أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - احمد جمعة - -خريف الكرز- رواية مُنعت في بعض الدول. ج (18)















المزيد.....


-خريف الكرز- رواية مُنعت في بعض الدول. ج (18)


احمد جمعة
روائي

(A.juma)


الحوار المتمدن-العدد: 6577 - 2020 / 5 / 29 - 16:52
المحور: الادب والفن
    


تحمل الغيوم الإنجليزية في الشتاء زخماً من المفاجآت، هكذا يعتقد البريطانيون، الأوائل، غُزاة الدول ما وراء البحار، فهم ذلك من قراءاته المسائية عند خلوته، بعد أن تستهلكه أنجيلا وترميه في نهاية الليل، فرغم التخطيط والمجازفات والتحري الذي أَدارته هي وأصدقاؤها الغامضون، لم يَطْرأ في خياله أن تكون الحياة بالسهولة التي لا يتوقعها، فبعيداً عن عالم أنجيلا وعصابتها الضبابية، لَهْثَ وحده بالتحري، عبر كل مقاهي وملاهي لندن والضواحي، استمر في تَعقب كل مؤشر خطر بباله، واقْتَفَى بِجَلَد كل أثر يدل على احتمال وجودها فيه، الفنادق والسوبرماركات، والباصات منذ الصباح حتى المساء، ضجر بعض الأوقات النزقة، ولكنه لم يَسْأَم، كان يَتَبَرَّم من نفسه حين تشتد معاناته ويشتعل ولهه لها، ولكنه أنكَّب يبحث ويتقصى ودأب من غير كلل على ملاحقة كل شاردة وواردة في المدينة والضواحي للوصول لمجرد علامة على وجودها في المدينة "لم تكن سوى ليلة، بل ساعة صنعت بداخلي بركاناً" يردد هذه العبارة وغيرها في سره عندما يشعر بأنه تقاعس عن المطاردة، على هذا المنوال رَكَضت الأمور متتابعة في خط متعرج ظل يمشي الليل بالنهار عليه، حتى صادفها ذات مساء أمام عيادة صغيرة للأسنان بضواحي المدينة، ومعها امرأة تكبرها بسنوات، ظهرت مشرقة الملامح، بيضاء البشرة، من رَوْنَقها بدت قريبة لها، فيما أطلت هي وقد صبغت شعرها بعد أن قصته، برزت أكبر من سنها حينما عرفها من قبل، أَضْفَت أصباغ الماكياج عليها التباساً في العمر، حتى عينيها برزتا من على مسافة مختلفتين، لونهما تغيرا، خمن لِتَغيرّ العدسات، شدته لوهلة وكأنه قد رآها في الحلم، أيقظ ذاته من حالة الاشتباه والبَلْبَلة وقد زادته رؤيتها بهذه العفوية تشويشاً، عاقه عن التصرف بسرعة حتى دَلَفَت العيادة من غير أن يُحَرك ساكناً، لم يُفكر أنها رَأَتهُ فقد انْشَغلَت بالحديث مع المرأة الأنيقة التي تكبرها "يا ترى من تكون؟" كان الطريق خاوياً من السيارات والمارة، وبدا الطقس غائماً يوشك على الرذاذ كما في الصباح الباكر، كان هناك مقهى أو كافتيريا صغيرة عند مدخل الطريق وثمة مقاعد خارجية جلس عليها أربعة أو خمسة من الرواد يحتسون الشاي وبدا أحدهم يحمل جريدة راح يتصفحها، هل يقتحم العيادة ويحدث جلبة أم ينتظر على الناصية وقد تتلاتشى كما المرة الماضية بينما كانت إلى جانبه؟ يبعد المقهى بضعة أمتار وثمة سيارات من وقت لآخر تعبر الطريق وتختفي عند الضفة الأخرى منه. تطلع للسماء فوقه فوجد السحب تكاثفت وتكتلت في بقع سوداء داكنة مما يوحي بغزارة المطرة التالية، راح يجول ببصره في المكان مُتَحرياً عن ملجأ يأوي إليه فيما لو أمطرت ولم يستطع ولوج العيادة أو البقاء تحت المطر، لم يجد سوى المقهى الذي لو اقتحمه فلن يضمن رؤيته نَفاذ المرأتين من العيادة، أَنْهى حيرَته وتقدم بحذر من بوابة العيادة، فتح شباك الباب الخارجي الذي أصدر صريراً، ثم دفع ببطء وحذر باباً زجاجياً ضيقاً بعض الشيء، أطل بوجهه ليجد أمامه مكتباً صغيراً يفصل الواجهة عن صالة أخرى جلست عليه امرأة خمسينية، بدينة، ابتسمت له حال بروز وجهه، واضح من هيئتها أنها كانت تنتظر منه التقدم نحوها، ولكنه نظر للأمام بحثاً عن مزيد من الرؤية للمكان، تعمد أن يرسم سَحْنة من يبحث عن شخص آخر، لكن المرأة البدينة ذات الشعر الذهبي الصارخ بادرته وما زالت تطبع الابتسامة الدائمة كما تبدو.
"أَيٍ خدمة أُقَدمها لَكَ؟
أنقذه رجل ومعه طفل صغير خرجا من صالة انتظار في جهة ملتوية من المكان، اسْتغل الفرصة وتسرب منها ليقف وجهاً لوجه مع شيري.
****
أقل من ساعة مُتَحَجرّة فاتت شابها السأم في بهو العيادة بإضاءته المُتْخَمة بالْتَأفف من قبل المرضىى الذين طال انْتظارهم كما بدا من حالة الْتَبرم، ظلَّ ينظر لها وتنظر له خلال هذه المدة دون حركة أو إشارة باسْتثناء دقات قلبه التي خشي أن يسمعها الكهل الذي كان جالساً بقربه، فيما جلس هو مواجهاً لها، حتى أَزَفَّ موعد المرأة التي كانت برفقتها، دلفتا للداخل، أسرع الاتصال بأنجيلا فوجد خطها مشغولاً، تضخم قلقه، وعاد كرر الاتصال حتى جاءه صوتها.
"الطائر في القفص والباب مفتوح وأَتَوَجّس إفلاتها.
في غضون دقائق، مرت عليه كدهر، فوجئ بها تطل من بهو المكان بعينين مخدرتين وبشرة خلت من اللون، بدا وجهها وقد إمْتَطاه الوهن، وشعرها بدا مشعثاً وظهرت في ملابس ارْتدتها على عجل، حتى ظهر طرف قميصها من الخلف، خارج سروال الجينز أسفل الجاكيت الأسود مع القميص الوردي، بدت له في حالة رهيبة، لم يرها من قبل على هذا الحال، ورغم التوتر الذي هو عليه ضحك من نفسه وقد خُيل إليه رفضه الخروج معها إلى أي مكان وهي بهذه الصورة.
"كيف اهْتديت إليها؟
رد بصوت هامس بعكس صوتها الذي لفت انتباه المرأة التي كانت تراقبهما، على الطرف الآخر.
"من السماء.
سرحت لبرهة بدا كأنها تضع خطة ما، كان من طبيعتها الْمَيل للتأمل برهة قبل اتخاذ خطوة، نهضت وقد لفتت الأنظار مرة أخرى بحركتها، ود لو لم يتصل بها، ترافقت حركتها مع جلبة داخل غرفة الطبيب ما ينبئ بانتهاء المرأتين فيما بدا توشكان على الخروج.
" سأنتظر بالخارج والْحَق أَنْتَ بها عند الخروج ولا تكلمها حتى تصل إلى الشارع.
همس لها
"أرجو ألا تُحْدثِي ضجة.
توقع رَجاحَة منها وبذات الوقت خشي من تصرف طائش يفزع فتاته المحتالة، خرجت أنجيلا، ووقفت على رصيف الشارع، كان هناك بعض المارة، وظهرت امرأة أربعينية تجري، راحت تتلفت وإذا بالمرأة والفتاة تخرجان وإلى جانبهما سفيان يتحدث مع الفتاة، صُعِقَت أنجيلا وقد توقعت منظراً آخر، كان الثلاثة يسيرون فتبعتهم، وهي تدندن بأغنية، التفتت شيري وراءها ثم عادت تسأل سفيان.
"هذه معك؟
هز رأسه وهو يحاول منع ابتسامة ماكرة عن التسلل منهُ، عند مفترق الشارع ركب السيارة الصغيرة الحمراء المركونة عند المنحنى خارج الشارع العام وترك أنجيلا واقفة على المشهد.
"على الأقل رأيتها؟
قالت أنجيلا عبارتها وظلت واقفة مع بدء سقوط رذاذ خفيف، كانت السماء مكتظة بالغيوم والوقت شارف على الليل، فقد أُضيئت مصابيح الشوارع، سارت وحدها في الشارع، فكرت في إلاتصال به لكنها عدلت عن الفكرة متوخية الحرص على ألا تشاغبه ولكنها احتفظت بشئٍ صغير من غيرة مدفونة في باطنها.

****
في غرفته التي رجع لها بعد منتصف الليل إثر سهرة قضاها مع شيري، صاغ من خلالها علاقته مرة أخرى، محتفظاً بهدوئه ورَجاحة عقله من ألا يُفَرّط فيها من جديد وتضيع منه رغم ما فعلته، لم يكن طوال الوقت يختزن غضباً نحوها، أو شعوراً بالانتقام أو حتى رغبة في معاقبتها، كان أمله فقط الوصول لها، هذا ما عبر لها عنه بحضور أختها الكبيرة والتي ظنها في بادئ الأمر والدتها التي عرف منها أنها متوفاة، حين اختلى بنفسه فور عودته الشقة، قذف بمعطفه واتصل بوالده تقي عاقداً العزم ألا يضايقه مدركاً بأن سنه ووهنه وعذابه الذي سببه له يكفيه من أن يزيده بشيء من الضيق، جاء صوت الرجل كالعادة هادئًا سلساً من دون عاطفة جياشة، والتي عادة يحتفظ بها لنهاية الحديث.
" القلب يا تقي يرقص من المخاض، قَلْبي.
بعد أن سأله عن حاله واطْمَأنّ عليه كان لابد من أن ينعطف على سؤاله المؤجل.
"متى تعود لنا؟ أو على الأقل آتي إليك، لا أريد أن أَغِيّب عن الدنيا ولا أراك.
رغم معرفة سفيان بوالده الذي لا تستدرجه العواطف ولا يشحذ الشفقة رغم كهولته، لكنه هذه المرة بدأ يستخدم الْأَجَل لجذب انتباهه وهو التعبير الذي يستخدمة كلما أراد استدراج أمر في الأسرة، لكنه محق بشأن قرب الْمَنُون نظراً لسنه الذي تجاوز السبعين عاماً بكثير.
"لن يطول الوقت بدأت أموري تَروق وعما قريب سَأجري العلمية وكل ما أنْشده أن تحافظ على صحتك وتعيش حتى تراني، فأنا بحاجة لدعمك أكثر من أي شخص آخر، لا أتوقع من أحد أن يتقبل ما أنا مُقْدم عليه.
"لقد شرحت الوضع لهم جميعاً وتقبلوا الأمر بواقعية ويأملوا عودتك قريباً.
عرف ان أخوته بالذات ليسوا في وارد الاستسلام للمسألة، لن يصدقوا ولن يقبلوا بتحوله باستثناء جميلة البيضاء كالثلج، فَطِنَ أنه لا يستطيع العيش هناك، كل ما يريده هو تقي معه، ويبقى هنا مع شيري وأَنجيلا ووظيفة يعيش من ورائها.
"صدقني تقي أنت الوحيد المقنع، لا أنسى جميلة بالطبع، لست مثالياً حتى أصدق بإمكاني العيش هناك كامرأة، هل تصدق أنت نفسك أن يتعامل معي شريف أو حامد كأخت لهما؟ على الأقل البنات يمكن تقبلهنَّ لِيَّ، لكن بالذات حامد سيرى فِيَّ بعد إذْنّك عاهرة. يكفي أنه لم يتقبلني وأنا رجل فما بالكَ لو غيرت جنسي؟ خَلْنا واقعيين أبي.
صمت لثوانٍ ثم إسْتدرك
"سامحنى تقي، أَقْسَمتُ ألا أُضايقك، لكني أَتَحَضّر لما سيواجهني هناك، أَتَفَهم عالمكم، صعب عليه تقبل مثل هذا الانْقلاب في الجنس.
هو الآخر اتخذ برهة صمت ثم قال بنبرة صَبَغتَها العاطفة.
"صَعّب ما تقول سفيان.
"نعم، صعب القول أبي، وأصعب منه عندما يصبح واقعاً.
عاد تقي لأسئلته.
"ماذا تنوى؟
"سأنتهي قريباً من عمليتي وَلَديّ تأشيرة لخمس سنوات إقامة هنا، طبعاً لن أقضيها بعيداً عنك أَنْتَ بالذات تقي، لابد من رؤيتك قريباً
"آمل ذلك سفيان، أحرص على الوفاء بوعدك.
"أَعِدُك أبي.
حالما انتهت المحادثة، نهض وأعدَّ له كأساً فيما بدا أنه لم يكتفِ من الشرب في الخارج، راح يضع الخطط في رأسه لإنهاء العملية بأي شكل حتى لو غامر في أي عيادة شرط أن تكون إلى جانبه أنجيلا. أما شيري فقد وضعها فقط في قائمة الصديقة، حتى بعد التحول.
"إنها صلاتي.
قال ذلك في سره وقذف بنفسه فوق السرير من دون أن يُطْفئ الضوء، كان مرهقاً ومَغْمُوماً على الرغم من رؤيته لشيري أخيراً.

فتح كهل الباب وأطل منه بوجهٍ عظمي وشحوب طال من أعلى جبهته حتى أسفل ذقنه. كان ملفوفاً داخل أكثر من ثوب، بالإضافة لمعطف أخضر اللون طويل يكاد يسقطه على الأرض من ثقله، وقف مبهوراً أمام تقي آخر لكن أعمق كهولة، بدا وقد صُدم لوهلة، كان يأمل أن تواجهه نرجس بذاتها لتوفر عليه حرج السؤال عنها ومبرره، رتب ذهنه بسرعة وصاغ السؤال المبرر دفعة واحد.
"نرجس يا عمي، أنا من البلدية.
لو ظهرت نرجس لضحك في وجهها وربما قَرَصَها في كتفها، فقد كانت تعرفه وتُشاكسه بالكلمات ولكنها لم يسبق أن تَحَرّشت به أو تَحَرَش بها، كانت علاقته بجوري منذ البداية ولم يخرج سوى مرتين أو ثلاث أو ربما خمس، كما ظن، ولكن لم يَشْمل اللهو نرجس مع أنها في مرات عدة أُخِذ بها، أُعْجب بمنظرها خاصة عندما يراها في الصيف القائظ حينما تخرج للفناء بقميص أبيض شفاف مفتوح الكتفين، كان يرى أبطيها أبيضين ناصعين وصدرها نافراً مع تقاطع جسمها المتناسق وتحديداً خصرها الضيق. اِنْتبه للكهل يهز رأسه نفياً من دون أن ينطق فيما بدا لم يفهم فحوى البلدية.
"تأتي مرتين في الأسبوع، هي مقيمة في المنامة عند خالتها.
كان جواب الرجل الذي كانت أسنانه تصْطَكّ من شدة البرد. أشْفَق عليه وأغلق الباب في وجهه، تضاعفت حيرته، وزادت شكوكه حول المرأة وخشيَ أن يكون لها ضلع في اخْتفاء جوري، ألم تقل دلال انها انْقَطَعت عن الدار مع اختفاء جوري؟ راجع أفكاره وبدأ التحري من خلال تخمينات واحْتمالات ولكن المهم أين يبدأ البحث في المنامة؟ يمكن لدلال أن تعطيه بعض العناوين لكن زيارته لها مرة أخرى ستثير حنقها.
"من أجل جوري سأتحمل سخطها.
مضى نحو الدار وبدلاً من طرق الباب ولفت الانتباه، دَلَف مباشرة نحو الصالة وهناك اقتحم الغرفة العلوية الكحلية ذات النافذة الكبيرة على الشارع والتي تقيم فيها دلال، ليجدها مستلقية تشخر ولكن بصوت خفيف يتقاطع مع صعوبة التنفس، تسارعت دقات قلبه وخشي أن تصحو مذعورة وربما تصرخ أو تنشب فيه أظافرها، ولكنه رَجَح أنها تقدره ولن يبلغ سخطها هذا الحد.
"دلال، دلول..
راح يرفع الصوت ولكنها تحت كل تلك البطانيات لا تشعر بصوت حتى لو صرخ في اذْنَيها. في النهاية لم يجد مفرا من أن يهزها من كتفها، فتحت عينيها ولم تتحرك أو تصرخ أو حتى يبدو عليها الضيق، جَمَدَت نظراتها وعادت وأغْمَضَت عينيها، فَخُيٍل إليه أنها في حلم فعاد يستصرخها بصوت راح يعلو تدريجياً متجنباً لكزها في كتفها حتى نهضت محتدة وقد هاجت بشرتها الحمراء، كانت متجهمة وشعر أنها كَظَمَت سُخطاً شَديداً
"عَرَفْتُك منذ فتحت عيني غير أني لم أرد تصديق ما أراه، لا تقل لي هناك من مات، ولكن إن لم يكن لديك حِجَّة لوجودك في غرفتي هنا وفي هذه الساعة فلن تفلت من السكين هذه المرة.
كانت هناك حقاً سكين كبيرة وحادة بمقبض خشبي على طرف طاولة صغيرة بقربها، أسرع وأبعد السكين عن المكان، جعلها ذلك تبتسم رغم سيطرة الغيظ عليها.
"اجلس.
تردد في الجلوس وحاول مُداهنتها، كان قد ترك الباب مفتوحاً، فيما تسلل بعض من خيوط الشمس الباهتة من شقوق النافذة، وظهرت مدفأة الفحم الوحيدة في شكلها في الحي، ذات نقوش وحاشية تستخدمها عادة لإشعال النرجيلة، وحين كررت الطلب من نظراتها جلس على بعد منها.
"أعْلمني عن الخبر المُلح الذي جعلك تقتحم حرمتي دون أن تَتَمَلقني.
مد قدميه وانتظر بضع ثوانٍ ثم نطق بنبرة مستعطفة.
" ليتسع صدرك دلال، ذهبت لمنزل نرجس ولم أجد سوى كهل مُدْقَع بائس أخبرني بأنها مع خالتها في المنامة، وكما تعلمين المنامة كبيرة ...
قاطعته من دون غضب وإن كانت تخفي غَيْظها.
"جئت تطلب العنوان، وما أدراك أني سأعطيك؟
ولدت نظرة رجاء مصحوبة بنبرة مكسورة.
"لن تبخلي على من يبحث عن حقيقة فتاة طالما خدمتك وكانت يدك اليمنى دلال.
وجد وجهها ناعساً بارداً خالياً من أي تعبير إيجابي، ومن دون تَوْطِئَة دنا منها وراح يقبل خدها بقوة وهي تضحك محتجة.
"كَفاك، ماذا سَيُخَمِنون لو رأوا هذا المنظر؟
"سيقولون جَنَ بها.
بعد جدل معها، كانت تَرْمي إلى إطالة بقائه معها لم يَدله حدسه على هدفها من ذلك، لكنها في النهاية، دلته على أكثر من موقع في المنامة، واحد بقرب منطقة الحورة، خلف مقر للبوليس، والآخر في منطقة النعيم على حافة الشريط الحدودي لسوق الصفافير والحدادة خلف الطريق الرئيسي، حددت له العناوين وحذرته من فتوة بحرينيين وعمانيين وبلوش، لا يحبذون الغريب، أو من يتسلل مناطقهم، ودعمته باسم شخص يُدعى عبود الأعرج لو واجه أي خطر عليه أن يسأل عنه ويذكر له أنه من طرف دلال، وحذرته أخيراً من سؤال رجلٍ عن جوري أو نرجس، وإنما يذهب بصفته زبوناً ويدفع التعرفة ويدخل مع بنات الهوى وهناك يسأل ما يريد شرط أن يدفع أولاً التعرفة ، ونصحته ألا يضاجع البنت بنفس سعر السؤال.
"همي الوحيد معرفة ماذا جرى لجوري.
" لو وجدتها ماذا ستصنع بها؟
لم يتوقع السؤال، حاول التملص من الإجابة فبادرته مستدركة.
"قل لي، هل تعشقها؟
رد بسرعة دون تفكير.
"أميل إليها، تجذبني، ثم أنا على وشك السفر لمواصلة دراستي في لندن لولا الحرب الوضيعة.
"يقول الضابط هولغرايم إنها على وشك النهاية، فقد حرروا فرنسا وإيطاليا والروس دخلوا برلين..
قاطعها وهو يضحك وينظر لها بإعجاب.
"مهلك دلال، من أين استقيتِ كل هذه الأخبار؟ كلها من الضابط؟
"هولغرايم.
"يا سلام عليك يا دلال.
نهض وقبل أن يمضي خارجاً التفت نحوها وقال مازحاً
"سأطلعك على ما أصل إليه من معلومات، مثل الضابط هولغرايم.
ردت عليه وهي تستلقي على فراشها.
"أغلق الباب وراءك.
في اليوم التالي بدأ بحثه من منطقة الحورة، أخذ سائق والده معه ودار على المنطقة، لا يعرف من أين يبدأ، كان يخشى أن يراه أحداٌ من المنامة هناك ويبلغ والده، أو يقع فريسة بعض أصدقائِه الذين دأبوا على زيارة بيوت الهوى فيما كان هو يَلوذ للمحرق بعيداً عن العيون، لم تكن المحرق ملاذاً لبنات الهوى كما هو حال العاصمة، وحدها دار دلال كانت تحت حماية بعض جنود وضباط الاحتلال عند بدء الحرب، اسْتَمرت في سريتها رغم معرفة الجيران بها من دون أن يسعوا لإزالة المكان لإدّراكهم بأنها محمية من المستشار الإنجليزي وهو ما ظل محل شكوك البعض، حينما وصل هناك عند الساعة الثانية عشرة، دخل أحد البيوت الكبيرة على هيئة عمارة من دور واحد أرضٍ متعدد الغرف، ما أن ولج حتى فوجئ بعدد من الرجال والشباب ينتظرون على كرسي طويل كالذي بالمقاهي الشعبية. تقدم منه رجل عرف نفسه قائلاً بنبرة احترازية ولكنها مباشرة.
"أُدْعى عيسى بوالهوى وكنيتي عيسو، أنت ترى اليوم زحمة، وحظك جاء بك يوم الأربعاء، يوم الرواتب من الشركة. ماذا تطلب؟ حساوي، هندي، فارسي، عماني؟ بحريني سعر خاص.
لم يكن الحال كما هو في دار دلال، حيث السرية والرقي والتنظيم والنظافة، باستثناء أنه شاهد مصابيح الكهرباء كما هو حال منزل والده، ومن هنا قرر أن يسعى لتوصيل الكهرباء لدار دلال مكافأةً لها على حبها وتقديرها وتحملها تصرفاته الرعناء والطائشة، خاصة مع بنات الهوى في بداية مجيئه الدار قبل سنوات مع بدايات الحرب.
فَتَّش كل خرم إبرة في الأحياء التي ذُكِرَت له، وقابل كل فتاة هوى، حدس أو شعور بأنها تملك معلومة، ظل أياماً، لم يترك ثقباً في أحياء النعيم والحورة وضواحي العاصمة حتى نبشها، توغل في ثنايا البيوت التي وٌصِفَت له، استغله الكثير من بنات الهوى واستنزف جيبه، ومع الأخيرة التي التقاها في منطقة قبلة بضواحي العاصمة، لا تبعد كثيراً عن مكتب والده، انتهى إلى لاشيء. كانت المرأة التي جلس قبالتها مريضة بالقلب، ورغم ذلك جاءت لهذا المكان لكي تطعم طفلها من زوجها المتوفى، أقْسَمت له على ذلك , أخبرته بأنها مستعدة أن تساعده لو أمكنها لإنقاذ الفتاة التي يبحث عنها، فليس في هذا العالم الذي تعيش فيه سوى المرض والخوف والظلمة واحتقار الناس وخزي لها، ولو قدر لها رجل يبحث عنها كما يفعل هو لكانت محظوظة.
"ما يطربك يبكي غيرك، وما يرقصك يشل غيرك.
قالت عبارتها وملامح بشرتها الصفراء تفصح عن إشفاقها على نفسها وعليه، كانت عيناها ذات الكحلة السوداء، تطرف عند الحديث، وغطى لون "الدورم" شفتيها بالوردي الفاتح، بدت له كزهرة جميلة ذوت عند المساء، وتذكر جوري وما تعرضت له، أحس من خلال جولته تلك على هذه الدور والبيوت بأنه طوال السنوات التي قضاها منذ بداية الحرب يطوف على هؤلاء النسوة، لم يكن سوى ذئب بشري يمتص تلك الأجساد المحروقة بالجوع والعوز والمرض، رأى ما جعله لأول مرة في حياته يكره نفسه ويشمئز مما قام به، ود لو يعوض كل هذه الأرواح الإنسانية عما تعرضت له من خزي وعار وإذلال.
"القوت والوقت هما الوحشان اللذان يفترساننا، فالقوت معدوم إلا بهذه الوسيلة، والوقت ينتهي بنا للتقاعد والجوع.
"ألم يكن هناك منفذٌ آخر؟
ردت وعيناها تدمع رغم الابتسامة الساخرة من نفسها ومن الدنيا.
"لو كان مجرد ملجأ خضعت للإذلال؟ هل تظن ثمة انسان على الأرض يقبل بالخزي؟
وضع في يدها كل ما كان في جيبة ومسح على شعرها، وفيما هو يهم بالخروج استوقفته قائلة.
"لا تيأس، افعل كل ما في وسعك لانتزاعها من هذا الوحش.
خرج من دون أن يفهم ما عنت بالوحش ولكن حزر أن يكون عالم بنات الهوى هو الوحش.
حين عاد للدار ودَسَّ رأسه في الوسادة، كان الوقت ليلاً وضوء المنزل من الخارج إنعكس على نافذة غرفته، شعر بإحْباط ورغبة في الاستسلام، حتى لو أنقذ جوري، من سينتزع مئاتاً من أمثالها؟ تعيش في الشَّقْب بكهفٍ ولو كان ظاهراً للعين لكنه مكانٌ مُظلم لهذه الأرواح الساكنة بيوتاً خضراء (2) لكنها من الداخل سوداء داكنة كالليل، تراءت له جوري بعد رؤيته هذه الفتاة المريضة بالقلب تبيع نفسها والموت أقرب لها من حبل الوريد، رأى جوري كيف كانت تستغله عندما رأت بيده النقود في المرة ألأولى، وكيف إانْتَهكَ عرضها بقوة حيوانية لم يترك مساحة من جسدها إلإ دَنَّسَه، صفعها وركلها وجعلها عند قدميه تتوسل، في كل مرة يسيل الدم منها يزيدها بضعة روبيات فتركع له مُتَجاوِزةً ما فعله، لأنها بحاجة لنقوده، رأى كل تلك الصور وكأنه لم يكن هو من صنعها.
"أُوووف.
ظل طوال الليلة يَتَقلَّب في الفراش، فينة يَصرّ بعزيمة على المضي قدماً في البحث عنها، وفينة أخرى تعبث به الأفكار، يتركها لمصيرها المجهول، كان يخشى أن يقضي وقته في التحري بينما تكون هي تحت التراب أو في قعر مياه البحر كما فعلوا بواحدة من بنات الهوى في العاصمة عندما وجدوها عند فرضة السفن متعفنة.
"هل لَقيت جوري ذات المصير؟
الوقت سحابة يذوب في المضي دون توقف أو تأمل، الوقت جعله يبلغ التاسعة عشر ولم يبدأ حياته بعد، كانت هناك ثقوب من حوله عبرها من غير أن يتوقف ويبحث في الجدوى من الزمن الذي يقضيه في بحور اللذة والشهوة، لم يعرف الحب ولم يعرف الشفقة إلا حينما تولع بالمرأة التي رغم شغفه بها لم يقبل بها سوى عاهرة، كانت هي خليلته وخليلة غيره لأنه لم يَسْعَ لانتزاعها من الأتون الذي ابتلعها، قبل أن يشاركه الآخرون فيها حتى لا يلتزم بها، خَذَلَها رغم أنها لم تَطْمَح لشيء معه سوى أن يدفع أُجْرَتها.



#احمد_جمعة (هاشتاغ)       A.juma#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- -خريف الكرز- رواية مُنعت في بعض الدول. ج (17)
- -خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج (16)
- -خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج (15)
- PDF الرواية والمثلث المُحرم...!
- -خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج (14)
- -خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج (13)
- -خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج (12)
- -خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج (11)
- -خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج (9)
- -خريف الكرز- رواية مُنعت في بعض الدول. ج (9)
- -خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج (8)
- هل يكون الكاظمي بوابة الساعدي القادم أم يصبح أتاتورك العراق؟ ...
- ثورة كورونا في طور التشكل...
- -خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج(7)
- -خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج 6)
- -خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج 5)
- -خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج (4)
- المحظور الخلاق في الرواية...
- -خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج (3)
- -خريف الكرز- الرواية التي مُنعت في بعض الدول. ج (2)


المزيد.....




- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- مصر.. الفنان بيومي فؤاد يدخل في نوبة بكاء ويوجه رسالة للفنان ...
- الذكاء الاصطناعي يعيد إحياء صورة فنان راحل شهير في أحد الأفل ...
- فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل ...
- -سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال ...
- مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م ...
- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟
- فنان سعودي شهير يعلق على مشهد قديم له في مسلسل باللهجة المصر ...
- هاجس البقاء.. المؤسسة العلمية الإسرائيلية تئن من المقاطعة وا ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - احمد جمعة - -خريف الكرز- رواية مُنعت في بعض الدول. ج (18)