاء حاجة.. لم يجب.. مسكت حذائي وطرقت الباب بقوة..
فتح الكوة بحيادية.. دون أن ينظر إلى ملامحي قال:
ـ أنتظر! قالها دون مبالاة ثم أغلق الكوة.. قلت: لكن لاأستطيع الأنتظار أكثر من ذلك.. مثانتي وبطني ستتمزقان.. سطوة الحاجة تضغط علي..
غاب طيف الشرطي لحظات.. ثم عاد..
وعاد الصمت المطبق يسطر أحرفه على الجدران.
المفاتيح تتحرك في يديه.. وبين أصابعه.. قال:
أخرج بسرعة.. لديك دقيقتين فقط.. بين خروجك من هنا ولحظة أغلاق الباب.. هكذا هي الأوامر.. أسرع.
أخذني الشرطي.. أخذ يدي كطفل صغير..غر.. لا يقوى على حمل جسده.. وسار بي.. قادني خمسة أمتارالى الأمام.. ثم التف الى اليمين مسافة خمسة أمتارأخرى.. مررنا بجانب غرفة التحقيق.. سمعت أصوات الشرطة.. رأيت أكبال كثيرة.. دواليب متعددة المقاسات.. خيزرانات.. كلابات تعليق الاجساد.. سلاسل حديدية صغيرة وكبيرة.. أخشاب بساط الريح.. أدوات التعذيب المتعددة محشورة جانب الحمام وغرفة التحقيق..
كل الممرات يطغوعليها الكآبة والسوداوية.. كتل ثقيلة.. وصمت مسكون بالتردد والخوف.
دلفت الى مكان مظلم ورطب.. الماء يتساقط بحيادية من أماكن كثيرة.. يغطي المصطبة والدرج والمرحاض.
الماء المعنطن يغطي الممرالطويل. أسندت يدي على الجدارالمبقع بالبقع الخضراء الداكنة.. المعفنة.. ملمس الأرض كالصابون.. حاولت التماسك لكني تزحلقت ووقعت على الارض وتبللت ثيابي ووجهي ويديي وحذائي بالماء القذر الخارج من المراحيض.
وقفت.. رفعت يديي الى الاعلى.. لا أدري ماذا أفعل.. هل أعود أم أتابع.
كان الشرطي ينادي علي.. قال:
ـ لا وقت لديك.. أسرع من هيك.. لم يبال بما أنا عليه..
قلت له:
ـ أنظر الى وضعي.. لا أعرف ماذا أفعل.. أحتاج أن أغتسل.. وأمسح الوسخ عن ثيابي القذرة.
ـ ليست مشكلتي.. ليس لدي أوامر لاسمح لك أن تتصرف وكأنك في بيتك.. سأذكرك.. بقي لك نصف دقيقة لتنتهي وتعود الى مخدعك..
كلما حاولت الصعود.. كلما أزدادت البقع الخضراء الداكنة في احتلال المكان.. وتزداد الروائح الكريهة أنبعاثاً.. وأزداد نكوصا على نكوص.. الورطة اللعينة أرخت بظلالها علي.. جعلتني منقبضاً ومعصور الفؤاد.. أنفر من المكان.. لكن الحاجة تدفعني لمواصلة المشوار بالرغم من كل شيء.
وقف الشرطي عند أسفل الدرج.. يخشخش بالمفاتيح ويصرخ علي..
أسرع .. أسرع . لا.. لم يبق لدي وقت.. وقتك أنتهى.
كنت.. ارتطم بين انحناءات الجدران واضطرب.. احاول أن اتوازن.. أن اقف على قدمي.. حتى لا أقع على الأرض مرة أخرى.
اللون الأخضرالمسود.. مرسوم في كل زاوية وكل ملمس وانحناءة.
الماء السائب المندلق من السقف والجدران يتساقط بتثاقل ويهبط بنكوص.. يلتف حول نفسه.. يتكاثف على شكل قطرات مترابطة.. تكبر استدارته ثم يفقع ويندفع الى القاع بسرعة.. فيصدر صوتا خافتاً.. أشبه بناقوس يتيم يجلجل على مقربة من مدافن راقدة.
بحركة غريزية.
باعدت بين قدمي ومشيت كالتمثال المحنط موزع الأبعاد.. مجسم الشكل.. خافت الوميض.. أبحث عن منطقة منحسرة.. صلبة.. أستند عليها.
حاولت أن أتقدم الى الأمام.. جاهدت بكل ما أوتيت من قوة وصبر. لادفع المرارة جانبا وأكمل جذوة الوجع.. وحيداً.. غريباً.. في مساحة ضيقة من العالم.. أعوم على سطح قذر ونفايات عفنة.. تتراءى لي صور وأخيلة مختلفة من الدهشة والغربة والتي تزداد أتساعا.. مرتبكا.. خائفا.. تحت القبضة القوية.. للواقع السياسي والاجتماعي المر.
خشخشة المفاتيح كانت تسكن روحي.. تستقر داخل أذني وقلبي.. تستفز الحيوان الخرافي القابع داخلي.. ذلك الخوف.. ينمل كل أعصابي وكياني.. ويجعل ذهني يسبح في الترقب والأنتظار.
الخشخشة.. والاصوات.. كانت تسرقني من نفسي.. لعنات تنهال علي من كل مكان.. مع كل حركة.. حتى العطسة تقلقني وترعبني.
نظرت الى المرحاض.. الغرابة كانت أشد وقعا على نفسي من كل شيء. أرتفاعه لم يكن أكثر من خمسون سنتمتر. مملوء بالأوساخ والقاذورات والأشكال الكريهة والمنفرة.. على الجدران والسقف والأرضية.. الصدمة وحدها كانت كافية لايقاف كل الأندفاعات في مكانها.. المشاهد المقززة تبعث على الأقياء والتراجع.. وأغلاق الصفحة وترك الأشياء في مكانها دون أن تأخذ مجراها.. عاد الشرطي للتذكير..
ــ عليك بالأسراع.. لدي مسؤوليات كثيرة.. كان يضرب المفاتيح على ركبته بحركة عصبية.. ويصرخ.. أستعجل .
ـ حسنا . لا تخف.. عدت ادراجي بمثل الوجع القديم.. محملا بالمتاهات والفراغ والخوف.. الرائحة
اللعينة.. المعجونة بتقادم الزمن.. تدخل خياشيمي وأذني وموخرة ظهري وشعري. واللوحة العبثية تكبر بالوانها المختلفة في ذاكرتي.
أغلق الشرطي الباب بعد ان أودعني داخل الزنزانة.. راح يصفرويدندن خلفها ويخشخش المفاتيح ويحركها في الهواء.. بعدها راح في غيبوبة طويلة.. لم أعد أسمع عنه شيئا.. كأن الأرض أنشقت وبلعته.
على حين غرة.. ودون مقدمات.. أدخل المفتاح في القفل بهدوء وأداره.
قال لي :
ـ جهز نفسك . سيدي الرائد يريدك.. تعال معي.
أمسكني من يدي وأخذني إلى غرفة التحقيق مرة أخرى في صباح اليوم التالي..
كان الرائد علي محسن في الثلاثنيات من العمر.. وراء الطاولة.. واقفا.. يبتسم كالممحون.. وقطرات الفرح تتزاحم في عينيه.. قال بلغة متقنة.. مسبقة الصنع:
ــ أنت أرمني.. قلت:
ــ نعم.. أنا أرمني.. قال:
ــ أرمني.. لماذا تعمل ضدنا.. يجب على الأرمن أن لا يعملوا ضدنا.. الأرمن يجب ان يقفوا معنا.. لا تنسى إننا انقذناكم من المذابح.. والأن نحميكم من الأخرون.. قلت:
ــ أنا لا أعمل ضد أحد.. وهذا الوطن.. وطني.. ولدت فيه وعشت فيه.. ولا مكان لي غيره.. ثم من هم الأخرون الذين تحمونا منهم! قال:
ــ أنتم مهددون مثلنا.. يجب أن تكون يدك في يدنا.. سنحميك وندعمك ويكون لك شأن في هذا البلد.. المهم أن تتعاون معنا.. قلت:
ــ أنا لم أتعرض لأذى من أحد من الناس في بلدي.. لقد عشت في الحسكة ورأس العين والمناجيروغيره ولم أحس في يوم من الأيام أن لي مشكلة مع أحد.. مسلمين ومسيحيين.. ومن كل الشرائح الأجتماعية.. أما عن دعمكم لي فلا أريده..
تغيرت ملامح علي محسن فجأة.. حلت سطوة القوة وشهوتها محل الهدوء المصطنع.. ايقظ المارد القابع في داخله من غفوته.. غرغرت الدماء الجامدة في وجنتيه ورأسه.. راح يدخل عالم أخر.. يرغي ويزبد في سورة غضب وأنفعال.. دمدم بعلامات فاترة.. وراح وجهه يمتقع باللون الأحمر المزرق أو الكحلي المائل للسواد.. بدأت اساريره تنقبض وتنكمش على بعضها رويدا رويدا.. صار يسبح في دوامة ملفوفة شديدة السرعة. قال:
يبدوأن رأسك يابس ولا تعرف مصلحتك بشكل جيد.. حسناً لدينا كل الوثائق التي تجعلنا نبقيك هنا مدة طويلة.. الشيء الوحيد الذي يرحمك ويفتح لك باب الزنزانة.. هو تعاونك معنا.. وغير ذلك لا تحلم بشيء.. نحن لم نستعمل وسائلنا معك.. التي بالتأكيد تعرفها.. الساعات والأيام القادمة ستعلمك كيف تتكلم مع أسيادك يا حقير..
خذوه الأن.. سنفرجيك يا حقير!
يتبع..



#آرام_كربيت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الرحيل إلى المجهول 1
- الحب.. وأشياء أخرى
- الهرم
- تحت ظلال بادية تدمر
- الدولة والمجتمع وفق منظورأخر
- بعد المعركة الطويلة على لبنان
- الثائر.. الملك السويدي كوستاف الأول
- النظام الدولي وآلياته
- غرفة التحقيق
- النظام العربي
- ظلال الوقت
- من الذاكرة.. إلى الذاكرة
- السجن..مرة أخرى
- الليل في سجن تدمر
- بعض الذكريات من منزل الموتى


المزيد.....




- کنعاني: لا يتمتع المسؤولون الأميركان بكفاءة أخلاقية للتعليق ...
- المندوب الروسي لدى الأمم المتحدة: روسيا في طليعة الدول الساع ...
- مقر حقوق الإنسان في ايران يدين سلوك أمريكا المنافق
- -غير قابلة للحياة-.. الأمم المتحدة: إزالة الركام من غزة قد ت ...
- الأمم المتحدة تحذر من عواقب وخيمة على المدنيين في الفاشر الس ...
- مكتب المفوض الأممي لحقوق الإنسان: مقتل ما لا يقل عن 43 في ال ...
- مسئول بالأمم المتحدة: إزالة الركام من غزة قد تستغرق 14 عاما ...
- فيديو.. طفلة غزّية تعيل أسرتها بغسل ملابس النازحين
- لوموند: العداء يتفاقم ضد اللاجئين السوريين في لبنان
- اعتقال نازيين مرتبطين بكييف خططا لأعمال إرهابية غربي روسيا


المزيد.....

- في الذكرى 103 لاستشهادها روزا لوكسمبورغ حول الثورة الروسية * / رشيد غويلب
- الحياة الثقافية في السجن / ضرغام الدباغ
- سجين الشعبة الخامسة / محمد السعدي
- مذكراتي في السجن - ج 2 / صلاح الدين محسن
- سنابل العمر، بين القرية والمعتقل / محمد علي مقلد
- مصريات في السجون و المعتقلات- المراة المصرية و اليسار / اعداد و تقديم رمسيس لبيب
- الاقدام العارية - الشيوعيون المصريون- 5 سنوات في معسكرات الت ... / طاهر عبدالحكيم
- قراءة في اضراب الطعام بالسجون الاسرائيلية ( 2012) / معركة ال ... / كفاح طافش
- ذكرياتِي في سُجُون العراق السِّياسِيّة / حـسـقـيل قُوجـمَـان
- نقش على جدران الزنازن / إدريس ولد القابلة


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - أوراق كتبت في وعن السجن - آرام كربيت - الرحيل إلى المجهول التحقيق