أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - عبدالرزاق دحنون - قرية سورية منحوتة في الصخر














المزيد.....

قرية سورية منحوتة في الصخر


عبدالرزاق دحنون
كاتب وباحث سوري


الحوار المتمدن-العدد: 6464 - 2020 / 1 / 13 - 17:43
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


كنت وصديقي فهد مرتيني المهاجر إلى كندا لنيل درجة الدكتوراه في ميكانيك عمل مراوح الهواء العملاقة التي تولد الطاقة الكهربائية، نخطو بصعوبة عبر منحدرات جبلية شديدة الوعورة، تكاد تستعصي على الغزلان، نجول على الأقدام حول مستوطنة بشرية تتألف من كهوف طابقية منقورة في صخور كلسيَّة في السفوح الجبلية لقرية معترم التابعة لمدينة أريحا في محافظة إدلب شمال سورية. كُنّا نتفحّص تلك المنحدرات الوعرة ونتتبع ما فيها من شُجيرات برّية نابتة بين الصخور، علّنا نهتدي إلى تفسير صدى الأصوات المكتومة للسحق والطحن من الرحى الحجريّة الكبيرة الموجودة في هذه البيوت المحفورة في الصخور. ماذا كانوا يطحنون؟
كان علينا أن نحلّل النمط المعاشي لهؤلاء السكان من خلال مصادر غذائهم أولاً، وتفاعلهم اليومي مع البيئة من حولهم ونمط عيشهم ثانياً. هذه هو الأسلوب الذي اتبعناه كي نصل إلى حقيقة قريبة إلى حد ما من نمط حياتهم. ورحنا نسأل أنفسنا، ونمعن الفكر، في أي عصر عاش هؤلاء الناس؟ وما الذي ألجأهم إلى تلك المعيشة؟ هل هم مجموعة عائلية ترتبط بنسب الدم اختارت هذا المكان المنعزل لتعيش على الصيد والالتقاط بعيداً عن حياة البشر المعقدة؟ هل كانوا أهل طائفة دينية صغيرة هربت من السلطان وجوره حين دخل في دين جديد مخالف لدينهم؟ أم هل هم مجموعة سكانية مهاجرة من مكان ما سكنت معترم في طريق هجرتها؟ وهل وجدوا مكاناً قصيّاً لعيش رغيد، فأقاموا؟ وبم نفسر وجود تلك المدافن المنحوتة في الصخور التي تركوها شاهداً حياً على وجودهم. هل استوطنوا هذه البيوت، التي نحتوها في الصخور، عشرات السنين أم مئات السنين؟ وطريقة نحت قبورهم في المدافن تشبه إلى حد كبير ما نشاهده في المدافن الوثنية ثم المدافن المسيحية في المواقع الرومانية والبيزنطية المنتشرة في تلك المنطقة.

وبناء على طبيعة المواد المتوفرة استطاعوا أن يتدبروا أمر استقرارهم ومعاشهم بسهولة داخل المساحة المتوفرة في تلك البيوت التي نحتوها في الصخور. يتراءى لنا أن الحقائق الخام التي اغتنمناها من مشاهداتنا تُحيّر الباحث أكثر مما تهديه لعدم وجود نقوش كتابية، ولغياب أي دليل موثّق عن هوية المدافن المنحوتة في الصخور. وهل هذا يُرجّح قيام مستوطنة بشرية زراعية أم برج مراقبة عسكري كما ذهب البعض في رؤيته الموقع؟

كهوف قرية معترم موجودة في مجموعتين منفصلتين تبعدان عن بعضهما أكثر من ثلاثمئة متر. تتجه الأبواب والشبابيك في المجموعتين نحو الشرق، كي تستقبل الشمس عند شروقها. المجموعة الأولى والتي تُعرف عند سكان قرية معترم الحديثة بالقلعة تضمّ مرافق مختلفة تُشير إلى استيطان بشري دائم استمر لأجيال متعاقبة. في ضوء ذلك نرى أن الاتصال بين المرافق المختلفة، مطبخ، غرف معيشة، غرف نوم، جباب ماء، نقاط حراسة، كان يتم عبر فتحات داخلية يُنفذ إليها بسلالم من أدراج منحوتة في الصخور الكلسيّة. ولا تتوفر أدلة كافية عن شكل أو تنظيم حياتهم، ولا يتأتى لنا ذلك، لأن قسماً لا بأس به من مرافق العيش قد أصابتها عاديات الزمان. تدل الآثار الباقية للكهوف المنحوتة في الصخور على التكيف المذهل مع البيئة المحيطة، فقد عمل السكان على نحت ما يحتاجون إليه في حياتهم الصعبة تلك لتسد حاجاتهم المعيشية البسيطة، وصنعوا من تلك الصخور الكلسيّة مكاناً آمناً يفي حاجاتهم الأساسية. وأثناء تجوالنا لاحت لنا في البعيد شُجيرات البلوط المتوارية بين صدوع الصخر.

فهل كان سكان هذه المستوطنة يستخدمون ثمار شجر البلوط في غذائهم. هذا افتراض وارد، لأن بيوت القرية منحوتة في منحدر صخري شديد الوعورة، ومن الصعب على الإنسان أو الحيوان التحرك في دروبه الضيقة الخطرة لنقل مؤنة من أماكن أخرى، لذا يمكن أن يكونوا قد استخدموا ما توفر لهم من ثمار غابات شجر البلوط الكثيفة في تلك المنطقة. وهذا الرأي يعززه بعد السهول الخصبة المحيطة بالوادي، وبعد الكروم التي يمكنهم الاعتماد على ثمار أشجارها، إضافة إلى شح المياه في الصيف وندرة مصادرها الطبيعية، لذلك حفر هؤلاء السكان جباباً داخل بيوتهم لجمع المياه في الفصول المطيرة.

أكدت المصادر التاريخية أن طحين جوز البلوط كان مصدراً أساسياً للقوت في أجزاء كثيرة من العالم في الأزمنة القديمة، وكانت وجبة مهمة في أوروبا القرن التاسع عشر. جوز البلوط لب مغذٍ، يحوي ما يصل إلى سبعين بالمائة من وزنه كربوهيدات، وما يقرب من خمسة بالمائة من البروتين، وما يقرب العشرين بالمائة من الدهون. ولكن هذه الثمار، على فرض أن أهل معترم استخدموها في طعامهم، فيها عيب أساسي واحد يحتاج حله إلى تجربة وخبرة. إنها محصول يتطلب معالجته عملاً عائلياً مكثّفاً، إذ يستغرق تقشير الثمار وسلخها ساعات أطول كثيراً من طحن بذور الحشائش الأخرى. وحتى بعد ذلك يكون اللب غير صالح للأكل. وذلك لأن جوز البلوط يحوي حمض التانيك، مر المذاق، والذي يجب أن يصفى بنقع جوز البلوط في عملية يستهلك إجراؤها بعناية زمناً طويلاً قبل الطهو. كيف نتأكد أن سكان معترم القدماء أصحاب هذه البيوت المنحوتة في الصخر كانوا يقتاتون من طحين ثمار البلوط؟ لا دليل واضحاً حول هذا الأمر. وقد نجد في المستقبل القريب جواباً عن هواجسنا.

ويمكننا التأكيد هنا أن كل الأرجاء القابلة للسكن في جبل الزاوية وجبال باريشا في محافظة إدلب في شمال سورية، والتي تعرف لدى علماء الآثار بالمدن المنسية أو المهجورة أو البائدة وتضم أكثر من ألف موقع في تلك الهضاب الكلسيّة، هذه المواقع سكنتها جماعات بشرية بكثافات مختلفة وكان قوام معاشها الصيد والالتقاط في أول الأمر. وعندما تم لها الاستقرار، كانت القفزة تتمثل في نمط معاشي معول على الإنتاج الفعلي للقوت القائم على تأهيل النباتات البرية واستئناس الحيوانات الوحشية، ولولا تلك القفزة لكنا ما نزال نعيش تلك الحياة البدائية. والسؤال الذي يخطر في البال هل يمكن أن نكون أسعد حالاً من اليوم؟



#عبدالرزاق_دحنون (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حدثنا عن العدالة يا أردَشير
- صورة الشاعر إيمي سيزار
- جهاد محمد...والرقص مع الذئاب
- ماذا سيحدث غداً يا تولستوي؟
- تجدُّد ماركس
- كيف تكون شيوعياً جيداً؟
- على عتبة المؤتمر
- في الحيلة لدفع الأحزان
- منصور الأتاسي وداعاً
- غزة في الوجدان
- براميل متفجرة وطناجر مطبخ
- دقيقتان مع ونستون تشرشل
- مات طباخ الرئيس
- عبدالله حنا يكتب عن خالد بكداش
- امرأة شجاعة من أهل البادية السورية
- قِلَّة أدب
- لينين حكيماً
- المستطرف الصغير
- لينين مات قبل أوانه
- وافق شَنٌّ طَبَقَة


المزيد.....




- في السعودية.. مصور يوثق طيران طيور الفلامنجو -بشكلٍ منظم- في ...
- عدد من غادر رفح بـ48 ساعة استجابة لأمر الإخلاء الإسرائيلي وأ ...
- كفى لا أريد سماع المزيد!. القاضي يمنع دانيالز من مواصلة سرد ...
- الرئيس الصيني يصل إلى بلغراد ثاني محطة له ضمن جولته الأوروبي ...
- طائرة شحن تهبط اضطرارياً بمطار إسطنبول بعد تعطل جهاز الهبوط ...
- المواصي..-مخيم دون خيام- يعيش فيه النازحون في ظروف قاسية
- -إجراء احترازي-.. الجمهوريون بمجلس النواب الأمريكي يحضرون عق ...
- بكين: الصين وروسيا تواصلان تعزيز التعددية القطبية
- إعلام عبري: اجتياح -فيلادلفيا- دمر مفاوضات تركيب أجهزة الاست ...
- مركبة -ستارلاينر- الفضائية تعكس مشاكل إدارية تعاني منها شركة ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - عبدالرزاق دحنون - قرية سورية منحوتة في الصخر