|
عطر امرأة
منير العبيدي
الحوار المتمدن-العدد: 1417 - 2006 / 1 / 1 - 09:36
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تحت هذا العنوان الرقيق والمغرق في الرومانسية ، أدى الممثل الصلب " آل باجينو " دوراً أتاح له أن يمثل إحدى ذرى التعبير عن شخصيته القوية ، إلا إنه ، هذه المرة ، يظهر ككولونيل أصيب بالعمى و يرغب بالانتحار ، كان يرافقه تلميذ يقوم بعمله كمرشد لضرير إثناء عطلة المدارس ، و بالرغم من أن العديد من العميان المبصرين من الذين ، إضافة الى عماهم ، يرغبون في أن يتسببوا في عمى الآخرين يسيطرون على العديد من وسائل الإعلام كحراس أزليين للحقيقة المهددة بخطر التلوث ، لم يفكروا ولن يفكروا بالانتحار ، فإن هذه الثيمة ، التي اجد نفسي منجذبا لها بقوة ، لن تكون ، على أي حال ، موضوع الاستشهاد الذي أرمي الى التطرق إليه ، وإنما شئ آخر جرى في الفيلم . فهذا التلميذ الذي يعمل عملا مؤقتا كمرافق لكولونيل ضرير كان مطلوبا بعد انتظام الدراسة مرة أخرى للشهادة أمام لجنة تأديبية في المدرسة لعمل ما قام به أحد زملائه , وكانت شهادته ضد زميله هي القول الفصل في هذا الموضوع . كان التلميذ يروي ، متضايقا ، لـ " آل باجينو" كيف انه غير راغب بالإدلاء بشهادته ضد زميل له على أي حال من الأحوال . أعطى الموضوع هذا دفعة للكولونيل الضرير الذي كان غير راغب في الحياة بعد أن كان قد فقد مغزى حياته كعسكري ، وقرر أن يحضر الى المحكمة التأديبية للدفاع عن التلميذ كولي أمره ولكي يدافع عن عدم رغبة التلميذ في الشهادة ضد زميل له . وفي قاعة المحكمة التأديبية تجلت الشخصية الطاغية متألقة القوة لـ " آل باجينو " بكامل سطوعها دفاعا مجيدا عن التلميذ الذي يرفض أن يشي بزملائه وقد أشار آل باجينو الى أن المدارس ينبغي لها أن تعلم أبناءها الوفاء لزملائهم وليس خيانتهم و أن لا تعلم أبنائها كيف يخونون زملائهم . حطم آل باجينو بدفاعه الحماسي هيبة حراس الفضيلة و الأخلاق في إدارة المدرسة ، وجعل منهم سخرية أمام تلاميذهم ، ولكن حراس الفضيلة مثل الفضيحة ، تعيد إنتاج نفسها تحت مبررات جديدة و لا تخجل . في بعض دول اوربا الاشتراكية و في الـ (DDR ) رُفعت الوشاية الى مستوى سياسة رسمية ، كان قسم من المجتمع معبأ للوشاية بالقسم الآخر . شئ ما راق تماما لممثلي سلطتنا السابقة في العراق ، فقامت بإقتباسه بسرعة و طبقته بابداع متناه ، ولكن الأمر لم يتوقف على مجرد سلطة راغبة بحماية إمتيازاتها بكل ثمن ، شئ ما يمكن فهمه أو تبريره . فبعض ممن أوفدوا للدراسة في هذه البلدان قد تعلموا دروسا في الوشاية أكثر مما تعلموا في مجال اختصاصهم و دراستهم ، وبالرغم من أن عدد هؤلاء قليل لحسن الحظ قياسا بالعدد الذي قرر أن يتعلم ، إلا أنه من سوء الحظ هذه المرة ، فان هذا البعض ظل وفيا لما تعلمه ، وظل يمارس الوشاية كوقود لوجوده ، وكدليل على الإخلاص للمبادئ رغم دروس الحياة . مذ أعلن ميكافيلي القطيعة بين الأخلاق والسياسة تتردى السياسة يوما بعد يوم في حضيض التناقض مع الاخلاق ، واجدها اليوم مستنجدة ، انها بحاجة ملحة إلى شئ من الأخلاق أكثر من حاجتها إلى وشاة ومخادعين وعديمي ضمائر .
ملح أم سكر؟
قام بعض الأصدقاء هنا في برلين بتطوير الديمقراطية . فلكونهم لا يتحملون أي نقد فإنهم وجدوا حلا مبدعا لتلافي أي شكل من أشكال النقد الموجه إلى الأفكار أو الشخصيات التي يعتقدون بعصمتها ، وذلك بإطلاق اسم التهجم على عبارات النقد ، معتبرين النقد ، ببساطة ، تهجما . فإذا ما قام شخص ما بتوجيه النقد إليهم أو إلى أي من معتقداتهم وأفكارهم ، غضبوا منزعجين بقيام الناقد بـ " التهجم " ! لقد سمعت في طفولتي طرفة يتندر بها الناس : إن بائعا للمواد الغذائية كتب على علبة يحفظ فيها السكر كلمة : " ملح " وحين سأله الناس عن السبب قال : لكي لا يهتدي النمل إليها . و تسائلت إن كان بالإمكان حقا بناء الديمقراطية في بلد ما كنظام سياسي قبل أن : 1ـ القبول بها كسلوك فردي يمارسه الشخص في حياته اليومية وضمن ذلك علاقته العائلية و مع أولاده وزوجته وأصدقائه. و 2 ـ العمل على ترسيخها في الحياة الداخلية للأحزاب والمؤسسات الخاصة والعامة . و 3 ـ كيف أن علينا أن نكتب أسم الملح على الملح وليس على السكر . إن الأمر في غاية الصعوبة و لا يبدو هينا كما اعتقدنا لأول وهلة فقيام حزب ما بتبني الديمقراطية ، على سبيل المثال ، في برنامجه السياسي والتخلي عن الواحدية وقبول الرأي الآخر والتعددية هي خطوة بسيطة وغير ذات قيمة بذاتها ما لم تكن متبوعة بنضال ضارٍ وطويل في جعلها ـ أي الديمقراطية ـ ممارسة يومية بين الأفراد والمؤسسات مما يستدعي فترة طويلة وليست بالهينة ، وأن اعتماد الديمقراطية لا يمكن أن يتم بقرار. كما أنها على الصعيد الفردي تتطلب : تعلم الصبر والاستماع للآخرين والسعي إلى الوصول إلى الحقيقة حتى وإن كانت غير مريحة وغير متلائمة مع نمط التفكير الذي تعود الفرد عليه ، والتمتع بالمرونة الكافية لإعادة تقييم نمط التفكير اعتاد الفرد عليه ربما لفترة طويلة. هذه الفقرة مستلة من مقال كتبته قبل حوالي الشهرين و عاني الأمرين في طريقه إلى إحدى المجلات العراقية وبطلب منها ، و كانت إمكانية النشر تتقرر فقط بعد عرض الموضوع على إحدى " لجان فحص النصوص " كما سميت ، هي احد الأسباب في عزوفي عن النشر ، شئ اعتبرته ينتمي إلى الماضي السحيق في عصر المعلوماتية و شيوع الاتصالات في عصر الانترنت كما عبرت في رسالة إلى الناشر ، كانت اللجنة هذه ذات صلاحية في اتخاذ القرارات و مفاتحة الكاتب حول التعديلات التي تقترحها ـ منتهى الديمقراطية ! ـ كنت اعرف إن حراس الفضيلة الذين لا يكلون عن إداء مهمتهم المشرفة في تخليص الحقيقة من الشوائب ، التي يطلقها بدون مسؤولية أمثالي من الكتاب ، سيستهدفون هذه الفقرة بالذات .
لجنة فحص النصوص قبل يجلس على المكتب ، في مجلة أو صحيفة ما ، رجالٌ مسنون تبدو عليهم ملامح الحكمة ، رجال طاعنون في السن تركت عليهم الحكمة والعصمة آثارها : شعر طويل ناصع البياض كالفضة ولحى مسترسلة و نظارات ذات إطار معدني مدور من الطراز القديم و أمامهم العديد من المراجع و تحت عيونهم الثاقبة ، كالمجهر ، يجري فحص النصوص المرسلة للنشر ، هؤلاء الحكماء المعصومون هم أوصياء المجتمع على الحقيقة مسؤولون أمامه عن تنقية كل ما يرد للنشر و تخليصه مما يتسلل إليه من الأفكار التي تلحق الضرر بالمجتمع ، هؤلاء أناس قادمون من مكان ما ، لم يعرف عنهم أنهم ولدوا في مكان ما أو أن لهم أقارب أو معارف ، ليس لهم ماض ، ليس لهم مستقبل ،انهم ، ببساطة موجودون دائما كالقضاء والقدر . بعد يجلس على المكتب أناس ليس على أكتافهم أجنحة ، أناس عاديون تماما يرتدون ملابس عادية شعورهم قصيرة لا وجود للشعر الفضي المسترسل و لا أيا من دلائل الحكمة التي اختصت بها شخصيات " سيد الخواتم " . بل ربما هم يتغوطون اذا شعروا بحاجة الى ذلك ، حتى أن غرفة صغيرة مرفقة بقسمهم كتب عليها كلمة : " مراحيض " بالخط العريض ! أناس ربما حتى لا يعرفون إن الفاعل لا زال يرفع بالواو اذا كان جمعا مذكرا سالما . لا يوجد سخط يوازي اكتشاف التضليل ، إنه سخط على الذات بالدرجة الأولى . من يمتلك الحق في أن يضع نفسه فوق الآخرين و يتجرأ على فحص نصوصهم مانحا نفسه تفويضا من لا شئ سوى الوهم ؟ كيف بإمكان شخص ما أن ينصب نفسه قاضيا على الكلمة . ألا تشعرون بالخجل ؟ اصحوا من نومكم و أتركوا مكاتبكم ! نحن في عصر آخر ، فحتى الشتيمة المقذعة لها ناشروها ، نحن في عصر المعلوماتية . أعداء الديكتاتورية ليسوا بالضرورة ديمقراطيين .
الآن الجميع ديمقراطيون
الجميع " ديمقراطيون " الآن : دعاة الدولة الدينية بالعمائم السوداء و البيضاء ، أبطال تعميم الحجاب على خريطة الوطن كواحدة من الثوابت الوطنية ، قاتلو النساء ، المختطفون والمختطِفون ، قاتلو النصوص ، الأوصياء المعصومون على الحقيقة ، أسيجة النشر المنيعة التي تحمي المجتمع من الكتاب المارقين ، الوشاة المتنصتون ، الجميع ديمقراطيون .
الحقيقة غراب ابيض حين كنا عائدين عبر السوق الى بيوتنا أنا ومحمد عبد العبود في ساعة متأخرة من احد أماسي الصيف الجميلة في القرية ، مررنا بتل من البطيخ الأحمر ( الركي كما نسميه ) موضوعا على الأرض يحرسه ثلاثة رجال يحيطون به وهم نائمون ، كانوا ، حينذاك ، يجلبون بضاعتهم مساءا ويبيتون عندها حتى الصباح لبيعها باكرا في علوة الخضار ، كانت الأسلحة التي لديهم حينذاك بدائية : ( مكوار ) في حزام كل منهم ، كان هذا سلاحا أهون من سيارة ملغومة أو كلاشنكوف ، ولكنه كان كافيا للإطاحة برأس أحدنا أو كلانا . جلس محمد بين الأعراب النائمين الممدين حول ( كوم ) البطيخ لكي يسرق بطيخة وقام بكل استرخاء و صبر بعملية الانتقاء التي يقوم إثناءها ، على الطريقة العراقية ، بعصر البطيخة لمعرفة ما اذا كانت حمراء ناضجة ام لا وقام في هذا الاثناء باستبدال اكثر من واحدة قبل أن يقر قراره على واحدة لكي يأخذها ( يسرقها ) . كنت أنا أقف مستندا الى الجدار مستغرقا في الضحك . وحين انتهى من مهمته سألني بغضب : " لماذا تضحك ؟ " قلت له : لم أشاهد في حياتي سرقة كهذه ( هم سرقة و هم عل السكين ) ( يسأل العراقيون بائع البطيخ ان كان البيع على السكين أي بيع مضمون بان تكون حمراء بعد عمل شق فيها ) . حين كتبت مقالي في الـ ( editor) " تصدير الديمقراطية " حسب طلب و أسئلة معدة من الناشر أوضحت فيه مسؤولية الولايات المتحدة والغرب تاريخيا عن عرقلة نمو الديمقراطية في منطقتنا ، أثار المقال اعجاب أوساطا من اليسار التقليدي ، من الذين يعتقدون أن الولايات المتحدة فقط هي المسؤول عن عرقلة نمو الديمقراطية في بلداننا ، و أشادو به و أعتبروا إنني ربما ثبت الى رشدي . ولكنني كنت قد كتبت الكثير ، قبل هذا وبعده ، عن مسؤولية اليسار أيضا في عرقلة الديمقراطية في البلد والمنطقة ليس اقلها شعارات الحزب الواحد و مفهوم الشرعية الثورية ... الخ وهذا ما ذكرني بـ ( الانتقائية ) كمصطلح سياسي ، يشبه انتقاء البطيخ بين ثلاثة مسلحين . الذي قرر ان يقول الحقيقة حول مسؤولية كل الأطراف فيما آلت إليه الأمور في العراق ومنطقتنا سيكون ، مثلي ، مفتقرا الى الحكمة ، إذ سيخسر الجميع و سيجعل نفسه في مرمى النيران من كل الاتجاهات و سيشبه ، حسب المثل المتداول ، ( لقلق الكنيسة ) الذي لعنه اليهود والمسلمون والمسيحيون .
ابراهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــيم ! الست القائل : الحقيقة غراب أبيض ترفضه الأسراب المشابهة و لا يوائم اليمام
؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
منير العبيدي [email protected]
#منير_العبيدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حول الديمقراطية والاصلاح السياسي في العالم العربي - رد على ت
...
-
الديمقراطية والإصلاح السياسي في العالم العربي
-
تسييس الثقافة العربية
-
الديمقراطية وإمكانيات التصدير
-
الفنان التشكيلي عدنان شينو - الحنين الخلاق
-
الماركسية وافق البديل الاشتراكي - كارل ماركس
-
دور اللغة في التاريخ
-
المرأة ومشاكلها الوجودية , لدى التشكيليات العراقيات
-
إتحاد الشعب تسمية ملائمة لحزب ذي إرث نضالي مجيد
-
الديمقراطية الليبرالية وتيارات الفكر السياسي العراقي المعاصر
المزيد.....
-
اكتشاف -مثير- لأغنية كان يعتقد أنها مفقودة للراحلة تينا تيرن
...
-
بوتين: لو لم يُسرق فوز ترامب في انتخابات 2020 فربما لم تحدث
...
-
انهيار مبنى من ثلاثة طوابق في ولاية قونية التركية (فيديو)
-
إسرائيل تقرر إبقاء قوات في جنوب لبنان
-
ترمب.. النظر في ثقب القفل الأوكراني
-
قيادي من -حماس- يتحدث عن الأولوية العاجلة للحركة في قطاع غزة
...
-
محققون روس: صاروخ -بانتسير-إس1- وراء إسقاط طائرة الخطوط الجو
...
-
مهاجرون عالقون على الحدود الأمريكية بعد إلغاء مواعيد اللجوء
...
-
-كتائب القسام- تعلن إيقاع قوة إسرائيلية في -كمين محكم- بمخيم
...
-
الشرطة السعودية تستدعي شخصين لمخالفتهما الذوق العام
المزيد.....
-
الخروج للنهار (كتاب الموتى)
/ شريف الصيفي
-
قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا
...
/ صلاح محمد عبد العاطي
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
المزيد.....
|