أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - منير العبيدي - قراءة نقدية في روايتين لصبري هاشم















المزيد.....


قراءة نقدية في روايتين لصبري هاشم


منير العبيدي

الحوار المتمدن-العدد: 1825 - 2007 / 2 / 13 - 08:32
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    


في تقديمه لأحدى روايات صبري هاشم " حديث الكمأة " كان قيس الزبيدي موفقا في اقتباس مقولة آلن روب غرييه القائلة : "على كل روائي - في كل رواية – أن يخترع شكله الخاص "
إن الشكل الخاص بالرواية الذي أشار إليه الن روب غرييه هو المسار الشخصي لها ، ذاك المسار الذي يفرض نفسه على المؤلف ربما منذ السطور الأولى للعمل كقانون عام مشترك لكل الأشكال الإبداعية بمعنى : أن ما بعد الانغمار في العمل الإبداعي ، ما بعد الشرارة الأولى التي تتحول الى كتابة أو لون وشكل أو تدوينة موسيقية ... نجد أن مسار العمل يقود الكاتب وفق منطقه الخاص بالرغم منه و بمباركة منه . و بالرغم من أن الرسام ، الموسيقار أو الكاتب .. الخ هو في نهاية المطاف خالق العمل ، إلا أن كل عمل ، و ضمن ذلك الرواية ، له مساره الخاص ، سيرته الشخصية التي لا تشابه السير الأخرى حتى ضمن أعمال لنفس المؤلف ، إذ أن الرواية كما كل الأعمال الإبداعية الأخرى تفرض منطقها الخاص ، أكاد أقول منذ البداية . و يبدو أن من مهمات الكاتب و المبدع بشكل عام إدراك الملامح الخاصة بهذا العمل و ذاك و شروط تطوره الخاصة التي لا تتطابق مع شروط تطور عمل آخر له . عليه أن يقتنص و يوظف هذا المسار الخاص الذي لا يكون بكليته خاضعا للوعي والتخطيط . إن قدرا من المطاوعة و المسايرة لمسار النص لهو أمر ضروري لكل كاتب و مبدع .
فشروط العمل الإبداعي ، الشروط التي تسبق الشروع ، فريدةٌ من نوعها و تبدأ بفترة تطول كثيرا أو قليلا مستبقة المباشرة به : تهويمات ضبابية ، إيحاءات ، صور، قلق ، عدم استقرار ..الخ تسبقه و تهيئ له ، إنها لا تقوم على الفراغ ، كما قد يرغب متفحص أن يفسر كلامي ، بل إنها بقدر ما تقوم على تراكم طويل و تحضيرات لولادة لا تشابه الولادات الأخرى حتى لو كانت من نفس الرحم .
الوصف
على أن الاقتباس الذي اعتمده قيس الزبيدي هنا ليس صحيحا بشكله العام فحسب بل إنه صحيحٌ بشكله الخاص و في سياقه ، أي في التقديم لرواية لصبري هاشم . فصبري هاشم اخترع في رواياته شكله الخاص القائم على العديد من الملامح التي سنعرض لها ، و ضمن أشياء أخرى : على انقطاعات في السرد و التتابع الدرامي من اجل الوصف و المزيد من الوصف للأشياء و الأشخاص ، و كذلك على نصٍ بشاعرية عالية و أبيات من قصائد مبثوثة في مسار الرواية هنا و هناك . و إذ نجد أن الوصف في الرواية ليس بالأمر الجديد عموما إلا انه لديه هنا يأخذ حيزا كبيرا و طويلا و يتحول هنا و هناك الى مناشدة شعرية . و في روايته الخلاسيون يتغير الإيقاع السردي و يدخل عوالم جديد و أشكالا إيقاعية جديدة ما أن يلجأ الكاتب الى الوصف مضفيا على مسار الرواية تنوعا كاسرا للرتابة .
فحين يذهب جابرُ الصغير ليستعيرَ لأبيه ربطة عنق من خليل كي يحضر الجنازة يرى خليلا مُرخيا ساقي امرأته على كتفيه .... لم يطرق الباب و يقسم أن لا يطرقه ، كما يقول ، حتى لو ذهب أبوه إلى الجنازة بدون ربطة عنق حتى تتم الطقوس . يقوم بعدها بعدّ الداخلاتِ الى المأتم بغزل صبي لم ينضج بعد ... و بعد أن يُشار إليه بأن يقوم بدور القاسم يسأل عمن تقوم بدور سكينة فيُقال له : سهام الخلاسية . ثم يتنادى الرجال : " أن أبعدوا جابر المسحورَ عن صبيتنا لقد أفسد ما في نفوسهم " يلجأ الى بيت خالته التي تمنحه قدرا من الحنو فيجد عندها حليمة العذارية ... في هذه اللحظة يتوقف عنده الزمن و يأبى أن يكون وجودُ حليمة مجردَ لحظة عابرة ، مجردَ وجود مادي ملموس مهما كان ساميا ، يتوقف عنده السرد و التتابع لصالح ما هو أجدر بذلك ، لنقرأ : " كانت أجملَ ما يكون و أطرى ما يكون و أنفسَ ما يكون ، امرأة يافعة جُبلت من زبدة ممزوجة بالطيب ، شعر نُسجَ من حرير ، فمٌ عقيقي ، شفتان ناريتان زُمّتا على هيئة كرزة ، عينان زمردتان تسبحان في قاربي جمّار ، بطن ضامر على قامة رهيفة ، حليمة طل الصباح ، فارقها زوج قبل حين . .... " ص 15
في مواقع أخرى يأخذ الوصف شكل مناشدة أو مناجاة ... ففي صورة مرسومة بعناية نجد أن النخل قد ثمل بعد أن استوحش و ضاق ذرعا بتيجانه فعب جرعة من مجده التليد ، نجد الراوي الذي هو جابر المسحور نفسه بضمير المتكلم مرة كما في عدة مواقع و نجده الشخصَ الثالثَ مرة أخرى و في مواقع أخرى كراوية ما يخاطب سهام الخلاسية إذ هي : " انسياب الخمرة في ربيع العيون ، هي الدرة التي انكشفت أسرارها و ضيعت مغاليقها ، و هي المهرة التي انتظرت فارسا يتدلى من الثريا و يمتطيها " . وهي بدورها تخاطبه : " انتظرتك يا إله الغواية تستدرجني إلى رحم المعصية ندور في أفلاكه . فلولاك لهلكت نظارتي و اعتصرتني غربة و لولاك لهجت ظبائي من جدب فأنت ضعفي و قوتي ..... و يستمر هذا الشكل من الحوار مغطيا صفحة أو نحوها .
هذه الصيغة سنجدها في مواقع كثيرة أخرى .
لا يمكن للحدث ، للسرد ، للتتابع الدرامي إلا أن يكون ضمن إطار المكان والزمان . ليس بوسعه أن يستغني عنهما ، ليس بوسعه أن يكون معلقا في اللامكان أو اللازمان ، و لذلك يحتاج الى الوصف لكي يجعل الحدث في إطاره زمانا و مكانا . على أن التبرير العام بحتمية الوصف وضرورته ، بحتمية الإحاطة بجو الحدث السردي و ظروفه لا يحل إشكالا لاحقا ملازما : أي وصف نقصد ؟ ما هو الحيز الضروري الذي يجب أن يشغله ؟ ما الوصف الجدير بتغطية العديد من الصفحات و ما هي المناشدات و الحوارات و المنولوجات التي تستحق تدبيج العديد من الصفحات ؟ هذه بالتأكيد مهمة الكاتب الذي يجب أن يكون مقنعا انه بعمله هذا يكمل الصورة و انه بدون ذلك ستكون الصورة ناقصة . أن يكون مقنعا ليس نقديا أو في تبرير لاحق بعد إنجاز العمل ، و إنما المقصود أن يكون مقنعا إبداعيا في إطار العمل نفسه بخلق توازن بين المسارين السردي و الوصفي و ما يستلزمانه من صور شعرية .
خصائص لغوية
و في سياق نفس الاقتباس الذي استهل به قيس الزبيدي تقديمه لرواية " حديث الكمأة " أي سياق اكتشاف الشكل الخاص بكل رواية سنعمل في مسار الروايتين ( الخلاسيون و حديث الكمأة ) على أن نتتبع بعضَ الخصائص اللغوية لصبري هاشم . من اللازم أن أقول إن صبري هاشم يهتم بلغته كثيرا و ربما يراجع ما يكتبه مرات عديدة و يُجري عليه تعديلات و يعيد تقديم و تأخير بعض الكلمات أو الجمل . هذا ما توصلتُ إليه من خلال قراءتي لهاتين الروايتين . و من المنطقي التوصل الى أن صبري هاشم كان قد تابع نفس النهج ، أي المراجعة و التدقيق اللغوي في كل أعماله ، فهذه الخاصية ، أي التدقيق في العمل ، هي صفة يختص بها بعض الكتاب وليس كلهم .
و يتجلى بعض هذه الخصائص اللغوية فيما يلي :
1ـ تأخير الفاعل و تقديم الجار و المجرور أو المفعول به عليه من أجل تفعيل الإيقاع و الخروج عن الرتابة و من أجل بناء جملة شعرية تتوافق أحيانا مع كلاسيكيات الشعر العربي .
تسمح اللغة العربية بهذا اذا ما قورنت بلغات أخرى بحكم مرونتها و بحكم إنها تطورت و تكيفت من اجل ملائمة الإيقاع الشعري تاريخيا ، فهي لغة شعر أولا و كانت أكثر من أية لغة أخرى ذات مهمات بلاغية ، و أمثلة تأخير الفاعل و تقديم المفعول به ، مثلا ، كثيرة التردد في اللغة الشعرية القديمة مثل قول طرفة بن العبد تحذيرا لخؤولة له اغتصبوا حقا لأمه :

قد يبعث الأمرَ العظيمَ صغيرُه حتى تظل له الدماء تصبب

و في مثل هذه الحالات و تبعا لها ، ألزم صبري هاشم نفسه بما لا إلزام ، عادةً ، فيه . أي تحريك آخر الكلمات حين يكون ثمة ما يدفع الى الالتباس في تحديد الفاعل أو غيره . سنلاحظ ذلك على أوضح ما يكون في حديث الكمأة على خلاف الخلاسيون. و لكننا مع ذلك سنستشهد أولا بما ورد في الخلاسيون من أمثلة تأخير الفاعل بشكل مقصود ، ثم نعرج على بعضه في حديث الكمأة :
" لن تصبح الجزيرة سجنا آمنا و لو ازدحمت بأشلائنا الأرض و بأرواحنا السماوات " الخلاسيون ص 28
" مأتما لصبايا أفسدت بيوضهن الحاجة ، لعذراوات فضت غلالاتهن الفجيعة " الخلاسيون 52
لكنه هنا في هذه الجملة ، و لكي يخرج من الرتابة و يمنع التكرار الإيقاعي الممل يكمل بخلاف ذلك أي بتأخير المفعول به هذه المرة و تقديم الفاعل كما هو مألوف :
" لحاملات أجهض الخوف بطونهن "
ثم نستمر
" إلى وجه اليم سيغادر رتل ، كان نسيما فتمايل النخل " ص 124

ثم في حديث الكمأة سيتوسع هذا النوع من البناء اللغوي فيُظهر ، إضافة الى خاصية تأخير الفاعل ، خصائصَ أخرى و تعقيدا بنائيا متقدما :
" ربما ظلّت تبحث عن عشبة أضاعتها ، على مشارف البادية ، قافلة " ص 33 حديث الكمأة
و لو أنه قال افتراضا : " ربما ظلت قافلة تبحث عن عشبة أضاعتها على مشارف البادية " لما كان للجملة عندها نفس الإيقاع و لكانت جملة مطروقة .
فإضافة الى احتلال الفاعل " قافلة " آخر موقع في الجملة هنا ، نجد أيضا جملةً اعتراضية محصورةً بين فارزتين وُضعت بعناية و إدراك لكي تتوسط الجملة الكاملة . و بذا تكون الجملة قد رُكّبت من جملتين .
و بالرغم من الجملة التالية قائمة على تأخير الفعل و ليس الفاعل هذه المرة إلا أنها تشترك مع الجملة السابقة في البناء القائم على الجملة الاعتراضية الهادف إلى مراعاة الإيقاع :
" خولة ، و نحن في الأصيل ندخل ، تأتي " ص61 حديث الكمأة
و تواصلا مع تأخير الفاعل نواصل القراءة :
" نحن من بلدة يحرس الليلَ همسُ نمائها و على أبوابها تاريخ يهلل " ص 69 . هنا يُكسر الإيقاع مرة بتأخير الفاعل " همسُ نمائها " ومرة بتأخير الفعل " يهلل " و تقديم الجار و المجرور .
و تواصلا مع ما قبلها و تطويرا له تصل الجملة الى أقصى تركيبها لديه في حديث الكمأة في النموذج التالي
" نحن من بلدة أسهر الأمصارَ شدوُ شاديها و لها في الكلام قريحة تطرب .... تشفي عن الأهل غريبا ورودها ، ويسكت صيحةَ المدارِ صهيلُ خيلها "
لنلاحظ تحريك آخر الكلمات ، و الذي نقلته كما ورد في النص ، حيثما رأى الكاتب ذلك ضروريا . من الممكن أن يُكتب الكثير عن هذه الجملة الأخيرة و خصوصا في الدخول في التفاصيل الإعرابية و عندها ربما سيكون الموضوع مملا للقارئ ، و لكني أشدد فقط على ما قاله الكاتب في وسط الجملة : " و لها في الكلام قريحة تطرب ".
بهذه الإضافة كان الكاتب موفقا جدا في إحداث إيقاع مدروس و ناجح ، و بها يتضح اهتمامه بموسيقى اللغة .
و أخيرا ، وفي سياق التركيب اللغوي ليس بوسعي أن أتجاهل الجملة التالية :
" أعتقيني يا أرض الكمأة فأنا لا أعلم كيف ستكون ، إذا جفت الرؤية ، الحدقاتُ..... " هنا التركيبة متأتية من تأخير اسم كان " الحدقاتُ " و التي تنطوي على احتمالين : أن تكون " كانت " فعلا ماضيا تاما و ليس ناقصا أو أنها فعلٌ ماضٍ ناقص خبرها محذوف جوازا . الأول هو الأقوى ، كما أرى .
2ـ تقديم المفعول به على الفعل :
" و ظلت تجمع الرحيق من تويجات سكرى . تويجا تُقبل ، و آخر تدلل " . هذا على سبيل المثال و ليس الحصر .
3ـ تقديم الجار و المجرور على الفعل
" لم تمض ساعة حتى الى حينا صاروا... و الى جوارنا سكنوا " ص 35 حديث الكمأة
" إلى الباب طرتُ ، كأن يدا انتزعتني من فضاء بهي " ص 39
لا يحرك كتّاب الرواية العربية في الغالب أواخر الكلمات ، فيما تُظهر كتابات صبري هاشم العكس ، أي إنها تظهر قدرة لغوية ـ نحوية ـ تأسست عليها مرونة لغوية ، فلا مرونة لغوية بدون قدرة لغوية ، فالتعامل مع أمور كهذه يعكس معرفة بخفاياها ما جعلها مألوفة سهلة الانقياد .
اغفل نقاد كتبوا عن صبري هاشم هذه الخاصية ـ أي تمكنه من قواعد اللغة العربية ـ و بالتالي قدرته على التصرف بها ، في الوقت الذي حفلت الكتابات عنه بأخطاء لغوية لا تغتفر .
وخلاصة متابعة البناء اللغوي لروايتين نلاحظ بوضوح التطور اللغوي لصبري هاشم تأسيسا على المقارنة بين روايتين و استنادا الى اكتساب صوره الفنية المزيد من التركيب و المزيد من التعقيد . و تعكس المقارنة جدلية العلاقة بين اغتناء الصور و اللغة المناسبة لها ، فلغة جديدة إستلزمتها و طالبت بها صورة أكثر تركيبا و ثراء تقوم هي بدورها برفع الوعي بكافة أشكاله و ضمن ذلك الوعي الجمالي .
خصائص أخرى
من أجل تحليل أشمل لأعمال صبري هاشم نحتاج الى تأشير ملامح أخرى من خصائصه الأسلوبية و صوره و رؤاه . فالبنية الفنية و الأسلوبُ العام للرواية و الصورة التي ترسمها لغة الكاتب ، إضافة الى ما تناولناه في بعضٍِ من ملامح نهجه اللغوي و توظيف تمكنه من قواعد اللغة ، هذا كله ليس كافيا بحد ذاته ، إن ذلك كله لا يستنفذ كامل البناء الفني و القائم ، ضمن أشياء أخرى ، على شاعرية النص المنثور أو النصوص الشعرية الصريحة ، و يقوم على اعتماد ملامح أسلوبية أخرى مثل السجع : و هو شكل من أشكال الإيقاع اللغوي يقوم على إنهاء الجمل بالكلمات التي تنتهي بحروف متشابهة وبه يصل أسلوبه في بعض المواقع الى ما يشبه أدبَ العصر الإسلامي الوسيط و أسلوب " ألف ليلة و ليلة " ففي الخلاسيون نجد أمثلة منها ما يلي :
ـ " يا أيتها الريق إذا الريق نشف ، يا أيتها الكبد إذا الكبد تلف ، و يا أيتها الرأي إذا الرأي سخف " الخلاسيون ص 79
ـ " ما بين البصرة و برلين فرسخ طويل ، في ليلهما وجه جميل ، في ما بينهما كلام نبيل " ص 98 الخلاسيون .
هذا على سبيل المثال لا الحصر .
على أن أسلوب الكاتب يتماثل بحدود معينة مع أدب العصر الإسلامي الوسيط و " ألف ليلة و ليلة " ليس في اعتماد السجع فقط و إنما ، أحيانا ، في طرق التعبير عموما وعن المشاعر بشكل خاص و ما عرف فيما بعد في المصطلح النقدي الأدبي والسينمائي و التشكيلي المعاصر بـ " فرط العاطفة " ( over sentimental) و الإكثار من مفردات التعبير عن العاطفة و التشديد عليها . ففي الخلاسيون ص 118 يذهب جابر المسحور الى مطعم في برلين كان قد تعرف فيه على النادل التي تخدم فيه و هي امرأة جملية يكتب :
" و لج المطعم ....فأختلجت كرزة الحسن حيرة . نطقت في إثر تنهيدة : ما الذي أتى بك صبحا ؟ .. رد منكسرا : جئت مودعا . كالطلقة أزت صرخة طاشت و انغرست في نحره ، فتعلق خيط الكلام ببلعة . تاهت ، داخت ، حشرجت ، و نسف الحديث من أصله . ارتمت على كتفه زمنا ، ثم أفاقت : فكر مليا يا جابر " .
و في " حديث الكمأة " و حين يلتقي بخولة و أمها شمس واقفاتٍ أمام الباب ينوين الدخول يصعقه جمال " شمس " أم خولة التي يحبها و سيتزوجها فيقول :
" اهتز وجودي ، تزلزل صباي ، ارتجفتُ ، أخذتني إغماءة ، صحوت ، تلعثمت إزاء سحر سماوي ، طوحت بي الكلمات بعيدا " . حديث الكمأة ص 40 .
يخلق صبري هاشم رغم ذلك صورا معاصرة و يكتب رواية في هذا الزمان و لهذا الزمان . كتبت جيرترود شتاين مرة عن فن سلفادور دالي : أن مفرداته التشكيلية كلاسيكية ، لكن رؤاه معاصرة . و لو أخذنا أي مفردة بصرية منفردة من إحدى لوحات دالي سنجد أنها رسمت بعناية و دقة تماثل الدقة التي رسمت بها رسومات عصر النهضة و لكننا اذا انظرنا الى مجمل اللوحة و أجوائها الغرائبية وجدنا إنها غير ذات صلة بالماضي أبدا رغم انتماء المفردة التشكيلية إليه ، و مجمل اللوحة لا ينتمي إلا لوقتنا الراهن و زماننا المعاصر ، يكاد هذا ينطبق على صبري هاشم .
* * * *
على هامش كتابات العديد من الكتاب في مجال الرواية والقصة يثار دائما ، كما فعل قيس الزبيدي ، موضوع الحدود بين الأشكال أو الأجناس الأدبية . ليس من الصعب في هذا السياق ملاحظة أن هذه الحدود الصارمة هي ، تاريخيا ، مرحلة من مراحل تطور الرواية و هي ملازمة لتاريخ تطور كل الأعمال الإبداعية ، فيها يكون الوليد الجديد حساسا لكل " الأجسام الغريبة " لحماية نوعه و تثبيت ملامحه . على أننا لن نختلف على أن الحدود بين الأشكال الإبداعية و خصوصا المدونة و التي تعتمد الكلمة لا أقول إنها ، بمرور الوقت ، ألغيت أو أزيحت ، و لكنها بدون شك أصبحت متحركة ، مرنة و قابلة للتحريك كما أصبحت الأشكال الإبداعية أكثر تداخلا و تزايد تأثير بعضها على البعض الآخر.
في كلاسيكيات المعرفة بكل حقولها كانت الحدود بين الأشكال المعرفية اصطلاحية . فلا يمكن وضع حدٍ صلب غير قابل للاجتياز بين الفيزياء و الرياضيات مثلا . فلا ندري ، حين ندرس ظاهرة ما ، متى انتهى فعل قوانين الفيزياء و بدأ فعل قوانين الكيمياء أو الرياضيات ، فتخصيص العلوم هو تجريد معرفي بشري يهدف الى شكل من أشكال التخصيص الذي يساعد على الاستيعاب و هو نوع من أنواع التجريد الضروري و إسقاط ذهنيٌ على الظواهر من أجل فهم أحسن ، لكنه قطعا ليس واقعيا ، فالطبيعة مثلا لا تعمل وفق قوانين الفيزياء أو الكيمياء أو الرياضيات بل إنها تعمل بكل القوانين المكتشفة و التي عرفتها البشرية و بتلك القوانين غير المكتشفة بشكل متداخل و متآصر .
و بالرغم من أن قوانين العمل الإبداعي ذات خصوصية قائمة بذاتها إلا أن من الخطأ الاعتقاد بأن هذه الخصوصية تجعل العمل الإبداعي مستقلا بالمعني المطلق للكلمة عن مجمل المعارف البشرية و من ضمنها العلوم . على أن من الجازم أن الحدود بين الأشكال الإبداعية متحركة مرنة و قابلة للاجتياز ، كما ذكرنا ، و أن المزاوجة المقصودة هو حق مطلق لكل كاتب أو مبدع .
لا ينبغي لهذا أن يلغي الخصائص الخاصة بكل شكل إبداعي و خصوصا تحديد العلاقة بين الرواية والقصة . فضمن كل الأشكال الإبداعية و ضمن التقارب العام بينها يوجد تقارب خاص و آصرة وثيقة بين الأشكال التي تعتمد الكتابة أو الرواية الشفهية أقصد : الرواية ، القصة ، القصيدة ، و كل أشكال النثر . قدمت قصيدة النثر شكلا ثوريا في المزواجة بين النثر و الشعر متخطية الحساسية و العزلة التي تحصن الأشكال الإبداعية نفسها بها ، كما فعل الرسم الحديث الشيء نفسه في استيعابه تقنيات السينما و الفيديو .. الخ . و هذا الشكلان الإبداعيان أي الشعر و الرسم كانا سباقين للتحرش بالإطار الضيق للشكل الإبداعي الذي يقرر الجنس و يرسم حدوده و أسقطا عنه هالة القداسة ، بل إن الرسم بالغ بالتغريب و أعتمد موادا لا صلة لها البتة بقماش اللوحة و الألوان حتى كاد يغادر نفسه و نوعه ، على أن من الصحيح ضمن هذا كله و ضمن " فوضى" التداخل و التشابك استيعاب الشكل الجديد للخصوصية ، وليس استعمالها لمزيد من التشويش و فقدان البوصلة . تحتاج الرواية الى تخطيط ستراتيجي يغطي مساحة واسعة من الزمان والمكان أو انعكاساتها على الورق . بالرغم من أن هناك قصة طويلة و رواية قصيرة فلا أجد أن أحدا سيجادل في أن الرواية أطول من القصة و تغطي مساحة أوسع اذا ما أبعدنا الاستثناءات المربكة . و بتلك النقطة يحتاج الكاتب الى مقدرة شاملة على إيجاد إيقاع يوحد مسار الرواية التي تسير أحيانا ـ و خصوصا في العراق الذي يفتقر الى تقاليد روائية ـ الى التفكك . إن ضرورة المراجعة العامة و المتكررة التي يلجأ إلى مثلها ماركيز مثلا ، كما ذكر هو نفسه في " رائحة الجوافة " من اجل تحقيق نسيج موحد للرواية و تجنب تفككها كالفسيفساء تكاد تكون قانونا عاما.
من الطبيعي أن تتراكم ضمن كل شكل إبداعي عناصر من "خارجه" على اعتبار أن مصدر العمل الإبداعي هو الحياة و الواقع و منهما يتغذى ، و كلما ازداد الواقع تعقيدا و تركيبا و تغريبا ازدادت الأشكال الإبداعية أيضا تعقيدا و تركيبا و تغريبا و الداعون الى نقاء النوع هم الداعون الى انفصال الإبداع عن الحياة . و تتراكم عناصر التغيير الى الحد الذي تدفع الشكل الإبداعي أحيانا الى مغادرة نوعه و الدخول في مرحلة نوعية جديدة ، و مهما كان النوع فإن ما هو مهم هو العمل الإبداعي نفسه بغض النظر عن اسمه و نوعه و مجال تبويبه. إن الجنس البشري معنيٌ بالإبداع تحت أي مسمى كان . فإذا ما ولد في العائلة طفل و احتار الجميع بتسميته و بقي بدون اسم ، فإن ذلك لا يعني إن الطفل غير موجود . علينا أن نهتم بالولادة أولا ثم بالتسمية ثانيا و في التاريخ نشأت مدارس عديدة و اكتسبت ملامحَها النهائية قبل أن يتم تسميتها . فتسمية " الانطباعية " قد نشأت بعد أن رسم مونية لوحة "انطباع " في سبعينات القرن التاسع عشر على نهر التايمز، وكانت الانطباعية قد نشأت و تطورت قبل ذلك بما يقارب العشرين عاما ، إنها موجودة قبل الاسم . و علينا أن نسأل أنفسنا ماذا لو أن مونيه لم يرسم لوحة انطباع ؟ لا شك أنه سيظهر عندئذ اسم آخر .عدا عن أن هذا الاسم لم يكن دقيقا أو علميا و أثار تحفظات العديد من المؤرخين و النقاد لأنه لا يمثل محتوى هذه المدرسة الفنية الناشئة ، و انه نشأ بحكم مصادفة . و لكنه اكتسب رسوخا و دلالة و إقرارا جمعيا ، وهذا هو المهم ، على محتوى بعينه دون الرجوع الى نشأة الاسم .
الاسم هو إذن : اتفاق اجتماعي على أن صوتا منطوقا أو رمزا مكتوبا أو كلاهما يدلان على شيء معين ، فلو أن المجتمع اتفق على أن اسم المنضدة هو : " س " لأصبحت " س " تدل على المنضدة . ولكن المجتمع لا يتفق بسهولة و لا عبثا على رمز دال إلا تحت ظروف معينة .
كثافة القصة و القصيدة تجعل القصائد و القصص الطويلة استثناءا فالكثافة هي ضغط المساحة و إعطاء دفقٍ إبداعي في زمن قصير يشبه الومضة ، قصيرة و مشبعة ، هذه الكثافة ثقيلة على الرواية اذا ما أديمت ، و ستخلق لا محالة مشاكل تتعلق بإدامة الشد الدرامي و اختبارا عسيرا لصبر أفضل القراء .
و اذا ما كان البعض يرى أن المتعة ليست وظيفة العمل الإبداعي أو إنها على الأقل ليست ضمن أهداف الكاتب و لا ينبغي أن تكون ، فلا مفر عندئذ من اعتبار المتعة التي تحققها الأشكال الإبداعية جميعها ( ناتجا عرضيا ) لم يضعه الكاتب حين يشرع بالكتابة كهدف ، على أن القبول الجمعي بالعمل الإبداعي متعلق بقدر كبير بهذا الأمر .
ليس لدي ما يمنع من الاستمرار في فرضية أن الرواية مرتبطة الى حد كبير بالاستقرار الاجتماعي و السياسي ، و العكس بالعكس . تعكس تقاليد الإشكال الإبداعية الكثيفة و القصيرة في العراق الأوضاع السياسية و الاجتماعية غير المستقرة ، فلا يمكن في وضع مضطرب التخطيط لعمل إبداعي يتطلب وقتا طويلا لإنجازه ، و لا يلغي الاغتراب و مغادرة الوطن عدم الاستقرار هذا ، فحين يغادر المبدع وطنه غير المستقر سيجد أن الشعور بعدم الاستقرار قد صار صفة ملازمة يحملها معه في حله و ترحاله . و بذا فان تقاليد الشعر و القصة أكثر بروزا في المنجز الإبداعي العراقي و بقيت الرواية الى حد كبير تحمل صفات القصة .
و مع ذلك أجدني لا أتفق مع الرأي الذي يرى أن تكنيك القصة مضر بالرواية في مطلق الأحوال ، والتعميم ليس صحيحا من الأدق اعتماد تحليل نقدي لكل عمل منفرد لمعرفة فيما اذا كان تكنيك القصة قد اضر بالرواية هنا أو خدمها هناك ، فالتعميمات تساعد الذين لا يرغبون ببذل أي مجهود حقيقي في تحليل النص . يكتب ميلان كونديرا ، وخصوصا في روايته " الخلود " فصولا يمكن أن تكون قصصا قصيرة ، ما يمنعها من ذلك قدرته المدهشة على الربط بين حوادث و وقائع وقعت في أزمنة و أمكنة مختلفة و لولا هذه المهارة لتفكك العمل . في كل شكل إبداعي سنجد وحدات منفصلة أو تكاد ، تستطيع أن تكون لوحدها وحدات إبداعية تحت أي مسمى كانت فالمقطوعات الموسيقية و السمفونيات تتكون من حركات أو وحدات موسيقية قائمة بذاتها و يفصل بينها فاصل زمني قصير على أنها تُوحّد في الغالب بروحية فنية واحدة أو بواسطة اللحن الأساسي الذي يتكرر في جميع الوحدات بطريقة أو بأخرى ، و في دروس تعليم الرسم غالبا ما يُلاحظ أن بعض الدارسين يرسمون وحدات و عناصر منجزة بشكل رائع اذا ما أخذت منفصلة و لكن من الملاحظ أيضا إنهم ليسوا قادرين بعد على الوصول الى ربط عناصر اللوحة بنسيج واحد و هذه هي أصعب مراحل العمل الإبداعي تشبه من بعض الوجوه توحيد نص طويل بنسيج واحد و منعه من التفكك .



#منير_العبيدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العقد الابداعي و النقد
- جدي وحركة التحرر الوطني
- الايام الثقافية العراقية في برلين و تأسيس رابطة فنانين تشكيل ...
- النظرية هي دين القرن العشرين الجزء الثاني
- النظرية هي دين القرن العشرين
- دور القائد : السكرتير الاول في الحزب
- أي بلد هذا الذي ليس فيه نخيل
- عوني كرومي الصورة الاخيرة
- الطبقة العاملة في القرن الواحد والعشرين ...
- في الذكرى الثانية والسبعين لتأسيسه في التحضير لمؤتمره الثامن ...
- حزب مجيد يمثل وحدة الشعب العراقي
- لقطات نسائية
- المثقفون والسّاسَة الشموليون
- عطر امرأة
- حول الديمقراطية والاصلاح السياسي في العالم العربي - رد على ت ...
- الديمقراطية والإصلاح السياسي في العالم العربي
- تسييس الثقافة العربية
- الديمقراطية وإمكانيات التصدير
- الفنان التشكيلي عدنان شينو - الحنين الخلاق
- الماركسية وافق البديل الاشتراكي - كارل ماركس


المزيد.....




- مصدر يعلق لـCNNعلى تحطم مسيرة أمريكية في اليمن
- هل ستفكر أمريكا في عدم تزويد إسرائيل بالسلاح بعد احتجاجات ال ...
- مقتل عراقية مشهورة على -تيك توك- بالرصاص في بغداد
- الصين تستضيف -حماس- و-فتح- لعقد محادثات مصالحة
- -حماس- تعلن تلقيها رد إسرائيل على مقترح لوقف إطلاق النار .. ...
- اعتصامات الطلاب في جامعة جورج واشنطن
- مقتل 4 يمنيين في هجوم بمسيرة على حقل للغاز بكردستان العراق
- 4 قتلى يمنيين بقصف على حقل للغاز بكردستان العراق
- سنتكوم: الحوثيون أطلقوا صواريخ باليستية على سفينتين بالبحر ا ...
- ما هي نسبة الحرب والتسوية بين إسرائيل وحزب الله؟


المزيد.....

- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي
- آليات توجيه الرأي العام / زهير الخويلدي
- قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج ... / محمد الأزرقي
- فريديريك لوردون مع ثوماس بيكيتي وكتابه -رأس المال والآيديولو ... / طلال الربيعي
- دستور العراق / محمد سلمان حسن


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - منير العبيدي - قراءة نقدية في روايتين لصبري هاشم