أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - نوال السعداوي - اشتياقات أصيلة نفقدها في خضم الزيف والصخب














المزيد.....

اشتياقات أصيلة نفقدها في خضم الزيف والصخب


نوال السعداوي
(Nawal El Saadawi)


الحوار المتمدن-العدد: 6567 - 2020 / 5 / 18 - 17:04
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    



حين يمتلئ الإنسان بالطعام بعد الأكل، لا يتحدث عن الطعام. فالإنسان لا يتحدث عن شىء شبع منه.


إذا كان الإنسان خاليا من الفضيلة، ظل يتحدث عنها ليلا ونهارا. قال لى أبى وأنا طفلة: «إذا سمعتِ إنسانا لا يكف عن الحديث عن استقامة الأخلاق، فاعلمى أنه خال منها، والإناء الخالى يا ابنتى له صوت عال، أما الإناء الممتلئ فصوته هادئ».

صوت أبى كان هادئا، لم يسمع الجيران صوته أبدا. لم يرتفع صوته على صوت أمى. كان يجادلها بصوت هادئ، وتجادله بصوت هادئ. الرأى النهائى للعقل والمنطق والعدالة، وليس رأى الأب أو رأى الأم. تدرب عقلى منذ الطفولة على التحليل وليس على التسليم. وأذناى تعودتا على صوت أبى الهادئ.

تصورت أن كل الرجال أصواتهم هادئة، لا يرفعونها على أصوات زوجاتهم. أول رجل فى حياتى مرتفع الصوت كان زوج خالتى. سمعته يقول لها بصوت عال يسمعه الجيران: «أنا الرجل، ألا تعرفين ما معنى الرجل؟». خالتى واقفة أمامه صامتة لا ترد. ملامح وجهها تشبه ملامح أمى، لكن رأسها ليس مرفوعا، وفى عينيها دموع. لم أر أمى تبكى أبدا، وحين مات أبوها لم أر فى عينيها دموعا.

ارتدت ثوبا لونه أسود، وعلقت صورة والدها فوق الجدار. جاءت إلينا خالتى ذات يوم وقالت إنها انفصلت عن زوجها بالطلاق، ملامح وجهه ضاعت من ذاكرتى، لكن صوته المرتفع ظل فى أذنىَّ.

تصورت وأنا طفلة أن صوت الزوج المرتفع فى البيت يكفى للطلاق. فى الليل كنت أسمع صوت تشنج خالتى المكتوم، تنظر إلى صورة والدها المعلقة فوق الجدار، جفناها وارمان، عيناها تشوبهما حمرة، صدرها يعلو ويهبط، وأنفاسها فى أذنى كالهمس: «الله يرحمه، أخرجنى من المدرسة وليس لى وظيفة وليس لى معاش، تحوطها أمى بذراعيها قائلة، بيتنا بيتك وطعامنا طعامك». أبى يعمل طول النهار ويعود حاملا كيس البرتقال. يعطى خالتى البرتقالة الأولى، ثم أمه وعمته برتقالتين، ثلاث

برتقالات لأخته وولديها، برتقالة لى وبرتقالة لأخى، سبع برتقالات لأخوتى الصغار، والبرتقالة الأخيرة تأخذ أمى نصفها وهو يأخذ النصف الآخر.

يوم الجمعة، يأتى الأقارب لزيارتنا. يمتلئ البيت بالأطفال. نجرى ونلعب ونأكل الحلوى. ترتفع فى الجو صيحاتنا وضحكاتنا، نقفز على السرير إلى جوار خالتى، نصعد على ظهر أبى وهو يصلى، نلتف حول جدتى التى تحكى لنا القصص، نتخاطف الحلوى من يد أمى، تغمرنا عمتى بالقبلات، أخى يعزف على العود ويغنى، وفى رمضان نسهر حتى الفجر. فى الشتاء نلتف حول المدفأة، نأكل عين الجمل، ونشوى أبو فروة. وفى الصيف نذهب إلى البحر.

منذ الطفولة، أحسست دفء الأنفاس، والبيت الملىء بالناس، ومائدة الطعام وحولها الكراسى الكثيرة، وأمى تعد الطعام، أشم رائحة الزبدة المقدوحة قبل أن أصل إلى البيت، أجرى وفى يدى حقيبة المدرسة، أدق الباب بيدى، أسمع من وراء الباب صوت أمى، يقفز قلبى ثم يهبط، أتذكر أن أم صديقتى ماتت، فهل ستموت أمى أيضا؟.

هذه بعض من ذكريات الطفولة التى لا أنساها. ولاحظت أننى كلما كبرت فى العمر فإننى أعود أكثر إلى هذه الذكريات، وأنها، إلى جانب كتاباتى، تشكل رصيدى الثمين الوحيد فى الحياة، لا يمكن لأحد أن يسحبه، وأنها الملكية الخاصة بى، لا يمكن لأحد أن يصادرها بقرار.

منذ الطفولة وأنا أتساءل: هل يمكننى أن أكتب فوق الورق كل ما أشعر به دون خطوط حمراء، دون خطوط من أى لون؟. مع مرور السنوات، اكتشفت أن ما يحدث لنا فى مراحل الطفولة هو أكثر ما نحاول كتمانه، وإخفاءه، وأكثر ما يتعرض لمقص الرقابة الداخلية، أو الرقابة الخارجية. دائما كنت أحاول، منذ بدأت أمسك بالقلم بين أصابعى، أن أتذكر طفولتى، أعايشها من جديد، أتأمل أحداثها، أستعيد مشاعرى وأفكارى الطفولية. كانوا ينتقدوننى لأننى أكتب عن هذه المشاعر والأفكار الذاتية،

ولأننى أهتم كثيرا بالتحديق فى مرآة طفولتى. فالكتابة عن ذواتنا، بشكل عام، تعتبر فى مجتمعاتنا، كتابة فى الدرجة الثانية، مهمشة، غير مفهومة، وفى بعض الأحيان تكاد تكون محرمة. لكننى كنت مؤمنة بأن معرفتى للواقع المعاش فى اللحظة الحاضرة، بأبعاده السياسية والاقتصادية والثقافية، ليس ممكنا بدون الرجوع إلى أسئلة الطفولة، ومشاعر الطفولة المكبوتة، أو التى أعبر عنها.

واكتشفت أن الأسئلة «الطفولية»، التى شغلتنى وأنا طفلة صغيرة، هى نفسها الأسئلة التى صاحبتنى فى مراحل النضج الفكرى، الأسئلة الباحثة عن الحرية وعن العدالة.

كما أن القضية، كما أراها، هى ليست الكتابة عن الطفولة أو عن الحاضر أو عن المستقبل. القضية هى كيف أكتب عن الطفولة أو الحاضر أو المستقبل. هل الكتابة تضيف إلى وعينا؟. هل تضىء دربا كان مجهولا؟. هل تثير صدقا مفقودا، واشتياقات أصيلة كدنا ننساها فى خضم الزيف والصخب؟.



#نوال_السعداوي (هاشتاغ)       Nawal_El_Saadawi#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رفع الحجاب عن عقل النخب الإعلامية والتعليمية
- الخوف من الموت والخوف من الضحك والخوف من كورونا
- السبب الوحيد لتعدد الزوجات يضرب الاتجاه السلفى الشبقى
- ذلك الطريق المفتوح إلى الأبد هو سر عذاب الإنسان وسر سعادته
- كلمة السر هى «الاستغناء».. المقاومة حتى النفس الأخير
- طاعة المرأة مقابل إنفاق الرجل قانون استعباد
- المأساة النفسية والجسدية التى تعيشها المرأة المختتنة
- أنكر الداعية فعلته معى ووصفنى بقلة الأدب والفساد
- مارتن لوثر كينج وحلم سقوط التفرقة العنصرية
- شهريار ذو السُلطة المطلقة ينام كالأطفال على حكايات شهرزاد
- لا ينطقون مع النَّفَس الأخير إلا كلمة «أمى»
- الرغبة فى عبادة وتقديس السلطة الفردية.. مرض مزمن عالمى ومحلى
- أحاسيس دنسة تسللت إلى جسدها غير الطاهر
- الكاتب الكبير والكاتب الحر
- كيف تتحقق ديمقراطية المجتمع فى ظل ديكتاتورية الأسرة؟
- قانون واحد للأسرة المصرية
- أعطونا كتاب الله وأخذوا أرضنا وأموالنا
- من يكون الهومو ديوس؟
- مع صديقة العمر فى هدوء الليل
- حينما تتلاشى المسافة بين «البيت الأبيض» وغرفة نومى فى شبرا


المزيد.....




- عداء قتل أسدًا جبليًا حاول افتراسه أثناء ركضه وحيدًا.. شاهد ...
- بلينكن لـCNN: أمريكا لاحظت أدلة على محاولة الصين -التأثير وا ...
- مراسلنا: طائرة مسيرة إسرائيلية تستهدف سيارة في البقاع الغربي ...
- بدء الجولة الثانية من الانتخابات الهندية وتوقعات بفوز حزب به ...
- السفن التجارية تبدأ بالعبور عبر قناة مؤقتة بعد انهيار جسر با ...
- تركيا - السجن المؤبد لسيدة سورية أدينت بالضلوع في تفجير بإسط ...
- اشتباك بين قوات أميركية وزورق وطائرة مسيرة في منطقة يسيطر عل ...
- الرئيس الصيني يأمل في إزالة الخصومة مع الولايات المتحدة
- عاجل | هيئة البث الإسرائيلية: إصابة إسرائيلية في عملية طعن ب ...
- بوركينا فاسو: تعليق البث الإذاعي لبي.بي.سي بعد تناولها تقرير ...


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - نوال السعداوي - اشتياقات أصيلة نفقدها في خضم الزيف والصخب